إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

منتدى الصباح: رى الأولى لرحيل المفكّر والمؤرّخ هشام جعيّط.. هكذا فكّر في المقدّس ونقد التاريخ بحثا عن إسهام جديد في صنعه(1 من 3)

بقلم:د. محمّد الكحلاوي(*)

تمرّ هذا الشهر الذكر الأولى لوفاة المفكّر والمؤرّخ صاحب المشروع المعرفي المتميّز في قراءة التاريخ والحضارة ونقد الثقافة الأستاذ العالم الكبير هشام جعيّط (1935 – 2021م)، رحمه الله رحمه واسعة.

    لقد ظلّ الاهتمام كبيرا ولافتا بفكر هشام جعيّط وبما يكتب في مسائل قراءة التاريخ الإسلامي وعلاقة الوحي بالتاريخ والمقدّس بالعقل والدّين بالحداثة والفكر الديني بالدين والتاريخ، فغدت فلسفته القادمة من أتون مصادر التاريخ ومن محاورة عميق المعنى الأنطولوجي الذي استقاه من تأمّلاته في النصوص القديمة الدينية وكتابات المؤرخين والفلاسفة القدامى والمحدثين قيما معرفية عليا، لكونها جاءت بمثابة بلسمل لفكر الحائر تجاه قضايا "الشخصية العربية الإسلامية" والهويّة"، وحقيقة سيرورة "التاريخ" ومسائل "التقدّم"، و"الحرّية"، إذ بيّن كيف أنّ الوعي بالمفهوم ووضع المصطلحات والتصوّرات موضع مساءلة ونقد، هو المدخل إلى بناء الفكر والمعرفة وتحرير الإنسان وتشييد لبنات التقدّم والحضارة من خلال المشاركة في صنع التاريخ الكوني.

   لذلك تعدّى الاهتمام بفكر هشام جعيّط ، دائرة النخب الأكاديمية والثقافية إلى عامّة الناس، الذين بدأوا وكأنّهم فهموا مؤلفاته واطّلعوا على خصوصية طروحاته في قراءة التاريخ العربي الإسلامي وتأويل ما جاء في مصادره حول حدث نزول الوحي و"نشأة المدينة" و"الفتنة" و"دولة النبوّة" و"كتابة السيرة النبوية"، تلك المسائل التي نظر فيها جعيّط بعمق، من خلال كتب جاءت نتاجا لاهتمام دقق وإشكالي استمرّ لديه بقضايا قراءة التراث والحداثة وبإرهاصات مشروع بناء الدولة الوطنية وتمثّلات مفهوم الهوية و"الشخصية العربية الإسلامية والمصير"، (وهو عنوان أحد أبرز كتبه)، حيث فكّر في تلك المسائل في ضوء منهجيات بحث علمي وأدوات تحليل وقراءة عصرية ومتنوعة في مرجعياتها المعرفية والنظرية؛ فلسفية وعلمية إنسانية، منطلقا في تشييد خطابه من حوار نقدي بنّاء مع ما أنتج الآخر حول تراثنا وحضارتنا، بعيدا عن منطق التحيّز بالرفض والقطيعة أو اتبّاع أو احتذاء للنموذج الغربي دون تلقّي نقدي.

      هكذا بقي هشام جعيّط يقيم بامتياز ضمن منطقة "النقد المزدوج"، على حدّ عبارة المفكّر وعالم الاجتماع المغربي عبد الكبير الخطيبي (تـ 2009م)؛ إذ موضوع اهتمامه المحوري تلك الصور والتمثّلات التي بناها الآخر حول الإسلام دينا وتاريخا وحضارة ورموزا مقدّسة؛ مثل نبوّة محمّد (ص)، تراه مفكّرا تفكير نقديّا مؤسّسا في تلك الرؤى التي ظللنا نحتفظ بها حول معنى الذّات والمقدّس والرسالة والهويّة والتراث، إذ لا سكون ولا ثبات لمفهوم أو معنى أو لصورة حول المتعالي، ضمن ما هو تاريخي وإنساني متحوّل عبر الزمن.

- حول بدء المسار وتشكّل المشروع

لقد أقبل هشام جعيط على الخوض في قضايا الفكر والحضارة تبعا لانخراطه في عالم البحث التاريخي، عندما بدا (أواخر ستينات القرن العشرين) في إعداد أطروحته لنيل شهادة دكتوراه التي كان موضوعها "نشأة المدينة العربية الإسلامية"، "الكوفة" أنموذجا، (نوقشت بجامعة السوربون بباريس سنة 1981)، كان ذلك قبل أن يركّز اشتغاله على بدايات التاريخ العربي والإسلامي، حيث أعاد تأويل حدث "الفتنة الكبرى"، عبر البحث في ما اصطلح عليه بـ "جدليّة الدّين والسّياسة في الإسلام المبكّر" (1989)، إذ قام باستنطاق جديد لدلالة الخبر المدوّن ولوجوه الصراع التراجيدي بين الأقطاب المتنازعة، باحثا في علاقة ذلك بالمبادئ السامية والمثل العليا التي جاء بها القرآن الكريم، وجسّمتها سيرة الرسول محمّد (ص)، وهو ما دفع به إلى تركيب براديغم تفكير يتكوّن من أدوات منهاجية ومعارف إنسانية اجتماعية أنتروبولوجية وفلسفية فينومينولجية، اعتمدها لأجل تعميق البحث في مفهوم النبوّة والوحي الإلهي وإمكان وقوعه في التاريخ، ودراسة سبل تشكّله خطابا شفاهيّا أمسى كتابا إلهيا ذا شأن عظيم، لذا بدت له ضرورة إعادة قراءة مدوّنة السيرة النبوية، استنادا إلى مؤدّى دلالة النصّ القرآني، ووفقا لمنطق التاريخ ومعقول نظرية المعرفية، لذا بادر بالتوازي مع ذلك إلى تجديد قراءة الأحداث الكبرى وتأويل مسارها وفق فلسفة للتاريخ العربي الإسلامي حاول تشييد لبناتها ومفاهيمها، انتهت به إلى نقد التمثّلات المتراكمة حول سيرورة الامّة والمجتمع في التاريخ، ممّا أسهم في فتح الباب واسعا أمام قراءة مختلفة لمسار التاريخ العربي الإسلامي؛ قراءة تقطع مع خطاب المديح والتمجيد للذّات وللماضي، وتنقض أسلوب الإقصاء ونزعة الانتصار للرأي الواحد.

   ويبدو أنّ مثل تلك السياقات التي أرساها هشام جعيط في البحث قد ساعدته على فتح آفاق واسعة للتفكير في مقوّمات الأنا الحضاري العربي الإسلامي وفي أسباب إخفاق النهضة العربية، ونكوص مشروع التحديث، وظهور إشكاليات مأزق التفكير في الهويّة والعلاقة بالآخر وصورة الإسلام في مرآة الآخر... وهو ما دفع به إلى إنجاز قراءات نقدية سعت أن تكون علمية موضوعية للمنجز المعرفي ولخطاب الاستشراق، تضع موضع المساءلة والبحث ما كُتب عن البعثة المحمدية والحضارة الإسلامية في لغة الآخر، سواء كان ذلك بدافع المعرفة وخدمة الحقيقة التاريخية أو من منطلق إيديولوجي يخدم فكرة المركزية الأوروبية.

وهكذا أمكن طرق عالم المشروع النقدي المعرفي لهشام جعيّط، من خلال ثلاث نقاط محورية يتصل أوّلها بمشكل مكوّنات المنهج، وتتعلّق الثانية بإشكاليات إجراء المنهج.

1-مشكل المنهج وأدوات القراءة والتأويل

سبقت الإشارة إلى أنّ منطلق المشروع المعرفي النقدي لهشام جعيط، هو البحث في التاريخ الإسلامي بدءا من عهوده المبكّرة ولحظات التأسيس، في ضوء أفق فكري علمي جديد، لا يكتفي، فحسب، بتطبيق ما طرحته النظريات والمناهج الحديثة من أدوات تحليل وقراءة، بل ينطلق من نظرة جديدة لوظيفة المؤرّخ ومجال البحث في علاقته بذات الباحث وهويّته الحضارية، دون تحيّز أو سقوط في التمجيد ونزعة الافتخار والتعصّب التي وسمت أغلب المصادر القديمة، وظلّت معتمدة إلى العصر الحاضر لدى أغلب شيوخ الدين، وهي نزعة لم تعد مجدية وبعيدة عن روح البحث العلمي. لذا بدا له من الوجيه أن يسلك منهجية تفهّم وتأويل تعيد بناء الحدث، عبر تفسير أطر تكوّنه من جهة علاقتها بروح الحضارة؛ الدّين والثقافة ورؤية العالم، حيث تبيّنت لجعيّط ضرورة رصد سياق تكوّن المفاهيم والرؤى والبنى والثقافية وإدراك ظهور وظائف وأدوار جديدة لها تتحدّد بحسب سيرورة السياق، إذ كان الدّين والثقافة كما تجسّما في "الرّوح الحضاري" العربي الإسلامي، من ضمن العوامل الأساسية لظهور المدينة وتكوّن الدولة وكيانها الحضاري المميّز.

وهو ما يعني أنّ جعيّط لا يركّز على بعد أو عامل بعينه (اقتصادي، جغرافي، عرقي..)، يتحيّز له، ويتّخذ منه أداة تفسير دون غيره، كما تفعل الأسطوغرافيا الكلاسيكية في الغرب (الماركسية مثلا)، إنه يدمج هذا في ذاك عبر رصد نسق حركة الجدل التي تحكم سيرورة الواقع والتاريخ والإنسان، حيث عبر رصد تداخل وتفاعل عناصر مختلفة، يستنتج المفهوم او ينحته، ثمّ يعيد تركيب الحدث وصورة الظاهرة .

 في معرض ذلك كان هناك رافدان معرفيان؛ هما الفلسفة والعلوم الإنسانية، أثّرا في تكوين جعيّط، دون أن يتحيّز كلّيا لأيّ منهما، إذ ما فتئ يعيد فحص منهجه في البحث ويستأنف تركيب أدواته في القراءة والنقد والتأويل، ضمن منوال جاء منفتحا على حقول معرفية مختلفة. فرغم أنّ مجال التخصّص الأصلي لجعيّط هو التاريخ، فقد أقبل على دراسة الفلسفة، حيث رأى في ذلك ضرورة تفتح آفاقا واسعة للتفكير والفهم، وقد أبان عن ذلك، حينما قال: "وكان اكتشافي للفلسفة أمرًا حاسمًا، وكان بمثابة الفتح والتجلي، ولستُ أعني بذلك الميتافيزيقا فقط، وإنما أيضًا علم النفس والأخلاق والمنطق. عندئذ بدأت تذوب عندي بديهيات أساسية...". وقد بدا أثر هذا البعد المعرفي واضحا في صياغته لمفهوم "الشخصيّة العربية الإسلامية"، بوصفها كيانا كليّا جامعا لروح الدين والثقافة ومجمل تجارب التاريخ، ظلّت تمتدح من تلك الرموز الكبرى، لذا غدت بتعبير الفيلسوف الألماني هيغل، تمثّل ذاك"الرّوح الحضاري المميّز للشعب والامّة"، تتخذ صورا وتجلّيات مختلفة في قيام المدينة والدولة وفي سيرورة تكوّن الكيان الحضاري عبر التاريخ.

وبالتوازي مع ذلك وفي مجال دراسة التاريخ ونقد مصادره وتفسير الأحداث والوقائع، اعتمد جعيّط منهجيّة التفهّم والتأويل في أبعادها الفلسفية والسوسيولوجية، دون إقصاء لأيّ عامل، مستفيدا في ذلك من ماكس فيبر الذي أراد أن يتجاوز هيمنة النزعة الاقتصادية في التفسير الماركسي للتاريخ، مؤثرا للمنهج المقارن، متّخذا من النماذج الذهنية والروحية التي تؤثّر وتدفع إلى الفعل أرضيّة لذلك. ودمج جعيّط بين هذه التصوّرات ومفاهيم الأنتربولوجيا، بوصفها نظرية تسعى أن تكون علمية في تفسير تطورّ الإنسان بوصفه كائنا ثقافيّا، وهو ما يظهر من قوله الذي جاء يرسم معالم أبعاد مشروعه، إذ رأى أنّه من الضروري: "إعطاء نظرة أنثروبولوجية للثقافة العربية قبل الإسلام واستقراء النصّ القرآني وتتبع التأثيرات الخارجية (ويكون ذلك بالتوازي مع النظر النقدي في المصادر التاريخية والببيوغرافية).

(*) ( جامعة قرطاج، تونس)

(يتبع)

 

 

 

منتدى الصباح: رى الأولى لرحيل المفكّر والمؤرّخ هشام جعيّط.. هكذا فكّر في المقدّس ونقد التاريخ بحثا عن إسهام جديد في صنعه(1 من 3)

بقلم:د. محمّد الكحلاوي(*)

تمرّ هذا الشهر الذكر الأولى لوفاة المفكّر والمؤرّخ صاحب المشروع المعرفي المتميّز في قراءة التاريخ والحضارة ونقد الثقافة الأستاذ العالم الكبير هشام جعيّط (1935 – 2021م)، رحمه الله رحمه واسعة.

    لقد ظلّ الاهتمام كبيرا ولافتا بفكر هشام جعيّط وبما يكتب في مسائل قراءة التاريخ الإسلامي وعلاقة الوحي بالتاريخ والمقدّس بالعقل والدّين بالحداثة والفكر الديني بالدين والتاريخ، فغدت فلسفته القادمة من أتون مصادر التاريخ ومن محاورة عميق المعنى الأنطولوجي الذي استقاه من تأمّلاته في النصوص القديمة الدينية وكتابات المؤرخين والفلاسفة القدامى والمحدثين قيما معرفية عليا، لكونها جاءت بمثابة بلسمل لفكر الحائر تجاه قضايا "الشخصية العربية الإسلامية" والهويّة"، وحقيقة سيرورة "التاريخ" ومسائل "التقدّم"، و"الحرّية"، إذ بيّن كيف أنّ الوعي بالمفهوم ووضع المصطلحات والتصوّرات موضع مساءلة ونقد، هو المدخل إلى بناء الفكر والمعرفة وتحرير الإنسان وتشييد لبنات التقدّم والحضارة من خلال المشاركة في صنع التاريخ الكوني.

   لذلك تعدّى الاهتمام بفكر هشام جعيّط ، دائرة النخب الأكاديمية والثقافية إلى عامّة الناس، الذين بدأوا وكأنّهم فهموا مؤلفاته واطّلعوا على خصوصية طروحاته في قراءة التاريخ العربي الإسلامي وتأويل ما جاء في مصادره حول حدث نزول الوحي و"نشأة المدينة" و"الفتنة" و"دولة النبوّة" و"كتابة السيرة النبوية"، تلك المسائل التي نظر فيها جعيّط بعمق، من خلال كتب جاءت نتاجا لاهتمام دقق وإشكالي استمرّ لديه بقضايا قراءة التراث والحداثة وبإرهاصات مشروع بناء الدولة الوطنية وتمثّلات مفهوم الهوية و"الشخصية العربية الإسلامية والمصير"، (وهو عنوان أحد أبرز كتبه)، حيث فكّر في تلك المسائل في ضوء منهجيات بحث علمي وأدوات تحليل وقراءة عصرية ومتنوعة في مرجعياتها المعرفية والنظرية؛ فلسفية وعلمية إنسانية، منطلقا في تشييد خطابه من حوار نقدي بنّاء مع ما أنتج الآخر حول تراثنا وحضارتنا، بعيدا عن منطق التحيّز بالرفض والقطيعة أو اتبّاع أو احتذاء للنموذج الغربي دون تلقّي نقدي.

      هكذا بقي هشام جعيّط يقيم بامتياز ضمن منطقة "النقد المزدوج"، على حدّ عبارة المفكّر وعالم الاجتماع المغربي عبد الكبير الخطيبي (تـ 2009م)؛ إذ موضوع اهتمامه المحوري تلك الصور والتمثّلات التي بناها الآخر حول الإسلام دينا وتاريخا وحضارة ورموزا مقدّسة؛ مثل نبوّة محمّد (ص)، تراه مفكّرا تفكير نقديّا مؤسّسا في تلك الرؤى التي ظللنا نحتفظ بها حول معنى الذّات والمقدّس والرسالة والهويّة والتراث، إذ لا سكون ولا ثبات لمفهوم أو معنى أو لصورة حول المتعالي، ضمن ما هو تاريخي وإنساني متحوّل عبر الزمن.

- حول بدء المسار وتشكّل المشروع

لقد أقبل هشام جعيط على الخوض في قضايا الفكر والحضارة تبعا لانخراطه في عالم البحث التاريخي، عندما بدا (أواخر ستينات القرن العشرين) في إعداد أطروحته لنيل شهادة دكتوراه التي كان موضوعها "نشأة المدينة العربية الإسلامية"، "الكوفة" أنموذجا، (نوقشت بجامعة السوربون بباريس سنة 1981)، كان ذلك قبل أن يركّز اشتغاله على بدايات التاريخ العربي والإسلامي، حيث أعاد تأويل حدث "الفتنة الكبرى"، عبر البحث في ما اصطلح عليه بـ "جدليّة الدّين والسّياسة في الإسلام المبكّر" (1989)، إذ قام باستنطاق جديد لدلالة الخبر المدوّن ولوجوه الصراع التراجيدي بين الأقطاب المتنازعة، باحثا في علاقة ذلك بالمبادئ السامية والمثل العليا التي جاء بها القرآن الكريم، وجسّمتها سيرة الرسول محمّد (ص)، وهو ما دفع به إلى تركيب براديغم تفكير يتكوّن من أدوات منهاجية ومعارف إنسانية اجتماعية أنتروبولوجية وفلسفية فينومينولجية، اعتمدها لأجل تعميق البحث في مفهوم النبوّة والوحي الإلهي وإمكان وقوعه في التاريخ، ودراسة سبل تشكّله خطابا شفاهيّا أمسى كتابا إلهيا ذا شأن عظيم، لذا بدت له ضرورة إعادة قراءة مدوّنة السيرة النبوية، استنادا إلى مؤدّى دلالة النصّ القرآني، ووفقا لمنطق التاريخ ومعقول نظرية المعرفية، لذا بادر بالتوازي مع ذلك إلى تجديد قراءة الأحداث الكبرى وتأويل مسارها وفق فلسفة للتاريخ العربي الإسلامي حاول تشييد لبناتها ومفاهيمها، انتهت به إلى نقد التمثّلات المتراكمة حول سيرورة الامّة والمجتمع في التاريخ، ممّا أسهم في فتح الباب واسعا أمام قراءة مختلفة لمسار التاريخ العربي الإسلامي؛ قراءة تقطع مع خطاب المديح والتمجيد للذّات وللماضي، وتنقض أسلوب الإقصاء ونزعة الانتصار للرأي الواحد.

   ويبدو أنّ مثل تلك السياقات التي أرساها هشام جعيط في البحث قد ساعدته على فتح آفاق واسعة للتفكير في مقوّمات الأنا الحضاري العربي الإسلامي وفي أسباب إخفاق النهضة العربية، ونكوص مشروع التحديث، وظهور إشكاليات مأزق التفكير في الهويّة والعلاقة بالآخر وصورة الإسلام في مرآة الآخر... وهو ما دفع به إلى إنجاز قراءات نقدية سعت أن تكون علمية موضوعية للمنجز المعرفي ولخطاب الاستشراق، تضع موضع المساءلة والبحث ما كُتب عن البعثة المحمدية والحضارة الإسلامية في لغة الآخر، سواء كان ذلك بدافع المعرفة وخدمة الحقيقة التاريخية أو من منطلق إيديولوجي يخدم فكرة المركزية الأوروبية.

وهكذا أمكن طرق عالم المشروع النقدي المعرفي لهشام جعيّط، من خلال ثلاث نقاط محورية يتصل أوّلها بمشكل مكوّنات المنهج، وتتعلّق الثانية بإشكاليات إجراء المنهج.

1-مشكل المنهج وأدوات القراءة والتأويل

سبقت الإشارة إلى أنّ منطلق المشروع المعرفي النقدي لهشام جعيط، هو البحث في التاريخ الإسلامي بدءا من عهوده المبكّرة ولحظات التأسيس، في ضوء أفق فكري علمي جديد، لا يكتفي، فحسب، بتطبيق ما طرحته النظريات والمناهج الحديثة من أدوات تحليل وقراءة، بل ينطلق من نظرة جديدة لوظيفة المؤرّخ ومجال البحث في علاقته بذات الباحث وهويّته الحضارية، دون تحيّز أو سقوط في التمجيد ونزعة الافتخار والتعصّب التي وسمت أغلب المصادر القديمة، وظلّت معتمدة إلى العصر الحاضر لدى أغلب شيوخ الدين، وهي نزعة لم تعد مجدية وبعيدة عن روح البحث العلمي. لذا بدا له من الوجيه أن يسلك منهجية تفهّم وتأويل تعيد بناء الحدث، عبر تفسير أطر تكوّنه من جهة علاقتها بروح الحضارة؛ الدّين والثقافة ورؤية العالم، حيث تبيّنت لجعيّط ضرورة رصد سياق تكوّن المفاهيم والرؤى والبنى والثقافية وإدراك ظهور وظائف وأدوار جديدة لها تتحدّد بحسب سيرورة السياق، إذ كان الدّين والثقافة كما تجسّما في "الرّوح الحضاري" العربي الإسلامي، من ضمن العوامل الأساسية لظهور المدينة وتكوّن الدولة وكيانها الحضاري المميّز.

وهو ما يعني أنّ جعيّط لا يركّز على بعد أو عامل بعينه (اقتصادي، جغرافي، عرقي..)، يتحيّز له، ويتّخذ منه أداة تفسير دون غيره، كما تفعل الأسطوغرافيا الكلاسيكية في الغرب (الماركسية مثلا)، إنه يدمج هذا في ذاك عبر رصد نسق حركة الجدل التي تحكم سيرورة الواقع والتاريخ والإنسان، حيث عبر رصد تداخل وتفاعل عناصر مختلفة، يستنتج المفهوم او ينحته، ثمّ يعيد تركيب الحدث وصورة الظاهرة .

 في معرض ذلك كان هناك رافدان معرفيان؛ هما الفلسفة والعلوم الإنسانية، أثّرا في تكوين جعيّط، دون أن يتحيّز كلّيا لأيّ منهما، إذ ما فتئ يعيد فحص منهجه في البحث ويستأنف تركيب أدواته في القراءة والنقد والتأويل، ضمن منوال جاء منفتحا على حقول معرفية مختلفة. فرغم أنّ مجال التخصّص الأصلي لجعيّط هو التاريخ، فقد أقبل على دراسة الفلسفة، حيث رأى في ذلك ضرورة تفتح آفاقا واسعة للتفكير والفهم، وقد أبان عن ذلك، حينما قال: "وكان اكتشافي للفلسفة أمرًا حاسمًا، وكان بمثابة الفتح والتجلي، ولستُ أعني بذلك الميتافيزيقا فقط، وإنما أيضًا علم النفس والأخلاق والمنطق. عندئذ بدأت تذوب عندي بديهيات أساسية...". وقد بدا أثر هذا البعد المعرفي واضحا في صياغته لمفهوم "الشخصيّة العربية الإسلامية"، بوصفها كيانا كليّا جامعا لروح الدين والثقافة ومجمل تجارب التاريخ، ظلّت تمتدح من تلك الرموز الكبرى، لذا غدت بتعبير الفيلسوف الألماني هيغل، تمثّل ذاك"الرّوح الحضاري المميّز للشعب والامّة"، تتخذ صورا وتجلّيات مختلفة في قيام المدينة والدولة وفي سيرورة تكوّن الكيان الحضاري عبر التاريخ.

وبالتوازي مع ذلك وفي مجال دراسة التاريخ ونقد مصادره وتفسير الأحداث والوقائع، اعتمد جعيّط منهجيّة التفهّم والتأويل في أبعادها الفلسفية والسوسيولوجية، دون إقصاء لأيّ عامل، مستفيدا في ذلك من ماكس فيبر الذي أراد أن يتجاوز هيمنة النزعة الاقتصادية في التفسير الماركسي للتاريخ، مؤثرا للمنهج المقارن، متّخذا من النماذج الذهنية والروحية التي تؤثّر وتدفع إلى الفعل أرضيّة لذلك. ودمج جعيّط بين هذه التصوّرات ومفاهيم الأنتربولوجيا، بوصفها نظرية تسعى أن تكون علمية في تفسير تطورّ الإنسان بوصفه كائنا ثقافيّا، وهو ما يظهر من قوله الذي جاء يرسم معالم أبعاد مشروعه، إذ رأى أنّه من الضروري: "إعطاء نظرة أنثروبولوجية للثقافة العربية قبل الإسلام واستقراء النصّ القرآني وتتبع التأثيرات الخارجية (ويكون ذلك بالتوازي مع النظر النقدي في المصادر التاريخية والببيوغرافية).

(*) ( جامعة قرطاج، تونس)

(يتبع)

 

 

 

  Conception & Réalisation  Alpha Studios Copyright © 2023  assabahnews