بمقتضى مرسوم جديد قرر رئيس الجمهورية قيس سعيد أول أمس تنقيح القانون الأساسي عدد 34 لسنة 2016 المؤرخ في 28 أفريل 2016 المتعلق بالمجلس الأعلى للقضاء، ولئن تعلق المرسوم، على ما يبدو، بفصل وحيد وهو الفصل الرابع الذي يتيح للجلسة العامة للمجلس الأعلى ضبط المنح والامتيازات المخولة لأعضائه، فإنه أثار زوبعة كبيرة في الأوساط الحقوقية، لكنها ليست المرة الأولى التي يقع فيها تنقيح القانون المذكور، إذ سبق تعديله بمقتضى القانون الأساسي عدد 19 لسنة 2017 المؤرخ في 18 أفريل 2017 الذي صادق علية مجلس نواب الشعب يوم 28 مارس 2017 في جلسة عامة صاخبة رافقتها وقفة احتجاجية كبيرة للقضاة في ساحة باردو.
فهذا القانون الذي ولد بعد مخاض عسير جدا، جاء بعد نقاشات ساخنة وخلافات حادة دامت أكثر من سنتين ونصف. إذ انطلق الحديث عنه يوم 17 أكتوبر 2014 في إطار لقاء نظمته وزارة حقوق الإنسان والعدالة الانتقالية بحضور الوزير حافظ بن صالح للاستماع إلى رؤى بعض القضاة للسلطة القضائية ولمؤسساتها التي نص عليها الدستور، وتباينت الآراء يومها بشكل لافت بين مجموعة تتبنى أفكار المدرسة الأنقلوسكسونية وأخرى تتبنى أفكار المدرسة الفرنكوفونية أو بالأحرى بين مقاربة القضاء السلطة ومقاربة القضاء المرفق، حيث أبدت المجموعة الأولى تمسكها الشديد باستقلالية المجلس الأعلى للقضاء عن السلطة التنفيذية وعبرت عن رغبتها في أن تصبح وزارة العدل تحت إشراف السلطة القضائية حتى يتخلص القضاة نهائيا من البيروقراطية المقيتة التي طالما كبلتهم في عملهم ويتحررون من التبعية، واستندوا في آرائهم إلى الدستور الذي جاء فيه بصريح العبارة أن القضاء سلطة مستقلة، وأن القاضي مستقل لا سلطان عليه في قضائه لغير القانون.
وفي المقابل، عبرت المجموعة الثانية عن رفضها الشديد فك الارتباط بوزارة العدل،وحذرت من تغول السلطة القضائية، ونبهت إلى أن أي مشروع يحاول سلب صلاحيات هذه الوزارة قصد تحويلها للمجلس الأعلى للقضاء لن يجد طريقه إلى النور.. وأثار هذا الموقف غضب العديد من القضاة الحاضرين حتى أن أحدهم رد قائلا " إنهم يقادون إلى الاستقلالية بالسلاسل"..
نقاش على وقع الرصاص
بعد هذا اللقاء المشحون، تتالت الجلسات المخصصة لإعداد مشروع القانون المتعلق بالمجلس الأعلى للقضاء إلى أن صادق عليه مجلس الوزراء بتاريخ 11 مارس 2015 ثم تمت إحالته في اليوم الموالي من قبل حكومة الحبيب الصيد على مجلس نواب الشعب، لتشرع لجنة التشريع العام برئاسة المرحوم عبادة الكافي في دراسته بعد يوم واحد فقط وصادقت عليه يوم 7 ماي من نفس السنة بعد أن استمعت إلى مختلف الهياكل المعنية منها جمعية القضاة التونسيين التي وجدت في تلك الجلسة ما لم يكن في الحسبان، إذ بمجرد أن شرعت رئيسة الجمعية روضة القرافي في تقديم مداخلتها اقتحم أحد أعوان البرلمان القاعة مطالبا الحاضرين بالحذر من أن يصيبهم الرصاص وسرعان ما أدرك الجميع بأن هناك عملية إرهابية جارية في متحف باردو..
إقالة الوزير
لكن، حتى بعد الاستماع إلى رؤى مختلف الهياكل المهنية أصرت الأغلبية الحاكمة على التمسك برؤيتها للمجلس الأعلى للقضاء، وتولت المعارضة الطعن في دستورية مشروع القانون في مناسبتين لأنه في نظرها لا يمنح الاستقلالية المطلوبة للمجلس. كما أنه بسبب هذا المشروع تمت إقالة محمد الصالح بن عيسى وزير العدل السابق يوم 20 أكتوبر 2015 لأنه رفض حضور الجلسة العامة المخصصة لنقاشه وذلك لأن الصيغة التي تم عرضها على الجلسة لا تنسجم مع رؤيته للسلطة القضائية والمجلس الأعلى للقضاء. وهكذا أدت الخلافات الكبيرة حول المشروع إلى تعطيل تركيز المجلس الأعلى للقضاء، حيث تم تجاوز الآجال الدستورية التي كان من المفترض أن تكون في 21 ماي 2015 لكن كتلة النهضة قدمت فتوى قالت فيها إن هذا الأجل المنصوص عليه في الدستور هو أجل استنهاضي مثله مثل أجل تركيز المحكمة الدستورية.
ونص القانون المتعلق بالمجلس الأعلى للقضاءالذي صدر في 28 أفريل 2016 على أن المجلس الأعلى للقضاء مؤسسة دستورية ضامنة في نطاق صلاحياتها حسن سير القضاء واستقلالية السلطة القضائية طبق أحكام الدستور والمعاهدات الدولية المصادق عليها. يتمتع المجلس بالاستقلال الإداري والمالي والتسيير الذاتي وله السلطة الترتيبية في مجال اختصاصه.
وبعد نشر القانون الأساسي المتعلق بالمجلس الأعلى للقضاءتولت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات برئاسة محمد شفيق صرصار الإشراف على انتخابات أعضاء هذا المجلس وقامت بنشر النتائج في قرارها الصادر بتاريخ 14 نوفمبر 2016 ، وفي 13 ديسمبر 2016 أدى الفائزون في هذه الانتخابات أمام رئيس الجمهورية الراحل الباجي قائد السبسي القسم التالي:"أقسم بالله العظيم أن أحافظ على استقلال السلطة القضائية طبق أحكام الدستور والقانون وأن أعمل بكل حياد ونزاهة وأن ألتزم بعدم إفشاء سرّ المداولات"..
هدوء بعده عاصفة
وأبدى الكثير من المتابعين للشأن العام إثر جلسة أداءالقسم ارتياحهم بهذا المنجز.. ولكن سرعان ما وردت عليهم أخبار مفادها تعذر تركيز هذه المؤسسة الدستورية بسبب صراعات حادة برزت بين شقيه وتزامنت مع تشقق الحزب الحاكم حركة نداء تونس.. ولحلحلة المشكل القائم تولت حكومة يوسف الشاهد تقديم مبادرة تشريعية لتنقيح قانون المجلس الأعلى للقضاء وهي مبادرة تتيح لرئيس مجلس نواب الشعب دعوة المجلس الأعلى للانعقاد.. وجوبه هذا المقترح برفض جمعية القضاة التونسيين التي رابطت أمام البرلمان في وقفة احتجاجية يوم نقاشه في جلسة ساخنة طويلة وشاقة جلسة سادها الكثير من التوتر والانفعال والتجاذبات السياسية وتم خلالها تبادل الاتهامات بين الكتل البرلمانية وانتهت بالمصادقة على هذا المشروع برمته إثرانسحاب نواب الجبهة الشعبية والديمقراطية والاتحاد الوطني الحر الذين رفضوا المشاركة في التصويت عليه مؤكدين أنه يضرب استقلالية القضاء في مقتل، ولكن من دافعوا عنه يومها قالوا إنه سيضع حدا لحالة التعذر الواقعية التي حالت دون دعوة المجلس الأعلى للقضاء للانعقاد وبالتالي دون إرسائه بصفة فعلية.
وكانت لجنة التشريع العام برئاسة المرحوم الطيب المدني دعت شقي المجلس الأعلى للقضاء أو بالأحرى مجموعة 21 ومجموعة 28 إلى جلسة برلمانية يوم 10 مارس 2017 وفي تلك الجلسة التي ستبقى مداولاتها مرجعا للدارسين في القانون، لم يخف العديد من النواب انزعاجهم من تشقق المجلس الأعلى للقضاء قبل أن ينطلق في عمله أصلا، إذ رفض الشقان الجلوس على طاولة واحدة وطلبا من اللجنة أن تستمع إلى كل مجموعة على حدة حول أسباب التصدع وحول مبادرة الحكومة المتعلقة بتنقيح القانون الأساسي عدد 34 لسنة 2016 المؤرخ في 28 أفريل 2016 المتعلق بالمجلس الأعلى للقضاء. وقدم الشقان موقفين متناقضين من هذه المبادرة التشريعية الواردة في أربعة فصول يتم بمقتضاها الدعوة لانعقاد أول جلسة للمجلس الأعلى للقضاء من قبل رئيس مجلس نواب الشعب على أن لا تكون هذه الدعوة قابلة للطعن بأي وجه من الأوجه ولو بدعوى تجاوز السلطة، وفي صورة وجود شغور بالمجلس الأعلى للقضاء أو بأحد المجالس القضائية، يتم انتخاب رئيس ونائب رئيس مؤقتين بالمجلس المعني يمارسان مهامهما إلى حين سّد الشغور وانتخاب رئيس ونائب له.
انحرافات وتظلم
وهكذا إذن كانت انطلاقة المجلس الأعلى للقضاء متعثرة لأن الكتل البرلمانية التي مررت القانون المحدث له أرادته أن يكون ملغما.. فحسب تقرير لجمعية القضاة التونسيين في إطار الاستعراض الدوري الشامل لتونس بمجلس حقوق الإنسان في دورته27 في أفريل وماي 2017 تم تلخيص أسباب الأزمة بالإشارة إلى أنه بعد الإعلان على النتائج النهائية لانتخابات المجلس الأعلى للقضاء بتاريخ 14 نوفمبر 2016 ونظرا للشغورات الحاصلة في تركيبة مجلس القضاء العدلي والشغورات المترتبة عليها بخصوص الأعضاء المعينين بالصفة وهم الرئيس الأول لمحكمة التعقيب ووكيل الدولة العام لديها ورئيس المحكمة العقارية ورئيس محكمة الاستئناف، وبعد معاينة تلك الشغورات من قبل الهيئة الوقتية للإشراف على القضاء العدلي والقيام بتسديدها بإصدار قرارات ترشيح بشأنها منذ نوفمبر 2016 وهي الترشيحات التي كان من المفروض أن يصدر بشأنها رئيس الحكومة أوامر التسمية حتى تكتمل تركيبة المجلس وحتى تتم الدعوة إلى انعقاده انعقادا صحيحا طبق الدستور والقانون ومن ذلك بالأساس الفصول 112 و148 من الدستور والفصل 74 من قانون المجلس الأعلى للقضاء والفصل 14 من قانون الهيئة الوقتية للإشراف على القضاء العدلي وطبق ما درجت عليه الممارسة الحكومية منذ سنة 2014 بإصدار تسمية القضاة الساميين حسب الرأي المطابق لهيئة القضاء العدلي. إلا أن رئيس الحكومة تخلى عن صلاحياته والتزم الصمت منذ نوفمبر 2016 مما فتح الباب للانحراف بمسار تركيز المجلس الأعلى بعقد اجتماعات خارج كل الأطر القانونية من طرف البعض من أعضاء المجلس دون البعض الآخر الذين تمسكوا بالشرعية والتجئوا إلى المحكمة الإدارية لإيقاف محاولات تركيز المجلس الأعلى للقضاء خارج الأطر الشرعية.
وجاء في نفس الوثيقة أنه صدرت قرارات المحكمة الادارية في مادة تأجيل التنفيذ في القضايا عدد 4100620 و4100621 و4100622 و4100623 و4100624 بتاريخ 02 جانفي 2017 والتي قضت المحكمة بموجبها بالإذن بتأجيل تنفيذ القرارات المتعلقة بدعوة أعضاء مجلس القضاء العدلي للالتئام يوم 2 جانفي 2017 ومجلس القضاء المالي للالتئام يوم 05 جانفي 2017 وانعقاد جلسة باسم المجلس الأعلى للقضاء يوم 20 ديسمبر 2016 وجلسة باسم المجلس يوم 29 ديسمبر 2016 وجميع القرارات المنبثقة عنهما، والمعززة بالقرار الصادر عن المحكمة الإدارية في القضية عدد 4100642 بتاريخ 09 جانفي 2017 والقاضي بتأجيل تنفيذ القرار المتعلق بدعوة أعضاء مجلس القضاء العدلي للالتئام يوم 09 جانفي 2017، وهي القرارات التي ترتب عنها ايقاف كل الدعوات وكل الاجتماعات وكل القرارات التي اتخذت من بعض أعضاء المجلس الأعلى للقضاء في تشديد من المحكمة الإدارية على تأكد الوضع لخطورة صدور قرارات باسم المجلس الأعلى للقضاء ملتبسة بعدم الشرعية، إلا أن صدور هذه القرارات في المادة الإدارية الواجبة التنفيذ حسب الفصل 10 من قانون المحكمة الإدارية والفصل 111 من الدستور لم يلق التفاعل الايجابي من رئيس الحكومة الذي واصل الامتناع عن إصدار أوامر تسمية القضاة طبق قرارات الترشيح الصادرة عن الهيئة الوقتية للإشراف على القضاء العدلي بما يمثل تدخلا في استقلال القضاء من خلال تعطيل قرارات الترشيح الصادرة عن المؤسسة الدستورية المستقلة المشرفة على القضاء العدلي وبما حال دون تركيز المجلس الأعلى للقضاء وبما آل كذلك إلى وضعية تعطيل وفراغ مؤسسي على مستوى هيئة قضائية أخرى هي الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين في غياب تسمية الرئيس الأول لمحكمة التعقيب الذي يرأس هذه المؤسسة أيضا إلى جانب رئاسته للهيئة الوقتية للإشراف على القضاء العدلي وبما سيؤول إلى زيادة تعطيل تركيز المحكمة الدستورية.. ولكن في نهاية الأمر لئن كانت ولادة المجلس الأعلى للقضاء ولادة قيصرية فإن المحكمة الدستورية ظلت حبرا على ورق..
سعيدة بوهلال
تونس- الصباح
بمقتضى مرسوم جديد قرر رئيس الجمهورية قيس سعيد أول أمس تنقيح القانون الأساسي عدد 34 لسنة 2016 المؤرخ في 28 أفريل 2016 المتعلق بالمجلس الأعلى للقضاء، ولئن تعلق المرسوم، على ما يبدو، بفصل وحيد وهو الفصل الرابع الذي يتيح للجلسة العامة للمجلس الأعلى ضبط المنح والامتيازات المخولة لأعضائه، فإنه أثار زوبعة كبيرة في الأوساط الحقوقية، لكنها ليست المرة الأولى التي يقع فيها تنقيح القانون المذكور، إذ سبق تعديله بمقتضى القانون الأساسي عدد 19 لسنة 2017 المؤرخ في 18 أفريل 2017 الذي صادق علية مجلس نواب الشعب يوم 28 مارس 2017 في جلسة عامة صاخبة رافقتها وقفة احتجاجية كبيرة للقضاة في ساحة باردو.
فهذا القانون الذي ولد بعد مخاض عسير جدا، جاء بعد نقاشات ساخنة وخلافات حادة دامت أكثر من سنتين ونصف. إذ انطلق الحديث عنه يوم 17 أكتوبر 2014 في إطار لقاء نظمته وزارة حقوق الإنسان والعدالة الانتقالية بحضور الوزير حافظ بن صالح للاستماع إلى رؤى بعض القضاة للسلطة القضائية ولمؤسساتها التي نص عليها الدستور، وتباينت الآراء يومها بشكل لافت بين مجموعة تتبنى أفكار المدرسة الأنقلوسكسونية وأخرى تتبنى أفكار المدرسة الفرنكوفونية أو بالأحرى بين مقاربة القضاء السلطة ومقاربة القضاء المرفق، حيث أبدت المجموعة الأولى تمسكها الشديد باستقلالية المجلس الأعلى للقضاء عن السلطة التنفيذية وعبرت عن رغبتها في أن تصبح وزارة العدل تحت إشراف السلطة القضائية حتى يتخلص القضاة نهائيا من البيروقراطية المقيتة التي طالما كبلتهم في عملهم ويتحررون من التبعية، واستندوا في آرائهم إلى الدستور الذي جاء فيه بصريح العبارة أن القضاء سلطة مستقلة، وأن القاضي مستقل لا سلطان عليه في قضائه لغير القانون.
وفي المقابل، عبرت المجموعة الثانية عن رفضها الشديد فك الارتباط بوزارة العدل،وحذرت من تغول السلطة القضائية، ونبهت إلى أن أي مشروع يحاول سلب صلاحيات هذه الوزارة قصد تحويلها للمجلس الأعلى للقضاء لن يجد طريقه إلى النور.. وأثار هذا الموقف غضب العديد من القضاة الحاضرين حتى أن أحدهم رد قائلا " إنهم يقادون إلى الاستقلالية بالسلاسل"..
نقاش على وقع الرصاص
بعد هذا اللقاء المشحون، تتالت الجلسات المخصصة لإعداد مشروع القانون المتعلق بالمجلس الأعلى للقضاء إلى أن صادق عليه مجلس الوزراء بتاريخ 11 مارس 2015 ثم تمت إحالته في اليوم الموالي من قبل حكومة الحبيب الصيد على مجلس نواب الشعب، لتشرع لجنة التشريع العام برئاسة المرحوم عبادة الكافي في دراسته بعد يوم واحد فقط وصادقت عليه يوم 7 ماي من نفس السنة بعد أن استمعت إلى مختلف الهياكل المعنية منها جمعية القضاة التونسيين التي وجدت في تلك الجلسة ما لم يكن في الحسبان، إذ بمجرد أن شرعت رئيسة الجمعية روضة القرافي في تقديم مداخلتها اقتحم أحد أعوان البرلمان القاعة مطالبا الحاضرين بالحذر من أن يصيبهم الرصاص وسرعان ما أدرك الجميع بأن هناك عملية إرهابية جارية في متحف باردو..
إقالة الوزير
لكن، حتى بعد الاستماع إلى رؤى مختلف الهياكل المهنية أصرت الأغلبية الحاكمة على التمسك برؤيتها للمجلس الأعلى للقضاء، وتولت المعارضة الطعن في دستورية مشروع القانون في مناسبتين لأنه في نظرها لا يمنح الاستقلالية المطلوبة للمجلس. كما أنه بسبب هذا المشروع تمت إقالة محمد الصالح بن عيسى وزير العدل السابق يوم 20 أكتوبر 2015 لأنه رفض حضور الجلسة العامة المخصصة لنقاشه وذلك لأن الصيغة التي تم عرضها على الجلسة لا تنسجم مع رؤيته للسلطة القضائية والمجلس الأعلى للقضاء. وهكذا أدت الخلافات الكبيرة حول المشروع إلى تعطيل تركيز المجلس الأعلى للقضاء، حيث تم تجاوز الآجال الدستورية التي كان من المفترض أن تكون في 21 ماي 2015 لكن كتلة النهضة قدمت فتوى قالت فيها إن هذا الأجل المنصوص عليه في الدستور هو أجل استنهاضي مثله مثل أجل تركيز المحكمة الدستورية.
ونص القانون المتعلق بالمجلس الأعلى للقضاءالذي صدر في 28 أفريل 2016 على أن المجلس الأعلى للقضاء مؤسسة دستورية ضامنة في نطاق صلاحياتها حسن سير القضاء واستقلالية السلطة القضائية طبق أحكام الدستور والمعاهدات الدولية المصادق عليها. يتمتع المجلس بالاستقلال الإداري والمالي والتسيير الذاتي وله السلطة الترتيبية في مجال اختصاصه.
وبعد نشر القانون الأساسي المتعلق بالمجلس الأعلى للقضاءتولت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات برئاسة محمد شفيق صرصار الإشراف على انتخابات أعضاء هذا المجلس وقامت بنشر النتائج في قرارها الصادر بتاريخ 14 نوفمبر 2016 ، وفي 13 ديسمبر 2016 أدى الفائزون في هذه الانتخابات أمام رئيس الجمهورية الراحل الباجي قائد السبسي القسم التالي:"أقسم بالله العظيم أن أحافظ على استقلال السلطة القضائية طبق أحكام الدستور والقانون وأن أعمل بكل حياد ونزاهة وأن ألتزم بعدم إفشاء سرّ المداولات"..
هدوء بعده عاصفة
وأبدى الكثير من المتابعين للشأن العام إثر جلسة أداءالقسم ارتياحهم بهذا المنجز.. ولكن سرعان ما وردت عليهم أخبار مفادها تعذر تركيز هذه المؤسسة الدستورية بسبب صراعات حادة برزت بين شقيه وتزامنت مع تشقق الحزب الحاكم حركة نداء تونس.. ولحلحلة المشكل القائم تولت حكومة يوسف الشاهد تقديم مبادرة تشريعية لتنقيح قانون المجلس الأعلى للقضاء وهي مبادرة تتيح لرئيس مجلس نواب الشعب دعوة المجلس الأعلى للانعقاد.. وجوبه هذا المقترح برفض جمعية القضاة التونسيين التي رابطت أمام البرلمان في وقفة احتجاجية يوم نقاشه في جلسة ساخنة طويلة وشاقة جلسة سادها الكثير من التوتر والانفعال والتجاذبات السياسية وتم خلالها تبادل الاتهامات بين الكتل البرلمانية وانتهت بالمصادقة على هذا المشروع برمته إثرانسحاب نواب الجبهة الشعبية والديمقراطية والاتحاد الوطني الحر الذين رفضوا المشاركة في التصويت عليه مؤكدين أنه يضرب استقلالية القضاء في مقتل، ولكن من دافعوا عنه يومها قالوا إنه سيضع حدا لحالة التعذر الواقعية التي حالت دون دعوة المجلس الأعلى للقضاء للانعقاد وبالتالي دون إرسائه بصفة فعلية.
وكانت لجنة التشريع العام برئاسة المرحوم الطيب المدني دعت شقي المجلس الأعلى للقضاء أو بالأحرى مجموعة 21 ومجموعة 28 إلى جلسة برلمانية يوم 10 مارس 2017 وفي تلك الجلسة التي ستبقى مداولاتها مرجعا للدارسين في القانون، لم يخف العديد من النواب انزعاجهم من تشقق المجلس الأعلى للقضاء قبل أن ينطلق في عمله أصلا، إذ رفض الشقان الجلوس على طاولة واحدة وطلبا من اللجنة أن تستمع إلى كل مجموعة على حدة حول أسباب التصدع وحول مبادرة الحكومة المتعلقة بتنقيح القانون الأساسي عدد 34 لسنة 2016 المؤرخ في 28 أفريل 2016 المتعلق بالمجلس الأعلى للقضاء. وقدم الشقان موقفين متناقضين من هذه المبادرة التشريعية الواردة في أربعة فصول يتم بمقتضاها الدعوة لانعقاد أول جلسة للمجلس الأعلى للقضاء من قبل رئيس مجلس نواب الشعب على أن لا تكون هذه الدعوة قابلة للطعن بأي وجه من الأوجه ولو بدعوى تجاوز السلطة، وفي صورة وجود شغور بالمجلس الأعلى للقضاء أو بأحد المجالس القضائية، يتم انتخاب رئيس ونائب رئيس مؤقتين بالمجلس المعني يمارسان مهامهما إلى حين سّد الشغور وانتخاب رئيس ونائب له.
انحرافات وتظلم
وهكذا إذن كانت انطلاقة المجلس الأعلى للقضاء متعثرة لأن الكتل البرلمانية التي مررت القانون المحدث له أرادته أن يكون ملغما.. فحسب تقرير لجمعية القضاة التونسيين في إطار الاستعراض الدوري الشامل لتونس بمجلس حقوق الإنسان في دورته27 في أفريل وماي 2017 تم تلخيص أسباب الأزمة بالإشارة إلى أنه بعد الإعلان على النتائج النهائية لانتخابات المجلس الأعلى للقضاء بتاريخ 14 نوفمبر 2016 ونظرا للشغورات الحاصلة في تركيبة مجلس القضاء العدلي والشغورات المترتبة عليها بخصوص الأعضاء المعينين بالصفة وهم الرئيس الأول لمحكمة التعقيب ووكيل الدولة العام لديها ورئيس المحكمة العقارية ورئيس محكمة الاستئناف، وبعد معاينة تلك الشغورات من قبل الهيئة الوقتية للإشراف على القضاء العدلي والقيام بتسديدها بإصدار قرارات ترشيح بشأنها منذ نوفمبر 2016 وهي الترشيحات التي كان من المفروض أن يصدر بشأنها رئيس الحكومة أوامر التسمية حتى تكتمل تركيبة المجلس وحتى تتم الدعوة إلى انعقاده انعقادا صحيحا طبق الدستور والقانون ومن ذلك بالأساس الفصول 112 و148 من الدستور والفصل 74 من قانون المجلس الأعلى للقضاء والفصل 14 من قانون الهيئة الوقتية للإشراف على القضاء العدلي وطبق ما درجت عليه الممارسة الحكومية منذ سنة 2014 بإصدار تسمية القضاة الساميين حسب الرأي المطابق لهيئة القضاء العدلي. إلا أن رئيس الحكومة تخلى عن صلاحياته والتزم الصمت منذ نوفمبر 2016 مما فتح الباب للانحراف بمسار تركيز المجلس الأعلى بعقد اجتماعات خارج كل الأطر القانونية من طرف البعض من أعضاء المجلس دون البعض الآخر الذين تمسكوا بالشرعية والتجئوا إلى المحكمة الإدارية لإيقاف محاولات تركيز المجلس الأعلى للقضاء خارج الأطر الشرعية.
وجاء في نفس الوثيقة أنه صدرت قرارات المحكمة الادارية في مادة تأجيل التنفيذ في القضايا عدد 4100620 و4100621 و4100622 و4100623 و4100624 بتاريخ 02 جانفي 2017 والتي قضت المحكمة بموجبها بالإذن بتأجيل تنفيذ القرارات المتعلقة بدعوة أعضاء مجلس القضاء العدلي للالتئام يوم 2 جانفي 2017 ومجلس القضاء المالي للالتئام يوم 05 جانفي 2017 وانعقاد جلسة باسم المجلس الأعلى للقضاء يوم 20 ديسمبر 2016 وجلسة باسم المجلس يوم 29 ديسمبر 2016 وجميع القرارات المنبثقة عنهما، والمعززة بالقرار الصادر عن المحكمة الإدارية في القضية عدد 4100642 بتاريخ 09 جانفي 2017 والقاضي بتأجيل تنفيذ القرار المتعلق بدعوة أعضاء مجلس القضاء العدلي للالتئام يوم 09 جانفي 2017، وهي القرارات التي ترتب عنها ايقاف كل الدعوات وكل الاجتماعات وكل القرارات التي اتخذت من بعض أعضاء المجلس الأعلى للقضاء في تشديد من المحكمة الإدارية على تأكد الوضع لخطورة صدور قرارات باسم المجلس الأعلى للقضاء ملتبسة بعدم الشرعية، إلا أن صدور هذه القرارات في المادة الإدارية الواجبة التنفيذ حسب الفصل 10 من قانون المحكمة الإدارية والفصل 111 من الدستور لم يلق التفاعل الايجابي من رئيس الحكومة الذي واصل الامتناع عن إصدار أوامر تسمية القضاة طبق قرارات الترشيح الصادرة عن الهيئة الوقتية للإشراف على القضاء العدلي بما يمثل تدخلا في استقلال القضاء من خلال تعطيل قرارات الترشيح الصادرة عن المؤسسة الدستورية المستقلة المشرفة على القضاء العدلي وبما حال دون تركيز المجلس الأعلى للقضاء وبما آل كذلك إلى وضعية تعطيل وفراغ مؤسسي على مستوى هيئة قضائية أخرى هي الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين في غياب تسمية الرئيس الأول لمحكمة التعقيب الذي يرأس هذه المؤسسة أيضا إلى جانب رئاسته للهيئة الوقتية للإشراف على القضاء العدلي وبما سيؤول إلى زيادة تعطيل تركيز المحكمة الدستورية.. ولكن في نهاية الأمر لئن كانت ولادة المجلس الأعلى للقضاء ولادة قيصرية فإن المحكمة الدستورية ظلت حبرا على ورق..