إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

تولّد شخصية مستنفرة ومضطربة ومرتبكة.. أطفالنا تحت تأثير الضغوطات.. ومختصون يقرعون "أجراس الخطر"

معز الشريف: سياسة ممنهجة لتنشئة جيل متمرد على مبادئ المواطنة وإنقاذه واجب

زينب غربال عباس: بعض الأولياء ينقلون تلك الضغوط إلى أبنائهم بشكل مباشر أو غير مباشر

صلاح الدين بن فرج: ما يعيشه الطفل من ترسبات تفتح له المجال للتوجه لخيارات أخرى

تونس – الصباح

ما مدى تأثير ما تعيشه بلادنا في هذه المرحلة من ديناميكية شاملة تتجسد في حالة حراك في مختلف الأوساط والقطاعات إضافة إلى الضغوط اجتماعية الناجمة عن ذلك والأزمات الاقتصادية وفضلا عن الوقع الكبير للجدل والصراع والمعارك السياسية، على الناشئة خاصة على شريحة الأطفال والمراهقين الذين يمثلون ربع سكان تونس تقريبا؟ وما هي ملامح شخصية جيل المستقبل في ظل تكاثف هذه العوامل والمؤثرات التي تساهم في توريث الجيل القادم ومستقبل هذا البلد بعض من الانعكاسات السلوكية التي لا تخلو من "تعقيدات"؟

هذه الاستفهامات وغيرها تطرح اليوم في ظل ما سجله المجتمع التونسي في السنوات الأخيرة من ظواهر وممارسات وسلوكيات للشباب والمراهقين صنفها مختصون في علم النفس والاجتماع في خانة نتائج انعكاسات المتغيرات والضغوط الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية التي عرفتها بلادنا في سنوات ما بعد 2011. إذ أكد مختصون في علم النفس والاجتماع وباحثون في المجال أن تداعيات وتأثيرات الضغوط والمتغيرات التي عرفتها بلادنا في السنوات الأخيرة على الأطفال والمراهقين بشكل خاص سواء تعلق الأمر بأزمة "كوفيد 19" الصحية وما تطلبته من إجبار هذه الفئة على الانقطاع عن المؤسسات التربوية والقطع مع الوسائل والوسائط الترفيه والتسلية وملازمة البيوت وصولا إلى تداعيات حالة الغموض والانتظار والمعارك السياسية والأزمات الاجتماعية التي تعيش على وقعها بلادنا منذ الصائفة الماضية إلى اليوم.

ويذكر أنه حسب تقديرات سنة 2020 وفقا لكتاب حقائق العالم لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية فإن، 25.28% من سكان تونس دون سن 15 سنة و55.75 % أعمارهم بين 15 و54 سنة.

وبينت عديد القراءات أن تأثير مثل هذه العوامل على الأطفال والمراهقين بشكل سلبي أصبحت نتائجه واضحة للعيان وتتجسد بالأساس في تفشي الجريمة والعنف بشكل غير مسبوق في الأوساط الشبابية في السنوات الأخيرة فضلا عن تزايد الانقطاع المبكر عن التعليم وما ينجر عنه من هشاشة في الشخصية والمجتمع، بعد أن أكدت وزارة التربية وعدة جهات أخرى أن السنوات العشر الأخيرة سجلت ارتفاعا في عدد المنقطعين عن التعليم بمعدل ألف تلميذ كل سنة، ليتجاوز العدد مليون منقطع عن الدراسة في مستوى أمي يضاف لعدد الأميين في تونس.

كما أكد المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، منذ مدة أن 5509 من القصر دون مرافقة و1335 من القصر مع مرافقة وصلوا إلى السواحل الايطالية خلال الخمس سنوات الأخيرة. وذلك في ظل الإقبال المتزايد على الهجرة بشكل منظم أو غير نظامي رغم ما تشكله عملية المجازفة بـ"الحرقة" من مخاطر.

الإحاطة المطلوبة منقوصة

ذهبت الدكتورة زينب غربال عباس، الكاتبة العامة للجمعية التونسية للطب النفسي للأطفال والمراهقين إلى أنه ليس هناك تأثير كبير للضغوط السياسية والاجتماعية على الأطفال بشكل خاص لأنه ليست لهم أية علاقة بالمسألة ولا يجب إقحام الطفل في مشاكل ومشاغل الكبار. وبينت في سياق متصل في حديثها عن الموضوع لـ"الصباح"، أن بعض الأولياء ينقلون تلك الضغوط إلى أبنائهم بشكل مباشر أو غير مباشر. وبينت أن الجيل الحالي من الأطفال والمراهقين عرفوا ضغوطا كبيرة خلال فترة الجائحة الوبائية "كوفيد 19" نتيجة إجبارهم على الحجر الصحي والبقاء في المنازل لفترات مطولة فضلا عما عرفوه من تقطع متواصل في نسق الدراسة وعن الذهاب لرياض ومحا ضن الأطفال فضلا عن غلق كل الفضاءات والمؤسسات التي تشكل مصدر ترفيه وتسلية وممارسة الأنشطة والهوايات على غرار المسارح والملاعب ودور الثقافة والشباب والنوادي وغيرها. مؤكدة أن لكل ذلك تأثيرات كبيرة على شخصية ونفسية هذه الشريحة من المجتمع التي اختار مجملها البديل عبر الهروب إلى شبكات التواصل الاجتماعي كمتنفس وأداة تواصل مع الآخر والعالم.

كما أفادت المختصة في علم نفس الأطفال أن دور الكبار المحيطين بالأطفال هو تفسير ما يحدث من حراك وسجال وجدل من أجل حماية هذه الناشئة من تأثيرات مشاهد ومعاني كثيرا ما تتكرر في الأوساط العائلية والاجتماعية وعلى شبكات التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام من قبيل الحراك والاحتجاج والتظاهر والإضرابات ومظاهر العنف بجميع أنواعه. وفسرت د. زينب غربال عباس حرص الجمعية التونسية للطب النفسي للأطفال والمراهقين على ضرورة حماية هذه الفئة من المجتمع وجعلها بمنأى عن الضغوط والصراعات الاجتماعية والسياسية لخطورة ذلك في المستقبل وذلك من خلال ما تقدمه من دراسات وتوجيهات ونصائح في الغرض ترى أن ما هو مطلوب تجاه هذه الشريحة من المجتمع يظل منقوصا لعدة أسباب متشابكة، الأمر الذي يجعل المجتمع يسجل ظواهر وسلوكيات تبدو للبعض غريبة ولكنها في نظر هؤلاء خيارا صحيحا لا يعدو أن يكون أنه يقطع مع المألوف ويتماشى و"العصر".

"ضد السيستام"

من جانبه أكد صلاح الدين بن فرج، أستاذ علم الاجتماع بالجامعة التونسية لـ"الصباح" ووجود تأثير كبير لمثل هذه العوامل على الناشئة على نحو يمهد لخلق شخصية مستنفرة ومضطربة وتتحرك "ضد السيستام". وفسر ذلك بسبب ما اسماه المعادلة المفقودة في مراحل تكوين هذه الفئة من المجتمع لاسيما أمام تزامن هذه المرحلة بمطباتها وديناميكيتها السياسية والاجتماعية مع فترة حيرة وتساؤلات ومثالية في عمر هذه الفئة التي تشهد أيضا فترة تغيرات هرمونية. في المقابل لا يجد المرافقة المطلوبة التي تمكنه من إيجاد التوازن المطلوب في المستوى النفسي والفكري والثقافي بما يمكنه من صقل شخصيته. واعتبر محدثنا أن من هم موكل لهم القيام بهذه المرافقة هم بالأساس الوالدان والمحيط الأسري والمؤسسات المختصة الموجهة للأطفال والشباب على غرار المؤسسات التربوية والترفيهية والأنشطة الموجهة لاستقطاب وصقل هواياته واحتضان مواهبه. وهو تقريبا ما أكدته الدكتورة زينب غربال عباس لاسيما في ظل التزايد المسجل في عدد المنقطعين عن الدراسة في سن مبكرة وعدم توفر الآليات والمؤسسات والفضاءات والبرامج الكفيلة باستقطاب الأطفال والمراهقين وتقديم مادة ترفيهية وتأطير وأنشطة تنسجم مع توجهاته وتتلاءم مع متطلبات مراحل نموه، وفق تقديرها.

خلل وغربة

ويرى بن فرج أن ما يعيشه الطفل من ترسبات وتأثير لمثل تلك الضغوط على نفسيته في مراحل مبكرة من عمره، تفتح له المجال للتوجه لخيارات أخرى لاسيما في ظل الارتباك والشك والارتياب في علاقة بالقيم والمبادئ الموروثة وأضاف قائلا: "في الحقيقة المعايير الموجودة لدى الشباب اليوم عن القيم والموروث دخلت مرحلة التشكيك في القديم دون فهمها في سياق المسؤولة عن ذلك، فيتجه إلى صنع فهم خارج تلك السياقات المؤسساتية وينتج عنها شخصية ضبابية في فترة المراهقة ومستنفرة ومرتبكة في مرحلة الشباب".

ويرى في جانب آخر من حديثه عن تداعيات مثل هذه الضغوط في شخصية طفل ومراهق اليوم، أن هؤلاء يتجهون إلى استهلاك ما هو موجود في "السوق" يعني خارج مؤسسات الأسرة والمدرسة والمجتمع أي في الشارع والعالم الافتراضي ووسائل الإعلام. وهو ما يجعل المراهق في مرحلة ما في غربة بين واقع متمثل في ذهنه وبين إمكانيات متاحة، الأمر الذي يؤدي إلى وجود خلل واضطرابات سلوكية وصراعات تنعكس عند البعض في الانقطاع عن الدراسة والبعض الآخر في الإقبال على العنف. ويعتبر أستاذ علم الاجتماع أن ما يسجل من عنف في الشارع وفي محيط المدرسة الأسرة وفي الملاعب كلها تجسيد لنزعة هؤلاء الشباب والمراهقين إلى العمل على تأكيد أنهم قادرون على السيطرة على عالمهم ومحيطهم فيخلقون نواميس وسلوكيات تقطع مع المبادئ والقيم المتعارف عليها. معتبرا في هبة الشباب إلى خيارات سياسية خارج المنظومة تأكيد لتأثير هذه الضغوط.

ويرى بن فرج أن على المؤسسات المسؤولة الجلوس، والحوار معمقا من أجل إنتاج منظومة قيم وأفكار تتماشى وخصوصية ومتطلبات طفل اليوم. موضحا بالقول: "يجب على مؤسسات الأسرة والمدرسة ودور الشباب والثقافة ونوادي الرياضة والمسرح والفنون والثقافة وغيرها أن تؤسس لحوار معمق تؤمن مخرجاته توازن شخصية جيل المستقبل وتوجيه الشارع بما يمكن من التعبير عن نوازعه لضمان تنشئة متوازنة". لأنه يعتبر في حال تواصل الوضع على ما هو عليه من المنتظر أن يتواصل "الضياع" الهوياتي الذي يعيشه الطفل والمراهق والشاب والشك في كل ما هو موجود بما يخلق أجيال في غياهب الضياع والانبتات والتمرد.

رئيس الجمعية التونسية للدفاع عن حقوق الطفل لـ"الصباح":

ويرى الدكتور معز الشريف، رئيس الجمعية التونسية للدفاع عن حقوق الطفل في حديثه لـ"الصباح"، أن الحديث عن تداعيات ما عرفته بلادنا من ضغوط اجتماعية سياسية في الفترة الأخيرة لا يمكن أن يكون بمعزل عما عرفته بلادنا في العشرية الماضية من سياسة ممنهجة ضد هذه الشريحة من المجتمع، نزلها في سياق توجه وأجندا سياسية معينة لتغيير خصوصية وثقافة المجتمع التونسي. حيث قال: "في الحقيقة مسألة ضرب وتقويض كل مقومات التربية والتنشئة على المواطنة بدأت منذ التسعينات من القرن الماضي واختزلتها مفاهيم جديدة لدى الأطفال والشباب مثل "سلكتها" و"مريقل" مست كل مستويات التعليم تبعها تصحر ثقافي بعد غلق الفضاءات والمؤسسات الثقافية والشبابية والمسارح وقاعات السينما، فضلا عن ضرب المبادرات التي كانت مقياسا ومثالا للناشئة على غرار برلمان الطفل ودوره في التربية على مبادئ الديمقراطية ودور دستور 2014 في إلغاء أي دور للطفل".

فكانت النتيجة في تقديره أن غياب الشباب عن الممارسة السياسية والعزوف عن المشاركة في انتخابات سنة 2019 تأكيدا لنتائج الضغوط السياسية والاجتماعية التي عرفتها في بلادنا في السنوات الماضية. واعتبر الشريف في غياب الأطفال والشباب عن التحركات والاحتجاجات السياسية والمدنية المسجلة في الفترة الأخيرة في تونس واقتصار الحضور فيها على الشيوخ وكأن شريحة الأطفال والمراهقين والشباب غير معنية بتلك المشاغل، تأكيدا لعمق هذه الأزمة المجتمعية.

في المقابل يعتبر إقبال هذه الفئة على شبكات التواصل الاجتماعي والإبحار في العالم الافتراضي خارج دوائر المؤسساتية عمق القطيعة بينها وبين الكبار. واعتبرهم سببا في نجاح قيس سعيد في انتخابات 2019 بعد أن استطاعوا تنظيم صفوفهم خارج النسق والمعادلات المنظمة والمتعارف عليها.

وضع خارج السيطرة

كما أفاد د. معز الشريف أن المؤسسات التربوية والمدنية والحزبية لم تتمكن من دخول عالم هذه الفئة من المجتمع ولم تفلح في محاولات استقطابها بعد أن أصبحت خارجة عن السيطرة فيما نجحت جهات أخرى في ذلك خاصة تلك التي تعرف بالعنف والتطرف والإرهابي والإيديولوجي والهجرة غير النظامية. واعتبر أن كل ذك لم يكن اعتباطيا وإنما ممنهجا ولكن حاليا هناك حالة انفلات لم تعد الجهات الرسمية والمختصة قادرة على احتوائها. والأمر مرشح للتطور في حال تواصل الوضع على ما هو عليه في تقديره.

وعبر رئيس الجمعية التونسية للدفاع عن حقوق الطفل عدم تحرك الجهات المعنية مقابل مواصلة نفس التمشي والأخطاء رغم محاولات بعض مؤسسات المجتمع المدني التحرك لتطويق الأزمة. موضحا أن مبادرة الإصلاح تونس 2035 لا تتضمن أي رؤية أو برنامج يعنى بالأطفال والشباب. وهو يعتبر الحل في ضرورة وضع الطفولة خارج دائرة التجاذبات السياسية والاجتماعية والنهوض بالمنظومة التربوية وكل ما يتعلق بالناشئة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. وذلك بإرساء منظومة تربوية جديدة.

نزيهة الغضباني

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

تولّد شخصية مستنفرة ومضطربة ومرتبكة.. أطفالنا تحت تأثير الضغوطات.. ومختصون يقرعون "أجراس الخطر"

معز الشريف: سياسة ممنهجة لتنشئة جيل متمرد على مبادئ المواطنة وإنقاذه واجب

زينب غربال عباس: بعض الأولياء ينقلون تلك الضغوط إلى أبنائهم بشكل مباشر أو غير مباشر

صلاح الدين بن فرج: ما يعيشه الطفل من ترسبات تفتح له المجال للتوجه لخيارات أخرى

تونس – الصباح

ما مدى تأثير ما تعيشه بلادنا في هذه المرحلة من ديناميكية شاملة تتجسد في حالة حراك في مختلف الأوساط والقطاعات إضافة إلى الضغوط اجتماعية الناجمة عن ذلك والأزمات الاقتصادية وفضلا عن الوقع الكبير للجدل والصراع والمعارك السياسية، على الناشئة خاصة على شريحة الأطفال والمراهقين الذين يمثلون ربع سكان تونس تقريبا؟ وما هي ملامح شخصية جيل المستقبل في ظل تكاثف هذه العوامل والمؤثرات التي تساهم في توريث الجيل القادم ومستقبل هذا البلد بعض من الانعكاسات السلوكية التي لا تخلو من "تعقيدات"؟

هذه الاستفهامات وغيرها تطرح اليوم في ظل ما سجله المجتمع التونسي في السنوات الأخيرة من ظواهر وممارسات وسلوكيات للشباب والمراهقين صنفها مختصون في علم النفس والاجتماع في خانة نتائج انعكاسات المتغيرات والضغوط الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية التي عرفتها بلادنا في سنوات ما بعد 2011. إذ أكد مختصون في علم النفس والاجتماع وباحثون في المجال أن تداعيات وتأثيرات الضغوط والمتغيرات التي عرفتها بلادنا في السنوات الأخيرة على الأطفال والمراهقين بشكل خاص سواء تعلق الأمر بأزمة "كوفيد 19" الصحية وما تطلبته من إجبار هذه الفئة على الانقطاع عن المؤسسات التربوية والقطع مع الوسائل والوسائط الترفيه والتسلية وملازمة البيوت وصولا إلى تداعيات حالة الغموض والانتظار والمعارك السياسية والأزمات الاجتماعية التي تعيش على وقعها بلادنا منذ الصائفة الماضية إلى اليوم.

ويذكر أنه حسب تقديرات سنة 2020 وفقا لكتاب حقائق العالم لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية فإن، 25.28% من سكان تونس دون سن 15 سنة و55.75 % أعمارهم بين 15 و54 سنة.

وبينت عديد القراءات أن تأثير مثل هذه العوامل على الأطفال والمراهقين بشكل سلبي أصبحت نتائجه واضحة للعيان وتتجسد بالأساس في تفشي الجريمة والعنف بشكل غير مسبوق في الأوساط الشبابية في السنوات الأخيرة فضلا عن تزايد الانقطاع المبكر عن التعليم وما ينجر عنه من هشاشة في الشخصية والمجتمع، بعد أن أكدت وزارة التربية وعدة جهات أخرى أن السنوات العشر الأخيرة سجلت ارتفاعا في عدد المنقطعين عن التعليم بمعدل ألف تلميذ كل سنة، ليتجاوز العدد مليون منقطع عن الدراسة في مستوى أمي يضاف لعدد الأميين في تونس.

كما أكد المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، منذ مدة أن 5509 من القصر دون مرافقة و1335 من القصر مع مرافقة وصلوا إلى السواحل الايطالية خلال الخمس سنوات الأخيرة. وذلك في ظل الإقبال المتزايد على الهجرة بشكل منظم أو غير نظامي رغم ما تشكله عملية المجازفة بـ"الحرقة" من مخاطر.

الإحاطة المطلوبة منقوصة

ذهبت الدكتورة زينب غربال عباس، الكاتبة العامة للجمعية التونسية للطب النفسي للأطفال والمراهقين إلى أنه ليس هناك تأثير كبير للضغوط السياسية والاجتماعية على الأطفال بشكل خاص لأنه ليست لهم أية علاقة بالمسألة ولا يجب إقحام الطفل في مشاكل ومشاغل الكبار. وبينت في سياق متصل في حديثها عن الموضوع لـ"الصباح"، أن بعض الأولياء ينقلون تلك الضغوط إلى أبنائهم بشكل مباشر أو غير مباشر. وبينت أن الجيل الحالي من الأطفال والمراهقين عرفوا ضغوطا كبيرة خلال فترة الجائحة الوبائية "كوفيد 19" نتيجة إجبارهم على الحجر الصحي والبقاء في المنازل لفترات مطولة فضلا عما عرفوه من تقطع متواصل في نسق الدراسة وعن الذهاب لرياض ومحا ضن الأطفال فضلا عن غلق كل الفضاءات والمؤسسات التي تشكل مصدر ترفيه وتسلية وممارسة الأنشطة والهوايات على غرار المسارح والملاعب ودور الثقافة والشباب والنوادي وغيرها. مؤكدة أن لكل ذلك تأثيرات كبيرة على شخصية ونفسية هذه الشريحة من المجتمع التي اختار مجملها البديل عبر الهروب إلى شبكات التواصل الاجتماعي كمتنفس وأداة تواصل مع الآخر والعالم.

كما أفادت المختصة في علم نفس الأطفال أن دور الكبار المحيطين بالأطفال هو تفسير ما يحدث من حراك وسجال وجدل من أجل حماية هذه الناشئة من تأثيرات مشاهد ومعاني كثيرا ما تتكرر في الأوساط العائلية والاجتماعية وعلى شبكات التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام من قبيل الحراك والاحتجاج والتظاهر والإضرابات ومظاهر العنف بجميع أنواعه. وفسرت د. زينب غربال عباس حرص الجمعية التونسية للطب النفسي للأطفال والمراهقين على ضرورة حماية هذه الفئة من المجتمع وجعلها بمنأى عن الضغوط والصراعات الاجتماعية والسياسية لخطورة ذلك في المستقبل وذلك من خلال ما تقدمه من دراسات وتوجيهات ونصائح في الغرض ترى أن ما هو مطلوب تجاه هذه الشريحة من المجتمع يظل منقوصا لعدة أسباب متشابكة، الأمر الذي يجعل المجتمع يسجل ظواهر وسلوكيات تبدو للبعض غريبة ولكنها في نظر هؤلاء خيارا صحيحا لا يعدو أن يكون أنه يقطع مع المألوف ويتماشى و"العصر".

"ضد السيستام"

من جانبه أكد صلاح الدين بن فرج، أستاذ علم الاجتماع بالجامعة التونسية لـ"الصباح" ووجود تأثير كبير لمثل هذه العوامل على الناشئة على نحو يمهد لخلق شخصية مستنفرة ومضطربة وتتحرك "ضد السيستام". وفسر ذلك بسبب ما اسماه المعادلة المفقودة في مراحل تكوين هذه الفئة من المجتمع لاسيما أمام تزامن هذه المرحلة بمطباتها وديناميكيتها السياسية والاجتماعية مع فترة حيرة وتساؤلات ومثالية في عمر هذه الفئة التي تشهد أيضا فترة تغيرات هرمونية. في المقابل لا يجد المرافقة المطلوبة التي تمكنه من إيجاد التوازن المطلوب في المستوى النفسي والفكري والثقافي بما يمكنه من صقل شخصيته. واعتبر محدثنا أن من هم موكل لهم القيام بهذه المرافقة هم بالأساس الوالدان والمحيط الأسري والمؤسسات المختصة الموجهة للأطفال والشباب على غرار المؤسسات التربوية والترفيهية والأنشطة الموجهة لاستقطاب وصقل هواياته واحتضان مواهبه. وهو تقريبا ما أكدته الدكتورة زينب غربال عباس لاسيما في ظل التزايد المسجل في عدد المنقطعين عن الدراسة في سن مبكرة وعدم توفر الآليات والمؤسسات والفضاءات والبرامج الكفيلة باستقطاب الأطفال والمراهقين وتقديم مادة ترفيهية وتأطير وأنشطة تنسجم مع توجهاته وتتلاءم مع متطلبات مراحل نموه، وفق تقديرها.

خلل وغربة

ويرى بن فرج أن ما يعيشه الطفل من ترسبات وتأثير لمثل تلك الضغوط على نفسيته في مراحل مبكرة من عمره، تفتح له المجال للتوجه لخيارات أخرى لاسيما في ظل الارتباك والشك والارتياب في علاقة بالقيم والمبادئ الموروثة وأضاف قائلا: "في الحقيقة المعايير الموجودة لدى الشباب اليوم عن القيم والموروث دخلت مرحلة التشكيك في القديم دون فهمها في سياق المسؤولة عن ذلك، فيتجه إلى صنع فهم خارج تلك السياقات المؤسساتية وينتج عنها شخصية ضبابية في فترة المراهقة ومستنفرة ومرتبكة في مرحلة الشباب".

ويرى في جانب آخر من حديثه عن تداعيات مثل هذه الضغوط في شخصية طفل ومراهق اليوم، أن هؤلاء يتجهون إلى استهلاك ما هو موجود في "السوق" يعني خارج مؤسسات الأسرة والمدرسة والمجتمع أي في الشارع والعالم الافتراضي ووسائل الإعلام. وهو ما يجعل المراهق في مرحلة ما في غربة بين واقع متمثل في ذهنه وبين إمكانيات متاحة، الأمر الذي يؤدي إلى وجود خلل واضطرابات سلوكية وصراعات تنعكس عند البعض في الانقطاع عن الدراسة والبعض الآخر في الإقبال على العنف. ويعتبر أستاذ علم الاجتماع أن ما يسجل من عنف في الشارع وفي محيط المدرسة الأسرة وفي الملاعب كلها تجسيد لنزعة هؤلاء الشباب والمراهقين إلى العمل على تأكيد أنهم قادرون على السيطرة على عالمهم ومحيطهم فيخلقون نواميس وسلوكيات تقطع مع المبادئ والقيم المتعارف عليها. معتبرا في هبة الشباب إلى خيارات سياسية خارج المنظومة تأكيد لتأثير هذه الضغوط.

ويرى بن فرج أن على المؤسسات المسؤولة الجلوس، والحوار معمقا من أجل إنتاج منظومة قيم وأفكار تتماشى وخصوصية ومتطلبات طفل اليوم. موضحا بالقول: "يجب على مؤسسات الأسرة والمدرسة ودور الشباب والثقافة ونوادي الرياضة والمسرح والفنون والثقافة وغيرها أن تؤسس لحوار معمق تؤمن مخرجاته توازن شخصية جيل المستقبل وتوجيه الشارع بما يمكن من التعبير عن نوازعه لضمان تنشئة متوازنة". لأنه يعتبر في حال تواصل الوضع على ما هو عليه من المنتظر أن يتواصل "الضياع" الهوياتي الذي يعيشه الطفل والمراهق والشاب والشك في كل ما هو موجود بما يخلق أجيال في غياهب الضياع والانبتات والتمرد.

رئيس الجمعية التونسية للدفاع عن حقوق الطفل لـ"الصباح":

ويرى الدكتور معز الشريف، رئيس الجمعية التونسية للدفاع عن حقوق الطفل في حديثه لـ"الصباح"، أن الحديث عن تداعيات ما عرفته بلادنا من ضغوط اجتماعية سياسية في الفترة الأخيرة لا يمكن أن يكون بمعزل عما عرفته بلادنا في العشرية الماضية من سياسة ممنهجة ضد هذه الشريحة من المجتمع، نزلها في سياق توجه وأجندا سياسية معينة لتغيير خصوصية وثقافة المجتمع التونسي. حيث قال: "في الحقيقة مسألة ضرب وتقويض كل مقومات التربية والتنشئة على المواطنة بدأت منذ التسعينات من القرن الماضي واختزلتها مفاهيم جديدة لدى الأطفال والشباب مثل "سلكتها" و"مريقل" مست كل مستويات التعليم تبعها تصحر ثقافي بعد غلق الفضاءات والمؤسسات الثقافية والشبابية والمسارح وقاعات السينما، فضلا عن ضرب المبادرات التي كانت مقياسا ومثالا للناشئة على غرار برلمان الطفل ودوره في التربية على مبادئ الديمقراطية ودور دستور 2014 في إلغاء أي دور للطفل".

فكانت النتيجة في تقديره أن غياب الشباب عن الممارسة السياسية والعزوف عن المشاركة في انتخابات سنة 2019 تأكيدا لنتائج الضغوط السياسية والاجتماعية التي عرفتها في بلادنا في السنوات الماضية. واعتبر الشريف في غياب الأطفال والشباب عن التحركات والاحتجاجات السياسية والمدنية المسجلة في الفترة الأخيرة في تونس واقتصار الحضور فيها على الشيوخ وكأن شريحة الأطفال والمراهقين والشباب غير معنية بتلك المشاغل، تأكيدا لعمق هذه الأزمة المجتمعية.

في المقابل يعتبر إقبال هذه الفئة على شبكات التواصل الاجتماعي والإبحار في العالم الافتراضي خارج دوائر المؤسساتية عمق القطيعة بينها وبين الكبار. واعتبرهم سببا في نجاح قيس سعيد في انتخابات 2019 بعد أن استطاعوا تنظيم صفوفهم خارج النسق والمعادلات المنظمة والمتعارف عليها.

وضع خارج السيطرة

كما أفاد د. معز الشريف أن المؤسسات التربوية والمدنية والحزبية لم تتمكن من دخول عالم هذه الفئة من المجتمع ولم تفلح في محاولات استقطابها بعد أن أصبحت خارجة عن السيطرة فيما نجحت جهات أخرى في ذلك خاصة تلك التي تعرف بالعنف والتطرف والإرهابي والإيديولوجي والهجرة غير النظامية. واعتبر أن كل ذك لم يكن اعتباطيا وإنما ممنهجا ولكن حاليا هناك حالة انفلات لم تعد الجهات الرسمية والمختصة قادرة على احتوائها. والأمر مرشح للتطور في حال تواصل الوضع على ما هو عليه في تقديره.

وعبر رئيس الجمعية التونسية للدفاع عن حقوق الطفل عدم تحرك الجهات المعنية مقابل مواصلة نفس التمشي والأخطاء رغم محاولات بعض مؤسسات المجتمع المدني التحرك لتطويق الأزمة. موضحا أن مبادرة الإصلاح تونس 2035 لا تتضمن أي رؤية أو برنامج يعنى بالأطفال والشباب. وهو يعتبر الحل في ضرورة وضع الطفولة خارج دائرة التجاذبات السياسية والاجتماعية والنهوض بالمنظومة التربوية وكل ما يتعلق بالناشئة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. وذلك بإرساء منظومة تربوية جديدة.

نزيهة الغضباني

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

  Conception & Réalisation  Alpha Studios Copyright © 2023  assabahnews