فشل الحكومات في معالجة الإرث من المظالم الاجتماعية والاقتصادية
شتاء 2023 سيشهد فصلا آخرا يتجدد فيه الاحتجاج الاجتماعي
إعداد: وجيه الوافي
منذ ثورة 14 جانفي 2011، يتميز شهر جانفي برمزية خاصة في سجل الحراك الاحتجاجي في تونس، حيث شهد العقد الأخير، تحركاتٍ تفاوتت حدتها وجغرافيتها ودوافعها وتداعياتها، وظلت المطالب الاجتماعية والمعيشية أبرز عناوينها المعلنة، وتعتبر نهاية السنة الإدارية وبداية السنة الجديدة سياقا مساعدا لتأَجج الغضب الاجتماعي في تونس، لأنها تتزامن مع المصادقة على الميزانية العامة للدولة، وما يرافقها، عادة، من خيارات غير شعبية، كزيادة الضرائب ورفع أسعار بعض المواد الاستهلاكية، مقابل تقلص الاعتمادات الموجهة لإيجاد فرص العمل والمساعدات الاجتماعية والتعليم والخدمات الصحية وتفاقم مؤشرات الأزمات الاقتصادية والمعيشية، جراء انخفاض نسبة النمو، ورغم أن الاقتصاد التونسي يعاني صعوباتٍ هيكلية متراكمة منذ عقود، فإن تداعيات جائحة كورونا أدت إلى تفاقم مظاهر العجز واستفحالها، جراء تراجع وتيرة الإنتاج، وارتفاع الأسعار، وإحالة أعداد كبيرة من العاملين على البطالة.
تعطل التنمية يغذي التحركات والاحتجاجات
تشهد الولايات الداخلية، كالقصرين وسيدي بوزيد والقيروان، تعثرا في مشاريع التنمية وتفاقما للبطالة والآفات الاجتماعية وهشاشة في البنية التحتية والمرافق الخدمية ورغم مرور عقدٍ على الثورة، فإن السياسات التنموية التي عمقت الأزمات في مناطق الهامش، طيلة عقود، لم تشهد أي مراجعة، خاصة في الولايات الداخلية والأحياء الهامشية في العاصمة التي ظلت تشهد احتجاجات متكررة خلال العقد الأخير إضافة الى تداعيات جائحة كورونا والتحاق أعداد كبيرة من الشباب بصفوف العاطلين عوامل ساهمت في مراكمة الاحتقان الاجتماعي.
بعد عقدٍ من الثورة وما رافقها من آمال عريضة، بعضها واقعي، ظلت الصعوبات الاجتماعية والاقتصادية التي مثلت أحد أسباب الثورة عام 2011، تلقي بظلالها على المشهد وتنعكس تأثيراتها سلبيا على المزاج العام، وعلى الثقة بالمستقبل، وتترجم مخرجاتها في ظواهر سلوكية واجتماعية، كاستهلاك المخدرات وترويجها والسطو والسلب والتمرد على تقاليد الأسرة، وفي خيارات الهجرة أو الانخراط في الجريمة المنظمة والإرهاب.
لقد بعثت الاحتجاجات والتحركات الاجتماعية رسالة قوية مفادها أن فشل الحكومات المتكرر في التصدِي الفاعل للمظالم الاجتماعية والاقتصادية لن يمر مرور الكرام، وتعبر الاحتجاجات بشكل واضح عن الطريقة التي ينظر بها التونسيون إلى الظلم، وببساطة فإن هذه التحركات لم تخرج فقط احتجاجا على قانون المالية المثير للجدل، بل على تركة ثقيلة من التفاوت الاقتصادي والتهميش الاجتماعي والاقتصادي لمناطق معينة من تونس، وعلى الفساد وانعدام المساءلة عن هذا النوع من الجرائم، وعلى فشل الحكومات في معالجة هذا الإرث من المظالم الاجتماعية والاقتصادية.
إرث من التهميش وحلول قمعية
شهِد تاريخ تونس عددا من هذه الانتفاضات الصغيرة، حيث كانت كل واحدة منها تضخ دماء جديدة في مسيرة الكفاح المستمر لمعالجة التفاوت الاجتماعي والاقتصادي، خاصة في المناطق الداخلية من البلاد، التي كانت ومازلت تعاني تهميشا تاريخيا ومنهجيا، وتعود جذور النضال ضد الظلم الاقتصادي في تونس إلى مظالم متعلقة بالحقوق المدنية والسياسية، لهذا السبب كان ظهور الفساد في عهد الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي عاملا رئيسا، في صب الزيت على نار الاحتجاجات.
ولطالما شهد تاريخ تونس انتهاكات متكررة ودورية لحقوق الإنسان في حرية التعبير، وقد كرس نظام بن علي ركائزه من خلال الفساد الجماعي والجرائم الاقتصادية، وباستخدام القمع الشديد لقطاعات الشعب التي كانت تتجرأ وتعبر عن استيائها من حالة التفاوت الاقتصادي المجحفة، وفي اللحظة الراهنة فان تصاعد وتيرة الاحتجاجات هو تأكيد على أن حاجز الخوف لم يعد موجودا حتى في مواجهة الاعتقالات التعسفية المستمرة والممارسات القمعية الأخرى، التي تسعى من خلالها الحكومة الحالية إلى تضييق نطاق الاحتجاجات، خاصة وأن الفساد والجرائم الاقتصادية كانت ولا تزال ترتكب .
ويبدو أن شتاء 2023 سيشهد فصلا آخرا، سيتجدد فيه الاحتجاج الاجتماعي ضد التهميش والبطالة والتفاوت الجهوي وغلاء المعيشة، هذا الجدول الدوري من المطالب ستعيد إنتاجه حكومة نجلاء بودن عبر سياساتها الاقتصادية والاجتماعية التي تتجه نحو فرض إجراءات تقشفية ورفع العبء الجبائي على الفئات المتوسطة والفقيرة، والضغط على كتلة الأجور. رغم أن هذه الخيارات تعطي النضال الاجتماعي مشروعية الاستمرار، فإن الحكومة دأبت على مواجهة الحركات الاحتجاجية باستخدام الحل الأمني والتتبعات القضائية وبتنشيط دعاية مكثفة في الإعلام ، قائمة على إستراتيجية التشكيك في أهداف الاحتجاجات من خلال إيجاد روابط بينها وبين ظاهرات أخرى مثل الإرهاب والتهريب.
هذه المواجهة التي بدأت تفقد فاعليتها في احتواء الأزمات الاجتماعية، سعت حكومة بودن إلى تطعيمها بسياستي التفاوض المطلبي والإضعاف من الداخل يجري التفاوض في معظم الأحيان حول المطالب الجزئية والخصوصية دون التفاوض حول الأهداف الأساسية مثل العدالة الاجتماعية والسيادة الوطنية وإعادة توزيع الثروة، وهذه السياسة تساهم في تصريف الأزمة الاجتماعية لأنها توفر حلولا آنية ذات علاوة على أنها تشكل منفذا لتقسيم الحركات الاحتجاجية وإضعافها من الداخل باستمالة جزء مهم من قاعدتها الاجتماعية، الذي تحكمه عموما نزعة مطلبية، وفي بعض الأحيان تراهن الحكومة على قادة الاحتجاجات نظرا لدورهم التعبوي من خلال محاولة تقريبهم واستخدامهم في تعزيز موقفها التفاوضي.
وقد سعت حكومة بودن أيضا إلى المراهنة على جزء من تركيبتها التفاوضية من خلال الدفع بوزرائها، القادمين من تجارب نقابية على غرار وزير الشؤون الاجتماعية مالك الزاهي معولة في ذلك على دورهم في إقناع المحتجين واستمالتهم عبر التفاوض..
الأزمة الهيكلية للحركات الاجتماعية
في المقابل تسعى العديد من منظمات المجتمع المدني التي تضم حركات اجتماعية عديدة في مجالات مختلفة كالتشغيل والبيئة والفلاحة والنسيج، الى تعزيز القدرات الاجتماعية على الفعل وخلق مسار لبناء فضاء احتجاج وتضامن ما بين الحركات الاحتجاجية والمجتمع المدني من أجل أداء دور سياسي واضح في المرحلة التي تمر بها البلاد، وقد لاحظت هذه المنظمات، تصاعد في الاحتجاجات والمواجهات ما بين السلطة الحاكمة ومختلف الحركات والمنظمات بسبب غياب تفعيل الاتفاقات وغياب برنامج للتغيير الحقيقي.
بالتوازي مع استراتيجيات منظومة الحكم، يلوح واقع الحركات الاجتماعية نفسها موضوعا يستدعي المساءلة والنقد، رغم إمكاناتها النضالية والتعبوية ظلت هذه الحركات بعيدة عن إنجاز التغيير السياسي والاجتماعي الذي ينسجم مع تطلعاتها ومطالبها، هذه المفارقة الموضوعية بين قوة الحضور الاحتجاجي وضعف التأثير السياسي يكشف عن معضلات هيكلية تعيشها منظومة الاحتجاج الاجتماعي، على مستوى تنظيمي يبرز أساسا من خلال حضورها المتشتت وتحركها كجماعات وكيانات غير متجانسة في تركيبتها وفي أهدافها وفي سقفها المطلبي، هذه المعضلة فرضها واقع التعدد والتنوع ولكنها تنتصب عائقا أمام انتقال الحركات الاجتماعية من وضع الاحتجاج الدوري إلى وضع القوة المنظمة القادرة على التغيير، أما على المستوى السياسي فإن المعضلة الهيكلية الأخرى تتمثل في هيمنة الطابع المطلبي والخصوصي الذي أعاق إمكانية اندماج منظومة الاحتجاج الاجتماعي ضمن برنامج سياسي شامل، وفي بعض الأحيان توفر النزعات الشعبوية والجهوية التي تظهر في الخطاب الاحتجاجي فرصة للحكومات لتفعيل دعاية ضد الحركات الاحتجاجية، حتى تجردها من صبغتها الوطنية.
هذه المعضلات تسعى بعض القوى الحزبية إلى حلها عبر تبني هواجس هذه الحركات ومشاركتها نفس المطالب، ولكنها لا تملك مشاريع لهيكلتها أو تصورات سياسية من خارج التصور الاجتماعي الكلاسيكي تدل على فهم جديد للتحولات التي تعيشها منظومة الاحتجاج الاجتماعي، أما الاتحاد العام التونسي للشغل فعادة ما يبرز كمتعاطف مع هذه الحركات كلما تقاطع حضورها المركزي أو الجهوي مع تجذره القطاعي، ولعل التركيبة الاجتماعية لمعظم الحركات الاجتماعية التي تضم المعطلين والمهمشين غير المؤطرين نقابيا، تبعده عن التفكير في إدماجها ضمن تركيبته، طالما أنها لا تغطي المجال الاجتماعي المعني بتأطيره.
في المقابل يخوض المحتجون تحركاتهم معتقدين أن احتجاجا ببضع ساعات أو قطعهم الطريق لمدة يوم قد يجبر الدولة على التفاوض والحال أن الدولة لديها خبراء في المماطلة والتسويف يعتبرون أن عامل الوقت دائما في صالحهم، خصوصا أن أغلب المناطق المحتجة لا قيمة فعلية لها في الدورة الاقتصادية، وتقع بعيدا عن الطرقات الرئيسية والمنشئات الحيوية، كما أن تمركز القرار السياسي في العاصمة وضعف صلاحيات المسؤولين المحليين يصعب الأمر كثيرا و سرعان ما يدرك المحتجون هذه الحقيقة، وعوضا عن المطالبة بلامركزية القرار وبديمقراطية محلية، يحملون سخطهم ويعودون إلى منازلهم، كما أن نوعية المطالب تكون على علاقة بالبطالة والتشغيل، وهو مطلب شرعي وضروري لتحقيق الحد الأدنى من الكرامة الإنسانية لكن المطالبة بالتشغيل من دون المطالبة بالتنمية وتوفير المرافق الضرورية والحد من التفاوت بين الجهات هو تقريبا لا يستقيم ففي أفضل الأحوال تعد الدولة بخلق مواطن شغل وآليات تشغيل أغلبها وهمية أو هشة، تستعملها كمسكنات لتسكت آلام المحتجين وتخلق الأمل من جديد، كما أن هناك مناطق من شبه المستحيل خلق مواطن شغل فيها، نظرا لتخلفها الاقتصادي الرهيب في ظل غياب الدولة وعزوف المستثمرين. حتى عندما تُشغل الدولة بضعة أشخاص، سيخلق هذا حساسيات لدى الذين لم يسعفهم الحظ، وقد تتطور إلى عداء عندما تكون المنطقة ذات طابع قبلي هذا من دون أن ننسى استحالة أن يشغل القطاع العمومي كل طالبي الشغل.
صحيح أن أغلب الاحتجاجات الاجتماعية لم تعطِ أُكلها، لكن هذا الحراك الذي لم يهدأ منذ سنوات هو في حد ذاته مكسب، هو تعبير عن ثورة ثقافية تتبلور في تونس وسيأتي اليوم الذي ستنضج فيه ثمارها، وهذه المواجهة اليومية مع السلطة، من الشمال إلى الجنوب، يعني انتقال جزء كبير من الشعب التونسي إلى مرحلة انتزاع حقوقه ونصيبه من الكرامة.
الباحث في الحركات الاجتماعية (ماهر الهمامي): التحركات فعل يسائل النظام الاجتماعي
صار تناول الحركات المطلبية والاحتجاجية بعد الثورة أمرا متاحا للجميع باحثين وإعلاميين ولمناضلي الحقل السياسي والمدني وهو تناول ينطلق من أحداث ووقائع ومفردات الفضاء الاحتجاجي والتي غدت مرصودة ومتداولة ومتاحة بفضل حرية التحري والتقصي والإعلام.
أهداف تناول هذا الفعل الاحتجاجي كتعبير عن المجتمع التحتي متنوعة فهي من جهة الوقوف عند الدلالات الاجتماعية والتاريخية لهذه الديناميكية التحتية التي تتيح للفاعلين اقتناص فرص لكسر الحصار المضروب عليهم والانخراط من أسفل في مسارات التأثير الاجتماعي وهي أيضا لفت نظر لضرورة التفكير في بدائل تنموية إدماجية تأخذ بعين الاعتبار مطالب وتطلعات الفئات الهشة والطبقات الوسطى.
فمن الطبيعي أن يقترن فتح الفضاء العمومي بتحرر الفعل الاحتجاجي المطلبي لعديد الفئات الاجتماعية الهشة والمستبعدة أو لطرح قضايا غير مألوفة في المشهد الاجتماعي مقارنة بزمن الاستبداد، تحرير هذا الفعل الاحتجاجي نلمسه في التطور الكمي للإضرابات العمالية في مرحلة أولى ثم في ظهور أشكال آخرى من التعبئة والاحتجاج كالاعتصام والتظاهر وغلق الطرقات وإضراب الجوع والمسيرات الجماعية على الأقدام نحو العاصمة وإصدار البيانات وتعبيرات فنون الشارع… لطرح سلسلة جديدة من المطالب الاجتماعية المتنوعة وغير المتجانسة والمنتشرة على مجالات جغرافية مختلفة داخل المدن الكبرى و الصغرى والأرياف.
من ذلك مثلا مطالب الحق في الشغل والشغل اللائق، والحق في الصحة، وفي البيئة والماء وفي الموارد الطبيعية والبنية التحتية، نضيف إلى ذلك حركات أكثر هيكلة وتنظم كتجربة جمنة، وحملة "مانيش مسامح"، واعتصام باتروفاك بقرقنة، الكامور بتطاوين، وتنسيقية عمال الحضائر، حملة "فاش نستناو"، وحملة "تعلم تعوم."
وما نقف عليه كاستخلاص مركزي من التنامي الكمي لحجم الغضب والاحتجاج هو أننا لسنا أمام أحداث عابرة خالية من المعني ولا أمام مظاهر سلوك انحرافي لمحتجين يسعي البعض دوما لوصمهم سلبيا، بقدر ما نحن أمام فعل دائم يسائل النظام الاجتماعي وقدرته الوظيفية على ضمان الانسجام، وما انفك ينجح في ابتكار أشكال تنظم وتنسيق أفقية مرنة وموضعية غير تقليدية وبتعبير أدق تعبر هذه الحركات بشكل متزايد عن توتر مخفي ومغيب بين مصالح متعارضة ومتباينة، وهي بهذا المعني دحض آخر لمقولة التجانس الاجتماعي العائمة التي توظف أيديولوجيا عند الحديث عن النمط المجتمعي التونسي فالحركات المستمرة أخرجت الى السّطح الفوارق الطبقية واختلافات المصالح والمطالب غير المتجانسة بين التونسيين.
من جهة أخرى يطرح مثل هذا التنوع والتشتت الذي تبدو عليه الحركات الاحتجاجية صعوبتين الأولى عملية في الـتأليف بينها وبالتالي في توفير إطار موّحد قادر على تأطيرها بالكامل ومع ذلك نستخدم تيسرا للتواصل مقولة حركة اجتماعية حين نرصد سمات أساسية للفعل الاجتماعي كالتظلم من وضع غير عادل، وتوفر أدني تنظيمي تعبوي يسعى لتحديد مطالب للرّد على هذا الوضع، وقيام جهد للأفراد والمجموعات لتحقيق التحشيد اللازم للموارد، وبناء ترابطات نضالية في هذا السياق المطلبي والسياسي العام المفتوح الذي صار عليه المجتمع اليوم.
الصعوبة الثانية هي محاولة إرجاع هذا الشتات المتنوع للحركات الاحتجاجية الى إطار نظري ومفهومي يهيكل عملية الفهم والتحليل لهذه الحركات الغنية على قاعدة اللاتفاضل بين الحقوق كل الحقوق والحريات كل الحريات ولأفق فعله وأثره السياسي الراهن في تونس اليوم.
الاحتجاجات موجودة ومختلفة فمنها الاجتماعي، والاقتصادي والسياسي المتعلق بمعارضة رافضة للحكم الواحد وتعتبره انقلابا، وأخرى مرتبطة برفض الممارسات الأمنية القمعية لا أخلاقية ولا إنسانية والتي تذكر بمنظومة دكتاتورية.
والاحتجاج القادم وهو الأهم والذي سنشهده قريبا وسيكون مدعوما من السياسيين مرتبط أساسا بالوضع الاجتماعي في ظل الارتفاع الكبير للأسعار وفقدان المواد الأساسية، وربما البلاد ستقدم على ثورة جديدة، فالبلاد في اتجاه الانفجار وما تعيشه من احتجاجات يثير الخوف بالنظر لغياب الاستقرار السياسي والاقتصادي، والدولة تقريبا مفلسة والأخطر هو الاتجاه نحو رفع الدعم والشعب بدأ يشعر بالجوع، كما أن التونسي لا يساوم على أمنه الغذائي، وما يحدث هي احتجاجات تعكس مراكمة للغضب شيئا فشيئا سيحدث انفجار في ظل انعدام الثقة في الدولة وتراكم الغضب والنقمة والكره، في ظل قطيعة تامة بين النخبة السياسية والفئات الشعبية.
رمضان بن عمر (المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية) : الاحتجاجات ستزداد بسبب الأزمة الاقتصادية
وتيرة الأشكال الاحتجاجية سترتفع خلال الفترة القادمة، تزامنا مع المواعيد الانتخابية، حسب توقعات المنتدى، وستشكل الاحتجاجات، زخما على المستوى القطاعي، كما يمكن أن تسجل انتشارا جغرافيا، وقدرتها على التعبئة والتحشيد، والاحتجاجات التي تشهدها عديد الجهات، مطالبة بالحق في الماء، وتحسين البنية التحتية، وإيجاد حلول للوضعيات الشغلية الهشة، غير أن كل هذه الأزمات يقابلها ارتباك وعجز حكومي في معالجتها، وعلى فتح قنوات الحوار مع الفاعلين الاجتماعيين، وهو ما ولد حالة من الإحباط توسعت لدى التونسيين بشكل مخيف وخطير، وقد تكون لها تداعيات على الوضع الاجتماعي في البلاد خلال المرحلة القادمة، كما أن الأزمة السياسية الخانقة، ألقت بظلالها على الوضع الاقتصادي والاجتماعي، وخلفت توترات في مختلف المجالات، وهو ما ينبئ بحدوث سيناريوهات مرعبة بخصوص حالة الغضب والاحتجاجات الاجتماعية في الفترة القادمة في تونس، وستكون الثلاثية الأولى من السنة الجارية صعبة جدا، حيث ستكون الدولة فيها مفلسة، وفي ظل عجز ميزانية الدولة ستصبح عمليات التزود بالمواد الأساسية صعبة وسيرتفع مستوى المضاربة مما سيخلق أجواء متوترة اجتماعيا، إضافة الى ارتفاع نسبة التضخم وتوقعات البنك الدولي بتحقيق نسبة نمو أقل مما هي منتظرة سيكون بدوره له تأثيرات كبيرة على المناخ الاجتماعي، والاحتجاج الاجتماعي في حالة انتظار باعتبار أنه أصبح اليوم مرتبطا بغياب الأمل لأن الفاعلين والمحتجين أصبحوا بلا أمل في أن تحركاتهم ستحقق تغييرا باعتبار أيضا أن الدولة عاجزة سواء على المستوى المحلي أو الجهوي أو المركزي.
إن تركيز الرئيس قيس سعيد ضمن أولوياته على الاستحقاقات السياسية وتهميش الجانب الاقتصادي والاجتماعي يشجع على تراكم الغضب الشعبي وتغذية الاحتقان الاجتماعي، ويدفع فئات اجتماعية جديدة إلى تحدي حالة السلبية والاحتجاج في الشارع، كما أن الحكومة الحالية غير قادرة على حلحلة الأوضاع المعيشية المتأزمة بالنظر إلى ما قدمته من تعهدات لصندوق النقد الدولي للحصول على قرض جديد، وهو ما قد يسبب انفجارا اجتماعيا إذا توجهت الحكومة لرفع الدعم تدريجيا عن المواد الأساسية.
أكثر من 7 آلاف تحرك احتجاجي
وفق أرقام وبيانات المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية سنة 2022 تم تسجيل 7 آلاف و754 تحركا احتجاجيا إلى حدود شهر نوفمبر حيث سجل أكبر عدد في شهر جانفي وبلغ 1218، أما في سنة 2021 بلغ عدد الاحتجاجات 12 ألفا و79 احتجاجا كان لشهر جانفي أيضا النصيب الأكبر بـ1502 احتجاج، وأهم الاحتجاجات الاجتماعية استأثر بها القطاع العمومي بـ43،8 بالمائة من المجموع خلال 2022 (القطاع الصحي، النقل، والبنية التحتية، والخدمات) إضافة إلى الاحتجاجات في المجال التربوي بنسبة 23،1 بالمائة وشملت الإطار العامل وأيضا العائلات المحتجة على عدم ضمان الحق في التعليم وعلى البنية التحتية وأيضا على العنف في المؤسسات التربوية.
أما من حيث التوزيع الجغرافي للاحتجاجات الاجتماعية، فإن الخارطة لم تتغير كثيرا ومن حيث الأقاليم فإن إقليم الوسط الغربي هو الإقليم الأكثر احتجاجا بنسبة 24 بالمائة، يليه الجنوب الغربي بنسبة 21 بالمائة حيث تظهر التباينات الاقتصادية والاجتماعية بهما. ثم في المرتبة الثالثة يأتي إقليم الشمال الشرقي بـ17 بالمائة.
وبالنسبة للولايات الأكثر احتجاجا هي ولاية قفصة بـ1281 تحركا احتجاجيا تليها تونس الكبرى بـ959 احتجاجا اجتماعيا، ويذكر أن 78 بالمائة من الاحتجاجات عشوائية.
فشل الحكومات في معالجة الإرث من المظالم الاجتماعية والاقتصادية
شتاء 2023 سيشهد فصلا آخرا يتجدد فيه الاحتجاج الاجتماعي
إعداد: وجيه الوافي
منذ ثورة 14 جانفي 2011، يتميز شهر جانفي برمزية خاصة في سجل الحراك الاحتجاجي في تونس، حيث شهد العقد الأخير، تحركاتٍ تفاوتت حدتها وجغرافيتها ودوافعها وتداعياتها، وظلت المطالب الاجتماعية والمعيشية أبرز عناوينها المعلنة، وتعتبر نهاية السنة الإدارية وبداية السنة الجديدة سياقا مساعدا لتأَجج الغضب الاجتماعي في تونس، لأنها تتزامن مع المصادقة على الميزانية العامة للدولة، وما يرافقها، عادة، من خيارات غير شعبية، كزيادة الضرائب ورفع أسعار بعض المواد الاستهلاكية، مقابل تقلص الاعتمادات الموجهة لإيجاد فرص العمل والمساعدات الاجتماعية والتعليم والخدمات الصحية وتفاقم مؤشرات الأزمات الاقتصادية والمعيشية، جراء انخفاض نسبة النمو، ورغم أن الاقتصاد التونسي يعاني صعوباتٍ هيكلية متراكمة منذ عقود، فإن تداعيات جائحة كورونا أدت إلى تفاقم مظاهر العجز واستفحالها، جراء تراجع وتيرة الإنتاج، وارتفاع الأسعار، وإحالة أعداد كبيرة من العاملين على البطالة.
تعطل التنمية يغذي التحركات والاحتجاجات
تشهد الولايات الداخلية، كالقصرين وسيدي بوزيد والقيروان، تعثرا في مشاريع التنمية وتفاقما للبطالة والآفات الاجتماعية وهشاشة في البنية التحتية والمرافق الخدمية ورغم مرور عقدٍ على الثورة، فإن السياسات التنموية التي عمقت الأزمات في مناطق الهامش، طيلة عقود، لم تشهد أي مراجعة، خاصة في الولايات الداخلية والأحياء الهامشية في العاصمة التي ظلت تشهد احتجاجات متكررة خلال العقد الأخير إضافة الى تداعيات جائحة كورونا والتحاق أعداد كبيرة من الشباب بصفوف العاطلين عوامل ساهمت في مراكمة الاحتقان الاجتماعي.
بعد عقدٍ من الثورة وما رافقها من آمال عريضة، بعضها واقعي، ظلت الصعوبات الاجتماعية والاقتصادية التي مثلت أحد أسباب الثورة عام 2011، تلقي بظلالها على المشهد وتنعكس تأثيراتها سلبيا على المزاج العام، وعلى الثقة بالمستقبل، وتترجم مخرجاتها في ظواهر سلوكية واجتماعية، كاستهلاك المخدرات وترويجها والسطو والسلب والتمرد على تقاليد الأسرة، وفي خيارات الهجرة أو الانخراط في الجريمة المنظمة والإرهاب.
لقد بعثت الاحتجاجات والتحركات الاجتماعية رسالة قوية مفادها أن فشل الحكومات المتكرر في التصدِي الفاعل للمظالم الاجتماعية والاقتصادية لن يمر مرور الكرام، وتعبر الاحتجاجات بشكل واضح عن الطريقة التي ينظر بها التونسيون إلى الظلم، وببساطة فإن هذه التحركات لم تخرج فقط احتجاجا على قانون المالية المثير للجدل، بل على تركة ثقيلة من التفاوت الاقتصادي والتهميش الاجتماعي والاقتصادي لمناطق معينة من تونس، وعلى الفساد وانعدام المساءلة عن هذا النوع من الجرائم، وعلى فشل الحكومات في معالجة هذا الإرث من المظالم الاجتماعية والاقتصادية.
إرث من التهميش وحلول قمعية
شهِد تاريخ تونس عددا من هذه الانتفاضات الصغيرة، حيث كانت كل واحدة منها تضخ دماء جديدة في مسيرة الكفاح المستمر لمعالجة التفاوت الاجتماعي والاقتصادي، خاصة في المناطق الداخلية من البلاد، التي كانت ومازلت تعاني تهميشا تاريخيا ومنهجيا، وتعود جذور النضال ضد الظلم الاقتصادي في تونس إلى مظالم متعلقة بالحقوق المدنية والسياسية، لهذا السبب كان ظهور الفساد في عهد الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي عاملا رئيسا، في صب الزيت على نار الاحتجاجات.
ولطالما شهد تاريخ تونس انتهاكات متكررة ودورية لحقوق الإنسان في حرية التعبير، وقد كرس نظام بن علي ركائزه من خلال الفساد الجماعي والجرائم الاقتصادية، وباستخدام القمع الشديد لقطاعات الشعب التي كانت تتجرأ وتعبر عن استيائها من حالة التفاوت الاقتصادي المجحفة، وفي اللحظة الراهنة فان تصاعد وتيرة الاحتجاجات هو تأكيد على أن حاجز الخوف لم يعد موجودا حتى في مواجهة الاعتقالات التعسفية المستمرة والممارسات القمعية الأخرى، التي تسعى من خلالها الحكومة الحالية إلى تضييق نطاق الاحتجاجات، خاصة وأن الفساد والجرائم الاقتصادية كانت ولا تزال ترتكب .
ويبدو أن شتاء 2023 سيشهد فصلا آخرا، سيتجدد فيه الاحتجاج الاجتماعي ضد التهميش والبطالة والتفاوت الجهوي وغلاء المعيشة، هذا الجدول الدوري من المطالب ستعيد إنتاجه حكومة نجلاء بودن عبر سياساتها الاقتصادية والاجتماعية التي تتجه نحو فرض إجراءات تقشفية ورفع العبء الجبائي على الفئات المتوسطة والفقيرة، والضغط على كتلة الأجور. رغم أن هذه الخيارات تعطي النضال الاجتماعي مشروعية الاستمرار، فإن الحكومة دأبت على مواجهة الحركات الاحتجاجية باستخدام الحل الأمني والتتبعات القضائية وبتنشيط دعاية مكثفة في الإعلام ، قائمة على إستراتيجية التشكيك في أهداف الاحتجاجات من خلال إيجاد روابط بينها وبين ظاهرات أخرى مثل الإرهاب والتهريب.
هذه المواجهة التي بدأت تفقد فاعليتها في احتواء الأزمات الاجتماعية، سعت حكومة بودن إلى تطعيمها بسياستي التفاوض المطلبي والإضعاف من الداخل يجري التفاوض في معظم الأحيان حول المطالب الجزئية والخصوصية دون التفاوض حول الأهداف الأساسية مثل العدالة الاجتماعية والسيادة الوطنية وإعادة توزيع الثروة، وهذه السياسة تساهم في تصريف الأزمة الاجتماعية لأنها توفر حلولا آنية ذات علاوة على أنها تشكل منفذا لتقسيم الحركات الاحتجاجية وإضعافها من الداخل باستمالة جزء مهم من قاعدتها الاجتماعية، الذي تحكمه عموما نزعة مطلبية، وفي بعض الأحيان تراهن الحكومة على قادة الاحتجاجات نظرا لدورهم التعبوي من خلال محاولة تقريبهم واستخدامهم في تعزيز موقفها التفاوضي.
وقد سعت حكومة بودن أيضا إلى المراهنة على جزء من تركيبتها التفاوضية من خلال الدفع بوزرائها، القادمين من تجارب نقابية على غرار وزير الشؤون الاجتماعية مالك الزاهي معولة في ذلك على دورهم في إقناع المحتجين واستمالتهم عبر التفاوض..
الأزمة الهيكلية للحركات الاجتماعية
في المقابل تسعى العديد من منظمات المجتمع المدني التي تضم حركات اجتماعية عديدة في مجالات مختلفة كالتشغيل والبيئة والفلاحة والنسيج، الى تعزيز القدرات الاجتماعية على الفعل وخلق مسار لبناء فضاء احتجاج وتضامن ما بين الحركات الاحتجاجية والمجتمع المدني من أجل أداء دور سياسي واضح في المرحلة التي تمر بها البلاد، وقد لاحظت هذه المنظمات، تصاعد في الاحتجاجات والمواجهات ما بين السلطة الحاكمة ومختلف الحركات والمنظمات بسبب غياب تفعيل الاتفاقات وغياب برنامج للتغيير الحقيقي.
بالتوازي مع استراتيجيات منظومة الحكم، يلوح واقع الحركات الاجتماعية نفسها موضوعا يستدعي المساءلة والنقد، رغم إمكاناتها النضالية والتعبوية ظلت هذه الحركات بعيدة عن إنجاز التغيير السياسي والاجتماعي الذي ينسجم مع تطلعاتها ومطالبها، هذه المفارقة الموضوعية بين قوة الحضور الاحتجاجي وضعف التأثير السياسي يكشف عن معضلات هيكلية تعيشها منظومة الاحتجاج الاجتماعي، على مستوى تنظيمي يبرز أساسا من خلال حضورها المتشتت وتحركها كجماعات وكيانات غير متجانسة في تركيبتها وفي أهدافها وفي سقفها المطلبي، هذه المعضلة فرضها واقع التعدد والتنوع ولكنها تنتصب عائقا أمام انتقال الحركات الاجتماعية من وضع الاحتجاج الدوري إلى وضع القوة المنظمة القادرة على التغيير، أما على المستوى السياسي فإن المعضلة الهيكلية الأخرى تتمثل في هيمنة الطابع المطلبي والخصوصي الذي أعاق إمكانية اندماج منظومة الاحتجاج الاجتماعي ضمن برنامج سياسي شامل، وفي بعض الأحيان توفر النزعات الشعبوية والجهوية التي تظهر في الخطاب الاحتجاجي فرصة للحكومات لتفعيل دعاية ضد الحركات الاحتجاجية، حتى تجردها من صبغتها الوطنية.
هذه المعضلات تسعى بعض القوى الحزبية إلى حلها عبر تبني هواجس هذه الحركات ومشاركتها نفس المطالب، ولكنها لا تملك مشاريع لهيكلتها أو تصورات سياسية من خارج التصور الاجتماعي الكلاسيكي تدل على فهم جديد للتحولات التي تعيشها منظومة الاحتجاج الاجتماعي، أما الاتحاد العام التونسي للشغل فعادة ما يبرز كمتعاطف مع هذه الحركات كلما تقاطع حضورها المركزي أو الجهوي مع تجذره القطاعي، ولعل التركيبة الاجتماعية لمعظم الحركات الاجتماعية التي تضم المعطلين والمهمشين غير المؤطرين نقابيا، تبعده عن التفكير في إدماجها ضمن تركيبته، طالما أنها لا تغطي المجال الاجتماعي المعني بتأطيره.
في المقابل يخوض المحتجون تحركاتهم معتقدين أن احتجاجا ببضع ساعات أو قطعهم الطريق لمدة يوم قد يجبر الدولة على التفاوض والحال أن الدولة لديها خبراء في المماطلة والتسويف يعتبرون أن عامل الوقت دائما في صالحهم، خصوصا أن أغلب المناطق المحتجة لا قيمة فعلية لها في الدورة الاقتصادية، وتقع بعيدا عن الطرقات الرئيسية والمنشئات الحيوية، كما أن تمركز القرار السياسي في العاصمة وضعف صلاحيات المسؤولين المحليين يصعب الأمر كثيرا و سرعان ما يدرك المحتجون هذه الحقيقة، وعوضا عن المطالبة بلامركزية القرار وبديمقراطية محلية، يحملون سخطهم ويعودون إلى منازلهم، كما أن نوعية المطالب تكون على علاقة بالبطالة والتشغيل، وهو مطلب شرعي وضروري لتحقيق الحد الأدنى من الكرامة الإنسانية لكن المطالبة بالتشغيل من دون المطالبة بالتنمية وتوفير المرافق الضرورية والحد من التفاوت بين الجهات هو تقريبا لا يستقيم ففي أفضل الأحوال تعد الدولة بخلق مواطن شغل وآليات تشغيل أغلبها وهمية أو هشة، تستعملها كمسكنات لتسكت آلام المحتجين وتخلق الأمل من جديد، كما أن هناك مناطق من شبه المستحيل خلق مواطن شغل فيها، نظرا لتخلفها الاقتصادي الرهيب في ظل غياب الدولة وعزوف المستثمرين. حتى عندما تُشغل الدولة بضعة أشخاص، سيخلق هذا حساسيات لدى الذين لم يسعفهم الحظ، وقد تتطور إلى عداء عندما تكون المنطقة ذات طابع قبلي هذا من دون أن ننسى استحالة أن يشغل القطاع العمومي كل طالبي الشغل.
صحيح أن أغلب الاحتجاجات الاجتماعية لم تعطِ أُكلها، لكن هذا الحراك الذي لم يهدأ منذ سنوات هو في حد ذاته مكسب، هو تعبير عن ثورة ثقافية تتبلور في تونس وسيأتي اليوم الذي ستنضج فيه ثمارها، وهذه المواجهة اليومية مع السلطة، من الشمال إلى الجنوب، يعني انتقال جزء كبير من الشعب التونسي إلى مرحلة انتزاع حقوقه ونصيبه من الكرامة.
الباحث في الحركات الاجتماعية (ماهر الهمامي): التحركات فعل يسائل النظام الاجتماعي
صار تناول الحركات المطلبية والاحتجاجية بعد الثورة أمرا متاحا للجميع باحثين وإعلاميين ولمناضلي الحقل السياسي والمدني وهو تناول ينطلق من أحداث ووقائع ومفردات الفضاء الاحتجاجي والتي غدت مرصودة ومتداولة ومتاحة بفضل حرية التحري والتقصي والإعلام.
أهداف تناول هذا الفعل الاحتجاجي كتعبير عن المجتمع التحتي متنوعة فهي من جهة الوقوف عند الدلالات الاجتماعية والتاريخية لهذه الديناميكية التحتية التي تتيح للفاعلين اقتناص فرص لكسر الحصار المضروب عليهم والانخراط من أسفل في مسارات التأثير الاجتماعي وهي أيضا لفت نظر لضرورة التفكير في بدائل تنموية إدماجية تأخذ بعين الاعتبار مطالب وتطلعات الفئات الهشة والطبقات الوسطى.
فمن الطبيعي أن يقترن فتح الفضاء العمومي بتحرر الفعل الاحتجاجي المطلبي لعديد الفئات الاجتماعية الهشة والمستبعدة أو لطرح قضايا غير مألوفة في المشهد الاجتماعي مقارنة بزمن الاستبداد، تحرير هذا الفعل الاحتجاجي نلمسه في التطور الكمي للإضرابات العمالية في مرحلة أولى ثم في ظهور أشكال آخرى من التعبئة والاحتجاج كالاعتصام والتظاهر وغلق الطرقات وإضراب الجوع والمسيرات الجماعية على الأقدام نحو العاصمة وإصدار البيانات وتعبيرات فنون الشارع… لطرح سلسلة جديدة من المطالب الاجتماعية المتنوعة وغير المتجانسة والمنتشرة على مجالات جغرافية مختلفة داخل المدن الكبرى و الصغرى والأرياف.
من ذلك مثلا مطالب الحق في الشغل والشغل اللائق، والحق في الصحة، وفي البيئة والماء وفي الموارد الطبيعية والبنية التحتية، نضيف إلى ذلك حركات أكثر هيكلة وتنظم كتجربة جمنة، وحملة "مانيش مسامح"، واعتصام باتروفاك بقرقنة، الكامور بتطاوين، وتنسيقية عمال الحضائر، حملة "فاش نستناو"، وحملة "تعلم تعوم."
وما نقف عليه كاستخلاص مركزي من التنامي الكمي لحجم الغضب والاحتجاج هو أننا لسنا أمام أحداث عابرة خالية من المعني ولا أمام مظاهر سلوك انحرافي لمحتجين يسعي البعض دوما لوصمهم سلبيا، بقدر ما نحن أمام فعل دائم يسائل النظام الاجتماعي وقدرته الوظيفية على ضمان الانسجام، وما انفك ينجح في ابتكار أشكال تنظم وتنسيق أفقية مرنة وموضعية غير تقليدية وبتعبير أدق تعبر هذه الحركات بشكل متزايد عن توتر مخفي ومغيب بين مصالح متعارضة ومتباينة، وهي بهذا المعني دحض آخر لمقولة التجانس الاجتماعي العائمة التي توظف أيديولوجيا عند الحديث عن النمط المجتمعي التونسي فالحركات المستمرة أخرجت الى السّطح الفوارق الطبقية واختلافات المصالح والمطالب غير المتجانسة بين التونسيين.
من جهة أخرى يطرح مثل هذا التنوع والتشتت الذي تبدو عليه الحركات الاحتجاجية صعوبتين الأولى عملية في الـتأليف بينها وبالتالي في توفير إطار موّحد قادر على تأطيرها بالكامل ومع ذلك نستخدم تيسرا للتواصل مقولة حركة اجتماعية حين نرصد سمات أساسية للفعل الاجتماعي كالتظلم من وضع غير عادل، وتوفر أدني تنظيمي تعبوي يسعى لتحديد مطالب للرّد على هذا الوضع، وقيام جهد للأفراد والمجموعات لتحقيق التحشيد اللازم للموارد، وبناء ترابطات نضالية في هذا السياق المطلبي والسياسي العام المفتوح الذي صار عليه المجتمع اليوم.
الصعوبة الثانية هي محاولة إرجاع هذا الشتات المتنوع للحركات الاحتجاجية الى إطار نظري ومفهومي يهيكل عملية الفهم والتحليل لهذه الحركات الغنية على قاعدة اللاتفاضل بين الحقوق كل الحقوق والحريات كل الحريات ولأفق فعله وأثره السياسي الراهن في تونس اليوم.
الاحتجاجات موجودة ومختلفة فمنها الاجتماعي، والاقتصادي والسياسي المتعلق بمعارضة رافضة للحكم الواحد وتعتبره انقلابا، وأخرى مرتبطة برفض الممارسات الأمنية القمعية لا أخلاقية ولا إنسانية والتي تذكر بمنظومة دكتاتورية.
والاحتجاج القادم وهو الأهم والذي سنشهده قريبا وسيكون مدعوما من السياسيين مرتبط أساسا بالوضع الاجتماعي في ظل الارتفاع الكبير للأسعار وفقدان المواد الأساسية، وربما البلاد ستقدم على ثورة جديدة، فالبلاد في اتجاه الانفجار وما تعيشه من احتجاجات يثير الخوف بالنظر لغياب الاستقرار السياسي والاقتصادي، والدولة تقريبا مفلسة والأخطر هو الاتجاه نحو رفع الدعم والشعب بدأ يشعر بالجوع، كما أن التونسي لا يساوم على أمنه الغذائي، وما يحدث هي احتجاجات تعكس مراكمة للغضب شيئا فشيئا سيحدث انفجار في ظل انعدام الثقة في الدولة وتراكم الغضب والنقمة والكره، في ظل قطيعة تامة بين النخبة السياسية والفئات الشعبية.
رمضان بن عمر (المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية) : الاحتجاجات ستزداد بسبب الأزمة الاقتصادية
وتيرة الأشكال الاحتجاجية سترتفع خلال الفترة القادمة، تزامنا مع المواعيد الانتخابية، حسب توقعات المنتدى، وستشكل الاحتجاجات، زخما على المستوى القطاعي، كما يمكن أن تسجل انتشارا جغرافيا، وقدرتها على التعبئة والتحشيد، والاحتجاجات التي تشهدها عديد الجهات، مطالبة بالحق في الماء، وتحسين البنية التحتية، وإيجاد حلول للوضعيات الشغلية الهشة، غير أن كل هذه الأزمات يقابلها ارتباك وعجز حكومي في معالجتها، وعلى فتح قنوات الحوار مع الفاعلين الاجتماعيين، وهو ما ولد حالة من الإحباط توسعت لدى التونسيين بشكل مخيف وخطير، وقد تكون لها تداعيات على الوضع الاجتماعي في البلاد خلال المرحلة القادمة، كما أن الأزمة السياسية الخانقة، ألقت بظلالها على الوضع الاقتصادي والاجتماعي، وخلفت توترات في مختلف المجالات، وهو ما ينبئ بحدوث سيناريوهات مرعبة بخصوص حالة الغضب والاحتجاجات الاجتماعية في الفترة القادمة في تونس، وستكون الثلاثية الأولى من السنة الجارية صعبة جدا، حيث ستكون الدولة فيها مفلسة، وفي ظل عجز ميزانية الدولة ستصبح عمليات التزود بالمواد الأساسية صعبة وسيرتفع مستوى المضاربة مما سيخلق أجواء متوترة اجتماعيا، إضافة الى ارتفاع نسبة التضخم وتوقعات البنك الدولي بتحقيق نسبة نمو أقل مما هي منتظرة سيكون بدوره له تأثيرات كبيرة على المناخ الاجتماعي، والاحتجاج الاجتماعي في حالة انتظار باعتبار أنه أصبح اليوم مرتبطا بغياب الأمل لأن الفاعلين والمحتجين أصبحوا بلا أمل في أن تحركاتهم ستحقق تغييرا باعتبار أيضا أن الدولة عاجزة سواء على المستوى المحلي أو الجهوي أو المركزي.
إن تركيز الرئيس قيس سعيد ضمن أولوياته على الاستحقاقات السياسية وتهميش الجانب الاقتصادي والاجتماعي يشجع على تراكم الغضب الشعبي وتغذية الاحتقان الاجتماعي، ويدفع فئات اجتماعية جديدة إلى تحدي حالة السلبية والاحتجاج في الشارع، كما أن الحكومة الحالية غير قادرة على حلحلة الأوضاع المعيشية المتأزمة بالنظر إلى ما قدمته من تعهدات لصندوق النقد الدولي للحصول على قرض جديد، وهو ما قد يسبب انفجارا اجتماعيا إذا توجهت الحكومة لرفع الدعم تدريجيا عن المواد الأساسية.
أكثر من 7 آلاف تحرك احتجاجي
وفق أرقام وبيانات المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية سنة 2022 تم تسجيل 7 آلاف و754 تحركا احتجاجيا إلى حدود شهر نوفمبر حيث سجل أكبر عدد في شهر جانفي وبلغ 1218، أما في سنة 2021 بلغ عدد الاحتجاجات 12 ألفا و79 احتجاجا كان لشهر جانفي أيضا النصيب الأكبر بـ1502 احتجاج، وأهم الاحتجاجات الاجتماعية استأثر بها القطاع العمومي بـ43،8 بالمائة من المجموع خلال 2022 (القطاع الصحي، النقل، والبنية التحتية، والخدمات) إضافة إلى الاحتجاجات في المجال التربوي بنسبة 23،1 بالمائة وشملت الإطار العامل وأيضا العائلات المحتجة على عدم ضمان الحق في التعليم وعلى البنية التحتية وأيضا على العنف في المؤسسات التربوية.
أما من حيث التوزيع الجغرافي للاحتجاجات الاجتماعية، فإن الخارطة لم تتغير كثيرا ومن حيث الأقاليم فإن إقليم الوسط الغربي هو الإقليم الأكثر احتجاجا بنسبة 24 بالمائة، يليه الجنوب الغربي بنسبة 21 بالمائة حيث تظهر التباينات الاقتصادية والاجتماعية بهما. ثم في المرتبة الثالثة يأتي إقليم الشمال الشرقي بـ17 بالمائة.
وبالنسبة للولايات الأكثر احتجاجا هي ولاية قفصة بـ1281 تحركا احتجاجيا تليها تونس الكبرى بـ959 احتجاجا اجتماعيا، ويذكر أن 78 بالمائة من الاحتجاجات عشوائية.