إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

مختص في الشؤون الإنسانية والقانون الدولي لـ"الصباح": التونسيون يمثلون الجنسية الأولى لعدد المهاجرين بطريقة غير نظامية

 

 

18000 تونسي هاجروا بطريقة غير نظامية

هجرة الشباب مردها ملل نفسي ونفور من الأجواء العامة

يجب قلب مقاربة التعاطي مع المسألة من تفكير في العواقب والمخاطر

تونس-الصباح

بحنكة الديبلوماسي والمختص والعارف بخبايا المجال الإنساني تحدث الديبلوماسي السابق والمختص في الشؤون الإنسانية والقانون الدولي عياض البوسالمي – وهو خرّيج الجامعة التونسية في العلوم القانونية- (متحصل على شهادات جامعية في الدبلوماسية والقانون الدولي العام من جامعة أكسفورد البريطانية وجامعة كولمبيا الأمريكية كما عمل في عدد من المنظمات الإنسانية الأممية والدولية)- في حوار مطول خص به "الصباح" عن أبرز الملفات الحارقة اجتماعيا والتي تتمثل أساسا في معضلة الهجرة غير النظامية في تونس.

وقد انساب الحديث تلقائيا آتيا في البداية على أبرز الأسباب التي تدفع بالشباب نحو الموت ليصل الى الحلول التي يراها محدثنا مٌمكنة لتجاوز هذه الآفة، وفيما يلي نص الحوار:

أجرت الحوار : منال حرزي

• في البداية لنتحدث بلغة الأرقام، كم يبلغ عدد التونسيين الذين عبروا بحرا وبرّا بطريقة غير نظامية إلى دول شمال البحر الأبيض المتوسط وخاصة إيطاليا؟

-يناهز الـعدد 18000 ويمثل التونسيون الجنسية الأولى بالنسبة لعدد المهاجرين بطريقة غير نظامية إلى دول شمال المتوسط وذلك منذ جانفي 2021 إلى حدود ماي 2022.

• بوصفكم قد عملتم سابقا في عدد من المنظمات الأممية الدولية ما هو عدد اللاجئين وطالبي اللجوء المسجلين في تونس؟

- حسب أرقام المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين هناك إلى حدّ الآن 9703 لاجئ وطالب لجوء مسجلين لدى المفوضية (وهناك ما يقارب الـ5000 آخرين ينتظرون دورهم للتسجيل).

لنضع الأمور في إطارها الصحيح ولتنسيب ما يدور حول الاعتقاد السائد بأن هناك عددا كبيرا من اللاجئين في تونس، يجب التذكير أن تونس لديها أقل عدد من الأشخاص الذين تحصلوا أو طلبوا اللجوء فيها مقارنة بدول شمال إفريقيا والشرق الأوسط (مثال المغرب فيها 19 ألف لاجئ وطالب لجوء،ليبيا 211 ألف، مصر 300 ألف، الأردن 700 ألف، لبنان 854 ألف....).علما أن العدد الجملي للمهجّرين قسرا في العالم بلغ رقما مٌفجعا سنة 2022 ويتمثل في 100 مليون شخص أُجبروا على مغادرة بلدانهم قسرا أو هم من النازحين الداخليين بسبب اضطهاد شخصي وخاصة بسبب الحروب، وتونس قبلت فقط 0.01% من هذا العدد".

• برأيكم ما هي أبرز أسباب تفاقم الهجرة غير النظامية في تونس؟

-الظرف الإقليمي والعالمي أدى إلى ذلك. وعدد المهجرين قسرا بلغ عتبة الـ 100 مليون كما ذكرت، وتعدد الحروب تماما مثل تفاقم الصعوبات الاقتصادية في محيطنا الإفريقي والمتوسطي أدى إلى هجرة قسرية أكبر وهجرة "طوعية" أوسع.

فمثلا، تونس سمحت لعدد من الأشقاء الأفارقة بزيارة البلاد دون تأشيرة ولم تضع البدائل والإجراءات اللازمة لاستيعابهم أو التعامل مع بعض الوضعيات الخاصة كتجاوز فترة الإقامة القانونية. ومن ناحية أخرى فإن تونس كانت منذ زمن بلد عبور في حركات الهجرة غير النظامية من غرب وشرق إفريقيا إلى الضفة الشمالية للبحر الأبيض المتوسط وهناك مؤشرات على أنها أصبحت بالنسبة للبعض بلد وجهة رغم أن جُل الدراسات تعكس رغبة أغلبية اللاجئين والمهاجرين غير النظاميين في المرور إلى أوروبا حتى وإن مكثوا بعض الوقت في تونس.

وبالنسبة للتونسيين الذين غادروا بصفة غير قانونية إلى أوروبا فإن الأسباب جلية للجميع: غياب الآفاق وفقدان الأمل والجوّ العام المتأزم وارتفاع نسبة البطالة وتواتر الأزمات السياسية وما رافقها من تدهور الحالة المالية للعائلات التونسية وأيضا عدم تلاءم النظم التعليمية والتكوينية مع متطلبات سوق الشغل، من حيث الاختصاصات أو من حيث المؤهلات أحيانا، وعدم اهتمام العائلات التونسية بمسارات تكوينية مهنية وتقنية وصناعية ينتقصون من أهميتها في حين تحتاجها البلاد. وفي نهاية المطاف تعتبر النتيجة منطقية حيث سنجد شبابا تائها أكان صاحب شهادات عليا أو ترك الدراسة مبكّرا، يبحث عن تحقيق الذات له فيلتجئ إلى حلم المغادرة حتى وإن كلّفه ذلك حياته، وهو ما يعكس درجة خطيرة من اليأس.

• برأيكم ما هي الحلول التي ترونها مناسبة لمجابهة خطر الهجرة غير النظامية؟

هناك مسألتان: الهجرة غير النظامية إلى تونس والهجرة غير النظامية للتونسيين وغيرهم من تونس.

والحلول قد تتمثل بالأساس في تغيير المقاربات من أمنية بحتة أو بالأساس (كمسألة التصدي لعمليات اجتياز الحدود البحرية والبرية خلسة وهي مهمة طبعا) إلى مقاربة متعددة المكونات فيها جانب بحثي وعلمي (دوافع الهجرة وأسبابها) وجانب اجتماعي ونفسي وتربوي فضلا عن جانب اقتصادي (أهمه التفكير فيما يمكن أن يجلبه المهاجرون واللاجؤون من منفعة اقتصادية إن تمّ توجيه كفاءاتهم كعمال أو كمتخرجين من الجامعات أو تقنيين، إلى قطاعات يحتاجها اقتصاد البلاد).

وجانب آخر دبلوماسي وسياسي يجب أن يحتوي على مفاهمات واضحة مع الشركاء في دول الجوار حول حصص يتمّ إقرارها للهجرة في إطار نظامي وواضح بالنسبة للتونسيين وتضمين مفاهمات أخرى حول التوازن في مسألة تطبيق مبدأ التضامن الإنساني.

من المهمّ أن يتمّ تغيير عقلية تعامل الدول الأوروبية وحتى في دول شمال إفريقيا مع الهجرة غير النظامية واللجوء إلى عقلية تعامل انساني وكذلك اقتصادي يرجع بالنفع على الجميع. والأهم من كل هذا أن يكون في تونس من الأمل والثقة في مستقبل البلاد وخاصة من الفرص المتاحة للشباب بما يجعل التفكير في الهجرة غير النظامية استثناء وليس كالآن فكرة تطغى على عقول مئات الآلاف من الشباب التونسي وحتى الكهول.

فهجرة الشباب بطرق غير نظامية ليست فقط بسبب انعدام الآفاق وشحّ فرص العمل، بل هي أيضا بسبب ملل نفسي ونفور من الأجواء العامة التي وجب تنقيتها من خلال العمل على إعادة الثقة للمواطنين.

• هل من حلول أخرى ترونها مناسبة لمزيد إحكام التصرف في مسألة اللجوء والهجرة في تونس؟

-في اعتقادي لا يمكن تصور تقدّم في هذه المسألة دون الخطوات التالية:

أولا: المضي قدما في تبني مرجع قانوني وطني حول اللجوء والمشروع موجود منذ سنوات وتمت صياغته ولكن بقيت الحكومات المتعاقبة في موقف متردّد رغم أن تونس هي من ارتأت أن عليها أن تتبنى هكذا قانون. وتبنّي الاستراتيجية الوطنية حول الهجرة التي تم الانتهاء من تصوّرها ولكن بقيت دون تفعيل قانوني وسياسي.

    وثانيا:وضع ميثاق وطني بريادة السلطات التونسية وإشرافها ومشاركة المجتمع المدني المحلي والمنظمات الأممية والمنظمات الدولية غير الحكومية، يتمّ فيها ضبط مهام كل الأطراف وتعهدات أخلاقية حسب المعايير المعمول بها وآليات تنسيق واضحة وآليات لمجابهة الأزمات على غرار خطة الطوارئ للاستجابة لأي إمكانية تدفّق فجئي ومكثف للاجئين على الحدود التونسية، وهو من الآليات التي يمكن اعتبارها من الممارسات الحميدة ودليل على أنه عندما تلتقي الدولة والمنظمات والمجتمع المدني حول هدف واحد بغاية الاستجابة المثلى للأزمات الإنسانية وتوفير ضمانات الحماية للأشخاص المستضعفين، فإنّه يمكن تحقيق نجاحات، هذا بالتوازي مع إحكام تنسيق مختلف البرامج الحالية للمنظمات التونسية والدولية المختصة وهي برامج أعتقد أنها تشكو من قلة التكامل وتفسح المجال لترك عدد كبير من اللاجئين وطالبي اللجوء والمهاجرين دون حماية ومساعدة، والخطر يمكن هنا، لأنه يدفع بهم إلى ما يسمى بـ"طرق التعامل السلبية" كأن يُجبروا على التعامل مع عصابات للاتجار بالبشر أو أن يلتجئوا إلى الجرم والسرقة والتسول أو الاحتجاج أو حتى الانتحار..، إلى جانب تذكير الرأي العام التونسي ومزيد توعيته أن الاعتناء بالآخر ومساعدته حتى وإن كان أجنبيا ولو في فترة الأزمات الداخلية والصعوبات الاقتصادية، هو من شيم هذه البلاد وأن قبول الآخر وعدم الخوف منه والاعتقاد أنه سيسلب الوظائف وفرص العمل أو يجلب الأمراض والاجرام هو من المفزّعات التي يروّج لها من ينسى تاريخ تونس وصفات شعبها وقيمه ومن لا يعرف ما يمكن أن يجلبه اللاجؤون والمهاجرون من منافع اقتصادية وثقافية ورياضية والأمثلة عديدة في العالم وفي تونس...، فليبحثوا عن أشهر اللاجئين والمهاجرين وكيف تحولت قصص معاناتهم في الهروب من دولهم قسرا أو هجرتهم طوعا إلى دول أخرى إلى قصص نجاح وتميّز انتفعت بها تلك البلدان التي استضافتهم.

• ما هي حسب رأيكم الأفكار المغلوطة عن الهجرة واللجوء في تونس، وكيف ترون الفهم العام لهاتين الظاهرتين وكيفية تعديله إن كان ذلك ضروريا؟

-المسألتان لا طالما تربطهما السلطات وحتى جانب كبير من الرأي العام بالمخاطر والآثار السلبية ونادرا ما يتمّ الانتباه إلى الحقائق التاريخية والالتزامات الدولية والأخلاقية وأيضا المنافع الكبيرة للهجرة واللجوء.

فمن منطلق تاريخي وحضاري تونس كانت دائما بلدا منفتحا على قبول من تم اضطهادهم أو فروا من الحروب أو هاجروا إليها بحثا عن عيش أفضل، ومن منطلق قانوني فإن واجب حماية اللاجئين والمهاجرين كأجانب، هي مسؤولية الدولة المضيفة بالأساس وليس مسؤولية أطراف أخرى حتى ولئن كانت منظمات أممية..، هذه المنظمات تساند وتساعد سلطات البلد المضيف ولكن لا يمكن أن تحلّ محلّها. كما أن القانون الدولي يقرّ بمبدإ التضامن الدولي لحماية اللاجئين وتونس منظمة لاتفاقية 1951 حول اللاجئين وعدد كبير من المرجعيات القانونية الإقليمية والدولية في هذا المجال.

اما من منطلق أخلاقي وإنساني، فكيف لنا أن ندافع عن مئات الآلاف من التونسيين المهاجرين في شتى بقاع العالم ونحزن ونسخط لمعاملة سيئة قد تمس كرامتهم في حين أننا نرى في تونس بعض مظاهر العنصرية ( والحمد لله أنها تبقى قليلة) ورفض المهاجر أو اللاجئ ونفره وحتى الازدراء منه في بعض الأحيان..، الأمر لا يستقيم..، يجب أن يكون هناك تناغم بين مبادئنا وقناعاتنا وما نقول أننا عليه كبلد مضياف ومتسامح وبين ما نفعله.

• هل من رسالة توجهها إلى صناع القرار لردع ظاهرة الهجرة التي للأسف تتفاقم من سنة إلى أخرى؟

-إنّ رفض التقدّم في مسألة وضع إطار قانوني ومؤسساتي دقيق وخصوصي حول الهجرة واللجوء واعتبار أنه ليس من الأولويات مقارنة بمسائل أخرى مستعجلة هو ما جعل التبعات السلبية تتفاقم والدليل أن نفس المظاهر تتكرر بل وتكثر منذ أكثر من عشر سنوات، فضلا عن انه من حق السلطات التونسية بل من واجبها أن تنتبه وتتعامل مع الهواجس الأمنية والمظاهر التي يمكن أن تضر بالبلاد، فإنه يجب بالتوازي قلب مقاربة التعاطي مع المسألة من تفكير في العواقب والمخاطر فقط وبناء على أساس ذلك إجراءات أو قرارات معينة إلى التفكير في الفرص وإمكانيات النفع الاقتصادي والسمعة الدولية. فالتفكير الاستراتيجي ينبني على تحديد المخاطر وتقييمها ومن ثمة التعامل معها وكيفية جعلها مصدرا لفرص وطرق إيجابية توفر المنفعة هذا بالتوازي مع العمل سويا على تنقية الأجواء العامة في البلاد التي أصبحت تخنق كل التونسيين سواء الشباب أو حتى الكهول وتجعل فكرة "الهجّة" أول ما يخطر ببالهم واعتبار هذه المسألة مسؤولية جماعية وسياسية ومدنية.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 مختص في الشؤون الإنسانية والقانون الدولي لـ"الصباح":  التونسيون يمثلون الجنسية الأولى لعدد المهاجرين بطريقة غير نظامية

 

 

18000 تونسي هاجروا بطريقة غير نظامية

هجرة الشباب مردها ملل نفسي ونفور من الأجواء العامة

يجب قلب مقاربة التعاطي مع المسألة من تفكير في العواقب والمخاطر

تونس-الصباح

بحنكة الديبلوماسي والمختص والعارف بخبايا المجال الإنساني تحدث الديبلوماسي السابق والمختص في الشؤون الإنسانية والقانون الدولي عياض البوسالمي – وهو خرّيج الجامعة التونسية في العلوم القانونية- (متحصل على شهادات جامعية في الدبلوماسية والقانون الدولي العام من جامعة أكسفورد البريطانية وجامعة كولمبيا الأمريكية كما عمل في عدد من المنظمات الإنسانية الأممية والدولية)- في حوار مطول خص به "الصباح" عن أبرز الملفات الحارقة اجتماعيا والتي تتمثل أساسا في معضلة الهجرة غير النظامية في تونس.

وقد انساب الحديث تلقائيا آتيا في البداية على أبرز الأسباب التي تدفع بالشباب نحو الموت ليصل الى الحلول التي يراها محدثنا مٌمكنة لتجاوز هذه الآفة، وفيما يلي نص الحوار:

أجرت الحوار : منال حرزي

• في البداية لنتحدث بلغة الأرقام، كم يبلغ عدد التونسيين الذين عبروا بحرا وبرّا بطريقة غير نظامية إلى دول شمال البحر الأبيض المتوسط وخاصة إيطاليا؟

-يناهز الـعدد 18000 ويمثل التونسيون الجنسية الأولى بالنسبة لعدد المهاجرين بطريقة غير نظامية إلى دول شمال المتوسط وذلك منذ جانفي 2021 إلى حدود ماي 2022.

• بوصفكم قد عملتم سابقا في عدد من المنظمات الأممية الدولية ما هو عدد اللاجئين وطالبي اللجوء المسجلين في تونس؟

- حسب أرقام المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين هناك إلى حدّ الآن 9703 لاجئ وطالب لجوء مسجلين لدى المفوضية (وهناك ما يقارب الـ5000 آخرين ينتظرون دورهم للتسجيل).

لنضع الأمور في إطارها الصحيح ولتنسيب ما يدور حول الاعتقاد السائد بأن هناك عددا كبيرا من اللاجئين في تونس، يجب التذكير أن تونس لديها أقل عدد من الأشخاص الذين تحصلوا أو طلبوا اللجوء فيها مقارنة بدول شمال إفريقيا والشرق الأوسط (مثال المغرب فيها 19 ألف لاجئ وطالب لجوء،ليبيا 211 ألف، مصر 300 ألف، الأردن 700 ألف، لبنان 854 ألف....).علما أن العدد الجملي للمهجّرين قسرا في العالم بلغ رقما مٌفجعا سنة 2022 ويتمثل في 100 مليون شخص أُجبروا على مغادرة بلدانهم قسرا أو هم من النازحين الداخليين بسبب اضطهاد شخصي وخاصة بسبب الحروب، وتونس قبلت فقط 0.01% من هذا العدد".

• برأيكم ما هي أبرز أسباب تفاقم الهجرة غير النظامية في تونس؟

-الظرف الإقليمي والعالمي أدى إلى ذلك. وعدد المهجرين قسرا بلغ عتبة الـ 100 مليون كما ذكرت، وتعدد الحروب تماما مثل تفاقم الصعوبات الاقتصادية في محيطنا الإفريقي والمتوسطي أدى إلى هجرة قسرية أكبر وهجرة "طوعية" أوسع.

فمثلا، تونس سمحت لعدد من الأشقاء الأفارقة بزيارة البلاد دون تأشيرة ولم تضع البدائل والإجراءات اللازمة لاستيعابهم أو التعامل مع بعض الوضعيات الخاصة كتجاوز فترة الإقامة القانونية. ومن ناحية أخرى فإن تونس كانت منذ زمن بلد عبور في حركات الهجرة غير النظامية من غرب وشرق إفريقيا إلى الضفة الشمالية للبحر الأبيض المتوسط وهناك مؤشرات على أنها أصبحت بالنسبة للبعض بلد وجهة رغم أن جُل الدراسات تعكس رغبة أغلبية اللاجئين والمهاجرين غير النظاميين في المرور إلى أوروبا حتى وإن مكثوا بعض الوقت في تونس.

وبالنسبة للتونسيين الذين غادروا بصفة غير قانونية إلى أوروبا فإن الأسباب جلية للجميع: غياب الآفاق وفقدان الأمل والجوّ العام المتأزم وارتفاع نسبة البطالة وتواتر الأزمات السياسية وما رافقها من تدهور الحالة المالية للعائلات التونسية وأيضا عدم تلاءم النظم التعليمية والتكوينية مع متطلبات سوق الشغل، من حيث الاختصاصات أو من حيث المؤهلات أحيانا، وعدم اهتمام العائلات التونسية بمسارات تكوينية مهنية وتقنية وصناعية ينتقصون من أهميتها في حين تحتاجها البلاد. وفي نهاية المطاف تعتبر النتيجة منطقية حيث سنجد شبابا تائها أكان صاحب شهادات عليا أو ترك الدراسة مبكّرا، يبحث عن تحقيق الذات له فيلتجئ إلى حلم المغادرة حتى وإن كلّفه ذلك حياته، وهو ما يعكس درجة خطيرة من اليأس.

• برأيكم ما هي الحلول التي ترونها مناسبة لمجابهة خطر الهجرة غير النظامية؟

هناك مسألتان: الهجرة غير النظامية إلى تونس والهجرة غير النظامية للتونسيين وغيرهم من تونس.

والحلول قد تتمثل بالأساس في تغيير المقاربات من أمنية بحتة أو بالأساس (كمسألة التصدي لعمليات اجتياز الحدود البحرية والبرية خلسة وهي مهمة طبعا) إلى مقاربة متعددة المكونات فيها جانب بحثي وعلمي (دوافع الهجرة وأسبابها) وجانب اجتماعي ونفسي وتربوي فضلا عن جانب اقتصادي (أهمه التفكير فيما يمكن أن يجلبه المهاجرون واللاجؤون من منفعة اقتصادية إن تمّ توجيه كفاءاتهم كعمال أو كمتخرجين من الجامعات أو تقنيين، إلى قطاعات يحتاجها اقتصاد البلاد).

وجانب آخر دبلوماسي وسياسي يجب أن يحتوي على مفاهمات واضحة مع الشركاء في دول الجوار حول حصص يتمّ إقرارها للهجرة في إطار نظامي وواضح بالنسبة للتونسيين وتضمين مفاهمات أخرى حول التوازن في مسألة تطبيق مبدأ التضامن الإنساني.

من المهمّ أن يتمّ تغيير عقلية تعامل الدول الأوروبية وحتى في دول شمال إفريقيا مع الهجرة غير النظامية واللجوء إلى عقلية تعامل انساني وكذلك اقتصادي يرجع بالنفع على الجميع. والأهم من كل هذا أن يكون في تونس من الأمل والثقة في مستقبل البلاد وخاصة من الفرص المتاحة للشباب بما يجعل التفكير في الهجرة غير النظامية استثناء وليس كالآن فكرة تطغى على عقول مئات الآلاف من الشباب التونسي وحتى الكهول.

فهجرة الشباب بطرق غير نظامية ليست فقط بسبب انعدام الآفاق وشحّ فرص العمل، بل هي أيضا بسبب ملل نفسي ونفور من الأجواء العامة التي وجب تنقيتها من خلال العمل على إعادة الثقة للمواطنين.

• هل من حلول أخرى ترونها مناسبة لمزيد إحكام التصرف في مسألة اللجوء والهجرة في تونس؟

-في اعتقادي لا يمكن تصور تقدّم في هذه المسألة دون الخطوات التالية:

أولا: المضي قدما في تبني مرجع قانوني وطني حول اللجوء والمشروع موجود منذ سنوات وتمت صياغته ولكن بقيت الحكومات المتعاقبة في موقف متردّد رغم أن تونس هي من ارتأت أن عليها أن تتبنى هكذا قانون. وتبنّي الاستراتيجية الوطنية حول الهجرة التي تم الانتهاء من تصوّرها ولكن بقيت دون تفعيل قانوني وسياسي.

    وثانيا:وضع ميثاق وطني بريادة السلطات التونسية وإشرافها ومشاركة المجتمع المدني المحلي والمنظمات الأممية والمنظمات الدولية غير الحكومية، يتمّ فيها ضبط مهام كل الأطراف وتعهدات أخلاقية حسب المعايير المعمول بها وآليات تنسيق واضحة وآليات لمجابهة الأزمات على غرار خطة الطوارئ للاستجابة لأي إمكانية تدفّق فجئي ومكثف للاجئين على الحدود التونسية، وهو من الآليات التي يمكن اعتبارها من الممارسات الحميدة ودليل على أنه عندما تلتقي الدولة والمنظمات والمجتمع المدني حول هدف واحد بغاية الاستجابة المثلى للأزمات الإنسانية وتوفير ضمانات الحماية للأشخاص المستضعفين، فإنّه يمكن تحقيق نجاحات، هذا بالتوازي مع إحكام تنسيق مختلف البرامج الحالية للمنظمات التونسية والدولية المختصة وهي برامج أعتقد أنها تشكو من قلة التكامل وتفسح المجال لترك عدد كبير من اللاجئين وطالبي اللجوء والمهاجرين دون حماية ومساعدة، والخطر يمكن هنا، لأنه يدفع بهم إلى ما يسمى بـ"طرق التعامل السلبية" كأن يُجبروا على التعامل مع عصابات للاتجار بالبشر أو أن يلتجئوا إلى الجرم والسرقة والتسول أو الاحتجاج أو حتى الانتحار..، إلى جانب تذكير الرأي العام التونسي ومزيد توعيته أن الاعتناء بالآخر ومساعدته حتى وإن كان أجنبيا ولو في فترة الأزمات الداخلية والصعوبات الاقتصادية، هو من شيم هذه البلاد وأن قبول الآخر وعدم الخوف منه والاعتقاد أنه سيسلب الوظائف وفرص العمل أو يجلب الأمراض والاجرام هو من المفزّعات التي يروّج لها من ينسى تاريخ تونس وصفات شعبها وقيمه ومن لا يعرف ما يمكن أن يجلبه اللاجؤون والمهاجرون من منافع اقتصادية وثقافية ورياضية والأمثلة عديدة في العالم وفي تونس...، فليبحثوا عن أشهر اللاجئين والمهاجرين وكيف تحولت قصص معاناتهم في الهروب من دولهم قسرا أو هجرتهم طوعا إلى دول أخرى إلى قصص نجاح وتميّز انتفعت بها تلك البلدان التي استضافتهم.

• ما هي حسب رأيكم الأفكار المغلوطة عن الهجرة واللجوء في تونس، وكيف ترون الفهم العام لهاتين الظاهرتين وكيفية تعديله إن كان ذلك ضروريا؟

-المسألتان لا طالما تربطهما السلطات وحتى جانب كبير من الرأي العام بالمخاطر والآثار السلبية ونادرا ما يتمّ الانتباه إلى الحقائق التاريخية والالتزامات الدولية والأخلاقية وأيضا المنافع الكبيرة للهجرة واللجوء.

فمن منطلق تاريخي وحضاري تونس كانت دائما بلدا منفتحا على قبول من تم اضطهادهم أو فروا من الحروب أو هاجروا إليها بحثا عن عيش أفضل، ومن منطلق قانوني فإن واجب حماية اللاجئين والمهاجرين كأجانب، هي مسؤولية الدولة المضيفة بالأساس وليس مسؤولية أطراف أخرى حتى ولئن كانت منظمات أممية..، هذه المنظمات تساند وتساعد سلطات البلد المضيف ولكن لا يمكن أن تحلّ محلّها. كما أن القانون الدولي يقرّ بمبدإ التضامن الدولي لحماية اللاجئين وتونس منظمة لاتفاقية 1951 حول اللاجئين وعدد كبير من المرجعيات القانونية الإقليمية والدولية في هذا المجال.

اما من منطلق أخلاقي وإنساني، فكيف لنا أن ندافع عن مئات الآلاف من التونسيين المهاجرين في شتى بقاع العالم ونحزن ونسخط لمعاملة سيئة قد تمس كرامتهم في حين أننا نرى في تونس بعض مظاهر العنصرية ( والحمد لله أنها تبقى قليلة) ورفض المهاجر أو اللاجئ ونفره وحتى الازدراء منه في بعض الأحيان..، الأمر لا يستقيم..، يجب أن يكون هناك تناغم بين مبادئنا وقناعاتنا وما نقول أننا عليه كبلد مضياف ومتسامح وبين ما نفعله.

• هل من رسالة توجهها إلى صناع القرار لردع ظاهرة الهجرة التي للأسف تتفاقم من سنة إلى أخرى؟

-إنّ رفض التقدّم في مسألة وضع إطار قانوني ومؤسساتي دقيق وخصوصي حول الهجرة واللجوء واعتبار أنه ليس من الأولويات مقارنة بمسائل أخرى مستعجلة هو ما جعل التبعات السلبية تتفاقم والدليل أن نفس المظاهر تتكرر بل وتكثر منذ أكثر من عشر سنوات، فضلا عن انه من حق السلطات التونسية بل من واجبها أن تنتبه وتتعامل مع الهواجس الأمنية والمظاهر التي يمكن أن تضر بالبلاد، فإنه يجب بالتوازي قلب مقاربة التعاطي مع المسألة من تفكير في العواقب والمخاطر فقط وبناء على أساس ذلك إجراءات أو قرارات معينة إلى التفكير في الفرص وإمكانيات النفع الاقتصادي والسمعة الدولية. فالتفكير الاستراتيجي ينبني على تحديد المخاطر وتقييمها ومن ثمة التعامل معها وكيفية جعلها مصدرا لفرص وطرق إيجابية توفر المنفعة هذا بالتوازي مع العمل سويا على تنقية الأجواء العامة في البلاد التي أصبحت تخنق كل التونسيين سواء الشباب أو حتى الكهول وتجعل فكرة "الهجّة" أول ما يخطر ببالهم واعتبار هذه المسألة مسؤولية جماعية وسياسية ومدنية.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

  Conception & Réalisation  Alpha Studios Copyright © 2023  assabahnews