إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

بورتريه: الصادق بلعيد.. "عراب" الجمهورية الجديدة.. عاشق كتابة الدساتير !

 

 

تونس- الصباح

غير آبه لا بالنقد ولا بالتشكيك والمخاوف.. يمضي أستاذ القانون الدستوري وعميد كلية العلوم القانونية والسياسية والاقتصادية بتونس في سبعينات القرن الماضي، الصادق بلعيد، بتصميم مثير للدهشة في استكمال مهمته في صياغة الدستور الجديد..

دستور يتقاسم أفكاره مع قيس سعيد.. أحد طلبته بالأمس والذي كان يجلس أمامه في قاعات الدرس منبهرا بأفكاره بل ولعل أثره وتأثيره كان واضحا في مسيرة الطالب الذي أحب مادة القانون الدستوري من خلال معلمه بلعيد ليصبح هو أيضا أستاذا في القانون الدستوري.. ولكن في السياسية تفوق الطالب على المعلم وأصبح رئيسا للجمهورية في لحظة انتقدها الصادق بلعيد بشكل لاذع وهو يتحدث في مقال له عن "السذاجة الأسطورية" التي جعلت الشعب التونسي يضع نفسه بين خيارين في الدور الثاني من الانتخابات.. نبيل القروي وقيس سعيد !

ولعل من المفارقات، أن تلك "السذاجة" التي سحبها الصادق بلعيد على الشعب التونسي، هي التي قادته اليوم وقد تجاوز عتبة الثمانين من العمر، ليكون رأس حربة في مشروع قيس سعيد الدستوري، والذي لم يجد أفضل من أستاذه ومعلمه بلعيد، ليكون عرّابا لمشروعة وأن تكون ولادة الجمهورية الجديدة التي يحلم بها قيس سعيد على يديه وهو الذي وضعه على رأس اللجنة الاستشارية لإعداد الدستور الجديد.. المهمة التي يقوم بها باقتدار شديد رغم كل الانتقادات والتشكيك، ويمضي فيها "بمن حضر" غير متأثر بالاعتذارات الكثيرة التي رافقت دعوته لأطراف وشخصيات كثيرة لهذا الحوار ويتعامل بأسلوب فج مع كل من ينتقده أو يعارضه كما يفعل طوال الوقت مع الصحفيين.. مهمة ستنتهي بولادة دستور سيكون هو وتد الخيمة في جمهورية سعيد الجديدة.. ولادة قيصرية دون مخاض.. بل هي أقرب الى فرض الأمر الواقع وفرض الفكرة التي يؤمن بها قيس سعيد ويشاركها الصادق بلعيد ذلك الإيمان الصادق ..

بلعيد وضميره..

"تركني أنا وضميري" يقول بثقة ويصرّ الصادق بلعيد على التأكيد أنه لم يتلق تعليمات من رئيس الجمهورية في صياغة الدستور.. مضيفا "سأبقى على هذا الدرب حتى نهاية هذه المهمة".. لكن هذه المهمة المفصلية في تاريخ تونس والتي ستنتهي عمليا الى واقع سياسي جديد يترجم أفكار أصحابها بالأساس.. قيس سعيد، صاحب الفكرة الأصلية والصادق بلعيد شريكه في تنفيذها.. يتمسك العميد بها، معتقدا أنها ستكون الإنجاز الأكبر في حياته والذي سيدخله التاريخ من أوسع أبوابه.. وهو رجل القانون العابر لكل الأزمات والأنظمة السياسية حيث أدرك الجمهورية الأولى مع نظام بورقيبة وكان دستور 1959 أحد أهم المباحث القانونية التي اشتغل عيها .

كما أن الجيل البورقيبي ما زالت ذاكرته تحتفظ بذكرى سيئة عن دور الصادق بلعيد، إبان ترؤسه اللجنة التونسية في الخلاف الليبي التونسي حول ملف الجرف القاري.. الخلاف الأشهر في تاريخ تونس وليبيا بين 1978 1982 حول منطقة الجرف القاري الغنية بالبترول والغاز والثروة السمكية والذي تؤكد مصادر تاريخية مختلفة أن الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي اقترح اقتسامها ولكن الزعيم بورقيبة أصغى الى مقترحات مجموعة من المختصين في القانون الدستوري آنذاك بعد أن نصحوه بالتوجه الى محكمة لاهاي الدولية، آمالا في انتزاع قرار دولي لصالح تونس.. ولكن الخسارة كانت مؤكدة وأصدرت محكمة لاهاي قرارا نهائيا ورسميا يؤكد على السيادة الكاملة لليبيا على الجرف القاري.. وكانت تلك أولى هزائم الصادق بلعيد في بداية مسيرته الأكاديمية.. هزيمة يتمنى الأغلبية أن تتكرر وهو في نهاية المسيرة !

زمن بن علي كان الصادق بلعيد ضمن النخبة الأكاديمية التي جنحت للصمت وحيّدت مواقفها في علاقة بالسلطة ولا يذكر لنا التاريخ مواقف ملفتة للعميد الصادق بلعيد في علاقة بالحريات والحقوق والتي كانت تنتهك بشكل متكرر في نظام زين العابدين بن علي.. ولكن ظهوره كان لافتا ومثيرا للجدل لحظة سقوط النظام.. ففي تلك الليلة التي غادر فيها بن علي أرض تونس، تاركا وراءه رجال نظامه يتخبطون للسيطرة على فوضى كانت أكثر من محتملة ولمواجهة المجهول بكل سيناريوهاته المخيفة.. أطل الصادق بلعيد عبر شاشة الجزيرة ليزيد في إرباك المرتبكين.. حيث أعلن أن محمد الغنوشي الوزير الأول وقتها قد ارتكب خطأ إجرائيا عندما أعلن تولّيه الرئاسة بصفة وقتيّة بتفويض من الرئيس طبقا للفصل 56 من دستور 1959 حيث رفض بلعيد تطبيق هذا الفصل واعتبره مغالطة ترتقي إلى درجة الخيانة، إذ لا يمكن لرئيس أطاحت به ثورة شعبيّة أن يفوّض مهامّه إلى رئيس وزرائه. واقترح في هذا الصّدد تولّي رئيس مجلس النوّاب مهامّ رئيس الجمهورية طبقا للفصل 57 الّذي ينصّ صراحة على التدابير الواجب اتّخاذها في حال الشغور النهائي لمنصب رئيس الجمهورية.. وهو ما حدث بالفعل بعد سويعات من تدخله التلفزيوني .

فاتته الجمهوريتان الأولى والثانية.. فأدرك الثالثة !

بلعيد الذي استطاع وقتها وفي لحظة تاريخية غير متوقعة، ربما، تحويل وجهة الثورة الى مكان غير متوقع وتعديل أوتار ما بقي من نظام كان على وشك الانهيار.. كان يدرك أن طريق الجمهورية الأولى وصل الى نفق مسدود، هذه الجمهورية التي عاشها وعايشها تكاد تصبح من الماضي.. وإذا كان لم يتسن له وقتها أن يكون له فيها دور أو يضع حجرا من حجارة بنائها.. فانعقد العزم والجمهورية الثانية توشك على الولادة أن يكون له دور وأن يتدثر بجبة الأب المؤسس كما فعلت كل الشخصيات المؤسسة لذلك بادر في 21 جويلية 2011 وقبل أشهر قليلة من انتخابات المجلس الجديد بصياغة دستور جديد للجمهورية الثانية وطرح مسودة مشروع دستور، نصّت على مبادئ كبرى، مثل إقرار حريّة الضمير وإلغاء عقوبة الإعدام، والمساواة التامة في الحقوق والواجبات بين المواطنين.. بعد أن كان قد أصدر مع تلميذه قيس سعيد بيانا أعلنا من خلاله وفاة دستور 1959 والحاجة الى هيئة تأسيسية جديدة ..

ومع وثيقة الدستور التي أعدها عرض الصادق بلعيد نفسه في انتخابات المجلس التأسيسي على الشعب وترأس قائمة تسمى قائمة وفاء ولكنه فشل في نيل ثقته، وسقطت قائمته التي لم تحصل إلا على 4391 صوتا.. كما لم تحظ مسودة دستوره بأدنى اهتمام من النواب المؤسسين الذين انشغلوا بالصراع السياسي والإيديولوجي أكثر من انشغالهم بالدستور الذي فرضته في النهاية أزمة 2013 وسياسة التوافق بين الكتل !

ومع ذلك، ظل الصادق بلعيد يلاحق حلمه في وضع بصمة في الدستور.. وهو الشغوف بالدساتير، المحب لكتابتها وتأريخ أفكاره بنص طالما حكم الشعب وتحكم في مصيره.. ومرة أخرى يلتقي في منتصف الطريق مع تلميذه السابق قيس سعيد الذي أصبح رئيسا للجمهورية والذي يثق في معلمه الصادق بلعيد ومنحه فرصة مشاركته في صياغة الوثيقة الدستورية التي ستؤسس لجمهوريتهما معا.. جمهورية ستنزع عن الدولة تدينها وستحول الحكومة الى هيئة حكومية وستقلم أظافر البرلمان وتحول القضاء الى وظيفة وتطلق يد الرئيس في الحكم.. إنها الجمهورية الجديدة !

منية العرفاوي

 

 

 

 

بورتريه: الصادق بلعيد.. "عراب" الجمهورية الجديدة.. عاشق كتابة الدساتير !

 

 

تونس- الصباح

غير آبه لا بالنقد ولا بالتشكيك والمخاوف.. يمضي أستاذ القانون الدستوري وعميد كلية العلوم القانونية والسياسية والاقتصادية بتونس في سبعينات القرن الماضي، الصادق بلعيد، بتصميم مثير للدهشة في استكمال مهمته في صياغة الدستور الجديد..

دستور يتقاسم أفكاره مع قيس سعيد.. أحد طلبته بالأمس والذي كان يجلس أمامه في قاعات الدرس منبهرا بأفكاره بل ولعل أثره وتأثيره كان واضحا في مسيرة الطالب الذي أحب مادة القانون الدستوري من خلال معلمه بلعيد ليصبح هو أيضا أستاذا في القانون الدستوري.. ولكن في السياسية تفوق الطالب على المعلم وأصبح رئيسا للجمهورية في لحظة انتقدها الصادق بلعيد بشكل لاذع وهو يتحدث في مقال له عن "السذاجة الأسطورية" التي جعلت الشعب التونسي يضع نفسه بين خيارين في الدور الثاني من الانتخابات.. نبيل القروي وقيس سعيد !

ولعل من المفارقات، أن تلك "السذاجة" التي سحبها الصادق بلعيد على الشعب التونسي، هي التي قادته اليوم وقد تجاوز عتبة الثمانين من العمر، ليكون رأس حربة في مشروع قيس سعيد الدستوري، والذي لم يجد أفضل من أستاذه ومعلمه بلعيد، ليكون عرّابا لمشروعة وأن تكون ولادة الجمهورية الجديدة التي يحلم بها قيس سعيد على يديه وهو الذي وضعه على رأس اللجنة الاستشارية لإعداد الدستور الجديد.. المهمة التي يقوم بها باقتدار شديد رغم كل الانتقادات والتشكيك، ويمضي فيها "بمن حضر" غير متأثر بالاعتذارات الكثيرة التي رافقت دعوته لأطراف وشخصيات كثيرة لهذا الحوار ويتعامل بأسلوب فج مع كل من ينتقده أو يعارضه كما يفعل طوال الوقت مع الصحفيين.. مهمة ستنتهي بولادة دستور سيكون هو وتد الخيمة في جمهورية سعيد الجديدة.. ولادة قيصرية دون مخاض.. بل هي أقرب الى فرض الأمر الواقع وفرض الفكرة التي يؤمن بها قيس سعيد ويشاركها الصادق بلعيد ذلك الإيمان الصادق ..

بلعيد وضميره..

"تركني أنا وضميري" يقول بثقة ويصرّ الصادق بلعيد على التأكيد أنه لم يتلق تعليمات من رئيس الجمهورية في صياغة الدستور.. مضيفا "سأبقى على هذا الدرب حتى نهاية هذه المهمة".. لكن هذه المهمة المفصلية في تاريخ تونس والتي ستنتهي عمليا الى واقع سياسي جديد يترجم أفكار أصحابها بالأساس.. قيس سعيد، صاحب الفكرة الأصلية والصادق بلعيد شريكه في تنفيذها.. يتمسك العميد بها، معتقدا أنها ستكون الإنجاز الأكبر في حياته والذي سيدخله التاريخ من أوسع أبوابه.. وهو رجل القانون العابر لكل الأزمات والأنظمة السياسية حيث أدرك الجمهورية الأولى مع نظام بورقيبة وكان دستور 1959 أحد أهم المباحث القانونية التي اشتغل عيها .

كما أن الجيل البورقيبي ما زالت ذاكرته تحتفظ بذكرى سيئة عن دور الصادق بلعيد، إبان ترؤسه اللجنة التونسية في الخلاف الليبي التونسي حول ملف الجرف القاري.. الخلاف الأشهر في تاريخ تونس وليبيا بين 1978 1982 حول منطقة الجرف القاري الغنية بالبترول والغاز والثروة السمكية والذي تؤكد مصادر تاريخية مختلفة أن الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي اقترح اقتسامها ولكن الزعيم بورقيبة أصغى الى مقترحات مجموعة من المختصين في القانون الدستوري آنذاك بعد أن نصحوه بالتوجه الى محكمة لاهاي الدولية، آمالا في انتزاع قرار دولي لصالح تونس.. ولكن الخسارة كانت مؤكدة وأصدرت محكمة لاهاي قرارا نهائيا ورسميا يؤكد على السيادة الكاملة لليبيا على الجرف القاري.. وكانت تلك أولى هزائم الصادق بلعيد في بداية مسيرته الأكاديمية.. هزيمة يتمنى الأغلبية أن تتكرر وهو في نهاية المسيرة !

زمن بن علي كان الصادق بلعيد ضمن النخبة الأكاديمية التي جنحت للصمت وحيّدت مواقفها في علاقة بالسلطة ولا يذكر لنا التاريخ مواقف ملفتة للعميد الصادق بلعيد في علاقة بالحريات والحقوق والتي كانت تنتهك بشكل متكرر في نظام زين العابدين بن علي.. ولكن ظهوره كان لافتا ومثيرا للجدل لحظة سقوط النظام.. ففي تلك الليلة التي غادر فيها بن علي أرض تونس، تاركا وراءه رجال نظامه يتخبطون للسيطرة على فوضى كانت أكثر من محتملة ولمواجهة المجهول بكل سيناريوهاته المخيفة.. أطل الصادق بلعيد عبر شاشة الجزيرة ليزيد في إرباك المرتبكين.. حيث أعلن أن محمد الغنوشي الوزير الأول وقتها قد ارتكب خطأ إجرائيا عندما أعلن تولّيه الرئاسة بصفة وقتيّة بتفويض من الرئيس طبقا للفصل 56 من دستور 1959 حيث رفض بلعيد تطبيق هذا الفصل واعتبره مغالطة ترتقي إلى درجة الخيانة، إذ لا يمكن لرئيس أطاحت به ثورة شعبيّة أن يفوّض مهامّه إلى رئيس وزرائه. واقترح في هذا الصّدد تولّي رئيس مجلس النوّاب مهامّ رئيس الجمهورية طبقا للفصل 57 الّذي ينصّ صراحة على التدابير الواجب اتّخاذها في حال الشغور النهائي لمنصب رئيس الجمهورية.. وهو ما حدث بالفعل بعد سويعات من تدخله التلفزيوني .

فاتته الجمهوريتان الأولى والثانية.. فأدرك الثالثة !

بلعيد الذي استطاع وقتها وفي لحظة تاريخية غير متوقعة، ربما، تحويل وجهة الثورة الى مكان غير متوقع وتعديل أوتار ما بقي من نظام كان على وشك الانهيار.. كان يدرك أن طريق الجمهورية الأولى وصل الى نفق مسدود، هذه الجمهورية التي عاشها وعايشها تكاد تصبح من الماضي.. وإذا كان لم يتسن له وقتها أن يكون له فيها دور أو يضع حجرا من حجارة بنائها.. فانعقد العزم والجمهورية الثانية توشك على الولادة أن يكون له دور وأن يتدثر بجبة الأب المؤسس كما فعلت كل الشخصيات المؤسسة لذلك بادر في 21 جويلية 2011 وقبل أشهر قليلة من انتخابات المجلس الجديد بصياغة دستور جديد للجمهورية الثانية وطرح مسودة مشروع دستور، نصّت على مبادئ كبرى، مثل إقرار حريّة الضمير وإلغاء عقوبة الإعدام، والمساواة التامة في الحقوق والواجبات بين المواطنين.. بعد أن كان قد أصدر مع تلميذه قيس سعيد بيانا أعلنا من خلاله وفاة دستور 1959 والحاجة الى هيئة تأسيسية جديدة ..

ومع وثيقة الدستور التي أعدها عرض الصادق بلعيد نفسه في انتخابات المجلس التأسيسي على الشعب وترأس قائمة تسمى قائمة وفاء ولكنه فشل في نيل ثقته، وسقطت قائمته التي لم تحصل إلا على 4391 صوتا.. كما لم تحظ مسودة دستوره بأدنى اهتمام من النواب المؤسسين الذين انشغلوا بالصراع السياسي والإيديولوجي أكثر من انشغالهم بالدستور الذي فرضته في النهاية أزمة 2013 وسياسة التوافق بين الكتل !

ومع ذلك، ظل الصادق بلعيد يلاحق حلمه في وضع بصمة في الدستور.. وهو الشغوف بالدساتير، المحب لكتابتها وتأريخ أفكاره بنص طالما حكم الشعب وتحكم في مصيره.. ومرة أخرى يلتقي في منتصف الطريق مع تلميذه السابق قيس سعيد الذي أصبح رئيسا للجمهورية والذي يثق في معلمه الصادق بلعيد ومنحه فرصة مشاركته في صياغة الوثيقة الدستورية التي ستؤسس لجمهوريتهما معا.. جمهورية ستنزع عن الدولة تدينها وستحول الحكومة الى هيئة حكومية وستقلم أظافر البرلمان وتحول القضاء الى وظيفة وتطلق يد الرئيس في الحكم.. إنها الجمهورية الجديدة !

منية العرفاوي

 

 

 

 

  Conception & Réalisation  Alpha Studios Copyright © 2023  assabahnews