إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

رئيس المرصد التونسي للتعليم لـ"الصباح": المدرسة العمومية أصبحت عاجزة تماما عن ضمان تكافؤ الفرص بين تلاميذها

 

تونس-الصباح

لئن نص القانون التوجيهي للتربية والتعليم على مبدأ تكافؤ الفرص وضمن لجميع تلاميذ المدرسة العمومية في تونس التعلمات المتصلة باللغات والعلوم والتكنولوجيا والإنسانيات والاجتماعيات والفنون فضلا عن التربية البدنية والرياضية، فإن الاختلاف الملحوظ في أنساق التعلم بينهم أصبح خلال السنوات القليلة الماضية ظاهرة تبعث على انشغال المهتمين بالشأن التربوي. فالقانون التوجيهي نص على وجوبية تعلم اللغة العربية في كافة المراحل تعلما يضمن حذقها وإتقانها بما يمكن من التعامل بها ومعها باعتبارها أداة تواصل وتثقيف ومن استعمالها تحصيلا وإنتاجا في مختلف مجالات المعرفة، وكذلك على وجوبية تعلم اللغات الأجنبية منذ المرحلة الأولى للتعليم باعتبارها أدوات تواصل وسبيلا للاطلاع المباشر على إنتاج الفكر العالمي من تقنيات ونظريات علمية وقيم حضارية، ونص القانون المذكور على أن تدرس مادة الرياضيات والعلوم بهدف تمكين المتعلمين من مختلف أشكال التفكير العلمي وتعويدهم على ممارسة أنواع الاستدلال والبرهنة وإكسابهم كفايات حل المسائل وتأويل الظواهر الطبيعية والإنسانية، أما التكنولوجيا فهي تدرس بهدف تمكين المتعلمين من فهم المحيط التكنولوجي الذي يعيشون فيه ومن إدراك أهمية استعمال التقنيات في النشاط الاقتصادي والاجتماعي، في حين يمكن تدريس الاجتماعيات والإنسانيات من إكساب المتعلمين المعارف التي تنمي فيهم ملكة النقد وتساعدهم على فهم تنظيم المجتمعات وتطورها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي، ويساعد تدريس الفنون على تطوير ذكاء المتعلمين وتنمية حسهم الجمالي من خلال تدريبهم على تعاطي أهم الأنشطة الفنية ومن خلال اطلاعهم على أعمال المبدعين في تنوع أشكال تعبيرها وتعدد وسائلها واختلاف حقبها التاريخية، أما التربية البدنية والرياضية فهي تمثل جزءا من العملية التربوية لكونها تساهم في إكساب المتعلمين القدرة على المثابرة والمداومة ومغالبة النفس وتنمي لديهم السعي إلى التفوق وتساعد على تنمية ثقتهم بأنفسهم وتكوين شخصياتهم  تكوينا متكاملا ومتوازنا.. وبالتالي فإنه محمول على المدرسة العمومية بموجب القانون، أن تضمن لجميع تلاميذها الحصول على هذه التعلمات وهي ملزمة باحترام مبدأ تكافؤ الفرص بينهم، ولكنها في السنوات الأخيرة أصبحت عاجزة على توفير تعليم عادل، ففي نفس الفصل وعند تقديم نفس الدرس يجد المربي أمامه تلاميذ على درجة عالية من الجاهزية والتمكن من المادة التي يدرسها لهم، ويجد تلاميذ يعانون من نقص فادح في التحصيل ومن محدودية طاقة الاستيعاب والتركيز، الأمر الذي يجعله غير قادر على مواكبة نسق تعلم جميع تلاميذه على النحو المطلوب لأن الوقت المتاح لتقديم الدرس غير كاف ولا يسمح له بمعالجة مشكلات التعلم لدى كل فرد منهم ولأنه ملزم بإنهاء البرنامج في الآجال..

ولفهم هذه الظاهرة ومعرفة أسبابها وتداعياتها على المدرسة العمومية اتصلت "الصباح" بمصطفى الفرشيشي رئيس المرصد التونسي للتعليم ورئيس الجمعية الوطنية للأولياء والمربين الذي أكد أن جمعيته أثارت هذا المشكل التربوي عديد المرات خلال الندوات واللقاءات العلمية التي عقدتها وزارة التربية لتدارس ملف الإصلاح التربوي ونبهت إلى خطورته لكن الوزارة لم تمنح المسألة العناية التي تستحق.

وبين أن المدرسة العمومية قامت منذ بداية نشأتها على مبدأ الإنصاف وتكافؤ الفرص، فالقانون التربوي لسنة 1958  وهو القانون الذي تمخض عن الإصلاح التربوي الذي تم القيام به في عهد وزير التربية الراحل محمود المسعدي نص على هذا المبدأ، وقد حرصت المدرسة العمومية على مدى عقود على احترامه، لكن للأسف في السنوات الأخيرة لم يعد هدا المبدأ محترم، ويعود السبب حسب رأيه إلى تملص الحكومات المتعاقبة من مسؤولياتها في المحافظة على أسس المدرسة العمومية وتأمين جودة التعليم العمومي المجاني، ولم يقتصر الأمر عند هذا الإخلال، وإنما كانت هناك سياسة  تدفع نحو تهميش المدرسة العمومية وقد انطلقت هذه السياسة منذ عهد بن علي بفتح مجالات رحبة أمام المستثمرين في التعليم الخاص وتمتيعهم بحوافز كبيرة وامتيازات جبائية. وفسر أنه لا بد من التذكير في هذا السياق بالأمر عدد 486 لسنة 2008 المتعلق بضبط شروط الترخيص في إحداث مؤسسات تربوية خاصة، فهذا الأمر هو قرار سياسي كان الهدف منه إحداث المدرسة الدولية بقرطاج التي تمتعت بامتيازات كبيرة.

وأضاف الفرشيشي أن الدولة، وفضلا عن تشجيعها للتعليم الخاص على حساب التعليم العمومي، سمحت لمدرسي المؤسسات التربوية العمومية بتدريس حصص بمقابل في مدارس خاصة في ظل غياب تام للرقابة، وهو ما ساعد على مزيد ضرب مبدأ تكافؤ الفرص بين تلاميذ المدرسة العمومية وتلاميذ المدرسة الخاصة. كما تم المساس بهذا المبدأ عبر إحداث مناظرة الدخول إلى المدارس الإعدادية النموذجية ومناظرة الدخول إلى المعاهد النموذجية، فهذه المناظرات تسببت في استفحال ظاهرة الدروس الخصوصية بشكل كبير وفي السنوات الماضية لم يعد التلميذ يحصل على هذه الدروس في المواد الأساسية فقط بل أصبحت هناك دروس خصوصية في كل المواد وأصبحت هناك مؤسسات مرافقة ودعم ومراجعة وتدارك، وبالتالي لم نعد نتحدث عن تعليم عمومي مجاني كما أن النموذجيات حسب رأيه خلقت هوة بين المتعلمين وتباينا في مستوياتهم، وهذا طبيعي جدا لأن الدولة تضع على ذمة الدارسين في المدارس الإعدادية النموذجية والمعاهد النموذجية أفضل ما لديها من الكفاءات التربوية وتوفر لهم أحسن الظروف للتعلم سواء تعلق الأمر بالتجهيزات والمعدات أو بالموارد البشرية..

الإضرابات العشوائية

ومن بين الأسباب الأخرى التي عمقت الفوارق بين التلاميذ على حد اعتقاد الأخصائي في المجال التربوي مصطفى الفرشيشي نجد الإضرابات العشوائية للإطار التربوي، وبين أنه عندما يتحدث عن الإضرابات فهذا لا يعني أنه ضد الحق في الإضراب فهذا الحق يكفله الدستور ولا أحد يمكنه أن يعترض عليه ولكن عندما تتعدد الإضرابات وتتلاحق فإنها ستؤثر سلبيا على نسق التعلم لدى التلاميذ وسيتمكن التلميذ الذي يحظى بدروس خصوصية ودروس دعم وتدارك من تجاوز النقص المسجل على مستوى تحصيله ولو كان ذلك بصفة جزئية في حين لا تتاح هذه الفرصة لأنباء العائلات محدودة الدخل. ولاحظ محدثنا أن تتالي الإضرابات العشوائية دفع العائلات التونسية أكثر فأكثر نحو التعليم الخاص وهذا ليس بحثا عن جودة التعليم فقط وإنما لأن المؤسسات الخاصة تمنحهم الطمأنينة على أبنائهم فالولي عندما يرسم ابنه في مؤسسة خاصة يرتاح نفسيا ويتخلص من الخوف عليه من مخاطر الشارع وأصدقاء السوء، وهذا الأمر لا توفره المدرسة العمومية.

الارتقاء الآلي

إضافة إلى تسبب الإضرابات العشوائية  للإطارات التربوية في إخفاق  المدرسة العمومية في معالجة المشاكل الناجمة عن اختلاف أنساق التعلم بين التلاميذ  تطرق مصطفى الفرشيشي رئيس المرصد التونسي للتعليم ورئيس الجمعية الوطنية للأولياء والمربين إلى مسألة أخرى لا تقل أهمية، وهي تتمثل في قرار الارتقاء الآلي لجميع التلاميذ الذي تم اتخاذه في عهد وزير التربية السابق ناجي جلول. ويرى محدثنا أن هذا القرار كانت له عواقب كارثية على المتعلمين خاصة ممن كانوا وقتها في التعليم الابتدائي، وفسر أن التعليم الابتدائي ينقسم إلى ثلاث مراحل تكون كل واحدة منها سنتين ومن المفروض أن الارتقاء من مرحلة إلى أخرى يستوجب تحصيل قدر معين من التعلمات سواء تعلق الأمر باللغة أو بالرياضيات أو القراءة وباعتماد الارتقاء الآلي لم تقع معالجة النقص الحاصل في تعلم كل مادة وهو ما جعل مشكلات التعلم لدى تلاميذ الابتدائي تتراكم وليس هذا فقط بل تسبب قرار الارتقاء الآلي في ضرب  مفهوم التميز  وخلق شعورا من التراخي والإحباط لدى التلاميذ المتميزين.

ولاحظ أن مشكلات تباين أنساق التعلم تفاقمت أكثر فأكثر بظهور جائحة كورونا، وما تبعها من تعليق للدروس وتدريس متقطع.. وبين أنه خلال الجائحة هناك تلاميذ تابعوا دروسا عن بعد أمنتها بعض المنصات التربوية الخاصة بصفة مجانية أو بمقابل في حين لم يتمكن آخرون من الاستفادة من هذه الدروس وذلك لأنه لا تتوفر لديهم حواسيب وربط بشبكة الانترنيت. وذكر أنه كان يجب على الدولة توفير فرص التدارك لكنها أخلت بهذا الدور ولم تبذل المجهود الأدنى وهو تخصيص قناة تونس 2 خلال فترة الحجر الصحي لتأمين دروس للتلاميذ في كل المستويات. وذكر أنه بعد الجائحة هناك بعض المربين لم يبذلوا ما يكفي من الجهود لمعالجة معضلة تباين انساق التعلم بين تلاميذهم، وبين أنه لا يمكن اللوم عليهم لأن المدرس يجد أمامه 35 أو 40 تلميذا في القسم وهو مطالب بتنفيذ برنامج في مدد مضبوطة فظروف التدريس تؤثر على مردوديته المربين وتجعل الكثير منهم وهو حقيقة مؤلمة  حسب تعبير الفرشيشي تجعلهم يهتمون بالتلاميذ النجباء فقط.  

كما أشار الأخصائي في الشأن التربوي إلى وجود معضلة أخرى مردها إهمال المدرسة العمومية سواء تعلق الأمر بالبنية التحتية أو التجهيزات والمعدات التعليمية، وذكر أن الدولة أصبحت خلال السنوات الأخيرة تعول على المجتمع المدني والقطاع الخاص لصيانة المؤسسات التربوية وتوفير المستلزمات لأن الميزانية المرصودة لهذه الأغراض غير كافية.

رد الاعتبار للمربي

وخلص مصطفى الفرشيشي رئيس المرصد التونسي للتعليم ورئيس الجمعية الوطنية للأولياء والمربين إلى أن الشرط الأساسي لإنقاذ المدرسة العمومية وإرجاع البريق لها هو إعادة الاعتبار للمربي. وفسر أنه لا بد من مراجعة شروط انتداب المدرسين والأساتذة، وتحسين جودة تكوين المربين، ولاحظ أن وزارة التربية أصحبت خلال السنوات الأخيرة تعتمد كثيرا على النواب دون أن تقوم بالتكوين المطلوب لهم، وبين أن النائب يمكن أن يكون حاصلا على شهادة عليا ولكن مهنة التدريس تتطلب تكوينا خصوصيا، كما أن النائب يدرس مدة شهرين أو ثلاثة أشهر وربما أكثر في السنة وهذا لا يجعله يكتسب القدرات اللازمة والخبرات الكافية. وأضاف أن الحل يكمن في العودة إلى مدارس ترشيح المعلمين مع إخضاع المترشحين لهذه المدارس إلى جملة من الشروط العلمية والنفسية والأخلاقية فضلا عن اختبار مدى قدرتهم على الصبر وتحمل ظروف التعليم القاسية. ويرى الفرشيشي أن هذه المدارس من المفروض ألا تفتح إلا إلى النخبة وذكر أن من لا يتحصل على معدل يساوي أو يفوق 13 من عشرين في امتحان الباكالوريا لا يسمح له بالترشح للدخول إلى هذه المدارس. وبين أن المدرسة العمومية في الوقت الراهن تئن وتعاني من مشاكل عويصة ولكن إنقاذها ممكن وغير مستحيل ويتطلب قرارا سياسيا مستقلا وعزيمة صادقة.

سعيدة بوهلال 

رئيس المرصد التونسي للتعليم لـ"الصباح":  المدرسة العمومية أصبحت عاجزة تماما عن ضمان تكافؤ الفرص بين تلاميذها

 

تونس-الصباح

لئن نص القانون التوجيهي للتربية والتعليم على مبدأ تكافؤ الفرص وضمن لجميع تلاميذ المدرسة العمومية في تونس التعلمات المتصلة باللغات والعلوم والتكنولوجيا والإنسانيات والاجتماعيات والفنون فضلا عن التربية البدنية والرياضية، فإن الاختلاف الملحوظ في أنساق التعلم بينهم أصبح خلال السنوات القليلة الماضية ظاهرة تبعث على انشغال المهتمين بالشأن التربوي. فالقانون التوجيهي نص على وجوبية تعلم اللغة العربية في كافة المراحل تعلما يضمن حذقها وإتقانها بما يمكن من التعامل بها ومعها باعتبارها أداة تواصل وتثقيف ومن استعمالها تحصيلا وإنتاجا في مختلف مجالات المعرفة، وكذلك على وجوبية تعلم اللغات الأجنبية منذ المرحلة الأولى للتعليم باعتبارها أدوات تواصل وسبيلا للاطلاع المباشر على إنتاج الفكر العالمي من تقنيات ونظريات علمية وقيم حضارية، ونص القانون المذكور على أن تدرس مادة الرياضيات والعلوم بهدف تمكين المتعلمين من مختلف أشكال التفكير العلمي وتعويدهم على ممارسة أنواع الاستدلال والبرهنة وإكسابهم كفايات حل المسائل وتأويل الظواهر الطبيعية والإنسانية، أما التكنولوجيا فهي تدرس بهدف تمكين المتعلمين من فهم المحيط التكنولوجي الذي يعيشون فيه ومن إدراك أهمية استعمال التقنيات في النشاط الاقتصادي والاجتماعي، في حين يمكن تدريس الاجتماعيات والإنسانيات من إكساب المتعلمين المعارف التي تنمي فيهم ملكة النقد وتساعدهم على فهم تنظيم المجتمعات وتطورها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي، ويساعد تدريس الفنون على تطوير ذكاء المتعلمين وتنمية حسهم الجمالي من خلال تدريبهم على تعاطي أهم الأنشطة الفنية ومن خلال اطلاعهم على أعمال المبدعين في تنوع أشكال تعبيرها وتعدد وسائلها واختلاف حقبها التاريخية، أما التربية البدنية والرياضية فهي تمثل جزءا من العملية التربوية لكونها تساهم في إكساب المتعلمين القدرة على المثابرة والمداومة ومغالبة النفس وتنمي لديهم السعي إلى التفوق وتساعد على تنمية ثقتهم بأنفسهم وتكوين شخصياتهم  تكوينا متكاملا ومتوازنا.. وبالتالي فإنه محمول على المدرسة العمومية بموجب القانون، أن تضمن لجميع تلاميذها الحصول على هذه التعلمات وهي ملزمة باحترام مبدأ تكافؤ الفرص بينهم، ولكنها في السنوات الأخيرة أصبحت عاجزة على توفير تعليم عادل، ففي نفس الفصل وعند تقديم نفس الدرس يجد المربي أمامه تلاميذ على درجة عالية من الجاهزية والتمكن من المادة التي يدرسها لهم، ويجد تلاميذ يعانون من نقص فادح في التحصيل ومن محدودية طاقة الاستيعاب والتركيز، الأمر الذي يجعله غير قادر على مواكبة نسق تعلم جميع تلاميذه على النحو المطلوب لأن الوقت المتاح لتقديم الدرس غير كاف ولا يسمح له بمعالجة مشكلات التعلم لدى كل فرد منهم ولأنه ملزم بإنهاء البرنامج في الآجال..

ولفهم هذه الظاهرة ومعرفة أسبابها وتداعياتها على المدرسة العمومية اتصلت "الصباح" بمصطفى الفرشيشي رئيس المرصد التونسي للتعليم ورئيس الجمعية الوطنية للأولياء والمربين الذي أكد أن جمعيته أثارت هذا المشكل التربوي عديد المرات خلال الندوات واللقاءات العلمية التي عقدتها وزارة التربية لتدارس ملف الإصلاح التربوي ونبهت إلى خطورته لكن الوزارة لم تمنح المسألة العناية التي تستحق.

وبين أن المدرسة العمومية قامت منذ بداية نشأتها على مبدأ الإنصاف وتكافؤ الفرص، فالقانون التربوي لسنة 1958  وهو القانون الذي تمخض عن الإصلاح التربوي الذي تم القيام به في عهد وزير التربية الراحل محمود المسعدي نص على هذا المبدأ، وقد حرصت المدرسة العمومية على مدى عقود على احترامه، لكن للأسف في السنوات الأخيرة لم يعد هدا المبدأ محترم، ويعود السبب حسب رأيه إلى تملص الحكومات المتعاقبة من مسؤولياتها في المحافظة على أسس المدرسة العمومية وتأمين جودة التعليم العمومي المجاني، ولم يقتصر الأمر عند هذا الإخلال، وإنما كانت هناك سياسة  تدفع نحو تهميش المدرسة العمومية وقد انطلقت هذه السياسة منذ عهد بن علي بفتح مجالات رحبة أمام المستثمرين في التعليم الخاص وتمتيعهم بحوافز كبيرة وامتيازات جبائية. وفسر أنه لا بد من التذكير في هذا السياق بالأمر عدد 486 لسنة 2008 المتعلق بضبط شروط الترخيص في إحداث مؤسسات تربوية خاصة، فهذا الأمر هو قرار سياسي كان الهدف منه إحداث المدرسة الدولية بقرطاج التي تمتعت بامتيازات كبيرة.

وأضاف الفرشيشي أن الدولة، وفضلا عن تشجيعها للتعليم الخاص على حساب التعليم العمومي، سمحت لمدرسي المؤسسات التربوية العمومية بتدريس حصص بمقابل في مدارس خاصة في ظل غياب تام للرقابة، وهو ما ساعد على مزيد ضرب مبدأ تكافؤ الفرص بين تلاميذ المدرسة العمومية وتلاميذ المدرسة الخاصة. كما تم المساس بهذا المبدأ عبر إحداث مناظرة الدخول إلى المدارس الإعدادية النموذجية ومناظرة الدخول إلى المعاهد النموذجية، فهذه المناظرات تسببت في استفحال ظاهرة الدروس الخصوصية بشكل كبير وفي السنوات الماضية لم يعد التلميذ يحصل على هذه الدروس في المواد الأساسية فقط بل أصبحت هناك دروس خصوصية في كل المواد وأصبحت هناك مؤسسات مرافقة ودعم ومراجعة وتدارك، وبالتالي لم نعد نتحدث عن تعليم عمومي مجاني كما أن النموذجيات حسب رأيه خلقت هوة بين المتعلمين وتباينا في مستوياتهم، وهذا طبيعي جدا لأن الدولة تضع على ذمة الدارسين في المدارس الإعدادية النموذجية والمعاهد النموذجية أفضل ما لديها من الكفاءات التربوية وتوفر لهم أحسن الظروف للتعلم سواء تعلق الأمر بالتجهيزات والمعدات أو بالموارد البشرية..

الإضرابات العشوائية

ومن بين الأسباب الأخرى التي عمقت الفوارق بين التلاميذ على حد اعتقاد الأخصائي في المجال التربوي مصطفى الفرشيشي نجد الإضرابات العشوائية للإطار التربوي، وبين أنه عندما يتحدث عن الإضرابات فهذا لا يعني أنه ضد الحق في الإضراب فهذا الحق يكفله الدستور ولا أحد يمكنه أن يعترض عليه ولكن عندما تتعدد الإضرابات وتتلاحق فإنها ستؤثر سلبيا على نسق التعلم لدى التلاميذ وسيتمكن التلميذ الذي يحظى بدروس خصوصية ودروس دعم وتدارك من تجاوز النقص المسجل على مستوى تحصيله ولو كان ذلك بصفة جزئية في حين لا تتاح هذه الفرصة لأنباء العائلات محدودة الدخل. ولاحظ محدثنا أن تتالي الإضرابات العشوائية دفع العائلات التونسية أكثر فأكثر نحو التعليم الخاص وهذا ليس بحثا عن جودة التعليم فقط وإنما لأن المؤسسات الخاصة تمنحهم الطمأنينة على أبنائهم فالولي عندما يرسم ابنه في مؤسسة خاصة يرتاح نفسيا ويتخلص من الخوف عليه من مخاطر الشارع وأصدقاء السوء، وهذا الأمر لا توفره المدرسة العمومية.

الارتقاء الآلي

إضافة إلى تسبب الإضرابات العشوائية  للإطارات التربوية في إخفاق  المدرسة العمومية في معالجة المشاكل الناجمة عن اختلاف أنساق التعلم بين التلاميذ  تطرق مصطفى الفرشيشي رئيس المرصد التونسي للتعليم ورئيس الجمعية الوطنية للأولياء والمربين إلى مسألة أخرى لا تقل أهمية، وهي تتمثل في قرار الارتقاء الآلي لجميع التلاميذ الذي تم اتخاذه في عهد وزير التربية السابق ناجي جلول. ويرى محدثنا أن هذا القرار كانت له عواقب كارثية على المتعلمين خاصة ممن كانوا وقتها في التعليم الابتدائي، وفسر أن التعليم الابتدائي ينقسم إلى ثلاث مراحل تكون كل واحدة منها سنتين ومن المفروض أن الارتقاء من مرحلة إلى أخرى يستوجب تحصيل قدر معين من التعلمات سواء تعلق الأمر باللغة أو بالرياضيات أو القراءة وباعتماد الارتقاء الآلي لم تقع معالجة النقص الحاصل في تعلم كل مادة وهو ما جعل مشكلات التعلم لدى تلاميذ الابتدائي تتراكم وليس هذا فقط بل تسبب قرار الارتقاء الآلي في ضرب  مفهوم التميز  وخلق شعورا من التراخي والإحباط لدى التلاميذ المتميزين.

ولاحظ أن مشكلات تباين أنساق التعلم تفاقمت أكثر فأكثر بظهور جائحة كورونا، وما تبعها من تعليق للدروس وتدريس متقطع.. وبين أنه خلال الجائحة هناك تلاميذ تابعوا دروسا عن بعد أمنتها بعض المنصات التربوية الخاصة بصفة مجانية أو بمقابل في حين لم يتمكن آخرون من الاستفادة من هذه الدروس وذلك لأنه لا تتوفر لديهم حواسيب وربط بشبكة الانترنيت. وذكر أنه كان يجب على الدولة توفير فرص التدارك لكنها أخلت بهذا الدور ولم تبذل المجهود الأدنى وهو تخصيص قناة تونس 2 خلال فترة الحجر الصحي لتأمين دروس للتلاميذ في كل المستويات. وذكر أنه بعد الجائحة هناك بعض المربين لم يبذلوا ما يكفي من الجهود لمعالجة معضلة تباين انساق التعلم بين تلاميذهم، وبين أنه لا يمكن اللوم عليهم لأن المدرس يجد أمامه 35 أو 40 تلميذا في القسم وهو مطالب بتنفيذ برنامج في مدد مضبوطة فظروف التدريس تؤثر على مردوديته المربين وتجعل الكثير منهم وهو حقيقة مؤلمة  حسب تعبير الفرشيشي تجعلهم يهتمون بالتلاميذ النجباء فقط.  

كما أشار الأخصائي في الشأن التربوي إلى وجود معضلة أخرى مردها إهمال المدرسة العمومية سواء تعلق الأمر بالبنية التحتية أو التجهيزات والمعدات التعليمية، وذكر أن الدولة أصبحت خلال السنوات الأخيرة تعول على المجتمع المدني والقطاع الخاص لصيانة المؤسسات التربوية وتوفير المستلزمات لأن الميزانية المرصودة لهذه الأغراض غير كافية.

رد الاعتبار للمربي

وخلص مصطفى الفرشيشي رئيس المرصد التونسي للتعليم ورئيس الجمعية الوطنية للأولياء والمربين إلى أن الشرط الأساسي لإنقاذ المدرسة العمومية وإرجاع البريق لها هو إعادة الاعتبار للمربي. وفسر أنه لا بد من مراجعة شروط انتداب المدرسين والأساتذة، وتحسين جودة تكوين المربين، ولاحظ أن وزارة التربية أصحبت خلال السنوات الأخيرة تعتمد كثيرا على النواب دون أن تقوم بالتكوين المطلوب لهم، وبين أن النائب يمكن أن يكون حاصلا على شهادة عليا ولكن مهنة التدريس تتطلب تكوينا خصوصيا، كما أن النائب يدرس مدة شهرين أو ثلاثة أشهر وربما أكثر في السنة وهذا لا يجعله يكتسب القدرات اللازمة والخبرات الكافية. وأضاف أن الحل يكمن في العودة إلى مدارس ترشيح المعلمين مع إخضاع المترشحين لهذه المدارس إلى جملة من الشروط العلمية والنفسية والأخلاقية فضلا عن اختبار مدى قدرتهم على الصبر وتحمل ظروف التعليم القاسية. ويرى الفرشيشي أن هذه المدارس من المفروض ألا تفتح إلا إلى النخبة وذكر أن من لا يتحصل على معدل يساوي أو يفوق 13 من عشرين في امتحان الباكالوريا لا يسمح له بالترشح للدخول إلى هذه المدارس. وبين أن المدرسة العمومية في الوقت الراهن تئن وتعاني من مشاكل عويصة ولكن إنقاذها ممكن وغير مستحيل ويتطلب قرارا سياسيا مستقلا وعزيمة صادقة.

سعيدة بوهلال 

  Conception & Réalisation  Alpha Studios Copyright © 2023  assabahnews