في آخر جلسة عامة لهم بعد 14 جانفي 2011 وإثر مصادقتهم على القانون عدد 5 لسنة 2011 المؤرخ في 9 فيفري 2011 المتعلق بالتفويض إلى رئيس الجمهورية المؤقت فؤاد المبزع في اتخاذ مراسيم طبقا للفصل 28 من الدستور، غادر أعضاء مجلس النواب المنتخبون في 25 أكتوبر 2009 قصر باردو على وقع صرخات انطلقت كالرصاص من حناجر المتابعين للجلسة من الشرفة العلوية إذ رددوا بحماس فياض تلك الكلمة المزلزلة.. الكلمة التي سرعان ما تحولت إلى شعار عابر للحدود وهي كلمة "ديغاج".. وبعد مرور سنوات عديدة عادت للأذهان نفس المشاهد ففي يوم 26 جويلية 2021 ومن أمام قصر باردو وبنفس الحماس رفع عدد كبير من التونسيين وأغلبهم من الشباب والمعطلين عن العمل من جديد شعار "ديغاج" في وجوه أعضاء مجلس نواب الشعب ورئيسه راشد الغنوشي الذين طوقوا المبنى مطالبين بفتحه، كما رددوا يومها مرة أخرى ملأ أفئدتهم عبارة "شغل.. حرية.. كرامة وطنية".. وهو ما يدعو إلى التساؤل لماذا استحضر المحتجون أحد أبرز شعارات الثورة؟ وهل يمكن أن يكون ذلك دليل عن شعور مرير بالخذلان تراكم لديهم منذ بداية عهدة المجلس الوطني التأسيسي وإلى غاية إعلان رئيس الجمهورية قيس سعيد مساء 25 جويلية عن قرار تعليق أشغال مجلس نواب الشعب ورفع الحصانة عن أعضائه، وذلك لأن الأغلبيات البرلمانية المتعاقبة في نظرهم تنكرت لمطالب الثورة وأغرقت البلاد في المديونية نظرا لأن أغلب القوانين التي صادقت عليها المجالس النيابية بعد الثورة تعلقت بالاقتراض ولأن العديد من النواب أيضا غرقوا في مستنقعات الفساد السياسي الذي تجلى في السياحة الحزبية وفي مستنقعات الفساد المالي والفساد الأخلاقي فالكثير منهم أثروا بطرق غير مشروعه، وهم بعد أن جاؤوا إلى قصر باردو في عربات المترو الخفيف رقم أربعة أصبحوا يمتلكون أفخم السيارات ويصطافون في أفخم النزل ويديرون المشاريع والشركات ويدرسون أبناءهم في أغلى المدارس وفي أفضل الجامعات الأجنبية..
ورفع شعار ديغاج في وجوه العديد من نواب المجلس الوطني التأسيسي في عدة مناسبات وأهمها خلال النقاشات التي تمت في الجهات حول مشروع الدستور أو بالتزامن مع مداولات المجلس حول قوانين المالية وخاصة عند عرض مشروع قانون العدالة الانتقالية. وتم انتخاب التأسيسي في 23 أكتوبر 2011 وكان من المفروض أن يسن دستورا للبلاد في غضون عام واحد لكنه تمدد وتمطط وخول لنفسه صلاحيات واسعة ومنح لأعضائه امتيازات مغرية في وقت كان فيه ملايين التونسيين يعانون من الفاقة والحرمان والبطالة، وكانت فيه عائلات شهداء الثورة تتعرض أمام قصر باردو للتنكيل والتجاهل وكان الجرحى يفترشون الأرض في ليالي الشتاء البارد وهم يئنون من الوجع لأنهم غير قادرين على تحمل نفقات العلاج والأدوية الباهظة.. وفي المحصلة وبالعودة إلى نتائج استبيان قامت به الشقيقة لوطون شمل وقتها مائة تلميذ وطالب حول تقييمهم للتأسيسي، كانت أغلب الإجابات أن هذا المجلس كارثة.
وعند فتح أرشيفات المجلس الوطني التأسيسي وتصفح ترسانة القوانين التي مررها طيلة عهدته يمكن الإشارة إلى أنه من بين القوانين المخيبة لآمال عائلات الشهداء والجرحى، القانون المنقح للمرسوم عدد 97 لسنة 2011 المؤرخ في 24 أكتوبر 2011 المتعلق بالتعويضات لشهداء ثورة 14 جانفي 2011 ومصابيها إذ اعتبروه إهانة للثورة..
ولكن في المقابل كان مقترح قانون العزل السياسي المقدم من قبل نواب المؤتمر من أجل الجمهورية محل ترحيب أنصار الثورة.. ولا بد من الإشارة في هذا السياق إلى أن فكرة العزل السياسي للمحسوبين على نظام الرئيس بن علي، بدأت بعد أيام قليلة من 14 جانفي وتجسدت بمقتضى المرسوم عدد 35 لسنة 2011 المؤرخ في 10 ماي 2011 المتعلق بانتخاب المجلس الوطني الـتأسيسي الذي تم إعداده من قبل الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي، وجاء في دباجته أن هذا المرسوم يأتي للقطع مع النظام السابق المبني على الاستبداد وتغييب إرادة الشعب بالبقاء غير المشروع في السلطة وتزوير الانتخابات، وهو يأتي وفاء لمبادئ ثورة الشعب التونسي الهادفة إلى إرساء مشروعية أساسها الديمقراطية والحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية والكرامة والتعددية وحقوق الإنسان والتداول على السلطة. وبمقتضى المرسوم المذكور تم منع كل من وقع مصادرة ممتلكاتهم بعد 14 جانفي من حق الانتخاب وتم منع الترشح للانتخابات على كل من تحمّل مسؤولية صلب الحكومة في عهد الرئيس السابق زين العابدين بن علي باستثناء من لم ينتم من أعضائها إلى التجمع الدستوري الديمقراطي، ومن تحمل مسؤولية في هياكل التجمع الدستوري الديمقراطي في عهد الرئيس السابق وكل من ناشد الرئيس السابق الترشح لمدة رئاسية جديدة لسنة 2014. وبعد انتخابات المجلس الوطني التأسيسي عادت مقولة العزل السياسي من جديد حيث قدم حزب المؤتمر من أجل الجمهورية في شهر أفريل 2012 مبادرة تشريعية تتعلق بتنقيح المرسوم عدد 87 لسنة 2011 المؤرخ في 24 سبتمبر 2011 المتعلق بتنظيم الأحزاب السياسية وتهدف هذه المبادرة إلى تنقيح الفصل السابع من المرسوم المذكور الذي نص على أنه لا يجوز الانخراط في حزب سياسي بالنسبة إلى العسكريين المباشرين والمدنيين مدة قيامهم بواجبهم العسكري، القضاة، الولاة والمعتمدين الأول والكتاب العامين للولايات والمعتمدين والعمد، أعوان قوات الأمن الداخلي المباشرين، سلك أعوان الديوانة، وتمثل مقترح التنقيح في إضافة فقرة إلى هذا الفصل تنص على منع الأشخاص الذين تقلدوا مناصب قيادية في الفترة الممتدة من 7 نوفمبر 1987 إلى 14 جانفي 2011 من الانخراط في أي حزب سياسي لمدة خمس سنوات انطلاقًا من تاريخ دخول القانون حيز التطبيق ويشمل هذا المنع أعضاء الحكومات المتعاقبة في تلك الفترة، والأمين العام والأمين العام المساعد للتجمع الدستوري الديمقراطي، وأعضاء الديوان السياسي واللجنة المركزية للحزب، والكتاب العامون للجان التنسيق والمكاتب الجهوية، ورؤساء الشُعَب، ولكن هذا المقترح جوبه بصد كبير من قبل الحقوقيين نظرا لما فيه من مساس بالمبادئ المنصوص عليها في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية. وإضافة إلى المبادرة التي قدمها حزب المؤتمر تم بمناسبة النظر في مشروع القانون الانتخابي عرض مقترح يتعلق بمنع الترشّح للانتخابات التشريعية المقبلة لكل من تحمّل مسؤولية صلب الحكومة في عهد الرئيس المخلوع بداية من تاريخ الانتخابات التشريعية والرئاسية لسنة 1994 وإلى تاريخ 14 جانفي 2011 ولكل من تحمّل إحدى المسؤوليات التالية في هياكل التجمع الدستوري الديمقراطي المنحل: (عضو ديوان سياسي، عضو لجنة مركزية، أعضاء لجان تنسيق، رئيس شعبة، أمين عام أو كاتب عام لمنظمات طلبة التجمع الدستوري الديمقراطي، أعضاء مجلس النواب وأعضاء مجلس المستشارين المنتمين إلى حزب التجمع الدستوري الديمقراطي المنحل"، ولكن هذا المقترح سقط عند التصويت لأن حركة النهضة التي طالما تمسكت بالعزل السياسي غيرت موقفها من هذه المسألة. بل أنها ذهبت لاحقا إلى ابعد من ذلك وتحالفت مع حزب نداء تونس الذي أعاد التجمعيين إلى المشهد السياسي وإلى قصر باردو..
ورفع شعار ديغاج لاحقا في وجوه العديد من أعضاء مجلس نواب الشعب المنتخب في 26 أكتوبر2014 وحدث ذلك خاصة بمناسبة المداولات حول قانون المصالحة، وكذلك بعد تمرير قوانين المالية لأنها كانت مثقلة بالجباية وخالية من فرص التشغيل وأغلقت باب الانتدابات في الوظيفة العمومية، ولكن قانون المصالحة مثل عنونا لأبرز المعارك التي تم خوضها تحت قبة البرلمان وفي الشوارع وتمت المصادقة على مشروع القانون المذكور من قبل مجلس نواب الشعب بتاريخ 13 سبتمبر 2017، وكان المشروع موضوع طعن في دستوريته أمام الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين وتم تقديم الطعون من قبل النواب أحمد الصديق ونزار عمامي وغازي الشواشي وأيمن العلوي وزياد لخضر ومنجي الرحوي وعماد الدايمي وإبراهيم بن سعيد وعمار عمروسية وسعاد البيولي الشفي وطارق البراق ونعمان العش وعبد المومن بلعانس وسامية حمودة عبو ورضا الدلاعي وحمد الخصخوصي وعبد الوهاب الورفلي ومحمود القاهري ومحمد الأمين كحلول وفتحي الشامخي وجيلاني الهمامي ومباركة عواينية ومراد الحمايدي وفيصل التبيني وزهير المغزاوي وسالم لبيض وألفة الجويني ومبروك الحريزي وصبري الدخيل وعدنان الحاجي وتوفيق الجملي وطارق الفتيتي وعبد القادر بن ضيف الله وشفيق العيادي وهيكل بلقاسم ومحمد الحامدي وريم الثايري والنذير بنعمو، ولكن النواب محمود القاهري ومحمد لمين كحلول وألفة الجويني وقها وجهوا مراسلة إلى الهيئة الوقتية قالوا فيها إنهم لم يمضوا على عريضة الطعن أما حمد الخصخصوي فوجه مراسلة للهيئة لإعلامها بالانسحاب من عريضة الطعن في مشروع القانون، وانتظر التونسيون سواء المؤيدين لمشروع قانون المصالحة أو المعارضين له وخاصة الناشطين في حملة "مانيش مسامح" بفارغ الصبر صدور قرار الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين.. وصدر القرار المذكور بتاريخ 17 أكتوبر 2017 وجاء فيه ما يلي: "نص الفصل 21 من القانون الأساسي عدد 14 لسنة 2014 المؤرخ في 18 أفريل 2014 المتعلق بالهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين على أنه "تتخذ الهيئة قراراتها بالأغلبية المطلقة لأعضائها في أجل عشرة أيام قابلة للتمديد بقرار معلل مرة واحدة لمدة أسبوع وتكون قرارات الهيئة معللة وتصدر باسم الشعب وتنشر بالرائد الرسمي للجمهورية التونسية في أجل أسبوع من إصدار القرار وقرارات الهيئة ملزمة لجميع السلط"، وحيث لم تحصل الأغلبية المطلوبة داخل الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين لإصدار قرار بشأن الطعن في دستورية مشروع القانون الأساسي عدد 49 لسنة 2015 المتعلق بالمصالحة في المجال الإداري، وبعد المداولة قررت الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين إحالة مشروع القانون الأساسي عدد 49 لسنة 2015 المتعلق بالمصالحة في المجال الإداري المصادق عليه من قبل مجلس نواب الشعب بتاريخ 13 سبتمبر 2017 والوارد على الهيئة بتاريخ 19 سبتمبر 2017 إلى رئيس الجمهورية وذلك لعدم حصول الأغلبية المطلقة لاتخاذ قرار في الغرض طبق ما يقتضيه القانون الأساسي عدد 14 لسنة 2014 المؤرخ في 18 أفريل 2014 المتعلق بالهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين وصدر هذا القرار عن الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين في جلستها المنعقدة بباردو يوم الثلاثاء 17 أكتوبر 2017 برئاسة السيد الهادي القديري رئيس الهيئة وعضوية السادة عبد السلام المهدي قريصيعة النائب الأول للرئيس ونجيب القطاري النائب الثاني للرئيس وسامي الجربي عضو الهيئة والسيدة ليلى الشيخاوي عضوة الهيئة والسيد لطفي طرشونة عضو الهيئة".
ولعل السؤال الذي طرح نفسه بشدة بعد تمرير قانون المصالحة هو لماذا لم تتحقق مصالحة فعلية في تونس رغم مرور سنوات عديدة عن اندلاع شرارة الثورة؟ ولماذا لم يتحقق أي مطلب من مطالب الثورة؟
سعيدة بوهلال
تونس: الصباح
في آخر جلسة عامة لهم بعد 14 جانفي 2011 وإثر مصادقتهم على القانون عدد 5 لسنة 2011 المؤرخ في 9 فيفري 2011 المتعلق بالتفويض إلى رئيس الجمهورية المؤقت فؤاد المبزع في اتخاذ مراسيم طبقا للفصل 28 من الدستور، غادر أعضاء مجلس النواب المنتخبون في 25 أكتوبر 2009 قصر باردو على وقع صرخات انطلقت كالرصاص من حناجر المتابعين للجلسة من الشرفة العلوية إذ رددوا بحماس فياض تلك الكلمة المزلزلة.. الكلمة التي سرعان ما تحولت إلى شعار عابر للحدود وهي كلمة "ديغاج".. وبعد مرور سنوات عديدة عادت للأذهان نفس المشاهد ففي يوم 26 جويلية 2021 ومن أمام قصر باردو وبنفس الحماس رفع عدد كبير من التونسيين وأغلبهم من الشباب والمعطلين عن العمل من جديد شعار "ديغاج" في وجوه أعضاء مجلس نواب الشعب ورئيسه راشد الغنوشي الذين طوقوا المبنى مطالبين بفتحه، كما رددوا يومها مرة أخرى ملأ أفئدتهم عبارة "شغل.. حرية.. كرامة وطنية".. وهو ما يدعو إلى التساؤل لماذا استحضر المحتجون أحد أبرز شعارات الثورة؟ وهل يمكن أن يكون ذلك دليل عن شعور مرير بالخذلان تراكم لديهم منذ بداية عهدة المجلس الوطني التأسيسي وإلى غاية إعلان رئيس الجمهورية قيس سعيد مساء 25 جويلية عن قرار تعليق أشغال مجلس نواب الشعب ورفع الحصانة عن أعضائه، وذلك لأن الأغلبيات البرلمانية المتعاقبة في نظرهم تنكرت لمطالب الثورة وأغرقت البلاد في المديونية نظرا لأن أغلب القوانين التي صادقت عليها المجالس النيابية بعد الثورة تعلقت بالاقتراض ولأن العديد من النواب أيضا غرقوا في مستنقعات الفساد السياسي الذي تجلى في السياحة الحزبية وفي مستنقعات الفساد المالي والفساد الأخلاقي فالكثير منهم أثروا بطرق غير مشروعه، وهم بعد أن جاؤوا إلى قصر باردو في عربات المترو الخفيف رقم أربعة أصبحوا يمتلكون أفخم السيارات ويصطافون في أفخم النزل ويديرون المشاريع والشركات ويدرسون أبناءهم في أغلى المدارس وفي أفضل الجامعات الأجنبية..
ورفع شعار ديغاج في وجوه العديد من نواب المجلس الوطني التأسيسي في عدة مناسبات وأهمها خلال النقاشات التي تمت في الجهات حول مشروع الدستور أو بالتزامن مع مداولات المجلس حول قوانين المالية وخاصة عند عرض مشروع قانون العدالة الانتقالية. وتم انتخاب التأسيسي في 23 أكتوبر 2011 وكان من المفروض أن يسن دستورا للبلاد في غضون عام واحد لكنه تمدد وتمطط وخول لنفسه صلاحيات واسعة ومنح لأعضائه امتيازات مغرية في وقت كان فيه ملايين التونسيين يعانون من الفاقة والحرمان والبطالة، وكانت فيه عائلات شهداء الثورة تتعرض أمام قصر باردو للتنكيل والتجاهل وكان الجرحى يفترشون الأرض في ليالي الشتاء البارد وهم يئنون من الوجع لأنهم غير قادرين على تحمل نفقات العلاج والأدوية الباهظة.. وفي المحصلة وبالعودة إلى نتائج استبيان قامت به الشقيقة لوطون شمل وقتها مائة تلميذ وطالب حول تقييمهم للتأسيسي، كانت أغلب الإجابات أن هذا المجلس كارثة.
وعند فتح أرشيفات المجلس الوطني التأسيسي وتصفح ترسانة القوانين التي مررها طيلة عهدته يمكن الإشارة إلى أنه من بين القوانين المخيبة لآمال عائلات الشهداء والجرحى، القانون المنقح للمرسوم عدد 97 لسنة 2011 المؤرخ في 24 أكتوبر 2011 المتعلق بالتعويضات لشهداء ثورة 14 جانفي 2011 ومصابيها إذ اعتبروه إهانة للثورة..
ولكن في المقابل كان مقترح قانون العزل السياسي المقدم من قبل نواب المؤتمر من أجل الجمهورية محل ترحيب أنصار الثورة.. ولا بد من الإشارة في هذا السياق إلى أن فكرة العزل السياسي للمحسوبين على نظام الرئيس بن علي، بدأت بعد أيام قليلة من 14 جانفي وتجسدت بمقتضى المرسوم عدد 35 لسنة 2011 المؤرخ في 10 ماي 2011 المتعلق بانتخاب المجلس الوطني الـتأسيسي الذي تم إعداده من قبل الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي، وجاء في دباجته أن هذا المرسوم يأتي للقطع مع النظام السابق المبني على الاستبداد وتغييب إرادة الشعب بالبقاء غير المشروع في السلطة وتزوير الانتخابات، وهو يأتي وفاء لمبادئ ثورة الشعب التونسي الهادفة إلى إرساء مشروعية أساسها الديمقراطية والحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية والكرامة والتعددية وحقوق الإنسان والتداول على السلطة. وبمقتضى المرسوم المذكور تم منع كل من وقع مصادرة ممتلكاتهم بعد 14 جانفي من حق الانتخاب وتم منع الترشح للانتخابات على كل من تحمّل مسؤولية صلب الحكومة في عهد الرئيس السابق زين العابدين بن علي باستثناء من لم ينتم من أعضائها إلى التجمع الدستوري الديمقراطي، ومن تحمل مسؤولية في هياكل التجمع الدستوري الديمقراطي في عهد الرئيس السابق وكل من ناشد الرئيس السابق الترشح لمدة رئاسية جديدة لسنة 2014. وبعد انتخابات المجلس الوطني التأسيسي عادت مقولة العزل السياسي من جديد حيث قدم حزب المؤتمر من أجل الجمهورية في شهر أفريل 2012 مبادرة تشريعية تتعلق بتنقيح المرسوم عدد 87 لسنة 2011 المؤرخ في 24 سبتمبر 2011 المتعلق بتنظيم الأحزاب السياسية وتهدف هذه المبادرة إلى تنقيح الفصل السابع من المرسوم المذكور الذي نص على أنه لا يجوز الانخراط في حزب سياسي بالنسبة إلى العسكريين المباشرين والمدنيين مدة قيامهم بواجبهم العسكري، القضاة، الولاة والمعتمدين الأول والكتاب العامين للولايات والمعتمدين والعمد، أعوان قوات الأمن الداخلي المباشرين، سلك أعوان الديوانة، وتمثل مقترح التنقيح في إضافة فقرة إلى هذا الفصل تنص على منع الأشخاص الذين تقلدوا مناصب قيادية في الفترة الممتدة من 7 نوفمبر 1987 إلى 14 جانفي 2011 من الانخراط في أي حزب سياسي لمدة خمس سنوات انطلاقًا من تاريخ دخول القانون حيز التطبيق ويشمل هذا المنع أعضاء الحكومات المتعاقبة في تلك الفترة، والأمين العام والأمين العام المساعد للتجمع الدستوري الديمقراطي، وأعضاء الديوان السياسي واللجنة المركزية للحزب، والكتاب العامون للجان التنسيق والمكاتب الجهوية، ورؤساء الشُعَب، ولكن هذا المقترح جوبه بصد كبير من قبل الحقوقيين نظرا لما فيه من مساس بالمبادئ المنصوص عليها في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية. وإضافة إلى المبادرة التي قدمها حزب المؤتمر تم بمناسبة النظر في مشروع القانون الانتخابي عرض مقترح يتعلق بمنع الترشّح للانتخابات التشريعية المقبلة لكل من تحمّل مسؤولية صلب الحكومة في عهد الرئيس المخلوع بداية من تاريخ الانتخابات التشريعية والرئاسية لسنة 1994 وإلى تاريخ 14 جانفي 2011 ولكل من تحمّل إحدى المسؤوليات التالية في هياكل التجمع الدستوري الديمقراطي المنحل: (عضو ديوان سياسي، عضو لجنة مركزية، أعضاء لجان تنسيق، رئيس شعبة، أمين عام أو كاتب عام لمنظمات طلبة التجمع الدستوري الديمقراطي، أعضاء مجلس النواب وأعضاء مجلس المستشارين المنتمين إلى حزب التجمع الدستوري الديمقراطي المنحل"، ولكن هذا المقترح سقط عند التصويت لأن حركة النهضة التي طالما تمسكت بالعزل السياسي غيرت موقفها من هذه المسألة. بل أنها ذهبت لاحقا إلى ابعد من ذلك وتحالفت مع حزب نداء تونس الذي أعاد التجمعيين إلى المشهد السياسي وإلى قصر باردو..
ورفع شعار ديغاج لاحقا في وجوه العديد من أعضاء مجلس نواب الشعب المنتخب في 26 أكتوبر2014 وحدث ذلك خاصة بمناسبة المداولات حول قانون المصالحة، وكذلك بعد تمرير قوانين المالية لأنها كانت مثقلة بالجباية وخالية من فرص التشغيل وأغلقت باب الانتدابات في الوظيفة العمومية، ولكن قانون المصالحة مثل عنونا لأبرز المعارك التي تم خوضها تحت قبة البرلمان وفي الشوارع وتمت المصادقة على مشروع القانون المذكور من قبل مجلس نواب الشعب بتاريخ 13 سبتمبر 2017، وكان المشروع موضوع طعن في دستوريته أمام الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين وتم تقديم الطعون من قبل النواب أحمد الصديق ونزار عمامي وغازي الشواشي وأيمن العلوي وزياد لخضر ومنجي الرحوي وعماد الدايمي وإبراهيم بن سعيد وعمار عمروسية وسعاد البيولي الشفي وطارق البراق ونعمان العش وعبد المومن بلعانس وسامية حمودة عبو ورضا الدلاعي وحمد الخصخوصي وعبد الوهاب الورفلي ومحمود القاهري ومحمد الأمين كحلول وفتحي الشامخي وجيلاني الهمامي ومباركة عواينية ومراد الحمايدي وفيصل التبيني وزهير المغزاوي وسالم لبيض وألفة الجويني ومبروك الحريزي وصبري الدخيل وعدنان الحاجي وتوفيق الجملي وطارق الفتيتي وعبد القادر بن ضيف الله وشفيق العيادي وهيكل بلقاسم ومحمد الحامدي وريم الثايري والنذير بنعمو، ولكن النواب محمود القاهري ومحمد لمين كحلول وألفة الجويني وقها وجهوا مراسلة إلى الهيئة الوقتية قالوا فيها إنهم لم يمضوا على عريضة الطعن أما حمد الخصخصوي فوجه مراسلة للهيئة لإعلامها بالانسحاب من عريضة الطعن في مشروع القانون، وانتظر التونسيون سواء المؤيدين لمشروع قانون المصالحة أو المعارضين له وخاصة الناشطين في حملة "مانيش مسامح" بفارغ الصبر صدور قرار الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين.. وصدر القرار المذكور بتاريخ 17 أكتوبر 2017 وجاء فيه ما يلي: "نص الفصل 21 من القانون الأساسي عدد 14 لسنة 2014 المؤرخ في 18 أفريل 2014 المتعلق بالهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين على أنه "تتخذ الهيئة قراراتها بالأغلبية المطلقة لأعضائها في أجل عشرة أيام قابلة للتمديد بقرار معلل مرة واحدة لمدة أسبوع وتكون قرارات الهيئة معللة وتصدر باسم الشعب وتنشر بالرائد الرسمي للجمهورية التونسية في أجل أسبوع من إصدار القرار وقرارات الهيئة ملزمة لجميع السلط"، وحيث لم تحصل الأغلبية المطلوبة داخل الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين لإصدار قرار بشأن الطعن في دستورية مشروع القانون الأساسي عدد 49 لسنة 2015 المتعلق بالمصالحة في المجال الإداري، وبعد المداولة قررت الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين إحالة مشروع القانون الأساسي عدد 49 لسنة 2015 المتعلق بالمصالحة في المجال الإداري المصادق عليه من قبل مجلس نواب الشعب بتاريخ 13 سبتمبر 2017 والوارد على الهيئة بتاريخ 19 سبتمبر 2017 إلى رئيس الجمهورية وذلك لعدم حصول الأغلبية المطلقة لاتخاذ قرار في الغرض طبق ما يقتضيه القانون الأساسي عدد 14 لسنة 2014 المؤرخ في 18 أفريل 2014 المتعلق بالهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين وصدر هذا القرار عن الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين في جلستها المنعقدة بباردو يوم الثلاثاء 17 أكتوبر 2017 برئاسة السيد الهادي القديري رئيس الهيئة وعضوية السادة عبد السلام المهدي قريصيعة النائب الأول للرئيس ونجيب القطاري النائب الثاني للرئيس وسامي الجربي عضو الهيئة والسيدة ليلى الشيخاوي عضوة الهيئة والسيد لطفي طرشونة عضو الهيئة".
ولعل السؤال الذي طرح نفسه بشدة بعد تمرير قانون المصالحة هو لماذا لم تتحقق مصالحة فعلية في تونس رغم مرور سنوات عديدة عن اندلاع شرارة الثورة؟ ولماذا لم يتحقق أي مطلب من مطالب الثورة؟