إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

الخبير الاقتصادي والمالي راضي المؤدب لـ"الصباح": هذا الخطأ في قراءة علاقتنا بصندوق النقد.. وما تم الاتفاق بشأنه في زيارة ليبيا يجب أن يفعل فورا

قال الخبير الاقتصادي والمالي راضي المؤدب أن المؤشرات الإيجابية حول زيارة رئيس الحكومة الأخيرة إلي ليبيا هي أولية ولن تتأكد دون المرور إلى تفعيل كل ما تم التصريح به في الزيارة في غضون الاسابيع القليلة القادمة.

واعتبر في حوار مطول مع "الصباح" أن الحل سياسي للوضع المالي الحرج وأنه إذا لم يتم ذلك على امتداد الشهرين المقبلين فيا خيبة المسعى. منتقدا خيار الحكومة بالمضي في معالجة تراكمات سنوات في ظرف وجيز دون الأخذ بعين الاعتبار أهمية التوافق المطلوب مع كل الأطراف الاقتصادية والاجتماعية في البلاد.

وفيما يلي النص الكامل للحوار.

*من منطلق العارف بالشأن الاقتصادي كيف تقيم زيارة ليبيا الأخيرة وهل فعلا ننتظر الخير الكثير كما يروج لذلك؟

ليبيا متنفس طبيعي لتونس منذ عقود على مستوى العلاقات البشرية، على مستوى التواصل بين الشعبين وعلى مستوى التكامل والتواصل الاقتصادي. عندما يقول السياسيون إن أمن ليبيا وسلامتها من أمن تونس وسلامتها ربما تكون فقط رسائل ترسل هكذا لكن في الواقع التكامل والتقارب بين البلدين هو أمر واقع لا جدال فيه منذ عقود.

قبل الثورة كانت العلاقة مع ليبيا في تداخل مع الشأن السياسي عندما يغضب معمر القذافي حينها يستطيع أن يطرد العمال بعشرات الآلاف هذا اضعف الإيمان إذ لم يفبرك مؤامرات على (غرار التدخل في قفصة) وهذه طريقة التعامل بين البلدان المتخلفة ولا تجدها بين البلدان المتقدمة.

لكن تبقى ليبيا رغم ذلك المتنفس الطبيعي لتونس نظرا لثرواتها الطبيعية البترول خاصة وسكانها قليلون وحاجياتها أكبر بكثير من تونس والمسار الاقتصادي والاجتماعي في هذا البلد والخيارات السياسية لم تفض في هذا البلد إلى وجود وتركيز صناعات معملية في مستوى احتياجات البلد وسكانه بينما في تونس هناك شبكة اقتصادية من الشركات المتوسطة والصغرى التي تنتج الكثير من حاجيات المجتمعين التونسي والليبي. وكان دائما تدفق السلع نحو القطر الليبي والمعاملات بين البلدين على أعلى مستوى وقبل الثورة كان الميزان التجاري مع ليبيا من بين القلائل الإيجابية في مستوى تبادل تونس مع بقية دول العالم. وهذا للأسف فقدناه وتراجعنا فيه كثيرا في العشر سنوات الأخيرة بعد الثورة ما أنجر عنه ضعف وتداعيات سلبية في المؤسسة الاقتصادية التونسية في غياب سياسة اقتصادية واضحة في البلد أولا ولغياب ذلك المتنفس الطبيعي لتصدير السلع التونسية المختلفة نحو ليبيا.

إلى جانب هذا العمق الصناعي والاقتصادي يربطنا بليبيا العمق البشري في ظل احتياج ليبيا إلى قوة عاملة ونحن قادرون على تلبية حاجيات السوق الليبية منها بمئات الآلاف من العمال والموظفين ولو يتم ذلك سيخفف كثيرا من وطأة البطالة في تونس.

العمق الثالث مرتبط بإعادة إعمار ليبيا ونحن بالإمكان أن نكون ضمن كوكبة البلدان القادرة على المساهمة والاستفادة من إعادة أعمال ليبيا ويتعين في هذا الصدد ربط علاقات لا فقط مباشرة مع الحكومة الليبية بل ايضا عبر القوى الاقليمية والبلدان الكبرى المتسابقة اليوم على الفوز بعقود إعادة الإعمار ولها الامكانيات المادية والفنية والتكنولوجية التي لا تتوفر لدينا نحن. وتستطيع تونس عرض مزايا تفاضلية هامة على هذه المجموعات الدولية لتشريكها في إعمار ليبيا.

البارحة فقط كنت قادما من باريس وتعطلت الطائرة لأنها كانت بصدد انتظار مجموعة من 46 أمريكيا قادمين من أطلنطا باتجاه ليبيا ولا أظن أنهم قادمون للسياحة بل من أجل مناقشة العقود والفرص المتاحة في ليبيا اليوم.

العمق الآخر هو صحي لاسيما وأن مصحاتنا كانت على امتداد 10 سنوات توفر خدمات للتونسيين والليبيين وتم استقبال الجرحى والمرضى الليبيين وحصلت تجاوزات من قبل بعض المصحات خلفت اشكاليات للأسف واليوم حان الوقت لتجاوزها لاسترجاع الثقة.

والزيارة دون شك تبدو إيجابية لأنها تسير في السياق الذي نحتاجه ونطالب به وقد تساهم في حلحلة أوضاعنا الاقتصادية لكن تظل الزيارة مؤشرا أوليا يحتاج إلى متابعة ونحن للأسف في تونس عادة ما نكتفي بالمؤشرات الإيجابية الاولية ولا نقوم بالعمل الجدي وراء هذا.

*ما المطلوب في تقديرك لبلوغ الغايات والأهداف من زيارة ليبيا الأخيرة؟

كل ما تم التصريح به في هذه الزيارة يجب أن يفعل في ظرف 2 و3 أسابيع القادمة على أقصى تقدير. بمعنى أن الليبي يعامل بنفس الطريقة التي يعامل بها التونسي في تونس والتونسي يعامل في ليبيا بنفس الطريقة التي يعامل بها الليبي يجب أن تبرم اتفاقيات تكون لها قوة القانون وتفعل مباشرة. أيضا إمكانية التمليك لليبي في تونس يجب أن تفعل مباشرة مع ما يتطلبه ذلك من الغاء بعض العراقيل والقوانين البالية من القرن الماضي على غرار رخصة الوالي وغيرها.

*توجه انتقادات كثيرة للقائمين على الشأن الاقتصادي في البلاد اليوم وفي مقدمتهم وزير المالية الذي تحمله عديد الأطراف ومن بينها قيادات في المنظمة الشغيلة مسؤولية خيارات خاطئة وكارثية ..كيف تقيم أداء وزير المالية؟

 

وزير المالية والحكومة بشكل عام ورثوا حالة صعبة جدا وتركة ثقيلة لتراكمات على امتداد عشرات السنين ولا أحد يتمنى أن يرثها ويكون في مكانهم. فعندما يجد وزير مالية نفسه بعد ثلاثة اشهر فقط من تعيينه أمام قانون مالية وجائحة وعجز في الميزانية وفي المؤسسات العمومية وفي الصناديق الاجتماعية.. لن تكون المهمة سهلة ولا يمكن حل هذه المشاكل المتراكمة في ظرف سنتين أو ثلاث سنوات.

وهنا أين كان يجب التريث والاستئناس بما كان يقول الزعيم بورقيبة بأن الأهم قبل المهم ويجب ضبط خطط والتحلي بالشفافية والجرأة في الدفاع على فكرة أنه لا يمكن أن تتم المعالجة في ظرف وجيز لتراكمات حوالي 20 سنة من مشاكل هيكلية في الاقتصاد قبل الثورة وأخرى طارئة بعد الثورة تسببت فيها الإدارة العشوائية والشعبوية لتلك المشاكل.

والحديث عن رفع الدعم عن المحروقات والمواد الاساسية في ظرف سنتين لا يمكن ان يستقيم وهذا مستحيل ونحن نتذكر جيدا، أو ربما هناك من لا يتذكر وهنا الأشكال، بانه في سنة 84 من القرن الماضي حين قال رئيس الحكومة محمد مزالي ستكون الاصلاحات قطاعية وقال حينها شدوا أحزمتكم سيمر سعر الخبز من كذا إلى كذا.. خرجت الناس إلى الشوارع وكانت هناك مظاهرات وصدامات وموتى ثم بورقيبة بحكمته راجع القرار

اليوم عندما يقول المسؤولون أنه سيتم رفع الدعم على كل المواد الاساسية والمحروقات اقول شخصيا لا إلاه إلا الله إذا كان هؤلاء يعرفون جيدا تاريخ تونس.

*على ذكر مسألة رفع الدعم وعلى ضوء الزيادات الأخيرة والمتواترة في المحروقات وأسعار الكهرباء ومؤخرا والصوناد.. هل فعلا مرت الحكومة إلى تنفيذ رفع الدعم وجعله أمرا واقعا وبشكل غير معلن؟

طبعا، ورفع الدعم على الماء الصالح للشرب ومراجعة تسعيرة المياه المشطة وإن لم يتفطن أو يكترث لها المواطن عند صدورها في الرائد الرسمي مؤخرا لكن سيتفاجأ بذلك مع أول فاتورة بعد الزيادات الأخيرة.

بالنسبة للزيادة في سعر المحروقات ورفع الدعم نهائيا سينتج عنه زيادة في كل المواد والسلع فمثلا ستكون هناك زيادة في النقل العمومي في المقابل ماذا أعددنا لتأمين خدمات للمواطن جيدة. ثم إن النقل العمومي هو من بين السياسات العمومية التي تمثل فشل الحكومات المتداولة على السلطة منذ 30 سنة، مستعملو النقل العمومي في تونس "في الشتاء مغروقين وفي الصيف محروقين" في الدول المتقدمة نجد أن المسؤولين في الدولة ورؤساء حكومات يعتمدون النقل العمومي في حين يفر الجميع في تونس منه إلا من لا بديل له عنه.

وهنا اقول انه يجب أن يكون هناك توافق أدنى بين المكونات الاساسية والفاعلة في المجتمع التونسي لاعتماد الإصلاحات المطلوبة.

*يتداول البعض من كواليس المفاوضات مع صندوق النقد الدولي أن هذا الأخير اشترط توافقات داخلية قبل المضي في أي قرار لدعم تونس.. هل تؤكدون ذلك؟

 

صندوق النقد في تقريره لشهر جانفي الذي لم يكن تقرير بداية نقاشات بل هو تقرير تقليدي لان القانون الاساسي للصندوق يجبره في الفصل الرابع على انجاز تقارير سنوية على الوضعية المالية والاقتصادية على كل بلد عضو، قال للحكومة أنه يتعين القيام بإصلاحات كثيرة وهذا رايي فيها وطلب بوضوح أن يكون هناك إجماع بين الفاعلين السياسيين والاقتصاديين والاجتماعيين في تونس على تلك الإصلاحات.

والإجماع يتم عن طريق التبادل الشفاف لكل المعطيات البلاد ليست ملكي ولا ملكك انت هي ملك الجميع ونجن مجبرون على إيجاد الحلول للتعايش السلمي في هذه البلاد.

وبعد تقاسم المعطيات والحقائق حول الوضعية المالية والاقتصادية يتم طرح كل الحلول والبدائل ثم النقاش حولها وتدارس الإيجابيات والسلبيات وجوانب الربح والخسارة لكل طرف ثم التوافق على حل يمثل المجموعة.

لكن عندما تذهب الحكومة إلى واشنطن بوثيقة بـ26 صفحة تم تسريبها من هناك لتعود إلى تونس وفق اقرار السياسيين أنفسهم ومن بينهم "وسادة" رئيس الحكومة، فعن أي إجماع وعن أي مفاوضات نتحدث؟

الاشكال إذن في طريقة التعاطي مع مسالة التشاور وتشريك جميع الفاعلين.

*هل لهذه الأسباب صرح مؤخرا الأمين العام للاتحاد متوجها لوزير المالية بالقول إن صندوق النقد الدولي لم يمنحكم أي مليم.. بمعنى أن الإجماع يبدو صعبا حول طرح الحكومة المقدم لصندوق النقد؟

يجب أن يكون الطرح معقولا ليُقبل ولا يكون ذلك إلا بالنقاش والحجة مقابل الحجة وبالأرقام؟

*عذرا لكن ألم يتم ذلك في الاجتماعات الأخيرة في بيت الحكمة والحديث عن انطلاق حوار اقتصادي واجتماعي بمشاركة الاتحاد والأعراف.. فهل كان ذلك فقط للتسويق أو بنوايا غير بريئة من الحكومة؟

 

لا أقول أن النوايا لم تكن بريئة.. لكن لم تكن المشاورات في العمق فذلك كان يتطلب وجود تخطيط وطرح بدائل مع معرفة دقيقة لكل التداعيات المحتملة.. ثم نحن لنا ثقافة الكلام أكثر من الأمور العملية ونجتمع فقط للاستماع لبعضنا البعض دون الخروج بوثيقة عمل.

وهذا ما طالب به صندوق النقد عند لقاء الوفد التونسي حيث طلب خططا مفصلة وبرامج مضبوطة وآجالا محددة لم تكن موجودة في وثيقة 26 صفحة المقدمة.

وهل يمكن تصور انه تم عرض الوثيقة على اجتماعات بيت الحكمة في حضور الاتحاد وتم عرض مسالة هامة مثل التزام التخفيض في كتلة الأجور من 17 بالمائة إلى 15 بالمائة بداية من السنة الحالية خاصة وان الاتحاد شرع بالمطالبة بفتح المفاوضات حول الزيادة في الأجور تزامنا مع المفاوضات مع صندوق النقد؟

*إذن بماذا تفسر سياسة الهروب إلى الأمام التي تعتمدها الحكومة إن صح التعبير؟

الحكومة أمام وضع مالي دقيق جدا.. وإذا لم تجد حلولا لبعض المشاكل المالية في الشهرين القادمين.. البلاد تسير نحو الافلاس وهذه مسؤوليتها وهذا ما يخيف الحكومة.. لكن في السياسة لا يوجد حل وحيد فإذا لم يكن هناك تشارك وتوافق و"كل واحد يطيح من قرنو شوي" لنستطيع التقدم والوصول إلى حلول.. في السياسة كل طرف يبحث عن الحل من منطلقه هو ولذلك كنت دائما أقول أن الاقتصاد ليس علما وإنما هو خدمة لسياسة معينة.

*لكن هل يمكن اليوم الذهاب في هذا الخيار التوافقي حول سياسة محددة وتفعيل الدعوات المعلقة لحوار اقتصادي واجتماعي يخرج البلاد من دوامة الأزمة ويجمع حول الإصلاحات؟

عندما طرح الاتحاد مبادرته في شهر نوفمبر نشر حينها بشير بن أحمد مؤسس جون أفريك مقالا أكد فيه أنه لن يتم هذا الحوار لأنه كان جليا بأن "كل واحد شيطانو في جيبو" ولا أحد يرغب في الحوار الوطني واليوم تشعب الوضع أكثر فأكثر.

اليوم نتحدث عن نصف حكومة وأكثر الوزارات بالنيابة ورئيس الجمهورية قرر أن لا يمضي عديد القوانين التي يمررها مجلس نواب الشعب.. وحقيقة لا أعرف ماهو الحل دستوريا..

في نقاش مؤخرا مع صديق فرنسي قال لي أنه حصل ذلك في فرنسا عام 86 في عهد ميتيرون عندما اضطر للتعايش مع حكومة يمينية بقيادة شيراك وأخذت حينها الحكومة على عاتقها تمرير القوانين عبر مراسيم لكن يجب على رئيس الجمهورية ان يوقع على تلك المراسيم ورفض ذلك.. وعندما سألته كيف خرجتم من المأزق قال لي أنه في النهاية أضطر الطرفان اي رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة للجلوس معا والخروج بحل لأنهما فهما أن مصلحة البلاد فوق كل اعتبار.

*هل تعتقد أن ذلك ممكن اليوم في تونس وتونس على مشارف أخطر فترة في تاريخها؟

كما قال محافظ البنك المركزي مؤخرا في مجلس النواب الحلول لا يمكن أن تكون إلا سياسية.. وإذا لم يتم التدارك في ظرف الشهرين القادمين فيا خيبة المسعى.

*تزامنا مع النقاشات الدائرة حاليا هل سيمضي صندوق النقد الدولي في خيار دعم تونس؟

صندوق النقد الدولي سيخوض نقاشات مفصلة مع الحكومة التونسية وسيلزمها بالتعريف بوضوح بكل الخيارات الاقتصادية المقدمة وهذا سيتطلب بعض الوقت لكن في نهاية المطاف سيستجيب لكن لا أتصور أنه سيقدم الـ4 مليار دولار التي تطلبها الحكومة لأنه ليس من دوره تمويل الميزانية بل هو يواكب الإصلاحات لمعالجة عجر الميزانيات وأعتقد أن هذا الخطأ في قراءة علاقتنا بصندوق النقد الدولي.

*كيف تقيم أداء رئاسة الجمهورية في علاقة بدوره الدبلوماسي ومسألة الدبلوماسية الاقتصادية على ضوء تصريحاته الأخيرة من فرنسا وما أثارته من جدل.؟

رئيس الجمهورية تم انتخابه بحصة ليس لها مثيل في تاريخ تونس مما اعطاه شرعية قوية.. لكن هذا يضع على كاهله مسؤولية كبرى ويجب ان يكون في مستوى شرعيته.. رئيس الجمهورية لم يخف ان له مشروعا واضحا وهو مشروع مؤسساتي وإعادة تركيب المؤسسات والدستور أخشى ما أخشاه أن الرئيس يظن أنه سيجبر مجلس نواب الشعب على قبول فكرته بإظهار عجز المنظومة الحالية.

في عجر المنظومة الحالية عجر البلاد التونسية وأيام صعاب تنتظرنا جميعا.

حوار: منى اليحياوي

 

 

الخبير الاقتصادي والمالي راضي المؤدب لـ"الصباح":  هذا الخطأ في قراءة علاقتنا بصندوق النقد.. وما تم الاتفاق بشأنه في زيارة ليبيا يجب أن يفعل فورا

قال الخبير الاقتصادي والمالي راضي المؤدب أن المؤشرات الإيجابية حول زيارة رئيس الحكومة الأخيرة إلي ليبيا هي أولية ولن تتأكد دون المرور إلى تفعيل كل ما تم التصريح به في الزيارة في غضون الاسابيع القليلة القادمة.

واعتبر في حوار مطول مع "الصباح" أن الحل سياسي للوضع المالي الحرج وأنه إذا لم يتم ذلك على امتداد الشهرين المقبلين فيا خيبة المسعى. منتقدا خيار الحكومة بالمضي في معالجة تراكمات سنوات في ظرف وجيز دون الأخذ بعين الاعتبار أهمية التوافق المطلوب مع كل الأطراف الاقتصادية والاجتماعية في البلاد.

وفيما يلي النص الكامل للحوار.

*من منطلق العارف بالشأن الاقتصادي كيف تقيم زيارة ليبيا الأخيرة وهل فعلا ننتظر الخير الكثير كما يروج لذلك؟

ليبيا متنفس طبيعي لتونس منذ عقود على مستوى العلاقات البشرية، على مستوى التواصل بين الشعبين وعلى مستوى التكامل والتواصل الاقتصادي. عندما يقول السياسيون إن أمن ليبيا وسلامتها من أمن تونس وسلامتها ربما تكون فقط رسائل ترسل هكذا لكن في الواقع التكامل والتقارب بين البلدين هو أمر واقع لا جدال فيه منذ عقود.

قبل الثورة كانت العلاقة مع ليبيا في تداخل مع الشأن السياسي عندما يغضب معمر القذافي حينها يستطيع أن يطرد العمال بعشرات الآلاف هذا اضعف الإيمان إذ لم يفبرك مؤامرات على (غرار التدخل في قفصة) وهذه طريقة التعامل بين البلدان المتخلفة ولا تجدها بين البلدان المتقدمة.

لكن تبقى ليبيا رغم ذلك المتنفس الطبيعي لتونس نظرا لثرواتها الطبيعية البترول خاصة وسكانها قليلون وحاجياتها أكبر بكثير من تونس والمسار الاقتصادي والاجتماعي في هذا البلد والخيارات السياسية لم تفض في هذا البلد إلى وجود وتركيز صناعات معملية في مستوى احتياجات البلد وسكانه بينما في تونس هناك شبكة اقتصادية من الشركات المتوسطة والصغرى التي تنتج الكثير من حاجيات المجتمعين التونسي والليبي. وكان دائما تدفق السلع نحو القطر الليبي والمعاملات بين البلدين على أعلى مستوى وقبل الثورة كان الميزان التجاري مع ليبيا من بين القلائل الإيجابية في مستوى تبادل تونس مع بقية دول العالم. وهذا للأسف فقدناه وتراجعنا فيه كثيرا في العشر سنوات الأخيرة بعد الثورة ما أنجر عنه ضعف وتداعيات سلبية في المؤسسة الاقتصادية التونسية في غياب سياسة اقتصادية واضحة في البلد أولا ولغياب ذلك المتنفس الطبيعي لتصدير السلع التونسية المختلفة نحو ليبيا.

إلى جانب هذا العمق الصناعي والاقتصادي يربطنا بليبيا العمق البشري في ظل احتياج ليبيا إلى قوة عاملة ونحن قادرون على تلبية حاجيات السوق الليبية منها بمئات الآلاف من العمال والموظفين ولو يتم ذلك سيخفف كثيرا من وطأة البطالة في تونس.

العمق الثالث مرتبط بإعادة إعمار ليبيا ونحن بالإمكان أن نكون ضمن كوكبة البلدان القادرة على المساهمة والاستفادة من إعادة أعمال ليبيا ويتعين في هذا الصدد ربط علاقات لا فقط مباشرة مع الحكومة الليبية بل ايضا عبر القوى الاقليمية والبلدان الكبرى المتسابقة اليوم على الفوز بعقود إعادة الإعمار ولها الامكانيات المادية والفنية والتكنولوجية التي لا تتوفر لدينا نحن. وتستطيع تونس عرض مزايا تفاضلية هامة على هذه المجموعات الدولية لتشريكها في إعمار ليبيا.

البارحة فقط كنت قادما من باريس وتعطلت الطائرة لأنها كانت بصدد انتظار مجموعة من 46 أمريكيا قادمين من أطلنطا باتجاه ليبيا ولا أظن أنهم قادمون للسياحة بل من أجل مناقشة العقود والفرص المتاحة في ليبيا اليوم.

العمق الآخر هو صحي لاسيما وأن مصحاتنا كانت على امتداد 10 سنوات توفر خدمات للتونسيين والليبيين وتم استقبال الجرحى والمرضى الليبيين وحصلت تجاوزات من قبل بعض المصحات خلفت اشكاليات للأسف واليوم حان الوقت لتجاوزها لاسترجاع الثقة.

والزيارة دون شك تبدو إيجابية لأنها تسير في السياق الذي نحتاجه ونطالب به وقد تساهم في حلحلة أوضاعنا الاقتصادية لكن تظل الزيارة مؤشرا أوليا يحتاج إلى متابعة ونحن للأسف في تونس عادة ما نكتفي بالمؤشرات الإيجابية الاولية ولا نقوم بالعمل الجدي وراء هذا.

*ما المطلوب في تقديرك لبلوغ الغايات والأهداف من زيارة ليبيا الأخيرة؟

كل ما تم التصريح به في هذه الزيارة يجب أن يفعل في ظرف 2 و3 أسابيع القادمة على أقصى تقدير. بمعنى أن الليبي يعامل بنفس الطريقة التي يعامل بها التونسي في تونس والتونسي يعامل في ليبيا بنفس الطريقة التي يعامل بها الليبي يجب أن تبرم اتفاقيات تكون لها قوة القانون وتفعل مباشرة. أيضا إمكانية التمليك لليبي في تونس يجب أن تفعل مباشرة مع ما يتطلبه ذلك من الغاء بعض العراقيل والقوانين البالية من القرن الماضي على غرار رخصة الوالي وغيرها.

*توجه انتقادات كثيرة للقائمين على الشأن الاقتصادي في البلاد اليوم وفي مقدمتهم وزير المالية الذي تحمله عديد الأطراف ومن بينها قيادات في المنظمة الشغيلة مسؤولية خيارات خاطئة وكارثية ..كيف تقيم أداء وزير المالية؟

 

وزير المالية والحكومة بشكل عام ورثوا حالة صعبة جدا وتركة ثقيلة لتراكمات على امتداد عشرات السنين ولا أحد يتمنى أن يرثها ويكون في مكانهم. فعندما يجد وزير مالية نفسه بعد ثلاثة اشهر فقط من تعيينه أمام قانون مالية وجائحة وعجز في الميزانية وفي المؤسسات العمومية وفي الصناديق الاجتماعية.. لن تكون المهمة سهلة ولا يمكن حل هذه المشاكل المتراكمة في ظرف سنتين أو ثلاث سنوات.

وهنا أين كان يجب التريث والاستئناس بما كان يقول الزعيم بورقيبة بأن الأهم قبل المهم ويجب ضبط خطط والتحلي بالشفافية والجرأة في الدفاع على فكرة أنه لا يمكن أن تتم المعالجة في ظرف وجيز لتراكمات حوالي 20 سنة من مشاكل هيكلية في الاقتصاد قبل الثورة وأخرى طارئة بعد الثورة تسببت فيها الإدارة العشوائية والشعبوية لتلك المشاكل.

والحديث عن رفع الدعم عن المحروقات والمواد الاساسية في ظرف سنتين لا يمكن ان يستقيم وهذا مستحيل ونحن نتذكر جيدا، أو ربما هناك من لا يتذكر وهنا الأشكال، بانه في سنة 84 من القرن الماضي حين قال رئيس الحكومة محمد مزالي ستكون الاصلاحات قطاعية وقال حينها شدوا أحزمتكم سيمر سعر الخبز من كذا إلى كذا.. خرجت الناس إلى الشوارع وكانت هناك مظاهرات وصدامات وموتى ثم بورقيبة بحكمته راجع القرار

اليوم عندما يقول المسؤولون أنه سيتم رفع الدعم على كل المواد الاساسية والمحروقات اقول شخصيا لا إلاه إلا الله إذا كان هؤلاء يعرفون جيدا تاريخ تونس.

*على ذكر مسألة رفع الدعم وعلى ضوء الزيادات الأخيرة والمتواترة في المحروقات وأسعار الكهرباء ومؤخرا والصوناد.. هل فعلا مرت الحكومة إلى تنفيذ رفع الدعم وجعله أمرا واقعا وبشكل غير معلن؟

طبعا، ورفع الدعم على الماء الصالح للشرب ومراجعة تسعيرة المياه المشطة وإن لم يتفطن أو يكترث لها المواطن عند صدورها في الرائد الرسمي مؤخرا لكن سيتفاجأ بذلك مع أول فاتورة بعد الزيادات الأخيرة.

بالنسبة للزيادة في سعر المحروقات ورفع الدعم نهائيا سينتج عنه زيادة في كل المواد والسلع فمثلا ستكون هناك زيادة في النقل العمومي في المقابل ماذا أعددنا لتأمين خدمات للمواطن جيدة. ثم إن النقل العمومي هو من بين السياسات العمومية التي تمثل فشل الحكومات المتداولة على السلطة منذ 30 سنة، مستعملو النقل العمومي في تونس "في الشتاء مغروقين وفي الصيف محروقين" في الدول المتقدمة نجد أن المسؤولين في الدولة ورؤساء حكومات يعتمدون النقل العمومي في حين يفر الجميع في تونس منه إلا من لا بديل له عنه.

وهنا اقول انه يجب أن يكون هناك توافق أدنى بين المكونات الاساسية والفاعلة في المجتمع التونسي لاعتماد الإصلاحات المطلوبة.

*يتداول البعض من كواليس المفاوضات مع صندوق النقد الدولي أن هذا الأخير اشترط توافقات داخلية قبل المضي في أي قرار لدعم تونس.. هل تؤكدون ذلك؟

 

صندوق النقد في تقريره لشهر جانفي الذي لم يكن تقرير بداية نقاشات بل هو تقرير تقليدي لان القانون الاساسي للصندوق يجبره في الفصل الرابع على انجاز تقارير سنوية على الوضعية المالية والاقتصادية على كل بلد عضو، قال للحكومة أنه يتعين القيام بإصلاحات كثيرة وهذا رايي فيها وطلب بوضوح أن يكون هناك إجماع بين الفاعلين السياسيين والاقتصاديين والاجتماعيين في تونس على تلك الإصلاحات.

والإجماع يتم عن طريق التبادل الشفاف لكل المعطيات البلاد ليست ملكي ولا ملكك انت هي ملك الجميع ونجن مجبرون على إيجاد الحلول للتعايش السلمي في هذه البلاد.

وبعد تقاسم المعطيات والحقائق حول الوضعية المالية والاقتصادية يتم طرح كل الحلول والبدائل ثم النقاش حولها وتدارس الإيجابيات والسلبيات وجوانب الربح والخسارة لكل طرف ثم التوافق على حل يمثل المجموعة.

لكن عندما تذهب الحكومة إلى واشنطن بوثيقة بـ26 صفحة تم تسريبها من هناك لتعود إلى تونس وفق اقرار السياسيين أنفسهم ومن بينهم "وسادة" رئيس الحكومة، فعن أي إجماع وعن أي مفاوضات نتحدث؟

الاشكال إذن في طريقة التعاطي مع مسالة التشاور وتشريك جميع الفاعلين.

*هل لهذه الأسباب صرح مؤخرا الأمين العام للاتحاد متوجها لوزير المالية بالقول إن صندوق النقد الدولي لم يمنحكم أي مليم.. بمعنى أن الإجماع يبدو صعبا حول طرح الحكومة المقدم لصندوق النقد؟

يجب أن يكون الطرح معقولا ليُقبل ولا يكون ذلك إلا بالنقاش والحجة مقابل الحجة وبالأرقام؟

*عذرا لكن ألم يتم ذلك في الاجتماعات الأخيرة في بيت الحكمة والحديث عن انطلاق حوار اقتصادي واجتماعي بمشاركة الاتحاد والأعراف.. فهل كان ذلك فقط للتسويق أو بنوايا غير بريئة من الحكومة؟

 

لا أقول أن النوايا لم تكن بريئة.. لكن لم تكن المشاورات في العمق فذلك كان يتطلب وجود تخطيط وطرح بدائل مع معرفة دقيقة لكل التداعيات المحتملة.. ثم نحن لنا ثقافة الكلام أكثر من الأمور العملية ونجتمع فقط للاستماع لبعضنا البعض دون الخروج بوثيقة عمل.

وهذا ما طالب به صندوق النقد عند لقاء الوفد التونسي حيث طلب خططا مفصلة وبرامج مضبوطة وآجالا محددة لم تكن موجودة في وثيقة 26 صفحة المقدمة.

وهل يمكن تصور انه تم عرض الوثيقة على اجتماعات بيت الحكمة في حضور الاتحاد وتم عرض مسالة هامة مثل التزام التخفيض في كتلة الأجور من 17 بالمائة إلى 15 بالمائة بداية من السنة الحالية خاصة وان الاتحاد شرع بالمطالبة بفتح المفاوضات حول الزيادة في الأجور تزامنا مع المفاوضات مع صندوق النقد؟

*إذن بماذا تفسر سياسة الهروب إلى الأمام التي تعتمدها الحكومة إن صح التعبير؟

الحكومة أمام وضع مالي دقيق جدا.. وإذا لم تجد حلولا لبعض المشاكل المالية في الشهرين القادمين.. البلاد تسير نحو الافلاس وهذه مسؤوليتها وهذا ما يخيف الحكومة.. لكن في السياسة لا يوجد حل وحيد فإذا لم يكن هناك تشارك وتوافق و"كل واحد يطيح من قرنو شوي" لنستطيع التقدم والوصول إلى حلول.. في السياسة كل طرف يبحث عن الحل من منطلقه هو ولذلك كنت دائما أقول أن الاقتصاد ليس علما وإنما هو خدمة لسياسة معينة.

*لكن هل يمكن اليوم الذهاب في هذا الخيار التوافقي حول سياسة محددة وتفعيل الدعوات المعلقة لحوار اقتصادي واجتماعي يخرج البلاد من دوامة الأزمة ويجمع حول الإصلاحات؟

عندما طرح الاتحاد مبادرته في شهر نوفمبر نشر حينها بشير بن أحمد مؤسس جون أفريك مقالا أكد فيه أنه لن يتم هذا الحوار لأنه كان جليا بأن "كل واحد شيطانو في جيبو" ولا أحد يرغب في الحوار الوطني واليوم تشعب الوضع أكثر فأكثر.

اليوم نتحدث عن نصف حكومة وأكثر الوزارات بالنيابة ورئيس الجمهورية قرر أن لا يمضي عديد القوانين التي يمررها مجلس نواب الشعب.. وحقيقة لا أعرف ماهو الحل دستوريا..

في نقاش مؤخرا مع صديق فرنسي قال لي أنه حصل ذلك في فرنسا عام 86 في عهد ميتيرون عندما اضطر للتعايش مع حكومة يمينية بقيادة شيراك وأخذت حينها الحكومة على عاتقها تمرير القوانين عبر مراسيم لكن يجب على رئيس الجمهورية ان يوقع على تلك المراسيم ورفض ذلك.. وعندما سألته كيف خرجتم من المأزق قال لي أنه في النهاية أضطر الطرفان اي رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة للجلوس معا والخروج بحل لأنهما فهما أن مصلحة البلاد فوق كل اعتبار.

*هل تعتقد أن ذلك ممكن اليوم في تونس وتونس على مشارف أخطر فترة في تاريخها؟

كما قال محافظ البنك المركزي مؤخرا في مجلس النواب الحلول لا يمكن أن تكون إلا سياسية.. وإذا لم يتم التدارك في ظرف الشهرين القادمين فيا خيبة المسعى.

*تزامنا مع النقاشات الدائرة حاليا هل سيمضي صندوق النقد الدولي في خيار دعم تونس؟

صندوق النقد الدولي سيخوض نقاشات مفصلة مع الحكومة التونسية وسيلزمها بالتعريف بوضوح بكل الخيارات الاقتصادية المقدمة وهذا سيتطلب بعض الوقت لكن في نهاية المطاف سيستجيب لكن لا أتصور أنه سيقدم الـ4 مليار دولار التي تطلبها الحكومة لأنه ليس من دوره تمويل الميزانية بل هو يواكب الإصلاحات لمعالجة عجر الميزانيات وأعتقد أن هذا الخطأ في قراءة علاقتنا بصندوق النقد الدولي.

*كيف تقيم أداء رئاسة الجمهورية في علاقة بدوره الدبلوماسي ومسألة الدبلوماسية الاقتصادية على ضوء تصريحاته الأخيرة من فرنسا وما أثارته من جدل.؟

رئيس الجمهورية تم انتخابه بحصة ليس لها مثيل في تاريخ تونس مما اعطاه شرعية قوية.. لكن هذا يضع على كاهله مسؤولية كبرى ويجب ان يكون في مستوى شرعيته.. رئيس الجمهورية لم يخف ان له مشروعا واضحا وهو مشروع مؤسساتي وإعادة تركيب المؤسسات والدستور أخشى ما أخشاه أن الرئيس يظن أنه سيجبر مجلس نواب الشعب على قبول فكرته بإظهار عجز المنظومة الحالية.

في عجر المنظومة الحالية عجر البلاد التونسية وأيام صعاب تنتظرنا جميعا.

حوار: منى اليحياوي

 

 

  Conception & Réalisation  Alpha Studios Copyright © 2023  assabahnews