سافرت إلى السّودان في مهمة. كان لي لقاء مطول مع نائب رئيس مجلس السيادة المشير محمد حمدان دقلو. قائد قوات الردع السريع ورجل السودان القوي والذي ينعت اليوم بصانع المصالحة والسلام.
دعاني دقلو في مناسبتين لمصاحبته على مائدة الغداء. كان حديثا مطولا حول أوضاع السودان والعالم العربي وتحديات الأوضاع الدولية. طلبت من المشير أن يسمح لي بجولة في مناطق القبائل العربية تحديدا بجنينة ودارفور وهي غير بعيدة عن الحدود مع ليبيا.
اخذت قضية دارفور بعدا دوليا بعد اشتداد الخلاف بين الخرطوم وعدة عواصم غربية واتهام الحكومة السودانية بممارسة سياسة «تطهير عرقي» بيد المليشيات العربية التي تعرف باسم «الجانجويد». التقيت بدارفور شيخ القبائل والعشائر العربية وجدته في حزن وعزاء بعد مقتل عدد من أبناء قبائله على يد مرتزقة جاؤوا من خارج حدود السودان. قال لي إن هذه القبائل التي هي على المذهب التيجاني تتبع الصوفية تتركب في أصولها من جماعات المثاليث وزغاوة وفور. تضم تاريخيا منطقة دار فور أو بلاد فور أو بتسميتها القديمة سلطنة فور تلك الأرآضي التي تمتد من جنوب الصحراء الكبرى إلى المحيط الأطلسي غربا فاثيوبيا شرقا. وبحكم بعدها الجغرافي ووعورة الطرق للوصول إليها بقيت معزولة عن العالم الخارجي. لم يتم اكتشافها من جديد إلا منذ قرابة القرنين تحديدا سنة 1807 عندما سافر إليها رحالة تونسي من جهة قفصة اسمه محمد بن عمر التونسي .بدأ رحلته إلى هناك سنة 1803 وعمره 14 عاما وذلك عندما قرر اللحاق بوالده الذي هاجر إلى السودان تحديدا ارض فور. قضى الرحالة القفصي سبع سنوات بين القبائل الذين زوجوه أجمل بناتهم وأنجب أولادء ليضع بعد ذلك مؤلفا مشهورا حول المنطقة اسمه:"تشحيذ الأذهان بسيرة بلاد العرب والسودان".
نقل محمد بن عمر التونسي في كتابه الموجود اليوم بالمكتبة الوطنية المصرية معلومات ومشاهد عن دار فور ورسم خرائط عن المنطقة وكشف ثرواتها يرتحل المهاجر ليكتشف له مسكنا على بعد آلاف وآلاف الكيلومترات وهو لم يكتشف بعد عشه الصغير على الأرض.هنالك عشرات التونسيين الذين هاجروا بعده للسودان سواء لأسباب عقائدية مذهبية كجماعات الصوفية أو للتجارة والأعمال مثل عائلة هميلة حيث أقامت مشاريع.. لكن الأهم أن السودان نفسه الذي استقر فيه لفترة زعيم القاعدة أسامة بن لادن كان ملجأ الإسلاميين التونسيين الذين فروا من محاكمات النظام خلال تسعينات القرن الماضي ووجدوا في جماعة حسن الترابي التي كانت تحكم بالتحالف مع المشير عبد الرحمن سوار الذهب أفضل حاضنة لهم. ذكرتني حكاية دارفور بمغامرات تونسيين آخرين من ذلك ما أقدم عليه التونسي محمد بن علي بوذينة بتأسيس سنة 1932 أول مدرسة بسلطنة عمان والتي استوطنت فيها جالية تونسية خاصة أولئك من أصحاب المذهب الأباظي. نفس الأمر في مناطق أخرى من القرن الإفريقي وجزر القمر وزنجبار الخ.. كم في الدنيا من أسفار أطول أمدا و إنما روعة الهجرة أحيانا أنها عقيدة وتضحية وفداء وكفاح وإصرار غريب على ترك اثر يخلد صاحبه. والمؤسف حقا أن أشد أنواع الغربة التي قد يعيشها المرء تلك الغربة التي يشعر فيها في وطنه..!.
يرويها: أبوبكر الصغير
سافرت إلى السّودان في مهمة. كان لي لقاء مطول مع نائب رئيس مجلس السيادة المشير محمد حمدان دقلو. قائد قوات الردع السريع ورجل السودان القوي والذي ينعت اليوم بصانع المصالحة والسلام.
دعاني دقلو في مناسبتين لمصاحبته على مائدة الغداء. كان حديثا مطولا حول أوضاع السودان والعالم العربي وتحديات الأوضاع الدولية. طلبت من المشير أن يسمح لي بجولة في مناطق القبائل العربية تحديدا بجنينة ودارفور وهي غير بعيدة عن الحدود مع ليبيا.
اخذت قضية دارفور بعدا دوليا بعد اشتداد الخلاف بين الخرطوم وعدة عواصم غربية واتهام الحكومة السودانية بممارسة سياسة «تطهير عرقي» بيد المليشيات العربية التي تعرف باسم «الجانجويد». التقيت بدارفور شيخ القبائل والعشائر العربية وجدته في حزن وعزاء بعد مقتل عدد من أبناء قبائله على يد مرتزقة جاؤوا من خارج حدود السودان. قال لي إن هذه القبائل التي هي على المذهب التيجاني تتبع الصوفية تتركب في أصولها من جماعات المثاليث وزغاوة وفور. تضم تاريخيا منطقة دار فور أو بلاد فور أو بتسميتها القديمة سلطنة فور تلك الأرآضي التي تمتد من جنوب الصحراء الكبرى إلى المحيط الأطلسي غربا فاثيوبيا شرقا. وبحكم بعدها الجغرافي ووعورة الطرق للوصول إليها بقيت معزولة عن العالم الخارجي. لم يتم اكتشافها من جديد إلا منذ قرابة القرنين تحديدا سنة 1807 عندما سافر إليها رحالة تونسي من جهة قفصة اسمه محمد بن عمر التونسي .بدأ رحلته إلى هناك سنة 1803 وعمره 14 عاما وذلك عندما قرر اللحاق بوالده الذي هاجر إلى السودان تحديدا ارض فور. قضى الرحالة القفصي سبع سنوات بين القبائل الذين زوجوه أجمل بناتهم وأنجب أولادء ليضع بعد ذلك مؤلفا مشهورا حول المنطقة اسمه:"تشحيذ الأذهان بسيرة بلاد العرب والسودان".
نقل محمد بن عمر التونسي في كتابه الموجود اليوم بالمكتبة الوطنية المصرية معلومات ومشاهد عن دار فور ورسم خرائط عن المنطقة وكشف ثرواتها يرتحل المهاجر ليكتشف له مسكنا على بعد آلاف وآلاف الكيلومترات وهو لم يكتشف بعد عشه الصغير على الأرض.هنالك عشرات التونسيين الذين هاجروا بعده للسودان سواء لأسباب عقائدية مذهبية كجماعات الصوفية أو للتجارة والأعمال مثل عائلة هميلة حيث أقامت مشاريع.. لكن الأهم أن السودان نفسه الذي استقر فيه لفترة زعيم القاعدة أسامة بن لادن كان ملجأ الإسلاميين التونسيين الذين فروا من محاكمات النظام خلال تسعينات القرن الماضي ووجدوا في جماعة حسن الترابي التي كانت تحكم بالتحالف مع المشير عبد الرحمن سوار الذهب أفضل حاضنة لهم. ذكرتني حكاية دارفور بمغامرات تونسيين آخرين من ذلك ما أقدم عليه التونسي محمد بن علي بوذينة بتأسيس سنة 1932 أول مدرسة بسلطنة عمان والتي استوطنت فيها جالية تونسية خاصة أولئك من أصحاب المذهب الأباظي. نفس الأمر في مناطق أخرى من القرن الإفريقي وجزر القمر وزنجبار الخ.. كم في الدنيا من أسفار أطول أمدا و إنما روعة الهجرة أحيانا أنها عقيدة وتضحية وفداء وكفاح وإصرار غريب على ترك اثر يخلد صاحبه. والمؤسف حقا أن أشد أنواع الغربة التي قد يعيشها المرء تلك الغربة التي يشعر فيها في وطنه..!.