شكّل الخطاب السياسي، في ارتباطه الاصطلاحي والدلالي والرمزي وباختلاف سياقاته، "معضلة" أغلب مكونات الطبقة السياسية في تونس إن لم يكن كلها في مرحلة ما بعد ثورة 2011. ويزداد الوضع تعقيدا وتشعّبا بنسق متواتر توازيا مع مستجدات وتطورات الوضع السياسي المتحرك بالأساس وطابع الصراع والتنافس الذي ميز نفس المرحلة و"تموجاته" حسب مدى "ثقل" وفاعلية موازين القوى في منظومة الحكم والمشهد العام والمعارضة على حد السواء. وما ميز هذا الخطاب هو تفنن أصحابه ومصادره في بث وتكريس مفاهيم جديدة اعتبرها البعض "دخيلة" على ثقافة وواقع التونسي واستهجنها الأغلبية لكن بمرور الوقت وحرص بعض الجهات السياسية المتنفذة في الحكم والدولة أصبحت جزءا من واقع المجتمع في سياق أشبه بالمصالحة الممجوجة والمفروضة خاصة أنها مبنية على التقسيم والتفرقة بين أبناء المجتمع الواحد حسب الانتماءات الفكرية والسياسية والإيديولوجية والجهوية وذلك عبر المراهنة على خطابات التحريض والتجريح والتشكيك والتكفير والتحقير وغيرها من المعاني والأشكال الأخرى التي تجسد الخطاب السياسي في أدنى مستوياته وممارساته سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، دون القدرة على الخروج من هذه الدائرة الضيقة عبر تقديم خطاب بديل قادر على التجميع والاستقطاب وتحقيق الإجماع على صفوته وإيجابياته.
وقد ساهمت عدة عوامل في استفحال الأمر خلال نفس الفترة لعل من أبرزها طبيعة الدولة المدنية ومناخ الحرية والديمقراطية الذي تحقق بعد الإطاحة بمنظومة الراحل زين العابدين بن علي "الديكتاتورية"، وطبيعة النظام الاقتصادي الليبرالي المتوحش المعتمد في بلادنا.
وتجمع عديد القراءات والآراء المختصة في المجال أو المتابعة للشأن العام في تونس على اضطلاع الخطاب السياسي بدور كبير في تردي الأوضاع في مستويات عديدة، خاصة أن هذه المسألة أو الممارسة السياسية لم تعد اليوم حكرا على المؤسسات والجهات التقليدية كالأحزاب والتنظيمات أو المؤسسات الرسمية للدولة كالبرلمان والحكومة وغيرها من المؤسسات الدستورية والوطنية بل أصبحت مسألة متشابكة، أملتها خصوصية المرحلة السياسية وما أفرزته من مناخ ديمقراطي في دولة مدنية لها خصوصية حضارية وثقافية، ينزع نحو الدفاع والانتصار للحريات، تتداخل في هذه الوضعية عدة الأطراف وعوامل داخلية وخارجية.
إذ لم يكن الأمر حكرا على الطبقة السياسية التي برزت للمشهد العام في فترة ما بعد 2011 فحسب، بل شمل أيضا أغلب مكونات المشهد السياسي وتعداه إلى بعض نشطاء المجتمع المدني وبعض الفاعلين في الدولة في فترة ما بعد 25 جويلية 2021. إذ تواصل نفس المنهج في الخطاب المبني في أبعاده على التقسيم والتفرقة بين أبناء المجتمع الواحد، بشكل ساهم في تردي وتأزيم الوضع وصعّب مهمة تجميع المسارات والتوجهات والفرقاء حول هدف واحد يرتقي بالدولة أو يراعي أهدافها ويحرص على احترام سيادتها وكرامة أبنائها في هذا الظرف الصعب.
تقسيم فكري إيديولوجي
ولئن أفضى هذا المنهج في الخطاب الذي اعتمدته الطبقة السياسية الصاعدة في المرحلة السياسية الأولى لتونس ما بعد 2011 في محاولتها الدخول بقوة لإدراك سدة الحكم، إلى نجاح أصحابها في تحقيق أهدافها في الوصول إلى مواقع القرار والسلطة، عبر مراهنة حركة النهضة على خطاب إيديولوجي يقسم التونسيين إلى مسلمين وكفار سواء كان بشكل مباشر أو غير مباشر. الأمر الذي أحدث رجة كبيرة في صفوف المجتمع التونسي الذي دأب وتمرس على الاختلاف الثقافي والفكري منذ الاستقلال إلى تلك المرحلة بعد أن وجدت هذه الفئة السياسية آليتها لتوسيع دائرة قواعدها الشعبية وذلك بالتوجه إلى الطبقات الشعبية والفئات المهمشة التي تبحث وتتوق إلى العدالة الاجتماعية والقطع مع سياسة الحيف والظلم والمحسوبية الحزبية والجهوية. واعتمدت في بث هذه النوعية من الخطابات على برنامج موسع موجه إلى أبناء الداخل في كامل جهات الجمهورية يختلف فيه الديني والدعوي والتضامن. فكانت هذه الخطابات بمثابة "الخبز اليومي" لمكبرات الصوت المنتصبة في الخيمات الدعوية والجمعيات الخيرية والمنظمات الإنسانية والحقوقية من جهة ونفس "البضاعة" التي اكتسحت المنابر الإعلامية بجميع أنواعها العمومي منها أو الخاص والجمعياتي والخارجي وأيضا على شبكات التواصل الاجتماعي الذي تجند لبث ونشر نفس النوعية من الخطاب.
وقد أجمعت عديد الجهات على أنها راهنت عليه حركة النهضة في تلك الفترة وعملت على تكريسه كان خطابا تكفيريا بامتياز. نجحت من خلاله في كسر حاجز توحد الشعب التونسي الذي كان عاملا قويا لإسقاط منظومة بن علي من ناحية والمحافظة على ديمومة واستمرار مؤسسات الدولة في الفترة الأولى لما بعد الثورة. ليأخذ نفس الخطاب منعرجا حساما وخطيرا بعد انتخاب وتركيز المجلس الوطني التأسيسي منذ بداية سنة 2012 واختيار منصف المرزوقي، رئيس حزب المؤتمر من أجل الجمهورية رئيسا مؤقتا للجمهورية التونسية، الذي عمق العملية في أول خطاب له في البرلمان تمثل في تقسيم المجتمع النسائي إلى "سافرات" وغير سافرات. يلتم بذلك تحويل وجهة الاهتمام والانتظارات للشعب التونسي من تحقيق أهداف الثورة وإيجاد مواطن شغل للعاطلين عن العمل وفتح المجال للبرامج التنموية والاستثمارية... إلى الاستئثار بالجدل والحديث حول التصنيفات الجديدة في الخطابات المعتمدة آنذاك من قبيل "الإرهاب" و"الظلامية" والتكفير والجهاد والاستشهاد و"الأخونة" و"الأسلمة" و"الحريات" و"الحقوق" و"المليشيات" والاغتيالات وغيرها. وهي مصطلحات مفاتيح لمحاور الجدل والصراع التي أتاها خطاب الطبقة السياسية التي تصدرت المشهد السياسية في تلك الفترة.
من الاستفزاز والتشكيك إلى التمكن
نجح بدوره الراحل الباجي قائد السبسي في توظيف وحسن التعاطي مع خطاب جديد مكنه من خلق خط سياسي موازي مع ما قدمه الإسلامي السياسي من خطاب، استقطب شق آخر من التونسيين الذين ينتصرون للحرية ودولة القانون والمؤسسات وينبذون العنف، خاصة بعد سقوط شهداء وجرحى ضحايا الخطاب السياسي "المتأدلج" وتواتر أحداث وخطابات العنف والتهديد لاسيما بعد اغتيال الشهيد شكري بلعيد، أمين عام الجبهة الشعبية بعد صعود نجمه وتفرد خطابه السياسي ونفاذه إلى آذان نسبة كبيرة من التونسيين في الداخل والخارج، ليكون اغتياله تأكيد لمدى خطورة الخطاب السياسي المبني على الترهيب والتحريض وتفشي الإرهاب والجريمة المنظمة داخل الجمهورية الجديدة. فكان أن راهن السبسي وعائلة "نداء تونس" الحزب الفتي على خطاب يهدف لتوحيد التونسيين وتأكيد وجود قوى سياسية أخرى قادرة على الانتصاب في قلب المعركة السياسية التي تتزعمها النهضة وعدد من الأحزاب التابعة لها سواء منها التقليدية على غرار "التكتل" و"المؤتمر من أجل الجمهورية" أو الحزب الجمهوري وغيرها من الوافدة أو الفتية.
فكانت "تكتيك" السبسي في خطابه بمعية عدد من المنتمين لحزبه يعتمد على استفزاز "الخصوم السياسيين وفي مقدمتهم حركة النهضة أو الترميز والإيحاء والتجريح على طريقته بالاعتماد في خطابه على ما يتميز به من قدرات لغوية ومعرفية شبهه فيها البعض بـ"تقليد" الراحل الحبيب بورقيبة. وهو خطاب مكن نداء تونس من تصدر المشهد السياسي والفوز بأكبر عدد من المقاعد في مجلس النواب في الانتخابات التشريعية 2014.
توسع وتعدد واختلاف
لعل ما ميز الخطاب السياسي في نفس الفترة هو استفادة الفاعلين والناشطين في الحقل السياسي باختلاف توجهاتها من هامش الحرية، باعتباره المكسب الوحيد الإيجابي الذي تحقق في تونس ما بعد ثورة 2011، فضلا عن توسع دائرة الجدل والخطاب لتشمل "أجسام" أخرى عديدة سواء تعلق الأمر بالأحزاب المعارضة لاسيما بعد حالة "الانفلات" الحزبي والجمعياتي المسجل في تلك الفترة لينخرط الناشطون في المجتمع المدني وغيرها من التنظيمات والهياكل من تقديم خطابات سياسية بدورها حسب مدى استفادتها من الوضع أو المنظومة.
لذلك ساهم الخطاب المستعمل من جميع الجهات خلال المدة النيابية 2014/2019، بما تضمنه من وعود أغلبها كانت كاذبة وقول الموقف والرأي والقرار وإيتاء ضده، والتحول المسجل في الخطابات بناء على المصالح الحزبية والشخصية الضيقة التي تغلبت على المصلحة العامة والوطنية، في ضرب صورة ومصداقية "السياسي" لدى التونسي بعد أن حاد الخطاب والأهداف عن الأهداف المنتظرة والمطلوبة التي يعتبرها البعض من استحقاقات الثورة. ليساهم الخطاب المبني على "قرع طبول الحرب" والتأهب للصراع والتقزيم والتشكيك في تعميق ليس أزمة الخطاب السياسي فحسب بل الوضع بشكل عام لاسيما في ظل غياب البرامج العملية والتنموية والاستثمارية الهادفة. فكان أن دفع "نداء تونس" ثمن ذلك "التكتيك" وخطاب المهادنة والانقلاب على عوده وأدبياته فيما استعادت النهضة تصدر المنظومة والمشهد من جديد. ليكون المنعرج الحاسم بعد الانتخابات الرئاسية والتشريعية 2019 بعد أن راهن الناخبون في الأولى على خطاب مترشح لرئاسة الجمهورية قادم من خارج الدوائر السياسية و"الماكينة" الحزبية" مختلف في طروحاته عن المتداول والمألوف لدى الطبقة السياسية ليتم انتخابه بإجماع ما يقارب ثلاثة ملايين ناخب تونس. فيما عكست نتائج الانتخابات التشريعية حالة "الفوضى" وما أفرزه القانون الانتخابي المعتمد آنذاك من "تشرذم وأقليات" غير متجانسة، أثمرت خطاب يصعب تصنيفه في ضمن أدوات الممارسة السياسية في بعديها التقني والفني خاصة بعد صعود كتل جديدة للبرلمان على غرار "الحزب الدستوري الحر" و"ائتلاف الكرامة" و"قلب تونس" و"التيار الديمقراطي" و"حركة الشعب" و"تحيا تونس". فكان أعن عجل الخطاب الذي سهام في ترذيل العمل السياسي بسقوط البرلمان وإيقاف عجلة الطبقة السياسية بعد خروج أعداد كبيرة من الشعب التونسي في هبة غضب عارمة يوم 25 جويلية 2021، في لحظة سريعا ما التقفها رئيس الجمهورية قيس سعيد الذي كان يشكو منذ توليه الرئاسة محدودية الصلاحيات التي منحه إياها دستور 2014 وهي أزمة الصلاحيات التي ساهمت في تأزيم الوضع.
خطاب سعيد "الملغز"
حافظ قيس سعيد على نفس أساليبه في الخطاب الذي لاقى في بدايته استحسان أعداد من المواطنين ممن استهجنوا الطبقة السياسية والفساد المستثري في الدولة ومؤسساتها ورواج ظاهرة "البلطجة" السياسية داخل قبة البرلمان وفي المنابر الإعلامية وعلى شبكات التواصل الاجتماعي بشكل ينأى عن تصنيفه في خانة حرية التعبير" أو الممارسة السياسية. فكان خطاباته كله إلغاز وترميز وإيحاء وتلميح وتهديد ووعيد إلى حد أن البعض أصبح يتندر في التصنيف بين "الهم و"النحن" الذين لطالما تحدث عنهم سعيد في خطاباته و"الصواريخ في منصاتها" و"حانت اللحظة".
وركز البعض في الانتقادات لخطابات رئيس الجمهورية على محافظته على خطاب يواصل نفس الخطاب الذي كان معتمدا سابقا وذلك باعتماد خطاب يكرس التفرقة والتقسيم بين التونسيين. وهو تقريبا ما راهنت عليه المعارضة في "شيطنة" خطابه وفي محاولاتها المتكررة للتصدي لمشروعه في إرساء الجمهورية الجديدة، على اعتبار أن بلادنا اليوم في حاجة إلى خطاب يوحد جميع القوى ويجمع الفرقاء السياسيين من أجل التوصل إلى مقاربة تمكن بلادنا من الخروج من الأزمات التي تتخبط فيها اقتصادية كانت أم سياسية واجتماعية.
لكن في المقابل سقطت المعارضة بدورها في انتهاج نفس الخطاب الإقصائي المبني على نفي الآخر المختلف ليعود الجميع خلال هذه الفترة إلى النقطة الصفر لتونس في معترك 2012/2013، ويكفي العودة إلى تصريحات المعارضين على اختلاف توجهاتهم وأسماء الأجسام الحزبية التي يمثلونها في المدة الأخيرة وما تضمنته البيانات الحزبية من صفات ونعوت لكل مختلف عنهم ورافض لأفكارهم خطابهم غير المتجدد ليتأكد الجميع من خطورة هذا الخطاب وما يمكن أن يسفر عنه لاسيما في ظل التحشيد للشارع التونسي من جميع الجهات استعدادا لإحياء الذكرى 13 للثورة والصراع والتسابق على التظاهر في شارع الحبيب بورقيبة الرمز اليوم 14 جانفي.
نزيهة الغضباني
تونس – الصباح
شكّل الخطاب السياسي، في ارتباطه الاصطلاحي والدلالي والرمزي وباختلاف سياقاته، "معضلة" أغلب مكونات الطبقة السياسية في تونس إن لم يكن كلها في مرحلة ما بعد ثورة 2011. ويزداد الوضع تعقيدا وتشعّبا بنسق متواتر توازيا مع مستجدات وتطورات الوضع السياسي المتحرك بالأساس وطابع الصراع والتنافس الذي ميز نفس المرحلة و"تموجاته" حسب مدى "ثقل" وفاعلية موازين القوى في منظومة الحكم والمشهد العام والمعارضة على حد السواء. وما ميز هذا الخطاب هو تفنن أصحابه ومصادره في بث وتكريس مفاهيم جديدة اعتبرها البعض "دخيلة" على ثقافة وواقع التونسي واستهجنها الأغلبية لكن بمرور الوقت وحرص بعض الجهات السياسية المتنفذة في الحكم والدولة أصبحت جزءا من واقع المجتمع في سياق أشبه بالمصالحة الممجوجة والمفروضة خاصة أنها مبنية على التقسيم والتفرقة بين أبناء المجتمع الواحد حسب الانتماءات الفكرية والسياسية والإيديولوجية والجهوية وذلك عبر المراهنة على خطابات التحريض والتجريح والتشكيك والتكفير والتحقير وغيرها من المعاني والأشكال الأخرى التي تجسد الخطاب السياسي في أدنى مستوياته وممارساته سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، دون القدرة على الخروج من هذه الدائرة الضيقة عبر تقديم خطاب بديل قادر على التجميع والاستقطاب وتحقيق الإجماع على صفوته وإيجابياته.
وقد ساهمت عدة عوامل في استفحال الأمر خلال نفس الفترة لعل من أبرزها طبيعة الدولة المدنية ومناخ الحرية والديمقراطية الذي تحقق بعد الإطاحة بمنظومة الراحل زين العابدين بن علي "الديكتاتورية"، وطبيعة النظام الاقتصادي الليبرالي المتوحش المعتمد في بلادنا.
وتجمع عديد القراءات والآراء المختصة في المجال أو المتابعة للشأن العام في تونس على اضطلاع الخطاب السياسي بدور كبير في تردي الأوضاع في مستويات عديدة، خاصة أن هذه المسألة أو الممارسة السياسية لم تعد اليوم حكرا على المؤسسات والجهات التقليدية كالأحزاب والتنظيمات أو المؤسسات الرسمية للدولة كالبرلمان والحكومة وغيرها من المؤسسات الدستورية والوطنية بل أصبحت مسألة متشابكة، أملتها خصوصية المرحلة السياسية وما أفرزته من مناخ ديمقراطي في دولة مدنية لها خصوصية حضارية وثقافية، ينزع نحو الدفاع والانتصار للحريات، تتداخل في هذه الوضعية عدة الأطراف وعوامل داخلية وخارجية.
إذ لم يكن الأمر حكرا على الطبقة السياسية التي برزت للمشهد العام في فترة ما بعد 2011 فحسب، بل شمل أيضا أغلب مكونات المشهد السياسي وتعداه إلى بعض نشطاء المجتمع المدني وبعض الفاعلين في الدولة في فترة ما بعد 25 جويلية 2021. إذ تواصل نفس المنهج في الخطاب المبني في أبعاده على التقسيم والتفرقة بين أبناء المجتمع الواحد، بشكل ساهم في تردي وتأزيم الوضع وصعّب مهمة تجميع المسارات والتوجهات والفرقاء حول هدف واحد يرتقي بالدولة أو يراعي أهدافها ويحرص على احترام سيادتها وكرامة أبنائها في هذا الظرف الصعب.
تقسيم فكري إيديولوجي
ولئن أفضى هذا المنهج في الخطاب الذي اعتمدته الطبقة السياسية الصاعدة في المرحلة السياسية الأولى لتونس ما بعد 2011 في محاولتها الدخول بقوة لإدراك سدة الحكم، إلى نجاح أصحابها في تحقيق أهدافها في الوصول إلى مواقع القرار والسلطة، عبر مراهنة حركة النهضة على خطاب إيديولوجي يقسم التونسيين إلى مسلمين وكفار سواء كان بشكل مباشر أو غير مباشر. الأمر الذي أحدث رجة كبيرة في صفوف المجتمع التونسي الذي دأب وتمرس على الاختلاف الثقافي والفكري منذ الاستقلال إلى تلك المرحلة بعد أن وجدت هذه الفئة السياسية آليتها لتوسيع دائرة قواعدها الشعبية وذلك بالتوجه إلى الطبقات الشعبية والفئات المهمشة التي تبحث وتتوق إلى العدالة الاجتماعية والقطع مع سياسة الحيف والظلم والمحسوبية الحزبية والجهوية. واعتمدت في بث هذه النوعية من الخطابات على برنامج موسع موجه إلى أبناء الداخل في كامل جهات الجمهورية يختلف فيه الديني والدعوي والتضامن. فكانت هذه الخطابات بمثابة "الخبز اليومي" لمكبرات الصوت المنتصبة في الخيمات الدعوية والجمعيات الخيرية والمنظمات الإنسانية والحقوقية من جهة ونفس "البضاعة" التي اكتسحت المنابر الإعلامية بجميع أنواعها العمومي منها أو الخاص والجمعياتي والخارجي وأيضا على شبكات التواصل الاجتماعي الذي تجند لبث ونشر نفس النوعية من الخطاب.
وقد أجمعت عديد الجهات على أنها راهنت عليه حركة النهضة في تلك الفترة وعملت على تكريسه كان خطابا تكفيريا بامتياز. نجحت من خلاله في كسر حاجز توحد الشعب التونسي الذي كان عاملا قويا لإسقاط منظومة بن علي من ناحية والمحافظة على ديمومة واستمرار مؤسسات الدولة في الفترة الأولى لما بعد الثورة. ليأخذ نفس الخطاب منعرجا حساما وخطيرا بعد انتخاب وتركيز المجلس الوطني التأسيسي منذ بداية سنة 2012 واختيار منصف المرزوقي، رئيس حزب المؤتمر من أجل الجمهورية رئيسا مؤقتا للجمهورية التونسية، الذي عمق العملية في أول خطاب له في البرلمان تمثل في تقسيم المجتمع النسائي إلى "سافرات" وغير سافرات. يلتم بذلك تحويل وجهة الاهتمام والانتظارات للشعب التونسي من تحقيق أهداف الثورة وإيجاد مواطن شغل للعاطلين عن العمل وفتح المجال للبرامج التنموية والاستثمارية... إلى الاستئثار بالجدل والحديث حول التصنيفات الجديدة في الخطابات المعتمدة آنذاك من قبيل "الإرهاب" و"الظلامية" والتكفير والجهاد والاستشهاد و"الأخونة" و"الأسلمة" و"الحريات" و"الحقوق" و"المليشيات" والاغتيالات وغيرها. وهي مصطلحات مفاتيح لمحاور الجدل والصراع التي أتاها خطاب الطبقة السياسية التي تصدرت المشهد السياسية في تلك الفترة.
من الاستفزاز والتشكيك إلى التمكن
نجح بدوره الراحل الباجي قائد السبسي في توظيف وحسن التعاطي مع خطاب جديد مكنه من خلق خط سياسي موازي مع ما قدمه الإسلامي السياسي من خطاب، استقطب شق آخر من التونسيين الذين ينتصرون للحرية ودولة القانون والمؤسسات وينبذون العنف، خاصة بعد سقوط شهداء وجرحى ضحايا الخطاب السياسي "المتأدلج" وتواتر أحداث وخطابات العنف والتهديد لاسيما بعد اغتيال الشهيد شكري بلعيد، أمين عام الجبهة الشعبية بعد صعود نجمه وتفرد خطابه السياسي ونفاذه إلى آذان نسبة كبيرة من التونسيين في الداخل والخارج، ليكون اغتياله تأكيد لمدى خطورة الخطاب السياسي المبني على الترهيب والتحريض وتفشي الإرهاب والجريمة المنظمة داخل الجمهورية الجديدة. فكان أن راهن السبسي وعائلة "نداء تونس" الحزب الفتي على خطاب يهدف لتوحيد التونسيين وتأكيد وجود قوى سياسية أخرى قادرة على الانتصاب في قلب المعركة السياسية التي تتزعمها النهضة وعدد من الأحزاب التابعة لها سواء منها التقليدية على غرار "التكتل" و"المؤتمر من أجل الجمهورية" أو الحزب الجمهوري وغيرها من الوافدة أو الفتية.
فكانت "تكتيك" السبسي في خطابه بمعية عدد من المنتمين لحزبه يعتمد على استفزاز "الخصوم السياسيين وفي مقدمتهم حركة النهضة أو الترميز والإيحاء والتجريح على طريقته بالاعتماد في خطابه على ما يتميز به من قدرات لغوية ومعرفية شبهه فيها البعض بـ"تقليد" الراحل الحبيب بورقيبة. وهو خطاب مكن نداء تونس من تصدر المشهد السياسي والفوز بأكبر عدد من المقاعد في مجلس النواب في الانتخابات التشريعية 2014.
توسع وتعدد واختلاف
لعل ما ميز الخطاب السياسي في نفس الفترة هو استفادة الفاعلين والناشطين في الحقل السياسي باختلاف توجهاتها من هامش الحرية، باعتباره المكسب الوحيد الإيجابي الذي تحقق في تونس ما بعد ثورة 2011، فضلا عن توسع دائرة الجدل والخطاب لتشمل "أجسام" أخرى عديدة سواء تعلق الأمر بالأحزاب المعارضة لاسيما بعد حالة "الانفلات" الحزبي والجمعياتي المسجل في تلك الفترة لينخرط الناشطون في المجتمع المدني وغيرها من التنظيمات والهياكل من تقديم خطابات سياسية بدورها حسب مدى استفادتها من الوضع أو المنظومة.
لذلك ساهم الخطاب المستعمل من جميع الجهات خلال المدة النيابية 2014/2019، بما تضمنه من وعود أغلبها كانت كاذبة وقول الموقف والرأي والقرار وإيتاء ضده، والتحول المسجل في الخطابات بناء على المصالح الحزبية والشخصية الضيقة التي تغلبت على المصلحة العامة والوطنية، في ضرب صورة ومصداقية "السياسي" لدى التونسي بعد أن حاد الخطاب والأهداف عن الأهداف المنتظرة والمطلوبة التي يعتبرها البعض من استحقاقات الثورة. ليساهم الخطاب المبني على "قرع طبول الحرب" والتأهب للصراع والتقزيم والتشكيك في تعميق ليس أزمة الخطاب السياسي فحسب بل الوضع بشكل عام لاسيما في ظل غياب البرامج العملية والتنموية والاستثمارية الهادفة. فكان أن دفع "نداء تونس" ثمن ذلك "التكتيك" وخطاب المهادنة والانقلاب على عوده وأدبياته فيما استعادت النهضة تصدر المنظومة والمشهد من جديد. ليكون المنعرج الحاسم بعد الانتخابات الرئاسية والتشريعية 2019 بعد أن راهن الناخبون في الأولى على خطاب مترشح لرئاسة الجمهورية قادم من خارج الدوائر السياسية و"الماكينة" الحزبية" مختلف في طروحاته عن المتداول والمألوف لدى الطبقة السياسية ليتم انتخابه بإجماع ما يقارب ثلاثة ملايين ناخب تونس. فيما عكست نتائج الانتخابات التشريعية حالة "الفوضى" وما أفرزه القانون الانتخابي المعتمد آنذاك من "تشرذم وأقليات" غير متجانسة، أثمرت خطاب يصعب تصنيفه في ضمن أدوات الممارسة السياسية في بعديها التقني والفني خاصة بعد صعود كتل جديدة للبرلمان على غرار "الحزب الدستوري الحر" و"ائتلاف الكرامة" و"قلب تونس" و"التيار الديمقراطي" و"حركة الشعب" و"تحيا تونس". فكان أعن عجل الخطاب الذي سهام في ترذيل العمل السياسي بسقوط البرلمان وإيقاف عجلة الطبقة السياسية بعد خروج أعداد كبيرة من الشعب التونسي في هبة غضب عارمة يوم 25 جويلية 2021، في لحظة سريعا ما التقفها رئيس الجمهورية قيس سعيد الذي كان يشكو منذ توليه الرئاسة محدودية الصلاحيات التي منحه إياها دستور 2014 وهي أزمة الصلاحيات التي ساهمت في تأزيم الوضع.
خطاب سعيد "الملغز"
حافظ قيس سعيد على نفس أساليبه في الخطاب الذي لاقى في بدايته استحسان أعداد من المواطنين ممن استهجنوا الطبقة السياسية والفساد المستثري في الدولة ومؤسساتها ورواج ظاهرة "البلطجة" السياسية داخل قبة البرلمان وفي المنابر الإعلامية وعلى شبكات التواصل الاجتماعي بشكل ينأى عن تصنيفه في خانة حرية التعبير" أو الممارسة السياسية. فكان خطاباته كله إلغاز وترميز وإيحاء وتلميح وتهديد ووعيد إلى حد أن البعض أصبح يتندر في التصنيف بين "الهم و"النحن" الذين لطالما تحدث عنهم سعيد في خطاباته و"الصواريخ في منصاتها" و"حانت اللحظة".
وركز البعض في الانتقادات لخطابات رئيس الجمهورية على محافظته على خطاب يواصل نفس الخطاب الذي كان معتمدا سابقا وذلك باعتماد خطاب يكرس التفرقة والتقسيم بين التونسيين. وهو تقريبا ما راهنت عليه المعارضة في "شيطنة" خطابه وفي محاولاتها المتكررة للتصدي لمشروعه في إرساء الجمهورية الجديدة، على اعتبار أن بلادنا اليوم في حاجة إلى خطاب يوحد جميع القوى ويجمع الفرقاء السياسيين من أجل التوصل إلى مقاربة تمكن بلادنا من الخروج من الأزمات التي تتخبط فيها اقتصادية كانت أم سياسية واجتماعية.
لكن في المقابل سقطت المعارضة بدورها في انتهاج نفس الخطاب الإقصائي المبني على نفي الآخر المختلف ليعود الجميع خلال هذه الفترة إلى النقطة الصفر لتونس في معترك 2012/2013، ويكفي العودة إلى تصريحات المعارضين على اختلاف توجهاتهم وأسماء الأجسام الحزبية التي يمثلونها في المدة الأخيرة وما تضمنته البيانات الحزبية من صفات ونعوت لكل مختلف عنهم ورافض لأفكارهم خطابهم غير المتجدد ليتأكد الجميع من خطورة هذا الخطاب وما يمكن أن يسفر عنه لاسيما في ظل التحشيد للشارع التونسي من جميع الجهات استعدادا لإحياء الذكرى 13 للثورة والصراع والتسابق على التظاهر في شارع الحبيب بورقيبة الرمز اليوم 14 جانفي.