فتحت مبادرة الاتحاد العام التونسي للشغل باطلاق عريضة على موقعه الرسمي على الفايسبوك للمطالبة باقرار موعد 26 جانفي عيدا وطنيا ضمن روزنامة الأعياد الوطنية، الباب من جديد للنقاش والجدل حول مدى مشروعية مثل هذه المطالب والخطوات لا سيما في ظل الاختلافات في وجهات النظر حول بعض المحطات من تاريخ تونس القديم والحديث وغياب الحسم والحقيقة التاريخية المجردة بعيدا عن كل توظيف.
قطعا، ليس القصد هنا التقليص من قيمة بعض المحطات الفارقة في تاريخ البلاد ولا في قيمة النضالات والتضحيات وحق شهداء كل حقبة في سبيل الحريات والحقوق النقابية والسياسية والمدنية، ومنها محطة 26 جانفي أو "الخميس الأسود"، لكن تواتر الجدل حول الأعياد الوطنية بعد إقدام رئيس الجمهورية على تغيير عيد الثورة من 14 جانفي إلى 17 ديسمبر، ودعوة الاتحاد اليوم لتعديل روزنامة الأعياد الوطنية بإدراج موعد 26 جانفي، يطرح مخاوف جدية بشأن تغذية الانقسامات والجدل حول هذه المحطات من تاريخ البلاد كما قد يفتح الباب على مصراعيه لدعوات مماثلة يرى فيها كل طرف أو منظمة أو جهة أحقية إعادة الاعتبار والإنصاف من وجهة نظره.
اختلاف التقييمات
نشر الإتحاد العام التونسي للشغل بمناسبة إحياء ذكرى 26 جانفي الأربعاء الفارط، عريضة على صفحته الرسمية يطالب من خلالها رئاسة الحكومة بإقرار يوم 26 جانفي 1978 يوما وطنيا.
وتضمن نص العريضة الإشارة إلى أن تونس تعيش "مسارا انتقاليا وديمقراطيا منذ أكثر من عقد من الزمن، اتسم فيه المشهد بخيار رد الاعتبار للمناضلات والمناضلين من أجل الحرية والديمقراطية والحقوق الاجتماعية في مختلف مراحل تاريخ تونس الحديثة، غير أن أحداث 26 جانفي 1978 لم تنل الحظوة والاهتمام الكافيين لحدث مفصلي في تاريخ الاحتجاجات الاجتماعية الشعبية والتي كانت بقيادة الإتحاد العام التونسي للشغل وراح ضحيتها مئات من النقابيين والشباب خاصة من الأحياء الشعبية في مختلف جهات البلاد أين جوبهت تحركاتهم بالقمع الدموي المنظم".
وأن "الغاية من هذه الحملة التي نطلقها تحت شعار "ما نسيناش 26 جانفي" هو إنصاف شهداء وضحايا 26 جانفي 1978 من خلال اعتراف الدولة وأجهزتها الرسمية، الأمنية والقضائية والإعلامية، بمسؤوليتها في إسقاط الضحايا والإيقافات العشوائية والمنظمة، والأحكام الجائرة التي أصدرتها محكمة أمن الدولة في حق المحتجين والمحتجات، مما يجعل أحداث 26 جانفي 1978 جريمة تاريخية مكتملة الأركان في حق الشعب التونسي".
عريضة أثارت بعض التحفظات تماما كما حصل عندما أقدم رئيس الجمهورية على تغيير موعد عيد الثورة، إذ يلتقي معارضو إدخال تغييرات على روزنامة الأعياد الوطنية بالتغيير أو بالإضافة، لا يجب أن يخضع إلى منطق إرادة منطق المنتصر أو موقع القوة على أساس قاعدة أن التاريخ يكتبه المنتصر أو القوي في الظرف الراهن، بل الأصل في الأشياء أن يكون على قاعدة الحقيقية التاريخية وجدها والرمزية الجامعة لكل التونسيين لذلك الحدث الفاصل من تاريخ البلاد بعيدا عن الأمزجة والأهواء وكل جدل أو اختلافات في التقييمات والأحكام.
ويشير البعض إلى أن محطة 26 جانفي على رمزيتها وقيمتها، مازال الجدل والاختلاف في التقييمات قائم إلى حد اليوم حولها، لا سيما في غياب الحقيقة التاريخية كاملة والكشف عن كل الملابسات بالحجة الدامغة وفي مقدمتها عدد الذين قتلوا في تلك المواجهات وسط تباين في الإحصائيات ( تقارير تتحدث عن حوالي 400 شهيد سقطوا في الأحداث وجُرح أكثر من ألف مواطن نتيجة المواجهات بين الجيش والأمن من جهة والمتظاهرين من جهة أخرى في حين أقرت حكومة الهادي نويرة حينها بسقوط 52 شهيدا و365 جريحا فقط..).
مطالب أخرى بالإنصاف
فتح باب تعديل مواعيد الأعياد الوطنية قد لا يقف فقط في حدود عيد الثورة والخميس الأسود بل قد يتعداه مستقبلا خاصة وأنه تمت إثارة مثل هذه الدعوات بعد الثورة وقد تجد الحكومة نفسها أمام مطالب أخرى بإدراج أعياد وطنية إنصافا لبعض المحطات التاريخية التي سقط فيها ضحيا في حقبة ما من التاريخ كأن تتم المطالبة بيوم وطني لما يطلق عليه البعض "ثورة قفصة 1980". أو يوما وطنيا إنصافا لليوسفيين ويوم وطني آخر إنصافا لمحطات تاريخية من نضالات جهة ما في مقاومة المستعمر..
من المهم الإشارة هنا إلى أن الكثير من المحطات في تاريخ البلاد بما فيها الاستقلال والجلاء طالها التشكيك والمزايدة والتوظيف السياسي والتجاذبات وذلك على امتداد السنوات الأخيرة، وطالب كثيرون لإعادة كتابة التاريخ كما يؤكد البعض أن الكثير من الأحداث والمحطات التاريخية لم تبح بعد بكل أسرارها.
فعل سبيل المثال صرح سابقا المؤرخ التونسي توفيق بشروش أن "ظروف وملابسات انتقال بلادنا من نظام الحماية إلى النظام اللا حمائي محل إشكال، مشددا على أن التاريخ التونسي يتطلب إعادة كتابة والحركة الوطنية تتطلب إعادة تقييم''.
كما رفع ضمن مسار العدالة الانتقالية مطلب إعادة كتابة التاريخ في المقابل رفضه البعض وأثار جدلا واسعا.
إهدار فرصة العدالة الانتقالية
ولعل إهدار فرصة النجاح في تحقيق واستكمال مسار العدالة الانتقالية في البلاد كان من بين الأسباب التي فوتت أمكانية الوقوف على الحقائق التاريخية المجردة دون توظيف وحسم الجدل واختلاف التقييمات حول محطات هامة ومفصلية من تاريخ تونس.
ويظل التدخل في إعادة كتابة التاريخ موكولا أولا وأخيرا للمؤرخين بعيدا عن تدخل السياسية سواء في شخص رئيس الجمهورية أو تحت يافطة منظمة وطنية، حيث يؤكد عبد اللطيف الحناشي المختص في التاريخ المعاصر في تصريح سابق له "أعتقد أن المؤرخين كما كل المختصين في بقية العلوم الإنسانية والاجتماعية أصبحوا يتمتعون بحرية أكثر نتيجة تراخي الضغوط الذاتية والموضوعية، لذلك من الضروري أن نعيد كتابة تاريخنا الوطني برؤية جديدة بل رؤى جديدة وبمقاربات متعددة توظف فيها جميع العلوم الرديفة (علم الاجتماع علم النفس القانون الاقتصاد)".
ويضيف الحناشي بأن "..المفاتيح في يد من يملك الخبرة والمنهجية العلمية وطرق ووسائل البحث في هذا الحقل وفي علاقته بقراءة المصادر (الأرشيفية مكتوبة أو مخطوطة أو شفوية) أو المراجع ومن له القدرة على صياغة سردية منسجمة علمية موضوعية بعيدة عن كل توظيف مهما كان نوعه".
بدوره تناول الأستاذ والباحث الهادي التيمومي موضوع إعادة كتابة التاريخ موضحا في كتابه "إلى الساسة العرب إرفعوا أيديكم عن تاريخنا" مطالبا بضرورة "أن يتنحى رجل السياسة عن كتابة التاريخ وأن يترك هذه المهمة للمؤرخين"، كما يوضح التيمومي في كتابه أن المقصود بالسياسيين" ليس الكيانات الحاكمة ودوائرها ومن يدور في فلكها وإنما كذلك الحركات السياسية المعارضة ودوائرها فلكل واحد من هذه الدوائر السياسية سرديتها للأحداث التاريخية وقراءتها لما حصل وهي سرديات مؤدلجة وموجهة ومنتقاة وتبتعد عن الحقيقة التاريخية".
م.ي
تونس-الصباح
فتحت مبادرة الاتحاد العام التونسي للشغل باطلاق عريضة على موقعه الرسمي على الفايسبوك للمطالبة باقرار موعد 26 جانفي عيدا وطنيا ضمن روزنامة الأعياد الوطنية، الباب من جديد للنقاش والجدل حول مدى مشروعية مثل هذه المطالب والخطوات لا سيما في ظل الاختلافات في وجهات النظر حول بعض المحطات من تاريخ تونس القديم والحديث وغياب الحسم والحقيقة التاريخية المجردة بعيدا عن كل توظيف.
قطعا، ليس القصد هنا التقليص من قيمة بعض المحطات الفارقة في تاريخ البلاد ولا في قيمة النضالات والتضحيات وحق شهداء كل حقبة في سبيل الحريات والحقوق النقابية والسياسية والمدنية، ومنها محطة 26 جانفي أو "الخميس الأسود"، لكن تواتر الجدل حول الأعياد الوطنية بعد إقدام رئيس الجمهورية على تغيير عيد الثورة من 14 جانفي إلى 17 ديسمبر، ودعوة الاتحاد اليوم لتعديل روزنامة الأعياد الوطنية بإدراج موعد 26 جانفي، يطرح مخاوف جدية بشأن تغذية الانقسامات والجدل حول هذه المحطات من تاريخ البلاد كما قد يفتح الباب على مصراعيه لدعوات مماثلة يرى فيها كل طرف أو منظمة أو جهة أحقية إعادة الاعتبار والإنصاف من وجهة نظره.
اختلاف التقييمات
نشر الإتحاد العام التونسي للشغل بمناسبة إحياء ذكرى 26 جانفي الأربعاء الفارط، عريضة على صفحته الرسمية يطالب من خلالها رئاسة الحكومة بإقرار يوم 26 جانفي 1978 يوما وطنيا.
وتضمن نص العريضة الإشارة إلى أن تونس تعيش "مسارا انتقاليا وديمقراطيا منذ أكثر من عقد من الزمن، اتسم فيه المشهد بخيار رد الاعتبار للمناضلات والمناضلين من أجل الحرية والديمقراطية والحقوق الاجتماعية في مختلف مراحل تاريخ تونس الحديثة، غير أن أحداث 26 جانفي 1978 لم تنل الحظوة والاهتمام الكافيين لحدث مفصلي في تاريخ الاحتجاجات الاجتماعية الشعبية والتي كانت بقيادة الإتحاد العام التونسي للشغل وراح ضحيتها مئات من النقابيين والشباب خاصة من الأحياء الشعبية في مختلف جهات البلاد أين جوبهت تحركاتهم بالقمع الدموي المنظم".
وأن "الغاية من هذه الحملة التي نطلقها تحت شعار "ما نسيناش 26 جانفي" هو إنصاف شهداء وضحايا 26 جانفي 1978 من خلال اعتراف الدولة وأجهزتها الرسمية، الأمنية والقضائية والإعلامية، بمسؤوليتها في إسقاط الضحايا والإيقافات العشوائية والمنظمة، والأحكام الجائرة التي أصدرتها محكمة أمن الدولة في حق المحتجين والمحتجات، مما يجعل أحداث 26 جانفي 1978 جريمة تاريخية مكتملة الأركان في حق الشعب التونسي".
عريضة أثارت بعض التحفظات تماما كما حصل عندما أقدم رئيس الجمهورية على تغيير موعد عيد الثورة، إذ يلتقي معارضو إدخال تغييرات على روزنامة الأعياد الوطنية بالتغيير أو بالإضافة، لا يجب أن يخضع إلى منطق إرادة منطق المنتصر أو موقع القوة على أساس قاعدة أن التاريخ يكتبه المنتصر أو القوي في الظرف الراهن، بل الأصل في الأشياء أن يكون على قاعدة الحقيقية التاريخية وجدها والرمزية الجامعة لكل التونسيين لذلك الحدث الفاصل من تاريخ البلاد بعيدا عن الأمزجة والأهواء وكل جدل أو اختلافات في التقييمات والأحكام.
ويشير البعض إلى أن محطة 26 جانفي على رمزيتها وقيمتها، مازال الجدل والاختلاف في التقييمات قائم إلى حد اليوم حولها، لا سيما في غياب الحقيقة التاريخية كاملة والكشف عن كل الملابسات بالحجة الدامغة وفي مقدمتها عدد الذين قتلوا في تلك المواجهات وسط تباين في الإحصائيات ( تقارير تتحدث عن حوالي 400 شهيد سقطوا في الأحداث وجُرح أكثر من ألف مواطن نتيجة المواجهات بين الجيش والأمن من جهة والمتظاهرين من جهة أخرى في حين أقرت حكومة الهادي نويرة حينها بسقوط 52 شهيدا و365 جريحا فقط..).
مطالب أخرى بالإنصاف
فتح باب تعديل مواعيد الأعياد الوطنية قد لا يقف فقط في حدود عيد الثورة والخميس الأسود بل قد يتعداه مستقبلا خاصة وأنه تمت إثارة مثل هذه الدعوات بعد الثورة وقد تجد الحكومة نفسها أمام مطالب أخرى بإدراج أعياد وطنية إنصافا لبعض المحطات التاريخية التي سقط فيها ضحيا في حقبة ما من التاريخ كأن تتم المطالبة بيوم وطني لما يطلق عليه البعض "ثورة قفصة 1980". أو يوما وطنيا إنصافا لليوسفيين ويوم وطني آخر إنصافا لمحطات تاريخية من نضالات جهة ما في مقاومة المستعمر..
من المهم الإشارة هنا إلى أن الكثير من المحطات في تاريخ البلاد بما فيها الاستقلال والجلاء طالها التشكيك والمزايدة والتوظيف السياسي والتجاذبات وذلك على امتداد السنوات الأخيرة، وطالب كثيرون لإعادة كتابة التاريخ كما يؤكد البعض أن الكثير من الأحداث والمحطات التاريخية لم تبح بعد بكل أسرارها.
فعل سبيل المثال صرح سابقا المؤرخ التونسي توفيق بشروش أن "ظروف وملابسات انتقال بلادنا من نظام الحماية إلى النظام اللا حمائي محل إشكال، مشددا على أن التاريخ التونسي يتطلب إعادة كتابة والحركة الوطنية تتطلب إعادة تقييم''.
كما رفع ضمن مسار العدالة الانتقالية مطلب إعادة كتابة التاريخ في المقابل رفضه البعض وأثار جدلا واسعا.
إهدار فرصة العدالة الانتقالية
ولعل إهدار فرصة النجاح في تحقيق واستكمال مسار العدالة الانتقالية في البلاد كان من بين الأسباب التي فوتت أمكانية الوقوف على الحقائق التاريخية المجردة دون توظيف وحسم الجدل واختلاف التقييمات حول محطات هامة ومفصلية من تاريخ تونس.
ويظل التدخل في إعادة كتابة التاريخ موكولا أولا وأخيرا للمؤرخين بعيدا عن تدخل السياسية سواء في شخص رئيس الجمهورية أو تحت يافطة منظمة وطنية، حيث يؤكد عبد اللطيف الحناشي المختص في التاريخ المعاصر في تصريح سابق له "أعتقد أن المؤرخين كما كل المختصين في بقية العلوم الإنسانية والاجتماعية أصبحوا يتمتعون بحرية أكثر نتيجة تراخي الضغوط الذاتية والموضوعية، لذلك من الضروري أن نعيد كتابة تاريخنا الوطني برؤية جديدة بل رؤى جديدة وبمقاربات متعددة توظف فيها جميع العلوم الرديفة (علم الاجتماع علم النفس القانون الاقتصاد)".
ويضيف الحناشي بأن "..المفاتيح في يد من يملك الخبرة والمنهجية العلمية وطرق ووسائل البحث في هذا الحقل وفي علاقته بقراءة المصادر (الأرشيفية مكتوبة أو مخطوطة أو شفوية) أو المراجع ومن له القدرة على صياغة سردية منسجمة علمية موضوعية بعيدة عن كل توظيف مهما كان نوعه".
بدوره تناول الأستاذ والباحث الهادي التيمومي موضوع إعادة كتابة التاريخ موضحا في كتابه "إلى الساسة العرب إرفعوا أيديكم عن تاريخنا" مطالبا بضرورة "أن يتنحى رجل السياسة عن كتابة التاريخ وأن يترك هذه المهمة للمؤرخين"، كما يوضح التيمومي في كتابه أن المقصود بالسياسيين" ليس الكيانات الحاكمة ودوائرها ومن يدور في فلكها وإنما كذلك الحركات السياسية المعارضة ودوائرها فلكل واحد من هذه الدوائر السياسية سرديتها للأحداث التاريخية وقراءتها لما حصل وهي سرديات مؤدلجة وموجهة ومنتقاة وتبتعد عن الحقيقة التاريخية".