إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

الأزمة التونسية المغربية : ذكاء دبلوماسي أم تغير في ثوابت العلاقات الخارجية ؟

بقلم: نوفل سلامة

يبدو أن مؤتمر اليابان الدولي الثامن لتنمية إفريقيا "تيكاد 8" لم يكن حدثا اقتصاديا فحسب تعمل من خلاله اليابان على أن يكون لها موطئ قدم ثابت في القارة السمراء من بوابة الاستثمار في هذه الدول التي تحولت إلى ميدان تسابق وتنافس بين القوى الكبرى للظفر بأكبر قدر من المشاريع لتجني من ورائها عائدات مالية هي اليوم في حاجة اليها أمام تفاقم الأزمات التي باتت تهدد وجودها، كما أن هذا المؤتمر لم يكن فرصة للدول الإفريقية وفي مقدمتهم تونس للظفر بقدر من المشاريع الاستثمارية وبقدر من التمويلات لتحقيق جوانب من التنمية التي تحتاجها خاصة في قطاعات تتطلب تمويلات كبيرة حيث أثبت هذا المؤتمر أنه إلى جانب هذه الرغائب الاقتصادية فهو كذلك حدث سياسي بامتياز بل لعل الجانب السياسي فيه قد طغى على الغاية الأصلية وافتك الأضواء من الاقتصاد والاستثمار بعد أن حول الاستقبال الرسمي الذي حظى به زعيم جبهة البوليزاريو من طرف رئيس الجمهورية قيس سعيد الذي خص ضيفه باستقبال حار أنظار المتابعين لهذا المؤتمر الدولي واهتمامهم من الجوانب الاقتصادية إلى الموقف السياسي الحاد الذي اتخذته المغرب في ملف سياسي حساس تجاه ما اعتبرته اصطفافا من جانب الدولة التونسية مع الجزائر في قضية الصحراء الغربية التي تعدها الرباط خطا أحمر في تحديد علاقاتها الخارجية والقضية التي تضبط من خلالها شراكتها وتعاونها مع الدول الأخرى.

فهل كان خطأ دبلوماسيا ما قام به الرئيس قيس سعيد من استقبال لزعيم جبهة البوليزاريو بتلك الصفة والطريقة التي توحي باعتراف رسمي بدولة الصحراء الغربية في الوقت الذي كانت فيه الدبلوماسية التونسية إزاء هذه القضية الخلافية على ثبات في موقفها الحيادي ؟ وهل يمكن اعتبار هذا السلوك السياسي من قبل الدولة التونسية تغيرا في التفكير الدبلوماسي إزاء قضية الصحراء الغربية بما يجعلها تخرج عن موقفها القديم نحو تبني موقف جديد يميل أكثر إلى الاعتراف بالصحراء الغربية دولة مستقلة وبذلك تكون تونس قد خرجت عن الحياد التاريخي نحو اصطفاف مع الجزائر وانضمام الى حلف جديد يضم الى جانب الجزائر كل من روسيا والصين و الدول الإفريقية ؟

إن أصل المشكل أن المغرب غاضبة مما حصل مع زعيم البوليزاريو ليس بسبب حضوره هذه القمة اليابانية في تونس ذلك أن ممثل الصحراء الغربية قد سبق له ن حضر قي قمم تيكاد السابقة وإنما التحفظ كان بسبب طريقة الاستقبال الرسمية التي تعبر عن اعتراف رسمي بدولة البوليزاريو وهي مسألة تعدها المغرب خطا أحمر في علاقاتها الخارجية وفي رسم الصداقات والشراكات مع دول الجوار ومختلف الدول الأخرى. والسؤال اليوم هل غيرت تونس موقفها من الخلاف الجزائري المغربي بخصوص قضية الصحراء الغربية ؟ وما هي مبررات هذا التغير في علاقاتها الخارجية ؟

بداية لا بد من التذكير بأن العلاقات التونسية المغربية لم تكن مند حصول الدولتين على استقلالهما في أواسط الخمسينات من القرن الماضي في أفضل أحوالها وأن هذه العلاقة في زمن الرئيس الحبيب بورقية والملك الحسن الثاني قد عرفت الكثير من الأعطاب وقد تواصلت هذه العاطب لسنوات كثيرة قبل أن تعود المياه إلى مجاريها في سنوات الستين من القرن الماضي. ويذكر أستاذ العلوم السياسية والباحث في علم الاجتماع وفي التاريخ الألماني "فيرنر روف" "في كتابه" البورقيبية والسياسة الخارجية لتونس المستقلة وهو عبارة عن رسالة دكتوراه كان قد انجزها حول السياسة الخارجية للدولة التونسية خلال سنوات 1972 و1975 والمواقف التي اتخذتها الدولة التونسية ممثلة في مواقف الرئيس بورقيبة من كبرى القضايا الحارقة التي كانت مطروحة آنذاك بعد أن فتحت له الدولة التونسية أبوابها للولوج إلى أرشيف الحزب الدستوري وكل الأرشيف الوطني وقام بترجمة الكتاب من الألمانية إلى اللغة العربية الأستاذ الصحبي ثابت أستاذ علم الاجتماعي و المتخصص في الأدب الناطق باللغة الألمانية سنة 2011 عن منشورات المعهد التونسي للعلاقات الدولية ، أن العلاقات بين البلدين كانت منذ البدء متوترة والدبلوماسية التونسية تخطو خطواتها الأولى في تشكلها وفي بداية بلورة نظرية دبلوماسية للدولة التونسية المستقلة وضبط محددات المواقف الخارجية من مختلف القضايا المطروحة إفريقيا وعربيا وعالميا بما في ذلك القضايا المحلية حيث عمد الرئيس الحبيب بورقيبة إلى بلورة كل أفكاره في نوع من العقيدة الثابتة بخصوص الموقف من المستعمرات الفرنسية في إفريقيا ومن قضايا التحرر في العالم ومن مسألة تقرير المصير للكثير من الشعوب التي لازالت تحت الاستعمار وتناضل من أجل استقلالها والطموح الكبير الذي كان يحدو الزعيم بورقيبة في تزعم جبهة إفريقية وعربية لمواجهة مختلف القضايا الحساسة في علاقة بالتدخل الأجنبي وفي تقرير مصير الشعوب المستعمرة وفي موضوع فك ارتباط الدول المستقلة عن مستعمرها القديم وتفكيك ما تبقى منه وفي رسم سياسة خارجية في علاقة بالدول الاستعمارية كل هذه القضايا قد جلبت له الكثير من العداء والخلاف مع زعماء عرب كان لهم ثقلهم الواضح في مجريات الأحداث ويحدوهم حب الظهور والزعامة و الرغبة في قيادة مرحلة ما بعد الاستقلال وقد كان بورقيبة والحسن الثاني يتنافسان منذ سنة 1957 حول من يقود الجبهة السياسية لمعاضدة دول القارة السمراء فيما تعرفه من تخلف واستعمار وهذا ما جعل العلاقة بين البلدين تعرف فتورا كبيرا إن لم نقل تنازعا واختلافا وأول هذه القضايا التي شكلت نقطة خلاف حاد بين البلدين الوساطة بين فرنسا وجبهة التحرير الوطنية الجزائرية حيث ظهرت نية كل زعيم في قيادة هذه الوساطة. ثاني القضايا التي عمقت الأزمة بين بورقيبة والحسن الثاني كانت المشاورات بخصوص بيع الفسفاط المادة التي وضعت لها فرنسا الاستعمارية نظاما ضريبيا يفرض على البلدين التقيد بكمية بيع محددة وبأسعار مستقرة لا يمكن الخروج عنها وهي السياسة التي أراد ملك المغرب بداية من سنة 1959 التمرد عليها والذهاب نحو تحرير بيعه لهذه المادة من حيث تسقيف الأسعار وتحديد الكمية المباعة الإجراء الذي رأت فيه تونس أنه يضر بمصالحها في الأسواق العالمية.

المسألة الثالثة التي زادت في تعميق الخلاف كانت القضية الموريتانية ومسألة استقلال هذا البلد حيث يعتبر المغرب أن هذه الأرض هي تابعة لها وهي جزء من المغرب التاريخية وبالتالي فقد أعلنت المغرب أياما قليلة بعد استقلالها عن أحقيتها على هذه المنطقة التي توجد بها ثروة سمكية هائلة مع تواجد مناجم كبرى لإنتاج الحديد حيث كان الموقف التونسي مع استقلال موريتانيا ومع حق هذا الشعب في الاستقلال عن المستعمر الفرنسي وتقرير مصيره بمفرده من دون تدخل من أي جهة كانت وقد كان بورقيبة في هذا الموقف ينتصر إلى المبادئ الإنسانية الكبرى التي كانت مهيمنة في تلك المرحلة من التاريخ وهي مساندة حركات التحرر في العالم و حق الشعوب في تقرير المصير وحقها في الاستقلال وإنهاء الاحتلال وهذا ما جعله لا يرضخ لتوسلات الحسن الثاني بمساندة المغرب اللامشروطة في اعتبار موريتانيا جزءا من المغرب ويعلن موقفا واضحا مساندا لاستقلال موريتانيا.

إذن هذا هو تاريخ العلاقات بين البلدين وهي علاقة عرفت في فترات طويلة فتورا وعدم انسجام إلى حدود سنة 1964 لتعرف نوعا من الاستقرار خاصة في موقف تونس من قضية الصحراء الغربية والخلاف الجزائري المغربي والذي مال فيه بورقيبة إلى الحياد والمحافظة على علاقة متوازنة مع الجارتين الجزائر والمغرب من دون ميل إلى أي من الطرفين ولكن اليوم الرئيس قيس سعيد يعتبر أن الزمن البورقيبي قد انتهى وأن العالم الذي تشكل في خمسينات القرن الماضي قد ولى وأن الظروف والملابسات التي كانت تتحكم في تحديد السياسة الخارجية التونسية قد تغيرت هي الأخرى وأن ما كان يعتبر مبادئ ثابتة وعقيدة في النظرية الدبلوماسية لم يعد كذلك بعد أن تغيرت المعادلات والمحاور وتغيرت التوازنات السياسية وتغيرت المصالح وهذا ما يدعو إلى زحزحة المواقف القديمة نحو مواقف أخرى أكثر جدوى في إطار نظرية المقاصد التي يتبناها الرئيس قيس سعيد في الموازنة بين المصلحة والمفسدة وبين ما هو ضار وما هو نافع واليوم يتضح أن التموقع في الحلف الجزائري الروسي الصيني هو الأجدى وأن الاصطفاف إلى جانب الجزائر أولى من البقاء على الحياد السلبي الذي لم يخدم البلاد ولم يقدم شيئا لبناء المغرب العربي خاصة وأن فكرة بناء هذا الاتحاد قد قبرت منذ زمن طويل وبقيت حلما وفي عداد الماضي مما يدعو إلى التفكير في صيغ تعاون أخرى وطرق اندماج مختلفة تكون أكثر نفعا للبلاد.

إن المشكل الذي يطرحه مثل هذا التحليل وهذا الموقف الذي شكل خروجا بشكل غير مسبوق عن موقف الحياد الذي حافظت عليه الدبلوماسية التونسية لفترة زمنية طويلة تجاه قضية الصحراء الغربية واعتبر موقفا رصينا وعقلانيا في كونه قد أحدث أزمة مع المغرب تونس في غير حاجة إليها مما يطرح السؤال حول ما إذا كان من الضروري أن تتخذ تونس مثل هذا الموقف؟ وهل من الضروري أن يمر هذا التحول في النظرة إلى قضية الصحراء الغربية عبر المواجهة مع المغرب الذي من المؤكد أنه سوق يخلف تصعيدا في حالة التوتر وتداعيات في قادم الأيام علما وأن هذا الموقف ليس محل اجماع وطني واتخاذه لم يكن بعد تشاور داخلي وكان بإرادة منفردة مما يطرح السؤال الآخر هل هذا الموقف الجديد هو موقف الدولة التونسية أم موقف الرئيس قيس سعيد ؟

والمشكل الآخر يطرحه السؤال التالي هل استعدت تونس جيدا لتغيير موقفها من قضية الصحراء الغربية خاصة في تداعياته على وضع البلدين والشعبين التونسي والمغربي علما و أن النظرية التي حافظت عليها تونس في علاقتها الخارجية هي الإبقاء على ارتباطات سلمية مع الجميع وعدم الدخول في خلافات جانبية لا تجني منها أية فائدة والابتعاد قدر الإمكان عن فكرة الاصطفاف ولعبة المحاور القائمة على ثنائية الأصدقاء والأعداء وهنا يطرح السؤال حول الفائدة التي نجنيها من وراء معاداة المغرب وخلق مشكلة معها دون موجب وماذا تجنيه تونس حينما تصطف مع الجزائر وتخرج عن موقف الحياد الذي لازم الدبلوماسية التونسية ؟ وأخيرا فإنه من الثابت أنه ليس من العيب ولا من الخطأ أن تغير الدول قناعاتها ومواقفها بناء على تغير في المعطيات ولكن من الخطأ أن يتم هذا التغير بطريقة مرتجلة ومتسرعة ودون قراءة الحسابات والتداعيات خاصة وأن صياغة عقيدة دبلوماسية جديدة يحتاج إلى تفكير عميق ومراعاة لكل الاحتمالات والممكنات . فهل ما حصل هو خطأ دبلوماسي أم موقف صائب فرضته التحولات الاقليمية والمصلحة الوطنية التي تحتاج اليوم إلى الجزائر اكثر من احتياجها إلى المغرب.

.

 

 

 

الأزمة التونسية المغربية : ذكاء دبلوماسي أم تغير في  ثوابت العلاقات الخارجية ؟

بقلم: نوفل سلامة

يبدو أن مؤتمر اليابان الدولي الثامن لتنمية إفريقيا "تيكاد 8" لم يكن حدثا اقتصاديا فحسب تعمل من خلاله اليابان على أن يكون لها موطئ قدم ثابت في القارة السمراء من بوابة الاستثمار في هذه الدول التي تحولت إلى ميدان تسابق وتنافس بين القوى الكبرى للظفر بأكبر قدر من المشاريع لتجني من ورائها عائدات مالية هي اليوم في حاجة اليها أمام تفاقم الأزمات التي باتت تهدد وجودها، كما أن هذا المؤتمر لم يكن فرصة للدول الإفريقية وفي مقدمتهم تونس للظفر بقدر من المشاريع الاستثمارية وبقدر من التمويلات لتحقيق جوانب من التنمية التي تحتاجها خاصة في قطاعات تتطلب تمويلات كبيرة حيث أثبت هذا المؤتمر أنه إلى جانب هذه الرغائب الاقتصادية فهو كذلك حدث سياسي بامتياز بل لعل الجانب السياسي فيه قد طغى على الغاية الأصلية وافتك الأضواء من الاقتصاد والاستثمار بعد أن حول الاستقبال الرسمي الذي حظى به زعيم جبهة البوليزاريو من طرف رئيس الجمهورية قيس سعيد الذي خص ضيفه باستقبال حار أنظار المتابعين لهذا المؤتمر الدولي واهتمامهم من الجوانب الاقتصادية إلى الموقف السياسي الحاد الذي اتخذته المغرب في ملف سياسي حساس تجاه ما اعتبرته اصطفافا من جانب الدولة التونسية مع الجزائر في قضية الصحراء الغربية التي تعدها الرباط خطا أحمر في تحديد علاقاتها الخارجية والقضية التي تضبط من خلالها شراكتها وتعاونها مع الدول الأخرى.

فهل كان خطأ دبلوماسيا ما قام به الرئيس قيس سعيد من استقبال لزعيم جبهة البوليزاريو بتلك الصفة والطريقة التي توحي باعتراف رسمي بدولة الصحراء الغربية في الوقت الذي كانت فيه الدبلوماسية التونسية إزاء هذه القضية الخلافية على ثبات في موقفها الحيادي ؟ وهل يمكن اعتبار هذا السلوك السياسي من قبل الدولة التونسية تغيرا في التفكير الدبلوماسي إزاء قضية الصحراء الغربية بما يجعلها تخرج عن موقفها القديم نحو تبني موقف جديد يميل أكثر إلى الاعتراف بالصحراء الغربية دولة مستقلة وبذلك تكون تونس قد خرجت عن الحياد التاريخي نحو اصطفاف مع الجزائر وانضمام الى حلف جديد يضم الى جانب الجزائر كل من روسيا والصين و الدول الإفريقية ؟

إن أصل المشكل أن المغرب غاضبة مما حصل مع زعيم البوليزاريو ليس بسبب حضوره هذه القمة اليابانية في تونس ذلك أن ممثل الصحراء الغربية قد سبق له ن حضر قي قمم تيكاد السابقة وإنما التحفظ كان بسبب طريقة الاستقبال الرسمية التي تعبر عن اعتراف رسمي بدولة البوليزاريو وهي مسألة تعدها المغرب خطا أحمر في علاقاتها الخارجية وفي رسم الصداقات والشراكات مع دول الجوار ومختلف الدول الأخرى. والسؤال اليوم هل غيرت تونس موقفها من الخلاف الجزائري المغربي بخصوص قضية الصحراء الغربية ؟ وما هي مبررات هذا التغير في علاقاتها الخارجية ؟

بداية لا بد من التذكير بأن العلاقات التونسية المغربية لم تكن مند حصول الدولتين على استقلالهما في أواسط الخمسينات من القرن الماضي في أفضل أحوالها وأن هذه العلاقة في زمن الرئيس الحبيب بورقية والملك الحسن الثاني قد عرفت الكثير من الأعطاب وقد تواصلت هذه العاطب لسنوات كثيرة قبل أن تعود المياه إلى مجاريها في سنوات الستين من القرن الماضي. ويذكر أستاذ العلوم السياسية والباحث في علم الاجتماع وفي التاريخ الألماني "فيرنر روف" "في كتابه" البورقيبية والسياسة الخارجية لتونس المستقلة وهو عبارة عن رسالة دكتوراه كان قد انجزها حول السياسة الخارجية للدولة التونسية خلال سنوات 1972 و1975 والمواقف التي اتخذتها الدولة التونسية ممثلة في مواقف الرئيس بورقيبة من كبرى القضايا الحارقة التي كانت مطروحة آنذاك بعد أن فتحت له الدولة التونسية أبوابها للولوج إلى أرشيف الحزب الدستوري وكل الأرشيف الوطني وقام بترجمة الكتاب من الألمانية إلى اللغة العربية الأستاذ الصحبي ثابت أستاذ علم الاجتماعي و المتخصص في الأدب الناطق باللغة الألمانية سنة 2011 عن منشورات المعهد التونسي للعلاقات الدولية ، أن العلاقات بين البلدين كانت منذ البدء متوترة والدبلوماسية التونسية تخطو خطواتها الأولى في تشكلها وفي بداية بلورة نظرية دبلوماسية للدولة التونسية المستقلة وضبط محددات المواقف الخارجية من مختلف القضايا المطروحة إفريقيا وعربيا وعالميا بما في ذلك القضايا المحلية حيث عمد الرئيس الحبيب بورقيبة إلى بلورة كل أفكاره في نوع من العقيدة الثابتة بخصوص الموقف من المستعمرات الفرنسية في إفريقيا ومن قضايا التحرر في العالم ومن مسألة تقرير المصير للكثير من الشعوب التي لازالت تحت الاستعمار وتناضل من أجل استقلالها والطموح الكبير الذي كان يحدو الزعيم بورقيبة في تزعم جبهة إفريقية وعربية لمواجهة مختلف القضايا الحساسة في علاقة بالتدخل الأجنبي وفي تقرير مصير الشعوب المستعمرة وفي موضوع فك ارتباط الدول المستقلة عن مستعمرها القديم وتفكيك ما تبقى منه وفي رسم سياسة خارجية في علاقة بالدول الاستعمارية كل هذه القضايا قد جلبت له الكثير من العداء والخلاف مع زعماء عرب كان لهم ثقلهم الواضح في مجريات الأحداث ويحدوهم حب الظهور والزعامة و الرغبة في قيادة مرحلة ما بعد الاستقلال وقد كان بورقيبة والحسن الثاني يتنافسان منذ سنة 1957 حول من يقود الجبهة السياسية لمعاضدة دول القارة السمراء فيما تعرفه من تخلف واستعمار وهذا ما جعل العلاقة بين البلدين تعرف فتورا كبيرا إن لم نقل تنازعا واختلافا وأول هذه القضايا التي شكلت نقطة خلاف حاد بين البلدين الوساطة بين فرنسا وجبهة التحرير الوطنية الجزائرية حيث ظهرت نية كل زعيم في قيادة هذه الوساطة. ثاني القضايا التي عمقت الأزمة بين بورقيبة والحسن الثاني كانت المشاورات بخصوص بيع الفسفاط المادة التي وضعت لها فرنسا الاستعمارية نظاما ضريبيا يفرض على البلدين التقيد بكمية بيع محددة وبأسعار مستقرة لا يمكن الخروج عنها وهي السياسة التي أراد ملك المغرب بداية من سنة 1959 التمرد عليها والذهاب نحو تحرير بيعه لهذه المادة من حيث تسقيف الأسعار وتحديد الكمية المباعة الإجراء الذي رأت فيه تونس أنه يضر بمصالحها في الأسواق العالمية.

المسألة الثالثة التي زادت في تعميق الخلاف كانت القضية الموريتانية ومسألة استقلال هذا البلد حيث يعتبر المغرب أن هذه الأرض هي تابعة لها وهي جزء من المغرب التاريخية وبالتالي فقد أعلنت المغرب أياما قليلة بعد استقلالها عن أحقيتها على هذه المنطقة التي توجد بها ثروة سمكية هائلة مع تواجد مناجم كبرى لإنتاج الحديد حيث كان الموقف التونسي مع استقلال موريتانيا ومع حق هذا الشعب في الاستقلال عن المستعمر الفرنسي وتقرير مصيره بمفرده من دون تدخل من أي جهة كانت وقد كان بورقيبة في هذا الموقف ينتصر إلى المبادئ الإنسانية الكبرى التي كانت مهيمنة في تلك المرحلة من التاريخ وهي مساندة حركات التحرر في العالم و حق الشعوب في تقرير المصير وحقها في الاستقلال وإنهاء الاحتلال وهذا ما جعله لا يرضخ لتوسلات الحسن الثاني بمساندة المغرب اللامشروطة في اعتبار موريتانيا جزءا من المغرب ويعلن موقفا واضحا مساندا لاستقلال موريتانيا.

إذن هذا هو تاريخ العلاقات بين البلدين وهي علاقة عرفت في فترات طويلة فتورا وعدم انسجام إلى حدود سنة 1964 لتعرف نوعا من الاستقرار خاصة في موقف تونس من قضية الصحراء الغربية والخلاف الجزائري المغربي والذي مال فيه بورقيبة إلى الحياد والمحافظة على علاقة متوازنة مع الجارتين الجزائر والمغرب من دون ميل إلى أي من الطرفين ولكن اليوم الرئيس قيس سعيد يعتبر أن الزمن البورقيبي قد انتهى وأن العالم الذي تشكل في خمسينات القرن الماضي قد ولى وأن الظروف والملابسات التي كانت تتحكم في تحديد السياسة الخارجية التونسية قد تغيرت هي الأخرى وأن ما كان يعتبر مبادئ ثابتة وعقيدة في النظرية الدبلوماسية لم يعد كذلك بعد أن تغيرت المعادلات والمحاور وتغيرت التوازنات السياسية وتغيرت المصالح وهذا ما يدعو إلى زحزحة المواقف القديمة نحو مواقف أخرى أكثر جدوى في إطار نظرية المقاصد التي يتبناها الرئيس قيس سعيد في الموازنة بين المصلحة والمفسدة وبين ما هو ضار وما هو نافع واليوم يتضح أن التموقع في الحلف الجزائري الروسي الصيني هو الأجدى وأن الاصطفاف إلى جانب الجزائر أولى من البقاء على الحياد السلبي الذي لم يخدم البلاد ولم يقدم شيئا لبناء المغرب العربي خاصة وأن فكرة بناء هذا الاتحاد قد قبرت منذ زمن طويل وبقيت حلما وفي عداد الماضي مما يدعو إلى التفكير في صيغ تعاون أخرى وطرق اندماج مختلفة تكون أكثر نفعا للبلاد.

إن المشكل الذي يطرحه مثل هذا التحليل وهذا الموقف الذي شكل خروجا بشكل غير مسبوق عن موقف الحياد الذي حافظت عليه الدبلوماسية التونسية لفترة زمنية طويلة تجاه قضية الصحراء الغربية واعتبر موقفا رصينا وعقلانيا في كونه قد أحدث أزمة مع المغرب تونس في غير حاجة إليها مما يطرح السؤال حول ما إذا كان من الضروري أن تتخذ تونس مثل هذا الموقف؟ وهل من الضروري أن يمر هذا التحول في النظرة إلى قضية الصحراء الغربية عبر المواجهة مع المغرب الذي من المؤكد أنه سوق يخلف تصعيدا في حالة التوتر وتداعيات في قادم الأيام علما وأن هذا الموقف ليس محل اجماع وطني واتخاذه لم يكن بعد تشاور داخلي وكان بإرادة منفردة مما يطرح السؤال الآخر هل هذا الموقف الجديد هو موقف الدولة التونسية أم موقف الرئيس قيس سعيد ؟

والمشكل الآخر يطرحه السؤال التالي هل استعدت تونس جيدا لتغيير موقفها من قضية الصحراء الغربية خاصة في تداعياته على وضع البلدين والشعبين التونسي والمغربي علما و أن النظرية التي حافظت عليها تونس في علاقتها الخارجية هي الإبقاء على ارتباطات سلمية مع الجميع وعدم الدخول في خلافات جانبية لا تجني منها أية فائدة والابتعاد قدر الإمكان عن فكرة الاصطفاف ولعبة المحاور القائمة على ثنائية الأصدقاء والأعداء وهنا يطرح السؤال حول الفائدة التي نجنيها من وراء معاداة المغرب وخلق مشكلة معها دون موجب وماذا تجنيه تونس حينما تصطف مع الجزائر وتخرج عن موقف الحياد الذي لازم الدبلوماسية التونسية ؟ وأخيرا فإنه من الثابت أنه ليس من العيب ولا من الخطأ أن تغير الدول قناعاتها ومواقفها بناء على تغير في المعطيات ولكن من الخطأ أن يتم هذا التغير بطريقة مرتجلة ومتسرعة ودون قراءة الحسابات والتداعيات خاصة وأن صياغة عقيدة دبلوماسية جديدة يحتاج إلى تفكير عميق ومراعاة لكل الاحتمالات والممكنات . فهل ما حصل هو خطأ دبلوماسي أم موقف صائب فرضته التحولات الاقليمية والمصلحة الوطنية التي تحتاج اليوم إلى الجزائر اكثر من احتياجها إلى المغرب.

.

 

 

 

  Conception & Réalisation  Alpha Studios Copyright © 2023  assabahnews