الوضع في تونس ما بعد الثورة ودور حركة النهضة فيه.. شخصية راشد العنوشي ودوره في ما آلت إليه الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ما يجري في كواليس النهضة وخاصة خلال وبعد مؤتمرها التاسع.. أسرار يكشفها لأول مرة قيادي سابق في حركة النهضة ومن اقرب المقربين لرئيسها راشد الغنوشي..
مقداد اسعاد أكاديمي تونسي جزائري من جامعة ليون الفرنسية متخصص في التنمية الإقليمية، وناشط مغاربي ملتزم بقضية الوحدة الاقليمية من الجيل الأول للحركة الإسلامية في تونس ومستشار سابق لراشد الغنوشي مكلف بالشأن المغاربي ومهندس العلاقة بين الجزائر وحركة النهضة.. يشغل حاليا خطة مدير مركز يوغرطة للاندماج المغاربي ومستقر في باريس... معه كان لـ"الصباح" هذا الحوار.
*متغيرات عديدة شهدتها تونس في المدة الأخيرة وخاصة يوم 25 جويلية وما بعده .. فهل لك تفسير خاص لما حدث يومها ويحدث اليوم في بلادنا؟
- لا شك أن الجواب صعب والتونسيون منقسمون حوله بين من يقول انه انقلاب ومن يقول حركة اصلاح.. تمنيت لو أن ضحيته الأولى رئيس الحكومة المقال هشام مشيشي يتكلم ويريح الجميع، وفي غيابه سمعنا إجابات كثيرة من النقيض الى النقيض لشخصيات كبيرة، وبقي الجميع ينتظر جوابا من الرئيس قيس سعيد الذي يبدو أنه يئن تحت حمل قراره.
*لكن قيس سعيد يعتبر ما قام به عملية إنقاذ لتونس وتصحيح انحراف.. فما هي قراءتك لوضع تونس ما بعد الثورة وكيف وصلت الى هذا المستوى من الفوضى؟
- تونس بعد الثورة حكمها سطحي، بلا فهم ولا مشروع ولا حلم. الحلم وحده يجمع الفرقاء، ويتجاوز الخلاف ويثمن الطاقات، ويصنع الانتصارات. ثورة 14جانفي 2011 وبكل المقاييس، جاءت عفوية، ليس للأحزاب ولا للخارج فيها دور وقد فاجأت الجميع وحتى الاستخبارات العالمية. صنعت الثورة أحداثها ومؤسساتها الانتقالية بنجاح. لكن تراجعها بدأ باكرا لما سلمت المسؤولية للأحزاب. للديمقراطية شرطان وعلامتان: الانتخابات الحرة النزيهة والأحزاب نجحت في الأولى أي الانتخابات وأخفقت في أن يكون لها أحزاب في مستواها.
لا بد للديمقراطية من أحزاب، ككيانات حية، يتوفر فيها الحد الأدنى من العمل الجماعي والمؤسساتي، بمعنى الاستقلالية عن قياداتها، تقوم بذاتها، لها هويتها الخاصة. غياب هذا الشرط منع الانتقال الديمقراطي، تونس ليس لها أحزاب بالمعنى الصحيح، بل دكاكين بترخيص نشاط حزبي. هذا ولا بد من التذكير أن حجم الحزب مهما كبر لا يكفي ليضفي عليه تلك الصفة وذاك التصنيف، بل وجب أن تتوفر فيه شروط الشفافية داخله واحترامه للقانون واعتماده على المؤسسات. في تونس تنظيمات سياسية معتمدة (لها باتيندة) لكنها ليست أحزابا.
*لكن وحسب بيان حكومي صادر في جوان 2020، بلغ عدد الأحزاب السياسية في تونس 244 حزبا؟
-وما هو تعريف الحزب..هل هو باتيندة وشخصية أحيانا وحيدة تتحدث باسمه.. الـ244 حزبا المتحدث عنها، 13 فقط ممثلة في البرلمان، خمسة منها بثلاثة مقاعد أو أقل. هذا مع فوارق كبيرة في حقيقة تمثيلية النائب، إذ أن عدد المصوتين الذين يحملونه الى البرلمان يختلف اختلافا كبيرا، بعضهم لا يحظى بغير مئات، وذلك بسبب النظام الانتخابي ودنو سقف العتبة ونظام البواقي.
الأحزاب في تونس يمكن تقسيمها الى نوعين: تلك الكلاسيكية ذات المرجعيات المألوفة من قومية إسلامية الى يسارية، وأخرى اعتبر بعضها أحزابا انتخابية تجمع أناسا مختلفين التقوا ظرفيا، يصعب تعريفها أصلا تضع لنفسها برنامجا ظرفيا مرتجلا ومنسوخا يقع تجاوزه ونسيانه مهما كانت النتيجة الانتخابية، كما تتفكك تلك المكونات في حالة من التيه او السياحة الحزبية... ينعكس هذا الانحلال والإخلال في المكون الحزبي سلبا على عمل البرلمان الذي هو بحسب الدستور مركز أهم سلطة، وتدخل البلاد بسبب ذلك في الفوضى. وهو فعلا ما تعيشه تونس اليوم.
*عاشت تونس 10 سنوات على تراشق بالتهم بين أغلبية غير منسجمة تحت زعامة النهضة ومعارضة مشتتة لا يجمعها الا رفض النهضة، فمن يتحمل فشل الثورة؟
- تشريح متاعب تونس في العشرية الأخيرة يمر حتما عبر تحديد وترتيب مسؤوليات الفاعلين وأوزانهم وأيضا مدى احترام الحزب عامة ليس فقط لقانون البلاد بل كذلك لقانونه الداخلي ومستوى الديمقراطية والشفافية في تسيير مؤسساته. نتيجة الانتخاب الحرة كانت أن وضع الشعب التونسي حركة النهضة في صدارة الترتيب وحمّلها مهمة إنجاح ثورته وقيادة دولته، وأعطاها وسائل الحكم كلها، لكنها فشلت. أنا أحمل النهضة مسؤولية متاعب تونس وفشل الربيع العربي، دون مبالغة ولا جلد للذات. وذلك بما اجتمع لها من تفرد بالقرار بشأن البلاد. أما باقي القوى فتبدأ مسؤوليتها عند ردة الفعل، التي مهما كانت شديدة ومتجاوزة للقانون تبقى ردة فعل يسهل فهمها ويعود فيها اللّوم على الفاعل وبمستوى أقل منه على من يرد عليه. سنة 2012 حكمت النهضة ببرنامج عبث (وعد بتوفير 600 ألف منصب شغل) ودون رؤيا ولا مشروع، وكان تكوين حكومتها الأولى تجميعا عبثيا مخيفا لمن سموا وزراء وما هم كذلك.
لكن لهذا ا يعني تحميل النهضة مسؤولية الفشل في إصلاح تونس كما وعدت، وكما كان شعب تونس يتطلع له من التصويت لها، تبرئة للآخرين، أي المنظومة القديمة المتخمة في أعراض وأموال التونسيين والفاسدة من رأسها الى أخمص قدميها، هي وتوابعها من اليسار المرفوض شعبيا، وأيضا من أطراف كثيرة شاركت في الثورة كانت معارضة لابن علي ونالها منه شيء من الأذى. لكن النهضة جانبت طريق النجاح بما أخطأت فيه من خياراتها وتصرفاتها الداخلية، واحسب أن الصعوبات والعراقيل الاتية من التيارات المؤدلجة وأباطرة الفساد ما كانت لتفشل مسارها لو كانت لها مؤسسات تؤطر كفاءاتها الكثيرة بالشفافية اللازمة.
*المفروض انك من المنتمين للنهضة ومن بين قياداتها السابقين ومستشار سابق لزعيمها، فكيف تحكم على حركتكم بالفشل وعدم القدرة على قيادة الثورة؟
- هو استنتاج ابديت تخوفي منه للشيخ راشد الغنوشي منذ السنة الأولى للثورة، وقدمت له دراسة مكتوبة وموثقة. وقد كان الشيخ دعاني بضعة أيام بعد عودته من المنفى وطال الحديث بيننا حول فهم ما حصل في تونس. كان يفسر انتشار أخبار الثورة بفعل دور قناة الجزيرة وكنت أرده الى الفايسبوك الذي يحتاج من مستعمليه الوقت ومستوى أدنى من التعلم. شرطان توفرا للشاب التونسي. كان شباب تونس عاطل عن العمل له من الفراغ الكثير ومن التعلم ما يكفي، مع التذكير أن تونس كانت البلد صاحب النسبة الثانية عالميا الذي يستعمل الفايسبوك.
لقد تكونت لدي منذ البداية قناعة بعدم صلاحية النهضة لقيادة تونس، وكانت تزداد مع كل خطوة جديدة، كان أولها البرنامج الانتخابي الخطأ الذي اعتمدته النهضة، ثم تكوين الحكومة الأولى برئاسة حمادي الجبالي، والتي كانت فسيفساء من أسماء وقع تجميعها كخراف السوق، ظل رئيسها يقرأها في تلعثم وكان لا يعرف بعضها أصلا. كان تكوين الحكومة عملية عبثية كتقسيم الغنيمة عبث بها السماسرة والجهلة وتوزعت كمغنم على الاصهار والاصحاب، وقد دعم الشيخ راشد ذلك، اذ كان يؤشر على من يريد وزاد بأن أطلق يد بعض من تربطه به مصالح قريبة، وجعلهم فوق المساءلة ولا يرد لهم أمر لغاية في نفس يعقوب، وزاد الشيخ بأن أعطى المثال، وعمد الى السنة السيئة، بتوزير صهره على رأس دبلوماسية الثورة، رغم أنف النهضة وتونس. وقد كان اعتراضي على جعل الصهر على رأس وزارة الخارجية سببا في غضب الشيخ وقرار اقصائي... أما ما جعلني أتيقن واحذر منه أن النهضة ستقود البلاد للهاوية فهو الخلل الكبير والانحراف الخطير للمؤتمر التاسع أو الأول علنيا في صائفة 2012.
*المستمع لخطابك لا يعتقد بالمرة انك "نهضاوي".. يبدو أن مؤاخذاتك كبيرة على الحركة وزعاماتها؟
-كان المؤتمر التاسع وهو الأول الذي تنظمه النهضة علنا وهي تحكم البلاد وتقود الربيع العربي، حدثا نهضويا وتونسيا وعالميا. وكان لا بد له من مهمة يعيها القائمون على النهضة والمؤتمرون، فلا ينحرفون عنها جهلا بها في تلك اللحظة المفصلية. المهمة الأساسية لهكذا مؤتمر في هكذا ظرف، لا يمكن أن تكون الا تمكين تونس من حزب يعطي المثال ويكون شاهدا على الناس أجمعين في تونس وخارجها أن الديمقراطية ممكنة عند العرب وأن الحكمة ضالة المؤمن ان وجدها أخذها. لو كانت النهضة خارج الحكم لكان الأمر أهون، لكن وهي تحكم تونس وتحدد مستقبل ثورتها، فقد أصبح مؤتمرها يهم كل التونسيين. فهم حال النهضة إذا ليس لترف البحث والدراسة وإنما هو ضروري لتشريح أزمة تونس اليوم.
*فعلا لقد كان المؤتمر التاسع لحركة النهضة حدثا كبيرا بحسب الظاهر، نالت به اهتمام الداخل والخارج، فأين كان الخلل اذا؟
-مقياس الصحة من الخطأ لعمل جماعي يكون باحترام النشاط للغاية التي من أجلها قام، بحسب الدقة في المفاهيم. وللتذكير، نحن نقيم مسار تونس انطلاقا من حقيقة حاكميها والقائمين الشرعيين على شأنها، في ظرف قفزت فيه من ضفة الدكتاتورية حيث الحكم مركز في أعلى سلطة الى نظام الديمقراطية، بتوزيع الحكم الى أبعد مستوى أي كل شعب تونس. ونظرا لتنوع الرؤى وجب منهجيا تجميعها ضمن كتل متقاربة تلتقي على مشروع تعرضه الى الشعب ويتشكل من هذه العملية مشهد سياسي، هو حقيقة تونس في تاريخ معين. سنة 2012 كانت النهضة تمثل لوحدها نصف هذا المشهد. لذلك اهتم بها التونسيون وغيرهم، خاصة أنها كانت تحكم البلاد. لم يعد مؤتمر النهضة خاصا بها بل يهم الجميع. وأذ أقدم له تقييما، أقدمه من الداخل ومن زاوية الفكرة والشكل. أما الشكل فهو ظاهر وقد حظي بتغطية إعلامية كبيرة، تكون ولا شك قد غطت على إخلالات ونواقص الفكرة، بل انحرافاتها أيضا. وأضيف أن ذاك البهرج الظاهر من مثل استدعاء قناة الجزيرة لتغطية قراءة التقرير الأدبي على المباشر الا نية وعملية تمويه على انحرافات قانونية واخلاقية خطيرة على النهضة وعلى تونس.
لقد انحرف المؤتمر عن عمد عن هدفه وسبب تنظيمه أصلا، وهو كونه مؤتمرا تأسيسيا أولا في حياة تونس، وما كان يصح أصلا الا باحترام إجراءات يفقد غيابها مصداقيته، بل أصلا اعتماده وصحة تنظيمه. أنا أعتبر مؤتمر التاسع للنهضة في صائفة 2012 لاغيا وكفى. وذلك لأنه لم يبرئ ذمة القيادة السابقة. خلل سبقه ولحقه آخرون لكنه يبقى الشرط لصحة المؤتمر وشرعية مخرجاته.
*يبدو أنكم توجهون أصابع الاتهام لراشد الغنوشي نفسه في اسقاط المؤتمر التاسع؟
-شرط تبرئة الذمة هو الذي افشل المؤتمر وهذا الشرط مسؤول عليه الغنوشي، خاصة أنه مؤتمر فاصل بين عهدين، عهد الدكتاتورية حيث السرية، وعهد الديمقراطية وسمتها العلنية والشفافية واحترام القانون. لا يمكن أن نبني حزب النهضة الجديد على أساس ماض لم نحسم في حقيقته. وقد كان فيه عمل كثير ومال كثير ودماء وعذابات كثيرة... لن يصح البناء فوقه دون أن يفهم المؤتمر وهو السلطة الأعلى على الإطلاق ماهيته وحقيقته. شرط قرر الشيخ راشد تجنبه والالتفاف حوله وكان له ما أراد. وأمام أصرار المؤتمرين بالمطالبة بالتقرير المالي، لم يجد المسؤول عن المال والمرافق للشيخ وسكرتيره في لندن بدا من أن يخرج على الملإ كراس المال، لكنه لم يفتحه، قدمه للشيخ معتذرا عن فتحه ومبرئا ذمته بوضعه بين يدي رئيس الحركة راشد الغنوشي الذي بدا مرتبكا كذاك التلميذ وهو يتقدم لامتحان يحدد مستقبله. هذا رغم أن الشيخ ومجموعة من حوله متمرسين في اللعب بالمؤسسات والمؤتمرات، كانوا أعدوا العدة للتشويش على المؤتمر بدعوة غريبة واقتراح الرئاسة مدى الحياة للشيخ راشد، وذلك لضمان سكوت المؤتمر عن تلك التجاوزات الخطيرة...
أخفق المؤتمر التاسع والأول العلني في وضع الحركة على سكة البناء الحزبي المدني السوي، وأكدت مخرجاته أنها طائفة تحكم بالتقنية وخارج المنطق والعقلانية. وذلك بقبول المؤتمر وهو السلطة الأعلى في الحركة عدم تبرئة الذمة من طرف القيادة القديمة وتسليمها الاسرار والاختام والأموال. انتهت النهضة كحزب في المؤتمر التاسع. وتأكد عدم قدرتها على حكم تونس. حكمت النهضة تونس كما حكمت نفسها وبالطريقة التي مارستها لنصف قرن وتعودت عليها، ووضعت الدولة في خطر.
في ذلك اليوم أتذكر انني قلت لعبد اللطيف المكي " أنت تتحمل مسؤولية فشل نجاح مؤتمر النهضة، وقد ترشحت وطلبت رئاسته ونلت قبولا عاليا، فكيف لك ألاّ تمنع هذا العبث". وكان جوابه "ما كان بالإمكان غير الذي كان، تلك حقيقة النهضة". وأضاف على الأقل لقد نجحنا في تحديد رئاسة الحزب في عهدتين لا ثالث لهما، رغم استماتة بعضهم في مقترح مدى الحياة للشيخ. هذا وها نحن نعيش صراعا حول هذا الفصل باستماته الشيخ اليوم في البقاء بل وتهديده للحركة أنه زعيم ذو الجلد الخشن.
*هذا شأن داخلي لحركة النهضة، ومثله يقع في باقي الأحزاب، وفي كل بلدان العالم الديمقراطية، لكن أي تأثيرات لداخل النهضة على ما حصل ويحصل اليوم في الحياة السياسية لتونس؟
-هناك سببية مباشرة وقوية بالنظر لحجم النهضة في الحياة السياسية، إذ أن الوزن الشعبي والتنظيمي والانتخابي لحركة النهضة، لا يترك لتونس من سبيل نجاح الا بصحة هذه الحركة واحترامها لشروط مأسستها كحزب حاكم، او انسحابها وكفى. لو بقيت النهضة خارج الحكم لما تحملت فشل التجربة التونسية، رغم متاعب كانت تسببها لها، لكنها لن تكون قاتلة مثل ما كان عليه الحال والنهضة تحكم، بل لعلها في المعارضة كانت تفيد أكثر. بفشل المؤتمر التاسع لحركة النهضة انهار الربيع العربي، ودخلت الثورة التونسية في نفق لم تخرج منه الى اليوم.
يمكن لتونس أن تنجح تحت حكم النهضة في حال لو احترمت الحركة قواعد وشروط الديمقراطية والشفافية داخلها. كان التحدي الحقيقي للنهضة هو أن تحول رصيدها النضالي واعتمادها على هوية جامعة للشعب التونسي، وأيضا التنوع الثقافي الهائل، الى حلم ومشروع لتونس، تشع به نجاحا ونموذجا وشهادة على الناس أن أمتنا ليست إرهابا وظلاما وهدما بل ابداعا وبناء. صحيح أن قيادات النهضة تستعمل هذا الخطاب، لكنه لا يكفي إذا لم تترجمه محتوى لمشروع مقنع يجمع الطاقات التونسية. للنهضة الكثير ما تفيد به تونس وذلك بخبرتها في تأطير الشباب والالتزام بتعاليم الدين وفيها محاسن كثيرة من معاني التكافل والتضحية والتعاون وغيرها. كانت النهضة يمكن أن تمثل ملاذا للتونسيين كلهم عند الشدة وعامل توحيد لصفوفهم وحكما بين الفرقاء منهم. "ادفع بالتي هي أحسن فاذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم". صدق الله العظيم.
وقد مثّل اخفاق النهضة في تأسيس حزب سياسي مدني وعصري، فرصة ضائعة أمام الإسلام السياسي لبعث نموذج ناجح تهيأت له ظروفه الموضوعية في بلد تونس كأرض ملائمة وخصبة للديمقراطية. قال المفكر الفرنسي جاك أطالي محاضرا في تونس سنة 2011، أن الربيع العربي لن ينجح في أي بلد إذا فشل في تونس.
*كيف يمكن لشخص طالما تحدث عن الديمقراطية وملك من مال وسلطة الكثير أن يعمل ويتمسك بقيادة حزب عريق رغم معارضة أغلبية القواعد؟
-لقد أخذ الشيخ راشد فرصته كاملة، وخدمته ظروف مناسبة. كان يجوب العالم باسم حركة إسلامية، اجتمع لها كثير من مشاعر التعاطف شرقا وغربا، فهي إضافة الى المرجعية الدينية العالية القيمة لدى شرائح كثيرة في العالم الإسلامي، لها مرجعية نضال، اذ بلغ عدد مسجونيها ومهجريها الخمسين الفا والمتضررين بشكل غير مباشر من أقارب وعائلات وأبرياء من كل نوع، المليونين في سجن تونس الكبير. رصيد النهضة كبير رفع الناطق باسمها الى عليين. دون أن ننسى المساعدات المالية بعضها آت من الزكاة أصلا، وأيضا الاعتبارات المعنوية المختلفة. عاد الشيخ راشد الى تونس تحت اهازيج طلع البدر علينا وهذا ما لم يحلم به بورقيبة نفسه. تلك خاصية النهضة المفارقة التي تطبعها. حقيقة النهضة أنها ليست كيانا مستقلا بفكره وقراره، هي في الحقيقة رغم الممارسات الديمقراطية والتنظيمية الشكلية والدعاية القوية، ليست غير أداة يتغذى عليها الزعيم ومطية له لبلوغ أهداف خاصة. وأكثر من ذلك، النهضة كتنظيم سياسي ليست صاحبة ما وقع التصريح به وما أعلن من قرارات باسمها. في كل محطة في هذه العشرية وجد الشيخ راشد له مقابلا يتفق معه باسم النهضة وفي غيابها وهي تزكي في النهاية بالمراوغة والترغيب والترهيب والاقصاء والدعاية والذباب الأزرق، والغاية تبرر الوسيلة، كما قال عبقري تونس وحاكمها لعشرية الثورة هذه. ومن أهم الوسائل كان التحكم في النهضة، لأنه لو خسر رئاسته لها لتركه الكبار ووقع نسيانه.
لكل ما ذكر من أسباب يمكننا أن نحمل دون مبالغة الشيخ راشد الغنوشي حمل اخفاق الثورة التونسية، لدوره الأساسي، تبعته منطقيا ردات فعل من المتضررين من نجاح الثورة لعدم فهمهم أن ما يفعله الشيخ يخدمهم في النهاية، والخائفين عليها من تفرده بالقرار أيضا. فالشيخ كان خطرا على الثورة، وهو الذي جلب لها ألد أعدائها وعرقل المخلصين من كفاءاتها ودعم أسوأ من تسلل لمفاصل الدولة تحت سلطته. نصحته سنة 2013 أن عد الى بيتك، اغلق عليك بابك واستغفر ربك، على الشيخ أن يعتذر للنهضة ولشعب تونس.
ليس للشيخ راشد قضية يعمل من اجلها، منذ المؤتمر الثامن سنة 2007 في هولاندا، والذي خسره اذ حل خامسا بين المترشحين. ضلت مساحة اهتمامه تضيق من ذاك الفضاء الواسع لمحبي الحرية والمعاني العالية لتونس وما وراءها من هوية وانتماء ونضال انساني نبيل والتزام، الى دائرة لم يزل يضيقها على نفسه حتى لم يبق فيها غير الطمّاعين والمتملقين والانتهازيين، بدون مبالغة. يعدهم أو يمنيهم فيصدقون، يحل هذا الفاشل حزبه ويلتحق بالغنوشي كمستشار لوعد من الشيخ بمنصب مثل رئاسة مجلس في الحركة، ويستقيل آخر من رئاسة جمعيته طمعا في منصب وزاري، وقائمة المنافقين تطول...
*هناك اتهامات للنهضة يرفعها خصومها على الأقل منذ سنة 2013، وهما الإرهاب والفساد، هل من شهادة حولهما وهل تبرئ النهضة منهما؟
- رغم ما سبق ذكره وانصافا للنهضة فهي بريئة من الإرهاب. النهضة لا تعمد الى الإرهاب داخل تونس ولا تصدره خارجها، بل هي ضحيته والمستهدف الأول منه. الإرهاب في تونس انطلق بالاغتيال السياسي الأول للمناضل اليساري شكري بالعيد، بقرار من القوى الخارجية لإخراجها من الحكم الذي تفردت وتمسكت به. النهضة لم تسلم الحكم مختارة وعن طواعية كما تدعي بل أرغمت على ذلك.
الفساد أيضا ليس من صنع النهضة، رغم أن لها به علاقة، هي تأكل منه، لكن تكتفي بالفتات الساقط من موائد الفاسدين الكبار أصحاب المنظومة القديمة الذين يتمتعون بالمكشوف بالقروض الممتازة والصفقات العمومية والميزانيات المختلفة، وحتى استعمال الممتلكات العامة في حملاتهم الانتخابية. أما النهضة فتكتفي بدور الشريك الثانوي و"شاهد ما شافشي حاجة" مقابل البقايا وما زهد فيه الكبار..
*اعتبرت أن عشرية الثورة لعبت فيها شخصيتان الأدوار الأهم في تونس، راشد الغنوشي وقيس سعيد، وماذا عن الرئيسين منصف المرزوقي والباجي قايد السبسي؟
-هذان تابعان لحكم راشد الغنوشي، ومدينان له بمنصبيهما، سنة 2011، لو قرر شيخ النهضة أي أسم غير المرزوقي لكان رئيسا لتونس، أما الباجي قايد السبسي فقد طلب قرطاج وهو يعلم عدوه البيولوجي، كما كان الغنوشي يعلمه أيضا، وكان التوافق كحزمة إجراءات لأحلام هذا وذاك، بعيدا عن تطلعات شعب تونس، التوافق وما يحمله من معاني المصالحة والتهدئة لاقى قبولا واستحسان الداخل والخارج. نص الاتفاق غير المكتوب على حد النهضة من دعمها للمرزوقي الذي جعلته رئيسا ولو بنسبة ضئيلة تكفي لانزال نتيجته الى ما تحت الخمسين، فالرئيس المخضرم لم يعد تهمه النسبة بقدر ضمان دخول قرطاج بورقيبة. وفي المقابل يفتح الباب على مصراعيه لأحلام الشيخ راشد بثأر مدوي على من حكم عليه بالإعدام يوما. كان الشيخان يقرران بأريحية كبيرة، في دلالة قوية على ان النداء والنهضة لم يكن تتوفر فيهما شروط "الحزب"، النداء منذ مولده والنهضة على الأقل منذ مخرجات المؤتمر التاسع وحيثياته.
غادر المرزوقي والباجي أيضا قصر قرطاج وخلى الطريق للشيخ راشد، فراح يخطط ويستفتي الداخل والخارج حول حظوظه في الفوز برئاسة تونس ليأتيه الجواب أن لا أمل لك فيها ليقفز نائبه في النهضة معلنا "أنا لها". وهذه حكاية أخرى نتركها لشوط آخر.
حاوره: سفيان رجب
تونس-الصباح
الوضع في تونس ما بعد الثورة ودور حركة النهضة فيه.. شخصية راشد العنوشي ودوره في ما آلت إليه الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ما يجري في كواليس النهضة وخاصة خلال وبعد مؤتمرها التاسع.. أسرار يكشفها لأول مرة قيادي سابق في حركة النهضة ومن اقرب المقربين لرئيسها راشد الغنوشي..
مقداد اسعاد أكاديمي تونسي جزائري من جامعة ليون الفرنسية متخصص في التنمية الإقليمية، وناشط مغاربي ملتزم بقضية الوحدة الاقليمية من الجيل الأول للحركة الإسلامية في تونس ومستشار سابق لراشد الغنوشي مكلف بالشأن المغاربي ومهندس العلاقة بين الجزائر وحركة النهضة.. يشغل حاليا خطة مدير مركز يوغرطة للاندماج المغاربي ومستقر في باريس... معه كان لـ"الصباح" هذا الحوار.
*متغيرات عديدة شهدتها تونس في المدة الأخيرة وخاصة يوم 25 جويلية وما بعده .. فهل لك تفسير خاص لما حدث يومها ويحدث اليوم في بلادنا؟
- لا شك أن الجواب صعب والتونسيون منقسمون حوله بين من يقول انه انقلاب ومن يقول حركة اصلاح.. تمنيت لو أن ضحيته الأولى رئيس الحكومة المقال هشام مشيشي يتكلم ويريح الجميع، وفي غيابه سمعنا إجابات كثيرة من النقيض الى النقيض لشخصيات كبيرة، وبقي الجميع ينتظر جوابا من الرئيس قيس سعيد الذي يبدو أنه يئن تحت حمل قراره.
*لكن قيس سعيد يعتبر ما قام به عملية إنقاذ لتونس وتصحيح انحراف.. فما هي قراءتك لوضع تونس ما بعد الثورة وكيف وصلت الى هذا المستوى من الفوضى؟
- تونس بعد الثورة حكمها سطحي، بلا فهم ولا مشروع ولا حلم. الحلم وحده يجمع الفرقاء، ويتجاوز الخلاف ويثمن الطاقات، ويصنع الانتصارات. ثورة 14جانفي 2011 وبكل المقاييس، جاءت عفوية، ليس للأحزاب ولا للخارج فيها دور وقد فاجأت الجميع وحتى الاستخبارات العالمية. صنعت الثورة أحداثها ومؤسساتها الانتقالية بنجاح. لكن تراجعها بدأ باكرا لما سلمت المسؤولية للأحزاب. للديمقراطية شرطان وعلامتان: الانتخابات الحرة النزيهة والأحزاب نجحت في الأولى أي الانتخابات وأخفقت في أن يكون لها أحزاب في مستواها.
لا بد للديمقراطية من أحزاب، ككيانات حية، يتوفر فيها الحد الأدنى من العمل الجماعي والمؤسساتي، بمعنى الاستقلالية عن قياداتها، تقوم بذاتها، لها هويتها الخاصة. غياب هذا الشرط منع الانتقال الديمقراطي، تونس ليس لها أحزاب بالمعنى الصحيح، بل دكاكين بترخيص نشاط حزبي. هذا ولا بد من التذكير أن حجم الحزب مهما كبر لا يكفي ليضفي عليه تلك الصفة وذاك التصنيف، بل وجب أن تتوفر فيه شروط الشفافية داخله واحترامه للقانون واعتماده على المؤسسات. في تونس تنظيمات سياسية معتمدة (لها باتيندة) لكنها ليست أحزابا.
*لكن وحسب بيان حكومي صادر في جوان 2020، بلغ عدد الأحزاب السياسية في تونس 244 حزبا؟
-وما هو تعريف الحزب..هل هو باتيندة وشخصية أحيانا وحيدة تتحدث باسمه.. الـ244 حزبا المتحدث عنها، 13 فقط ممثلة في البرلمان، خمسة منها بثلاثة مقاعد أو أقل. هذا مع فوارق كبيرة في حقيقة تمثيلية النائب، إذ أن عدد المصوتين الذين يحملونه الى البرلمان يختلف اختلافا كبيرا، بعضهم لا يحظى بغير مئات، وذلك بسبب النظام الانتخابي ودنو سقف العتبة ونظام البواقي.
الأحزاب في تونس يمكن تقسيمها الى نوعين: تلك الكلاسيكية ذات المرجعيات المألوفة من قومية إسلامية الى يسارية، وأخرى اعتبر بعضها أحزابا انتخابية تجمع أناسا مختلفين التقوا ظرفيا، يصعب تعريفها أصلا تضع لنفسها برنامجا ظرفيا مرتجلا ومنسوخا يقع تجاوزه ونسيانه مهما كانت النتيجة الانتخابية، كما تتفكك تلك المكونات في حالة من التيه او السياحة الحزبية... ينعكس هذا الانحلال والإخلال في المكون الحزبي سلبا على عمل البرلمان الذي هو بحسب الدستور مركز أهم سلطة، وتدخل البلاد بسبب ذلك في الفوضى. وهو فعلا ما تعيشه تونس اليوم.
*عاشت تونس 10 سنوات على تراشق بالتهم بين أغلبية غير منسجمة تحت زعامة النهضة ومعارضة مشتتة لا يجمعها الا رفض النهضة، فمن يتحمل فشل الثورة؟
- تشريح متاعب تونس في العشرية الأخيرة يمر حتما عبر تحديد وترتيب مسؤوليات الفاعلين وأوزانهم وأيضا مدى احترام الحزب عامة ليس فقط لقانون البلاد بل كذلك لقانونه الداخلي ومستوى الديمقراطية والشفافية في تسيير مؤسساته. نتيجة الانتخاب الحرة كانت أن وضع الشعب التونسي حركة النهضة في صدارة الترتيب وحمّلها مهمة إنجاح ثورته وقيادة دولته، وأعطاها وسائل الحكم كلها، لكنها فشلت. أنا أحمل النهضة مسؤولية متاعب تونس وفشل الربيع العربي، دون مبالغة ولا جلد للذات. وذلك بما اجتمع لها من تفرد بالقرار بشأن البلاد. أما باقي القوى فتبدأ مسؤوليتها عند ردة الفعل، التي مهما كانت شديدة ومتجاوزة للقانون تبقى ردة فعل يسهل فهمها ويعود فيها اللّوم على الفاعل وبمستوى أقل منه على من يرد عليه. سنة 2012 حكمت النهضة ببرنامج عبث (وعد بتوفير 600 ألف منصب شغل) ودون رؤيا ولا مشروع، وكان تكوين حكومتها الأولى تجميعا عبثيا مخيفا لمن سموا وزراء وما هم كذلك.
لكن لهذا ا يعني تحميل النهضة مسؤولية الفشل في إصلاح تونس كما وعدت، وكما كان شعب تونس يتطلع له من التصويت لها، تبرئة للآخرين، أي المنظومة القديمة المتخمة في أعراض وأموال التونسيين والفاسدة من رأسها الى أخمص قدميها، هي وتوابعها من اليسار المرفوض شعبيا، وأيضا من أطراف كثيرة شاركت في الثورة كانت معارضة لابن علي ونالها منه شيء من الأذى. لكن النهضة جانبت طريق النجاح بما أخطأت فيه من خياراتها وتصرفاتها الداخلية، واحسب أن الصعوبات والعراقيل الاتية من التيارات المؤدلجة وأباطرة الفساد ما كانت لتفشل مسارها لو كانت لها مؤسسات تؤطر كفاءاتها الكثيرة بالشفافية اللازمة.
*المفروض انك من المنتمين للنهضة ومن بين قياداتها السابقين ومستشار سابق لزعيمها، فكيف تحكم على حركتكم بالفشل وعدم القدرة على قيادة الثورة؟
- هو استنتاج ابديت تخوفي منه للشيخ راشد الغنوشي منذ السنة الأولى للثورة، وقدمت له دراسة مكتوبة وموثقة. وقد كان الشيخ دعاني بضعة أيام بعد عودته من المنفى وطال الحديث بيننا حول فهم ما حصل في تونس. كان يفسر انتشار أخبار الثورة بفعل دور قناة الجزيرة وكنت أرده الى الفايسبوك الذي يحتاج من مستعمليه الوقت ومستوى أدنى من التعلم. شرطان توفرا للشاب التونسي. كان شباب تونس عاطل عن العمل له من الفراغ الكثير ومن التعلم ما يكفي، مع التذكير أن تونس كانت البلد صاحب النسبة الثانية عالميا الذي يستعمل الفايسبوك.
لقد تكونت لدي منذ البداية قناعة بعدم صلاحية النهضة لقيادة تونس، وكانت تزداد مع كل خطوة جديدة، كان أولها البرنامج الانتخابي الخطأ الذي اعتمدته النهضة، ثم تكوين الحكومة الأولى برئاسة حمادي الجبالي، والتي كانت فسيفساء من أسماء وقع تجميعها كخراف السوق، ظل رئيسها يقرأها في تلعثم وكان لا يعرف بعضها أصلا. كان تكوين الحكومة عملية عبثية كتقسيم الغنيمة عبث بها السماسرة والجهلة وتوزعت كمغنم على الاصهار والاصحاب، وقد دعم الشيخ راشد ذلك، اذ كان يؤشر على من يريد وزاد بأن أطلق يد بعض من تربطه به مصالح قريبة، وجعلهم فوق المساءلة ولا يرد لهم أمر لغاية في نفس يعقوب، وزاد الشيخ بأن أعطى المثال، وعمد الى السنة السيئة، بتوزير صهره على رأس دبلوماسية الثورة، رغم أنف النهضة وتونس. وقد كان اعتراضي على جعل الصهر على رأس وزارة الخارجية سببا في غضب الشيخ وقرار اقصائي... أما ما جعلني أتيقن واحذر منه أن النهضة ستقود البلاد للهاوية فهو الخلل الكبير والانحراف الخطير للمؤتمر التاسع أو الأول علنيا في صائفة 2012.
*المستمع لخطابك لا يعتقد بالمرة انك "نهضاوي".. يبدو أن مؤاخذاتك كبيرة على الحركة وزعاماتها؟
-كان المؤتمر التاسع وهو الأول الذي تنظمه النهضة علنا وهي تحكم البلاد وتقود الربيع العربي، حدثا نهضويا وتونسيا وعالميا. وكان لا بد له من مهمة يعيها القائمون على النهضة والمؤتمرون، فلا ينحرفون عنها جهلا بها في تلك اللحظة المفصلية. المهمة الأساسية لهكذا مؤتمر في هكذا ظرف، لا يمكن أن تكون الا تمكين تونس من حزب يعطي المثال ويكون شاهدا على الناس أجمعين في تونس وخارجها أن الديمقراطية ممكنة عند العرب وأن الحكمة ضالة المؤمن ان وجدها أخذها. لو كانت النهضة خارج الحكم لكان الأمر أهون، لكن وهي تحكم تونس وتحدد مستقبل ثورتها، فقد أصبح مؤتمرها يهم كل التونسيين. فهم حال النهضة إذا ليس لترف البحث والدراسة وإنما هو ضروري لتشريح أزمة تونس اليوم.
*فعلا لقد كان المؤتمر التاسع لحركة النهضة حدثا كبيرا بحسب الظاهر، نالت به اهتمام الداخل والخارج، فأين كان الخلل اذا؟
-مقياس الصحة من الخطأ لعمل جماعي يكون باحترام النشاط للغاية التي من أجلها قام، بحسب الدقة في المفاهيم. وللتذكير، نحن نقيم مسار تونس انطلاقا من حقيقة حاكميها والقائمين الشرعيين على شأنها، في ظرف قفزت فيه من ضفة الدكتاتورية حيث الحكم مركز في أعلى سلطة الى نظام الديمقراطية، بتوزيع الحكم الى أبعد مستوى أي كل شعب تونس. ونظرا لتنوع الرؤى وجب منهجيا تجميعها ضمن كتل متقاربة تلتقي على مشروع تعرضه الى الشعب ويتشكل من هذه العملية مشهد سياسي، هو حقيقة تونس في تاريخ معين. سنة 2012 كانت النهضة تمثل لوحدها نصف هذا المشهد. لذلك اهتم بها التونسيون وغيرهم، خاصة أنها كانت تحكم البلاد. لم يعد مؤتمر النهضة خاصا بها بل يهم الجميع. وأذ أقدم له تقييما، أقدمه من الداخل ومن زاوية الفكرة والشكل. أما الشكل فهو ظاهر وقد حظي بتغطية إعلامية كبيرة، تكون ولا شك قد غطت على إخلالات ونواقص الفكرة، بل انحرافاتها أيضا. وأضيف أن ذاك البهرج الظاهر من مثل استدعاء قناة الجزيرة لتغطية قراءة التقرير الأدبي على المباشر الا نية وعملية تمويه على انحرافات قانونية واخلاقية خطيرة على النهضة وعلى تونس.
لقد انحرف المؤتمر عن عمد عن هدفه وسبب تنظيمه أصلا، وهو كونه مؤتمرا تأسيسيا أولا في حياة تونس، وما كان يصح أصلا الا باحترام إجراءات يفقد غيابها مصداقيته، بل أصلا اعتماده وصحة تنظيمه. أنا أعتبر مؤتمر التاسع للنهضة في صائفة 2012 لاغيا وكفى. وذلك لأنه لم يبرئ ذمة القيادة السابقة. خلل سبقه ولحقه آخرون لكنه يبقى الشرط لصحة المؤتمر وشرعية مخرجاته.
*يبدو أنكم توجهون أصابع الاتهام لراشد الغنوشي نفسه في اسقاط المؤتمر التاسع؟
-شرط تبرئة الذمة هو الذي افشل المؤتمر وهذا الشرط مسؤول عليه الغنوشي، خاصة أنه مؤتمر فاصل بين عهدين، عهد الدكتاتورية حيث السرية، وعهد الديمقراطية وسمتها العلنية والشفافية واحترام القانون. لا يمكن أن نبني حزب النهضة الجديد على أساس ماض لم نحسم في حقيقته. وقد كان فيه عمل كثير ومال كثير ودماء وعذابات كثيرة... لن يصح البناء فوقه دون أن يفهم المؤتمر وهو السلطة الأعلى على الإطلاق ماهيته وحقيقته. شرط قرر الشيخ راشد تجنبه والالتفاف حوله وكان له ما أراد. وأمام أصرار المؤتمرين بالمطالبة بالتقرير المالي، لم يجد المسؤول عن المال والمرافق للشيخ وسكرتيره في لندن بدا من أن يخرج على الملإ كراس المال، لكنه لم يفتحه، قدمه للشيخ معتذرا عن فتحه ومبرئا ذمته بوضعه بين يدي رئيس الحركة راشد الغنوشي الذي بدا مرتبكا كذاك التلميذ وهو يتقدم لامتحان يحدد مستقبله. هذا رغم أن الشيخ ومجموعة من حوله متمرسين في اللعب بالمؤسسات والمؤتمرات، كانوا أعدوا العدة للتشويش على المؤتمر بدعوة غريبة واقتراح الرئاسة مدى الحياة للشيخ راشد، وذلك لضمان سكوت المؤتمر عن تلك التجاوزات الخطيرة...
أخفق المؤتمر التاسع والأول العلني في وضع الحركة على سكة البناء الحزبي المدني السوي، وأكدت مخرجاته أنها طائفة تحكم بالتقنية وخارج المنطق والعقلانية. وذلك بقبول المؤتمر وهو السلطة الأعلى في الحركة عدم تبرئة الذمة من طرف القيادة القديمة وتسليمها الاسرار والاختام والأموال. انتهت النهضة كحزب في المؤتمر التاسع. وتأكد عدم قدرتها على حكم تونس. حكمت النهضة تونس كما حكمت نفسها وبالطريقة التي مارستها لنصف قرن وتعودت عليها، ووضعت الدولة في خطر.
في ذلك اليوم أتذكر انني قلت لعبد اللطيف المكي " أنت تتحمل مسؤولية فشل نجاح مؤتمر النهضة، وقد ترشحت وطلبت رئاسته ونلت قبولا عاليا، فكيف لك ألاّ تمنع هذا العبث". وكان جوابه "ما كان بالإمكان غير الذي كان، تلك حقيقة النهضة". وأضاف على الأقل لقد نجحنا في تحديد رئاسة الحزب في عهدتين لا ثالث لهما، رغم استماتة بعضهم في مقترح مدى الحياة للشيخ. هذا وها نحن نعيش صراعا حول هذا الفصل باستماته الشيخ اليوم في البقاء بل وتهديده للحركة أنه زعيم ذو الجلد الخشن.
*هذا شأن داخلي لحركة النهضة، ومثله يقع في باقي الأحزاب، وفي كل بلدان العالم الديمقراطية، لكن أي تأثيرات لداخل النهضة على ما حصل ويحصل اليوم في الحياة السياسية لتونس؟
-هناك سببية مباشرة وقوية بالنظر لحجم النهضة في الحياة السياسية، إذ أن الوزن الشعبي والتنظيمي والانتخابي لحركة النهضة، لا يترك لتونس من سبيل نجاح الا بصحة هذه الحركة واحترامها لشروط مأسستها كحزب حاكم، او انسحابها وكفى. لو بقيت النهضة خارج الحكم لما تحملت فشل التجربة التونسية، رغم متاعب كانت تسببها لها، لكنها لن تكون قاتلة مثل ما كان عليه الحال والنهضة تحكم، بل لعلها في المعارضة كانت تفيد أكثر. بفشل المؤتمر التاسع لحركة النهضة انهار الربيع العربي، ودخلت الثورة التونسية في نفق لم تخرج منه الى اليوم.
يمكن لتونس أن تنجح تحت حكم النهضة في حال لو احترمت الحركة قواعد وشروط الديمقراطية والشفافية داخلها. كان التحدي الحقيقي للنهضة هو أن تحول رصيدها النضالي واعتمادها على هوية جامعة للشعب التونسي، وأيضا التنوع الثقافي الهائل، الى حلم ومشروع لتونس، تشع به نجاحا ونموذجا وشهادة على الناس أن أمتنا ليست إرهابا وظلاما وهدما بل ابداعا وبناء. صحيح أن قيادات النهضة تستعمل هذا الخطاب، لكنه لا يكفي إذا لم تترجمه محتوى لمشروع مقنع يجمع الطاقات التونسية. للنهضة الكثير ما تفيد به تونس وذلك بخبرتها في تأطير الشباب والالتزام بتعاليم الدين وفيها محاسن كثيرة من معاني التكافل والتضحية والتعاون وغيرها. كانت النهضة يمكن أن تمثل ملاذا للتونسيين كلهم عند الشدة وعامل توحيد لصفوفهم وحكما بين الفرقاء منهم. "ادفع بالتي هي أحسن فاذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم". صدق الله العظيم.
وقد مثّل اخفاق النهضة في تأسيس حزب سياسي مدني وعصري، فرصة ضائعة أمام الإسلام السياسي لبعث نموذج ناجح تهيأت له ظروفه الموضوعية في بلد تونس كأرض ملائمة وخصبة للديمقراطية. قال المفكر الفرنسي جاك أطالي محاضرا في تونس سنة 2011، أن الربيع العربي لن ينجح في أي بلد إذا فشل في تونس.
*كيف يمكن لشخص طالما تحدث عن الديمقراطية وملك من مال وسلطة الكثير أن يعمل ويتمسك بقيادة حزب عريق رغم معارضة أغلبية القواعد؟
-لقد أخذ الشيخ راشد فرصته كاملة، وخدمته ظروف مناسبة. كان يجوب العالم باسم حركة إسلامية، اجتمع لها كثير من مشاعر التعاطف شرقا وغربا، فهي إضافة الى المرجعية الدينية العالية القيمة لدى شرائح كثيرة في العالم الإسلامي، لها مرجعية نضال، اذ بلغ عدد مسجونيها ومهجريها الخمسين الفا والمتضررين بشكل غير مباشر من أقارب وعائلات وأبرياء من كل نوع، المليونين في سجن تونس الكبير. رصيد النهضة كبير رفع الناطق باسمها الى عليين. دون أن ننسى المساعدات المالية بعضها آت من الزكاة أصلا، وأيضا الاعتبارات المعنوية المختلفة. عاد الشيخ راشد الى تونس تحت اهازيج طلع البدر علينا وهذا ما لم يحلم به بورقيبة نفسه. تلك خاصية النهضة المفارقة التي تطبعها. حقيقة النهضة أنها ليست كيانا مستقلا بفكره وقراره، هي في الحقيقة رغم الممارسات الديمقراطية والتنظيمية الشكلية والدعاية القوية، ليست غير أداة يتغذى عليها الزعيم ومطية له لبلوغ أهداف خاصة. وأكثر من ذلك، النهضة كتنظيم سياسي ليست صاحبة ما وقع التصريح به وما أعلن من قرارات باسمها. في كل محطة في هذه العشرية وجد الشيخ راشد له مقابلا يتفق معه باسم النهضة وفي غيابها وهي تزكي في النهاية بالمراوغة والترغيب والترهيب والاقصاء والدعاية والذباب الأزرق، والغاية تبرر الوسيلة، كما قال عبقري تونس وحاكمها لعشرية الثورة هذه. ومن أهم الوسائل كان التحكم في النهضة، لأنه لو خسر رئاسته لها لتركه الكبار ووقع نسيانه.
لكل ما ذكر من أسباب يمكننا أن نحمل دون مبالغة الشيخ راشد الغنوشي حمل اخفاق الثورة التونسية، لدوره الأساسي، تبعته منطقيا ردات فعل من المتضررين من نجاح الثورة لعدم فهمهم أن ما يفعله الشيخ يخدمهم في النهاية، والخائفين عليها من تفرده بالقرار أيضا. فالشيخ كان خطرا على الثورة، وهو الذي جلب لها ألد أعدائها وعرقل المخلصين من كفاءاتها ودعم أسوأ من تسلل لمفاصل الدولة تحت سلطته. نصحته سنة 2013 أن عد الى بيتك، اغلق عليك بابك واستغفر ربك، على الشيخ أن يعتذر للنهضة ولشعب تونس.
ليس للشيخ راشد قضية يعمل من اجلها، منذ المؤتمر الثامن سنة 2007 في هولاندا، والذي خسره اذ حل خامسا بين المترشحين. ضلت مساحة اهتمامه تضيق من ذاك الفضاء الواسع لمحبي الحرية والمعاني العالية لتونس وما وراءها من هوية وانتماء ونضال انساني نبيل والتزام، الى دائرة لم يزل يضيقها على نفسه حتى لم يبق فيها غير الطمّاعين والمتملقين والانتهازيين، بدون مبالغة. يعدهم أو يمنيهم فيصدقون، يحل هذا الفاشل حزبه ويلتحق بالغنوشي كمستشار لوعد من الشيخ بمنصب مثل رئاسة مجلس في الحركة، ويستقيل آخر من رئاسة جمعيته طمعا في منصب وزاري، وقائمة المنافقين تطول...
*هناك اتهامات للنهضة يرفعها خصومها على الأقل منذ سنة 2013، وهما الإرهاب والفساد، هل من شهادة حولهما وهل تبرئ النهضة منهما؟
- رغم ما سبق ذكره وانصافا للنهضة فهي بريئة من الإرهاب. النهضة لا تعمد الى الإرهاب داخل تونس ولا تصدره خارجها، بل هي ضحيته والمستهدف الأول منه. الإرهاب في تونس انطلق بالاغتيال السياسي الأول للمناضل اليساري شكري بالعيد، بقرار من القوى الخارجية لإخراجها من الحكم الذي تفردت وتمسكت به. النهضة لم تسلم الحكم مختارة وعن طواعية كما تدعي بل أرغمت على ذلك.
الفساد أيضا ليس من صنع النهضة، رغم أن لها به علاقة، هي تأكل منه، لكن تكتفي بالفتات الساقط من موائد الفاسدين الكبار أصحاب المنظومة القديمة الذين يتمتعون بالمكشوف بالقروض الممتازة والصفقات العمومية والميزانيات المختلفة، وحتى استعمال الممتلكات العامة في حملاتهم الانتخابية. أما النهضة فتكتفي بدور الشريك الثانوي و"شاهد ما شافشي حاجة" مقابل البقايا وما زهد فيه الكبار..
*اعتبرت أن عشرية الثورة لعبت فيها شخصيتان الأدوار الأهم في تونس، راشد الغنوشي وقيس سعيد، وماذا عن الرئيسين منصف المرزوقي والباجي قايد السبسي؟
-هذان تابعان لحكم راشد الغنوشي، ومدينان له بمنصبيهما، سنة 2011، لو قرر شيخ النهضة أي أسم غير المرزوقي لكان رئيسا لتونس، أما الباجي قايد السبسي فقد طلب قرطاج وهو يعلم عدوه البيولوجي، كما كان الغنوشي يعلمه أيضا، وكان التوافق كحزمة إجراءات لأحلام هذا وذاك، بعيدا عن تطلعات شعب تونس، التوافق وما يحمله من معاني المصالحة والتهدئة لاقى قبولا واستحسان الداخل والخارج. نص الاتفاق غير المكتوب على حد النهضة من دعمها للمرزوقي الذي جعلته رئيسا ولو بنسبة ضئيلة تكفي لانزال نتيجته الى ما تحت الخمسين، فالرئيس المخضرم لم يعد تهمه النسبة بقدر ضمان دخول قرطاج بورقيبة. وفي المقابل يفتح الباب على مصراعيه لأحلام الشيخ راشد بثأر مدوي على من حكم عليه بالإعدام يوما. كان الشيخان يقرران بأريحية كبيرة، في دلالة قوية على ان النداء والنهضة لم يكن تتوفر فيهما شروط "الحزب"، النداء منذ مولده والنهضة على الأقل منذ مخرجات المؤتمر التاسع وحيثياته.
غادر المرزوقي والباجي أيضا قصر قرطاج وخلى الطريق للشيخ راشد، فراح يخطط ويستفتي الداخل والخارج حول حظوظه في الفوز برئاسة تونس ليأتيه الجواب أن لا أمل لك فيها ليقفز نائبه في النهضة معلنا "أنا لها". وهذه حكاية أخرى نتركها لشوط آخر.