لا تنظر سطورُ هذا المقال إلى مضمون بعض فصول هذا الدستور الذي يُستفتى عليه التونسيات والتونسيون في 25/07/ 2022 ، بل هو يفحص أبجدية اضطراب مسيرة مخاض ميلاد منظومة الدستور التونسي الجديد الذي تعرض إلى عملية مدّ وجزر أثناء كتابته من طرف هيئة العميد الصادق بالعيد وبعد استلام الرئيس قيس سعيد لمسودة الدستور. وبعبارة أخرى، فرغم الغرف المظلمة الخالية من النوافذ التي لم تسمح لوسائل الإعلام وللشعب التونسي وللعالم بأسره معرفة ما يجري بالنسبة لمجريات وحيثيات كتابة وثيقة الدستور، فإن سلسلة مسارات ومنعرجات الأمور لم تتم في هدوء كامل ينزل السكينة في قلوب ونفوس الكثيرين من الناس كما سنرى ذلك في مراحل مختلفة في كتابة هذا العقد الاجتماعي المرشح والمنتظر أن يكون مرجعا رئيسيا لتوجهات مصير المجتمع التونسي لمدة قد تكون غيرَ قصيرة.
عدوى فيروس ضُعف السلامة في ثلاثي نسخ الدستور
تحدّثَ أمس ويتحدّثُ اليوم الكثيرون داخل المجتمع التونسي وخارجه عن دستور تونس الجديد الذي ظهر إلى حد الآن في ثلاث نسخ ربما تليها أخرى في المستقبل القريب : الأولى التي سُلمت في 20 جوان 2022 كمسودة إلى رئيس الجمهورية السيد قيس سعيد من طرف السيد الصادق بالعيد رئيس اللجنة الاستشارية لكتابة الدستور. أما النسخة الثانية من الدستور الوليد فهي تلك التي نُشرت في الرائد الرسمي التونسي بتعديلات كبيرة يرى العميد الصادق أنها جعلت النسخة الثانية مختلفة كثيرا عن نسخة المسودة التي سلّمها إلى السيد الرئيس. يعبر بالعيد بشفافية ووضوح لا لبس فيهما عن ذلك كالتالي: " من واجبنا الإعلان بكل قوة وصدق أن النص الذي وقع نشره في الرائد الرسمي والمعروض للاستفتاء لا يمت بصلة إلى النص الذي أعددناه وقدّمناه لسيادة الرئيس. وعليه فإنني بصفتي الرئيس المنسق للهيئة الوطنية الاستشارية وبعد التشاور مع صديقي الأستاذ أمين محفوظ وموافقته، أصرحُ بكل أسف وبالوعي الكامل للمسؤولية إزاء الشعب التونسي صاحب القرار الأخير في هذا المجال أن الهيئة بريئة تماما من المشروع الذي طرحه سيادة الرئيس للاستفتاء عليه " (جريدة الصباح 03 -07 – 2022 ص 4 ). أما النسخة الثالثة المعروضة اليوم على الشعب للاستفتاء في 25 جويلية فهي حصيلة لتصحيحات لغوية نحوية وصرفية وتعبيرية عديدة وفي مضمون عدد كبير من فصول نسخة الدستور الثانية مما أدى من وجهة النظر القانونية إلى التباس وإشكالية بالنسبة للهيئة المستقلة للانتخابات طرحا السؤال التالي: هل يتم الاستفتاء على النسخة الثانية أو الثالثة من الدستور وما هي المشروعية القانونية لأي منهما ؟
طُغيان الظلام الدامس عن حيثيات الدستور
وهكذا، يجوز القول إن الولادة العسيرة لهذا الدستور تمت في غرف مظلمة مع الهيئة الوطنية التي يشرف عليها السيد الصادق بالعيد وبعد أن سُلِّمت إلى الرئيس قيس سعيد كمسودة، إذ أُقصيتْ أطرافُ كثيرة من المجتمع المدني بطريقة مباشرة أو غير مباشرة من المساهمة في نحت شكل ومضمون فصول هذا الدستور وفي طليعتها منظمة اتحاد الشغل. كما أن ذلك الظلام الدامس بقي طاغيا على مسيرة الدستور بعد استلام الرئيس قيس سعيد من السيد العميد الصادق بالعيد. على سبيل المثال، لا نعرف بالتحديد من صاغ وكتب جمل وفقرات فصول وبنود الدستور الجديد بعد أن سلّمته أيادي الصادق بالعيد إلى أيادي الرئيس قيس سعيد. هناك رواية تقول إن الرئيس قيس سعيد هو الذي صاغ وكتب النسخة الأولى لنص الدستور التي نُشرت في الرائد الرسمي للجمهورية التونسية في 30 جوان 2022. لكن كثرة الأخطاء النحوية والصرفية في هذه النسخة تشكك بقوة في صحة ومصداقية هذه الرواية. إذ يُلاحِظ من يُتقن اللغة العربية الفصحى في مناسبات متعددة أن الرئيس يلّم ويعرف القواعد النحوية والصرفية الأساسية في أحاديثه الكثيرة باللسان العربي الفصيح. ومن ثم، لماذا يخطئ الرئيس قيس سعيد نحويا وصرفيا في كتابة توطئة الدستور وبنوده والحال أن الأخطاء النحوية والصرفية مرشحة أن تُرتكبَ أكثر في الخطابات الشفوية منها في النصوص المكتوبة التي يسمح الوقت بالقيام بتصحيحها. تشير هذه الملاحظة ضمنيا أن شخصا ما قد كُلّفَ أو مجموعة من الكُتّاب قد كُلِّفت من طرف الرئيس بكتابة الدستور وأن الرئيس لم يقرأ بتمعن أو لم يقرأ مطلقا نص تلك النسخة من الدستور فكانت النتيجة الأخطاء الكثيرة في النحو والصرف وفي محتوى المضمون التي اعترف السيد الرئيس شخصيا بوجودها فأمر فورا بالتصحيحات والتعديلات اللازمة في النسخة الثالثة للدستور. والسؤال المشروع هنا: من الذي كتب النسخة الثانية من الدستور التي تطلبت تدخل الرئيس لإصلاح الأخطاء النحوية والصرفية وغيرها والقيام بالتعديلات الضرورية في الكثير من الفصول؟ لم يذكر الرئيس أنه ارتكب هو نفسه تلك الأخطاء فدعا إلى إصلاحها بسرعة. ومنه، يُستنتج أن فردا أو أكثر وقع اختياره أو اختيارهم لكتابة نص الدستور الجديد. أما الأمر الذي يبقى غير مفهوم بهذا الصدد فهو: لماذا لم يُحسَن الاختيار في من كُلّف أو كُلّفوا بكتابة الدستور هذا العقد الاجتماعي الذي قد يدوم لأجيال عديدة ؟ وبعبارة أخرى، هل يُقبل فقدان الجدّية في إيجاد كل الظروف والعناصر البشرية المؤهلة و اللازمة من أجل كسب رهان النجاح الكامل في كتابة مثل هذه الوثيقة الوطنية الرسمية رقم 1 ؟ وفي الختام، هل تحتمل مسألةُ كتابة الدستور بكل تفاصيله الشكلية والجوهرية التهاونَ وسلوكا حمّالا لحطب اللامبالاة وفقدانَ الجِدّية بكامل العزم والحزم بخصوص وثيقة رسمية من الدرجة الأولى في الأهمية بالنسبة لمصير شعب في مجتمع يدعي ظاهريا أنه مؤهل أكثر من جيرانه ومن البعيدين عنه لكي يكون رائدا في المنطقتين العربية والإفريقية ؟
(*)عالم الاجتماع
بقلم: الأستاذ الدكتور محمود الذوادي(*)
لا تنظر سطورُ هذا المقال إلى مضمون بعض فصول هذا الدستور الذي يُستفتى عليه التونسيات والتونسيون في 25/07/ 2022 ، بل هو يفحص أبجدية اضطراب مسيرة مخاض ميلاد منظومة الدستور التونسي الجديد الذي تعرض إلى عملية مدّ وجزر أثناء كتابته من طرف هيئة العميد الصادق بالعيد وبعد استلام الرئيس قيس سعيد لمسودة الدستور. وبعبارة أخرى، فرغم الغرف المظلمة الخالية من النوافذ التي لم تسمح لوسائل الإعلام وللشعب التونسي وللعالم بأسره معرفة ما يجري بالنسبة لمجريات وحيثيات كتابة وثيقة الدستور، فإن سلسلة مسارات ومنعرجات الأمور لم تتم في هدوء كامل ينزل السكينة في قلوب ونفوس الكثيرين من الناس كما سنرى ذلك في مراحل مختلفة في كتابة هذا العقد الاجتماعي المرشح والمنتظر أن يكون مرجعا رئيسيا لتوجهات مصير المجتمع التونسي لمدة قد تكون غيرَ قصيرة.
عدوى فيروس ضُعف السلامة في ثلاثي نسخ الدستور
تحدّثَ أمس ويتحدّثُ اليوم الكثيرون داخل المجتمع التونسي وخارجه عن دستور تونس الجديد الذي ظهر إلى حد الآن في ثلاث نسخ ربما تليها أخرى في المستقبل القريب : الأولى التي سُلمت في 20 جوان 2022 كمسودة إلى رئيس الجمهورية السيد قيس سعيد من طرف السيد الصادق بالعيد رئيس اللجنة الاستشارية لكتابة الدستور. أما النسخة الثانية من الدستور الوليد فهي تلك التي نُشرت في الرائد الرسمي التونسي بتعديلات كبيرة يرى العميد الصادق أنها جعلت النسخة الثانية مختلفة كثيرا عن نسخة المسودة التي سلّمها إلى السيد الرئيس. يعبر بالعيد بشفافية ووضوح لا لبس فيهما عن ذلك كالتالي: " من واجبنا الإعلان بكل قوة وصدق أن النص الذي وقع نشره في الرائد الرسمي والمعروض للاستفتاء لا يمت بصلة إلى النص الذي أعددناه وقدّمناه لسيادة الرئيس. وعليه فإنني بصفتي الرئيس المنسق للهيئة الوطنية الاستشارية وبعد التشاور مع صديقي الأستاذ أمين محفوظ وموافقته، أصرحُ بكل أسف وبالوعي الكامل للمسؤولية إزاء الشعب التونسي صاحب القرار الأخير في هذا المجال أن الهيئة بريئة تماما من المشروع الذي طرحه سيادة الرئيس للاستفتاء عليه " (جريدة الصباح 03 -07 – 2022 ص 4 ). أما النسخة الثالثة المعروضة اليوم على الشعب للاستفتاء في 25 جويلية فهي حصيلة لتصحيحات لغوية نحوية وصرفية وتعبيرية عديدة وفي مضمون عدد كبير من فصول نسخة الدستور الثانية مما أدى من وجهة النظر القانونية إلى التباس وإشكالية بالنسبة للهيئة المستقلة للانتخابات طرحا السؤال التالي: هل يتم الاستفتاء على النسخة الثانية أو الثالثة من الدستور وما هي المشروعية القانونية لأي منهما ؟
طُغيان الظلام الدامس عن حيثيات الدستور
وهكذا، يجوز القول إن الولادة العسيرة لهذا الدستور تمت في غرف مظلمة مع الهيئة الوطنية التي يشرف عليها السيد الصادق بالعيد وبعد أن سُلِّمت إلى الرئيس قيس سعيد كمسودة، إذ أُقصيتْ أطرافُ كثيرة من المجتمع المدني بطريقة مباشرة أو غير مباشرة من المساهمة في نحت شكل ومضمون فصول هذا الدستور وفي طليعتها منظمة اتحاد الشغل. كما أن ذلك الظلام الدامس بقي طاغيا على مسيرة الدستور بعد استلام الرئيس قيس سعيد من السيد العميد الصادق بالعيد. على سبيل المثال، لا نعرف بالتحديد من صاغ وكتب جمل وفقرات فصول وبنود الدستور الجديد بعد أن سلّمته أيادي الصادق بالعيد إلى أيادي الرئيس قيس سعيد. هناك رواية تقول إن الرئيس قيس سعيد هو الذي صاغ وكتب النسخة الأولى لنص الدستور التي نُشرت في الرائد الرسمي للجمهورية التونسية في 30 جوان 2022. لكن كثرة الأخطاء النحوية والصرفية في هذه النسخة تشكك بقوة في صحة ومصداقية هذه الرواية. إذ يُلاحِظ من يُتقن اللغة العربية الفصحى في مناسبات متعددة أن الرئيس يلّم ويعرف القواعد النحوية والصرفية الأساسية في أحاديثه الكثيرة باللسان العربي الفصيح. ومن ثم، لماذا يخطئ الرئيس قيس سعيد نحويا وصرفيا في كتابة توطئة الدستور وبنوده والحال أن الأخطاء النحوية والصرفية مرشحة أن تُرتكبَ أكثر في الخطابات الشفوية منها في النصوص المكتوبة التي يسمح الوقت بالقيام بتصحيحها. تشير هذه الملاحظة ضمنيا أن شخصا ما قد كُلّفَ أو مجموعة من الكُتّاب قد كُلِّفت من طرف الرئيس بكتابة الدستور وأن الرئيس لم يقرأ بتمعن أو لم يقرأ مطلقا نص تلك النسخة من الدستور فكانت النتيجة الأخطاء الكثيرة في النحو والصرف وفي محتوى المضمون التي اعترف السيد الرئيس شخصيا بوجودها فأمر فورا بالتصحيحات والتعديلات اللازمة في النسخة الثالثة للدستور. والسؤال المشروع هنا: من الذي كتب النسخة الثانية من الدستور التي تطلبت تدخل الرئيس لإصلاح الأخطاء النحوية والصرفية وغيرها والقيام بالتعديلات الضرورية في الكثير من الفصول؟ لم يذكر الرئيس أنه ارتكب هو نفسه تلك الأخطاء فدعا إلى إصلاحها بسرعة. ومنه، يُستنتج أن فردا أو أكثر وقع اختياره أو اختيارهم لكتابة نص الدستور الجديد. أما الأمر الذي يبقى غير مفهوم بهذا الصدد فهو: لماذا لم يُحسَن الاختيار في من كُلّف أو كُلّفوا بكتابة الدستور هذا العقد الاجتماعي الذي قد يدوم لأجيال عديدة ؟ وبعبارة أخرى، هل يُقبل فقدان الجدّية في إيجاد كل الظروف والعناصر البشرية المؤهلة و اللازمة من أجل كسب رهان النجاح الكامل في كتابة مثل هذه الوثيقة الوطنية الرسمية رقم 1 ؟ وفي الختام، هل تحتمل مسألةُ كتابة الدستور بكل تفاصيله الشكلية والجوهرية التهاونَ وسلوكا حمّالا لحطب اللامبالاة وفقدانَ الجِدّية بكامل العزم والحزم بخصوص وثيقة رسمية من الدرجة الأولى في الأهمية بالنسبة لمصير شعب في مجتمع يدعي ظاهريا أنه مؤهل أكثر من جيرانه ومن البعيدين عنه لكي يكون رائدا في المنطقتين العربية والإفريقية ؟