إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

من وحي كتاب "المرأة الريفية.. بن بشر 1952-1970" للكاتبة فاطمة بن بشر: الفلاحة..البادية.. والاستصلاح الزراعي عنوان الأمن الغذائي والتنمية

 
 
بقلم: مصطفى الخماري*
 
تتوالى المواسم الفلاحية في ربوع تونس ولم تعد خضراء كما اشتهرت به على مر الأزمنة لما كانت تعرف بمطمورة روما في زمن وفرة محاصيل الحبوب من قمح وشعير وبقول حققت بها الاكتفاء الذاتي وصدّرت منها كميات كبيرة سواء لفائدة روما أو لمن توالوا على استعمار تونس وصولا إلى زمن الاحتلال الفرنسي.
أنجبت الأرض التونسية في القرنين الأول والثاني قبل الميلاد العالم الفلاحي ماغون الذي كتب أكبر موسوعة فلاحية من ثمان وعشرين مجلدا. وقد لقب بأب الفلاحة لأنه ابتكر العديد من التقنيات الزراعية استعملت في قرطاج وذاع صيتها عبر العالم.
يعتبر المؤرخون الكتاب إحدى أهم الغنائم التي عاد بها الغزاة الرومان إلى عاصمة إمبراطوريتهم وصنفوه كأكبر غنيمة حرب.
واليوم ونحن نعيش موسم الزراعات الكبرى وقد من الله علينا بالغيث النافع بعد احتباس طال وفترة جفاف هددت الأرض والزرع وأفرغت السدود وبثت الخشية في النفوس من ان تصبح بلادنا مهددة بالشح المائي.
 
تأخر موسم الأمطار وتأثيراته على الصابة
وحسب الملمين بالشأن الفلاحي فإن تأخر موسم الأمطار يتبعه تأخر نمو البذور وتأخر موسم الحصاد الذي سيكون خراجه ثلث صابة المواسم العادية تقريبا.
ولعل الوضع الصعب الذي يعيشه سوق الحبوب من تطورات وإرهاصات بسبب الحرب الروسية على أوكرانيا يؤدي إلى عديد التقلبات في ظل صعوبة التزود من روسيا أو أوكرانيا ليدخل العالم ككل معركة نفوذ ولي ذراع بين الأقطاب.
ما يجري في أوكرانيا اليوم علاوة على ضحايا القصف للمدن والقرى وتشريد الآلاف من السكان، يهدد البشرية بما هو أقوى من الحرب النووية التي يتداعون بها وهو شبح المجاعة المخيم على العالم ولا تنجو منها الا الشعوب التي حصنت بلدانها بالتعويل على أراضيها وخدمتها واستغلتها الاستغلال الأفضل والكامل حتى لا تضطر لضمان قوتها بالتعويل على الخارج.
 
الاكتفاء الذاتي شرط ضمان الأمن القومي
يجمع العارفون من فلاّحة ومهندسون مختصون في القطاع أن الاكتفاء الذاتي في مادة الحبوب في متناول الفلاحة التونسية لو يتم إقرار إصلاح زراعي يرتقي إلى مرتبة أولوية الأولويات في بلادنا لأن تحقيق الاكتفاء الذاتي يعني ضمان الأمن الغذائي والأمن القومي. وهو ما يؤكده ما حققته بلدان أخرى لا تتوفر لها مساحات كبرى لأراضي فلاحية مثل التي تملكها بلادنا.
الفلاحة الحلقة الأضعف
وقد شهدت تونس منذ الاستقلال نجاحات وإخفاقات متفاوتة  وقامت بمجهودات للنهوض بالتعليم والصحة وتحسين مستوى العيش والتشغيل.. لكن نتائج ذلك تبدو اليوم غير كافية مقارنة بقلة تأثيرها المأمول على مستوى العيش بما في ذلك التعليم وعدم قدرة المؤسسات الصحية - رغم توفرها على إطارات طبية وشبه طبية عالية التكوين- على استيعاب طلبات العلاج والتوقي الناجع من الأوبئة وضمان خدمات صحية ذات جودة مقبولة إلى أن تستعيد منظومة الصحة مجدها لما كان المواطن يجد فيها ضالته دون عناء وطول انتظار وبقبول حسن.
السبب يتمثل أولا في النمو الديمغرافي السريع الذي تشهده تونس وقد تلاشى مخطط التنظيم العائلي الذي ساهم منذ الاستقلال في خلق التوازن بينه وبين إمكانيات البلاد ثم في شح الموارد المالية وظروف العمل الصعبة أحيانا عندما لا يتفهم المواطن - وهو محق في طلب رعاية صحية ناجعة-الظروف التي تشل قدرة المرفق الصحي العمومي على استيعاب سلس للحاجيات بينما تطغى إغراءات الطلب الخارجي المتزايد للإطار الطبي وشبه الطبي الذي دفع الى هجرة مئات الأطباء والفنيين الصحيين بحثا عن مناخ عمل مجز ماديا وجيد مهنيا.
تركيزي على الفلاحة وأهميتها في الأمن القومي، جاء بعد اطلاعي وقراءتي لكتاب تتحدث فيه كاتبته السيدة فاطمة بن بشر عن المرأة الريفية في قرية بن بشير بين سنوات ألف وتسعمائة وستة وخمسين، وألف وتسعمائة وسبعين.
صورة الغلاف تتزين بجمع من النساء يجمعن زيتونا في مشهد معبر عن حركية مواسم جني الصابة سواء في الزراعات الكبرى أو جني الزيتون أو القوارص كما موسم جني التمور في أجواء احتفالية لا بد من مزيد تسليط الضوء عليها إعلاميا.
جميل أن تتصدر صور الريفيات كتابا في بلادنا يصف سعيهن اليومي لتحصيل قوت عائلاتهن مقابل يوم كامل من الجهد والمثابرة لحسن التصرف في أكبر ثروة تملكها تونس وهي الفلاحة لو تتضافر جهود الدولة  لتشجع الكفاءات للمشاركة في إحياء الفلاحة التونسية من سباتها.
كنا نسمع في بداية الستينيات عن مخططات إحياء أراضي الدولة وقد كلفت بتنفيذها دواوين إحياء قامت في معظمها بدورها بعد أن أحيت الأراضي وزرعتها وفجرت بها المياه.
ماذا عن متابعة عمل الدواوين ثم هل أن كل الأراضي الدولية مستغلة الاستغلال الأجدى والى ماذا وصل استغلال المقاسم التي تم كرائها للفنيين وهل تمكن مساحات المقاسم المسلمة لهم من توفير إنتاج مجز يشجعهم على مواصلة الجهد وحمل مشعل تطوير الفلاحة وإعادة تألقها وجدواها وإصلاح صورتها في المجتمع؟
تقول الكاتبة فاطمة بن بشر"أردت التعرف على الحياة الريفية عبر نساء الريف لما لمسته لديهن من إصرار على الحفاظ على هذه القيم في الاقتصاد العائلي وواكبت سلوك أهل الريف خلال فترة مفصلية في حياة تونس أي فترة ما قبل الاستقلال من ال1952 إلى 1956 ثم خلال وبعد فترة التعاضد من 1964 إلى 1970". وقد ركزت الكاتبة على حقبة من حياة أهل الريف تتعلق  باستكشاف طريقة عيش الريفيات وهي شهادة أرادت تجميعها حول مشيخة بني بشير. تحملنا الكاتبة عبر الجغرافيا والتاريخ لنتعرف على حياة البادية وعادات وتقاليد أهلها في حياتهم اليومية عبر أفراحهم وأتراحهم لتسليط الضوء خاصة على دور المرأة الريفية الأساسي في المجتمع الريفي الذي تحمل فيه المرأة مسؤوليات جسام في تربية العائلة والعناية بها بكل ما تحمله الكلمة من معان ودلالات يتقلص من خلالها دور الرجل ضمن العائلة إذ تكاد المرأة ربة البيت أن تضطلع بالمهام العائلية الأساسية تواكب كل محطات الحياة فيها وتعرف كل صغيرة وكبيرة عما يجري في محيطها عندما تجتمع نساء الدوار في الحقل أو عند جلب ماء الشرب يرددن  أخبار ما يجري ويتبادلن النصح حول شؤون الأهل بدءا من الولادة ومرورا بمختلف مراحل الحياة.
 
دور حيوي للإعلام
هذا الكتاب يعتبر بالغ الأهمية باعتبار انها لا تتوفر على حد علمي في مكتبتنا التونسية كتب كثيرة تروي سيرة نساء تونسيات كادحات بينما لا يتعدى غالبا الاهتمام بأخبارهن في المشهد الإعلامي السمعي البصري على نقل وقائع حادث قاتل لشاحنة غير مهيأة لنقل الأشخاص وعلى متنها عاملات فلاحيات في طريقهن للحقل ثم العودة بهن الى منازلهن حيث ينتظرهن عمل آخر.
الكتاب، ضمنته صاحبته السيدة فاطمة بن بشر روايات سمعتها من كبار نساء قرية بن بشير حول الأعمال التي تقوم بها نساء القرية وكيف يستيقظن باكرا لأن عملهن يبدأ بقضاء شؤون المنزل من غسيل وتنظيف للبيت وطهي الطعام والاهتمام بإفطار الأبناء قبل ذهابهم للمدرسة قبل أن يتوجهن للحقول على متن شاحنات غير مؤمنة وغير مجهزة لحمل الأشخاص.
 
المرأة الريفية على كل الواجهات
الكتاب تحدث عن العمل الفلاحي وما تتحمله المرأة الريفية من دور ضمنه دون التخلي على دورها العائلي والمنزلي.
كتاب السيدة فاطمة بن بشر لا يكتفي بتعداد أعمال المرأة الريفية وحياة المجتمع الريفي بعاداته وتقاليده بل يثمن مكانتها في محيطها وطريقة عيشها وتأثيره الفاعل في أسرتها وما حولها من جيران وإيمانها الضمني الصامت بجدوى التضامن داخل العائلة والقرية وإحساسها العميق بأن جهدها غايته توفير أسباب العيش الكريم لعائلتها وخاصة رعاية أبنائها ليحققوا لها آمالها في نحت مستقبل أفضل لهم بعيدا عن  العمل الفلاحي.
الكتاب أعطى للمرأة الريفية حقها وقطع مع الصورة النمطية التي تقدمها بعض مسلسلاتنا وسكاتشاتنا وبلاتوهات تلفزاتنا من تهكم على نمط العيش واللهجة ولباس أهل البادية والعاملين في الحقول.
قراءتي للكتاب، عادت بي الى السنوات الأولى بعد الثورة حيث تابعت وقتها برنامجا يستجوب عاملات فلاحيات. إحداهن كانت منغمسة في عملها أجابت على سؤال محدثها أنها سعيدة بعملها لأنه يوفر لها دخلا يمكنها من اقتناء حاجيات أهل بيتها بما فيهم أبنائها ويمكنها من توفير أدواتهم المدرسية وأضافت أنها تحمد الله على ذلك وهي سعيدة مع عائلتها.
أصر محدثها على التوجه لها بسؤال أكثر منه جزما قائلا عملك متعب جدا.. أجابته بعفوية هل تعرف عملا غير متعب وأضافت أنا سعيدة والحمد لله بعملي ومستورة أنا وعائلتي.
أذكر هذا المثال لأثمن الدور الذي يمكن للإعلام السمعي البصري القيام به في تغيير العقليات الخاطئة التي تتعامل دائما مع الفلاحة والبادية والعاملين في الميدان الفلاحي وكأنها أطراف مرتبطة فقط بالفقر والخصاصة. وهي نظرة تعود عليها المجتمع وأثرت على البوادي والأرياف وجعلت خاصة شباب الأرياف يهرب من تلك الصور ويسعى للحاق بأضواء وإغراءات المدينة في مرحلة أولى بحثا عن عمل يلبي جزءا من طموحاته ثم يتحول في مرحلة موالية إلى الإقبال على قوارب الموت في محاولات للهجرة إلى الشمال رغم الثمن الذي يصل حد الموت في البحر غرقا.
خلاصة ما تقدم من وجهة نظري هي أن الخروج من الأزمة الخانقة التي تمر بها بلادنا يمر حتما عبر إعادة الحياة لأرياف هجرها سكانها للمدن ولم يجدوا فيها ضالتهم من شغل وكرامة.
 
الفلاحة قاطرة التفوق
وبعيدا عن فحوي الكتاب، لكن من خلال تأثيراته، أؤكد أن بلدانا كثيرة أعادت الروح والدور التنموي لأريافها وجعلت من الفلاحة محركا أساسيا لتحقيق تفوقها الاقتصادي والاجتماعي وأصبحت تعتلي المراتب الأولى في سلم التقدم الصناعي والبشري في العالم بفضل الفلاحة.
وهنا أتساءل لماذا لا نفعل ما يسمى عندنا بالدبلوماسية الاقتصادية بتكليف سفاراتنا في الدول المتقدمة فلاحيا بدراسة المخططات والآليات والإجراءات العملية التي توختها ونطبق مشروعاتها لدينا.
لا يعني هذا استنقاصا لقيمة مهندسينا وفلاحينا لكن يعني ربح الوقت تجنبا للتعقيدات الإدارية والإجرائية وعقلية عدم المبادرة خوفا من المحاسبة بسبب قوانين بالية ولا عيب في اعتماد التجارب الناجحة إذا تأكدت نجاعة تطبيقها في بلادنا.
إذا قمنا بدراسات مقارنة سوف نكتشف أن التجارب الناجحة بدأت بالتركيز على القرى والمساحات الصغيرة ضمن مخطط دعم مادي كتوفير مواد البناء والتكفل بمصاريف ترصد للقرية طبقا لما تقدمه من مخطط مرقم لإنجاز المسالك الفلاحية والطرقات وشراء لوازم الزراعة وآلياتها وبناء الطرقات والمستوصفات والمدارس وقاعات السينما ومرافق عمومية تلبي حاجة القرية وتحقق لها الاكتفاء الذاتي.
أتحدث عن تجربة درستها تتعلق بكوريا الجنوبية تفوقها الصناعي والاقتصادي انطلق بالنهوض بالفلاحة وتحسين مردودها رغم توفره على ثمانين بالمائة فقط من الأراضي الزراعية وتمكن بفضل نجاح فلاحتها من تحقيق اكتفائها الذاتي وتصدير منتجاتها للأسواق المجاورة وحتى البعيدة من المرور نحو تحقيق تفوق صناعي بمرتبة عالية عالميا.
وكان الشأن كذلك بالنسبة لنمور آسيا كاليابان وغيرها من البلدان التي أدركت أن ضمان المستقبل والاستقلال الحقيقي يمران بتطوير الفلاحة وعدم التعويل على الخارج لضمان أمنها الغذائي.
كتاب السيدة فاطمة بن بشر الصادر عن الكريديف في الصائفة الماضية والذي قرأته واعدت قراءته وتصفحه لأنه يحمل عطر بادية ولدت وترعرعت بين أحضانها ويشدني لها دائما الحنين ويؤسفني أنها لم تتمكن ولم تمكن من النهوض الذاتي ومن تأكيد تمسكها بدورها والعمل على الحفاظ على مكانتها لأن الذين يخططون قد تشدهم أرقام بورصة التوازنات المالية والتحولات الجيواستراتيجية عن إدراك عمق الهوة بينها وبين واقع ما يعرف في قاموس السياسة عندنا بالمناطق المهمشة.
 
مراكز تكوين وجامعات تخصص فلاحة ضرورة ملحة
والغاية من التعريف بكتاب السيدة فاطمة بن بشر هو التوسع في الحديث عن دور الفلاحة المركزي في بلادنا. وقد أردت تسليط الضوء حوله ونحن في خضم الحوارات والخلافات والمناكفات الطاغية حول السياسة في كل المنابر، للدور الهام والمفصلي الذي يمكن للفلاحة أن تلعبه في التخفيف من وطأة الأزمة الاقتصادية التي تعيشها تونس لو بوأ المجتمع والإعلام الفلاحة المكانة التي تستحقها كركيزة أساسية تؤهل البلاد لما هو أفضل لضمان غذاء مواطنيها وجعل الفلاحة محركا للتنمية في الميادين الاقتصادية الأخرى.
كذلك هناك ملفات هامة تتطلب الاهتمام لعل أهمها الأراضي الدولية التي ليست في وضعية إنتاج. فالمتابع لبرنامج "السانية" لبوبكر بن عكاشة على قناة "التاسعة" يلاحظ أنه من البرامج النادرة عن الفلاحة في بلادنا وهو يثير الاهتمام للروبورتاجات والنصائح التي تقدمها نخبة من المهندسين والمهندسات من خريجي معاهد وجامعات تونسية تدرس حصريا مادة الفلاحة. هذا البرنامج ذكرني ببرنامج إذاعي للزميل محمد النوري عبيد وكذلك برنامج آخر للعربي بلحاج صادق في الإذاعة الوطنية وأيضا برنامج كانت تنتجه الزميلة حورية قلاتي مع بلحاج صادق ابن سي العربي رحمهم الله يجيب فيه على أسئلة المستمعين.
مثل تلك البرامج التلفزية تخفف عن متابعيها عناء حوارات متشنجة.
ولعل بعض القنوات بدأت تستشعر ثقل تكرار مواضيع تتعلق بالسياسة على المتلقي فالتفتت للثقافة الراقية وللفنون ووجهت اهتمامها للتعريف بنجاحات تونسية بالداخل والخارج وبتشجيع الشباب على الخلق والإبداع.
أعلم أن المعركة شرسة بين أدوات تواصل اجتماعية مفتوحة على كل الواجهات بكل حرية وحتى أكثر ومشهد سمعي بصري يسعى للحفاظ على وجوده مع التقيد بالقوانين وسطوة شح الإمكانيات المالية والحدود المجتمعية لكن المتلقي يرنو للتجديد ولفتح عدسات كاميرات التلفزات على اهتمامات شباب متعطش للمعرفة ولأدراك طرق وأسباب التقدم الذي يهاجمه عبر هاتفه المحمول ويفرض عليه مقارنة مضنية بين واقعه وما يجري في عوالم أخرى تتعلق همم شبابها بالبحث عن الفضاء الأسود وسبر أغوار الكون مثل ما تقوم به العالمة التونسية لينا نصيب التي أطلت علينا من شاشة قناة "قرطاج" في برنامج تلفزي واعد وهناك العديد من الأسماء التونسية المتفوقة تشرف بلادنا عبر العالم وتنزع ولو القليل من سحب التشاؤم التي تثقل عزائم الشباب وتغلق آفاق الحياة أمامه .
واليوم من المفيد الانتباه إلى الحاجة للمعاهد الفلاحية ومراكز التكوين الفلاحي لكل المستويات فتحا لآفاق العديد من الشباب العاطل عن العمل وتحفيز الحاملين لشهائد عليا للقيام بتكوين إضافي في المعاهد الفلاحية العليا ليفتح لهم مجال العمل في الفلاحة وليقع تأهيلهم للاستفادة من برنامج كراء مقاسم من أراضي الدولة للمتحصلين على شهادة تؤهلكم لذلك.
 
دور هام للتعاون الخارجي
كذلك يمكن التعاون مع أشقاء وأصدقاء تونس كما المنظمات الأممية والمؤسسات غير الحكومية لإعانة الشبان المتخرج من مراكز التكوين على بعث مشاريع صغرى كالتي تمت في الجنوب منذ عدة سنوات بالتعاون مع المكتب الدولي للعمل أو مع اليابان وكوريا في الشمال الغربي والوسط وألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية عن طريق وكالاتها للتعاون الخارجي وبمساهمة مؤسسات تعاون لبلدان شقيقة.
هناك مشاريع ناجحة لجمعيات تنشط في تربية الماشية كما نكتشف بمناسبة معارض موسمية نتائج مهمة لعدة مشاريع أهلية بعثتها نساء ريفيات وكذلك في المدن كصناعة الأجبان أو تربية النحل أو استخراج الزيوت النباتية وابتكارات في ميدان الصناعات التقليدية.
كل هذا يدل على أن المجال مفتوح للخلق والإبداع في الميادين الفلاحية واليدوية التي تخلق دخلا محترما لمتعاطيها وتوفر مواطن شغل وتدفع بديناميكية اقتصادية البلاد في حاجة ماسة لها.
تحية للسيدة فاطمة بن بشر وقد ذكرني جانب العمل والجهد في كتابها والمجالات الواسعة التي توفرها أراضي تونس للعمل بحكاية قصيد لافونتان Le laboureur et ses enfants  بما يعني أن تونس تملك أراض "تنتج الزعفران" كما يقول المثل عندنا وهي بحاجة أكيدة لمزيد الاهتمام بالفلاحة ووضعها على صدارة أوليات الدولة والمجتمع.
قصة المزارع وأبنائه للافونتان حرية بأن تلهم أولي أمرنا وكل العائلة الفلاحية بأجيالها الجديدة لتعود لتونس خضرتها ومطامير قمحها وشعيرها وليس ذلك بالصعب لو تشحذ كل العزائم الصادقة لتخرج مخططات النهوض بالفلاحة من الرفوف لتصبح واقعا ملموسا بفضل كفاءة المهندسين ومراكز البحوث الفلاحية ومواكبة الدولة وتشجيع الفلاح وتعاطي الفلاحة.
واختم بما ذكرته الدكتورة نجلاء علاني بوحولة المديرة العامة للكريديف في مقدمة الكتاب بأن  مرور السيدة فاطمة بن بشر في أعماق الريف أبرز في  نفس الوقت متانة العلاقة بين هذا الصنف من النساء والأرض وهي أصل حياتهن وأداة عملهن بما يفسر رمزية تمسكهن بالأرض التي تلتصق بكيانهن وتضيف أن العاملات الناشطات يشكلن في مفهوم السيدة فاطمة بن بشر المحرك الاقتصادي الأساسي للجهة الضامن لتنمية الفلاحة بها.
وقد ذكرت الكاتبة أن الحظ نالها لما عاشت قرابة عشرين سنة في منطقة -مشيخة بن بشير-رغم أنها تتمتع بخصوصيات ملفتة للنظر على أصعدة متنوعة أولها الطبيعة حيث تتجاور غابات الفرنان بعين دراهم مع البحر أين كان تجار المرجان الإيطاليين يرسون  بواخرهم فيها يبحثون عن مرجان طبرقة الثمين ثم هناك في اتجاه الغرب تمتد الأراضي الخصبة ذات التراب الأسود تلك الأراضي التي تغذى منها سكان كثيرون من تونس ومن خارج تونس في زمن الاستعمار منذ العهود الغابرة وتزخر الجهة بآثار الحضارة القديمة التي طبعت الجهة من مدينة بلاريجيا وهي فريدة من نوعها ومكان لا يتميز فقط بفسيفسائه الرائعة بل كذلك بمسرحه الأثري الذي ما زال يستغل في العروض الثقافية ويجلب الزوار من الداخل والخارج كما نجد مرمر شمت والذي كانت تصدر منه كميات هامة إلى  روما عاصمة إمبراطورية الرومان .
ولا بد في الختام من التركيز على تلك الجملة التي قالتها الكاتبة والني تلخص كل شيء تقريبا: "ندرك عبر سلوكيات أهل الريف ذلك الاحترام الذي يكنونه للأرض الأم تلك التي تدفعهم للسخاء حتى وإن كان بهم خصاصة".
 
*مدير تحرير صحف "دار الصباح" سابقا
 
  من وحي كتاب "المرأة الريفية.. بن بشر 1952-1970" للكاتبة فاطمة بن بشر: الفلاحة..البادية.. والاستصلاح الزراعي عنوان الأمن الغذائي والتنمية
 
 
بقلم: مصطفى الخماري*
 
تتوالى المواسم الفلاحية في ربوع تونس ولم تعد خضراء كما اشتهرت به على مر الأزمنة لما كانت تعرف بمطمورة روما في زمن وفرة محاصيل الحبوب من قمح وشعير وبقول حققت بها الاكتفاء الذاتي وصدّرت منها كميات كبيرة سواء لفائدة روما أو لمن توالوا على استعمار تونس وصولا إلى زمن الاحتلال الفرنسي.
أنجبت الأرض التونسية في القرنين الأول والثاني قبل الميلاد العالم الفلاحي ماغون الذي كتب أكبر موسوعة فلاحية من ثمان وعشرين مجلدا. وقد لقب بأب الفلاحة لأنه ابتكر العديد من التقنيات الزراعية استعملت في قرطاج وذاع صيتها عبر العالم.
يعتبر المؤرخون الكتاب إحدى أهم الغنائم التي عاد بها الغزاة الرومان إلى عاصمة إمبراطوريتهم وصنفوه كأكبر غنيمة حرب.
واليوم ونحن نعيش موسم الزراعات الكبرى وقد من الله علينا بالغيث النافع بعد احتباس طال وفترة جفاف هددت الأرض والزرع وأفرغت السدود وبثت الخشية في النفوس من ان تصبح بلادنا مهددة بالشح المائي.
 
تأخر موسم الأمطار وتأثيراته على الصابة
وحسب الملمين بالشأن الفلاحي فإن تأخر موسم الأمطار يتبعه تأخر نمو البذور وتأخر موسم الحصاد الذي سيكون خراجه ثلث صابة المواسم العادية تقريبا.
ولعل الوضع الصعب الذي يعيشه سوق الحبوب من تطورات وإرهاصات بسبب الحرب الروسية على أوكرانيا يؤدي إلى عديد التقلبات في ظل صعوبة التزود من روسيا أو أوكرانيا ليدخل العالم ككل معركة نفوذ ولي ذراع بين الأقطاب.
ما يجري في أوكرانيا اليوم علاوة على ضحايا القصف للمدن والقرى وتشريد الآلاف من السكان، يهدد البشرية بما هو أقوى من الحرب النووية التي يتداعون بها وهو شبح المجاعة المخيم على العالم ولا تنجو منها الا الشعوب التي حصنت بلدانها بالتعويل على أراضيها وخدمتها واستغلتها الاستغلال الأفضل والكامل حتى لا تضطر لضمان قوتها بالتعويل على الخارج.
 
الاكتفاء الذاتي شرط ضمان الأمن القومي
يجمع العارفون من فلاّحة ومهندسون مختصون في القطاع أن الاكتفاء الذاتي في مادة الحبوب في متناول الفلاحة التونسية لو يتم إقرار إصلاح زراعي يرتقي إلى مرتبة أولوية الأولويات في بلادنا لأن تحقيق الاكتفاء الذاتي يعني ضمان الأمن الغذائي والأمن القومي. وهو ما يؤكده ما حققته بلدان أخرى لا تتوفر لها مساحات كبرى لأراضي فلاحية مثل التي تملكها بلادنا.
الفلاحة الحلقة الأضعف
وقد شهدت تونس منذ الاستقلال نجاحات وإخفاقات متفاوتة  وقامت بمجهودات للنهوض بالتعليم والصحة وتحسين مستوى العيش والتشغيل.. لكن نتائج ذلك تبدو اليوم غير كافية مقارنة بقلة تأثيرها المأمول على مستوى العيش بما في ذلك التعليم وعدم قدرة المؤسسات الصحية - رغم توفرها على إطارات طبية وشبه طبية عالية التكوين- على استيعاب طلبات العلاج والتوقي الناجع من الأوبئة وضمان خدمات صحية ذات جودة مقبولة إلى أن تستعيد منظومة الصحة مجدها لما كان المواطن يجد فيها ضالته دون عناء وطول انتظار وبقبول حسن.
السبب يتمثل أولا في النمو الديمغرافي السريع الذي تشهده تونس وقد تلاشى مخطط التنظيم العائلي الذي ساهم منذ الاستقلال في خلق التوازن بينه وبين إمكانيات البلاد ثم في شح الموارد المالية وظروف العمل الصعبة أحيانا عندما لا يتفهم المواطن - وهو محق في طلب رعاية صحية ناجعة-الظروف التي تشل قدرة المرفق الصحي العمومي على استيعاب سلس للحاجيات بينما تطغى إغراءات الطلب الخارجي المتزايد للإطار الطبي وشبه الطبي الذي دفع الى هجرة مئات الأطباء والفنيين الصحيين بحثا عن مناخ عمل مجز ماديا وجيد مهنيا.
تركيزي على الفلاحة وأهميتها في الأمن القومي، جاء بعد اطلاعي وقراءتي لكتاب تتحدث فيه كاتبته السيدة فاطمة بن بشر عن المرأة الريفية في قرية بن بشير بين سنوات ألف وتسعمائة وستة وخمسين، وألف وتسعمائة وسبعين.
صورة الغلاف تتزين بجمع من النساء يجمعن زيتونا في مشهد معبر عن حركية مواسم جني الصابة سواء في الزراعات الكبرى أو جني الزيتون أو القوارص كما موسم جني التمور في أجواء احتفالية لا بد من مزيد تسليط الضوء عليها إعلاميا.
جميل أن تتصدر صور الريفيات كتابا في بلادنا يصف سعيهن اليومي لتحصيل قوت عائلاتهن مقابل يوم كامل من الجهد والمثابرة لحسن التصرف في أكبر ثروة تملكها تونس وهي الفلاحة لو تتضافر جهود الدولة  لتشجع الكفاءات للمشاركة في إحياء الفلاحة التونسية من سباتها.
كنا نسمع في بداية الستينيات عن مخططات إحياء أراضي الدولة وقد كلفت بتنفيذها دواوين إحياء قامت في معظمها بدورها بعد أن أحيت الأراضي وزرعتها وفجرت بها المياه.
ماذا عن متابعة عمل الدواوين ثم هل أن كل الأراضي الدولية مستغلة الاستغلال الأجدى والى ماذا وصل استغلال المقاسم التي تم كرائها للفنيين وهل تمكن مساحات المقاسم المسلمة لهم من توفير إنتاج مجز يشجعهم على مواصلة الجهد وحمل مشعل تطوير الفلاحة وإعادة تألقها وجدواها وإصلاح صورتها في المجتمع؟
تقول الكاتبة فاطمة بن بشر"أردت التعرف على الحياة الريفية عبر نساء الريف لما لمسته لديهن من إصرار على الحفاظ على هذه القيم في الاقتصاد العائلي وواكبت سلوك أهل الريف خلال فترة مفصلية في حياة تونس أي فترة ما قبل الاستقلال من ال1952 إلى 1956 ثم خلال وبعد فترة التعاضد من 1964 إلى 1970". وقد ركزت الكاتبة على حقبة من حياة أهل الريف تتعلق  باستكشاف طريقة عيش الريفيات وهي شهادة أرادت تجميعها حول مشيخة بني بشير. تحملنا الكاتبة عبر الجغرافيا والتاريخ لنتعرف على حياة البادية وعادات وتقاليد أهلها في حياتهم اليومية عبر أفراحهم وأتراحهم لتسليط الضوء خاصة على دور المرأة الريفية الأساسي في المجتمع الريفي الذي تحمل فيه المرأة مسؤوليات جسام في تربية العائلة والعناية بها بكل ما تحمله الكلمة من معان ودلالات يتقلص من خلالها دور الرجل ضمن العائلة إذ تكاد المرأة ربة البيت أن تضطلع بالمهام العائلية الأساسية تواكب كل محطات الحياة فيها وتعرف كل صغيرة وكبيرة عما يجري في محيطها عندما تجتمع نساء الدوار في الحقل أو عند جلب ماء الشرب يرددن  أخبار ما يجري ويتبادلن النصح حول شؤون الأهل بدءا من الولادة ومرورا بمختلف مراحل الحياة.
 
دور حيوي للإعلام
هذا الكتاب يعتبر بالغ الأهمية باعتبار انها لا تتوفر على حد علمي في مكتبتنا التونسية كتب كثيرة تروي سيرة نساء تونسيات كادحات بينما لا يتعدى غالبا الاهتمام بأخبارهن في المشهد الإعلامي السمعي البصري على نقل وقائع حادث قاتل لشاحنة غير مهيأة لنقل الأشخاص وعلى متنها عاملات فلاحيات في طريقهن للحقل ثم العودة بهن الى منازلهن حيث ينتظرهن عمل آخر.
الكتاب، ضمنته صاحبته السيدة فاطمة بن بشر روايات سمعتها من كبار نساء قرية بن بشير حول الأعمال التي تقوم بها نساء القرية وكيف يستيقظن باكرا لأن عملهن يبدأ بقضاء شؤون المنزل من غسيل وتنظيف للبيت وطهي الطعام والاهتمام بإفطار الأبناء قبل ذهابهم للمدرسة قبل أن يتوجهن للحقول على متن شاحنات غير مؤمنة وغير مجهزة لحمل الأشخاص.
 
المرأة الريفية على كل الواجهات
الكتاب تحدث عن العمل الفلاحي وما تتحمله المرأة الريفية من دور ضمنه دون التخلي على دورها العائلي والمنزلي.
كتاب السيدة فاطمة بن بشر لا يكتفي بتعداد أعمال المرأة الريفية وحياة المجتمع الريفي بعاداته وتقاليده بل يثمن مكانتها في محيطها وطريقة عيشها وتأثيره الفاعل في أسرتها وما حولها من جيران وإيمانها الضمني الصامت بجدوى التضامن داخل العائلة والقرية وإحساسها العميق بأن جهدها غايته توفير أسباب العيش الكريم لعائلتها وخاصة رعاية أبنائها ليحققوا لها آمالها في نحت مستقبل أفضل لهم بعيدا عن  العمل الفلاحي.
الكتاب أعطى للمرأة الريفية حقها وقطع مع الصورة النمطية التي تقدمها بعض مسلسلاتنا وسكاتشاتنا وبلاتوهات تلفزاتنا من تهكم على نمط العيش واللهجة ولباس أهل البادية والعاملين في الحقول.
قراءتي للكتاب، عادت بي الى السنوات الأولى بعد الثورة حيث تابعت وقتها برنامجا يستجوب عاملات فلاحيات. إحداهن كانت منغمسة في عملها أجابت على سؤال محدثها أنها سعيدة بعملها لأنه يوفر لها دخلا يمكنها من اقتناء حاجيات أهل بيتها بما فيهم أبنائها ويمكنها من توفير أدواتهم المدرسية وأضافت أنها تحمد الله على ذلك وهي سعيدة مع عائلتها.
أصر محدثها على التوجه لها بسؤال أكثر منه جزما قائلا عملك متعب جدا.. أجابته بعفوية هل تعرف عملا غير متعب وأضافت أنا سعيدة والحمد لله بعملي ومستورة أنا وعائلتي.
أذكر هذا المثال لأثمن الدور الذي يمكن للإعلام السمعي البصري القيام به في تغيير العقليات الخاطئة التي تتعامل دائما مع الفلاحة والبادية والعاملين في الميدان الفلاحي وكأنها أطراف مرتبطة فقط بالفقر والخصاصة. وهي نظرة تعود عليها المجتمع وأثرت على البوادي والأرياف وجعلت خاصة شباب الأرياف يهرب من تلك الصور ويسعى للحاق بأضواء وإغراءات المدينة في مرحلة أولى بحثا عن عمل يلبي جزءا من طموحاته ثم يتحول في مرحلة موالية إلى الإقبال على قوارب الموت في محاولات للهجرة إلى الشمال رغم الثمن الذي يصل حد الموت في البحر غرقا.
خلاصة ما تقدم من وجهة نظري هي أن الخروج من الأزمة الخانقة التي تمر بها بلادنا يمر حتما عبر إعادة الحياة لأرياف هجرها سكانها للمدن ولم يجدوا فيها ضالتهم من شغل وكرامة.
 
الفلاحة قاطرة التفوق
وبعيدا عن فحوي الكتاب، لكن من خلال تأثيراته، أؤكد أن بلدانا كثيرة أعادت الروح والدور التنموي لأريافها وجعلت من الفلاحة محركا أساسيا لتحقيق تفوقها الاقتصادي والاجتماعي وأصبحت تعتلي المراتب الأولى في سلم التقدم الصناعي والبشري في العالم بفضل الفلاحة.
وهنا أتساءل لماذا لا نفعل ما يسمى عندنا بالدبلوماسية الاقتصادية بتكليف سفاراتنا في الدول المتقدمة فلاحيا بدراسة المخططات والآليات والإجراءات العملية التي توختها ونطبق مشروعاتها لدينا.
لا يعني هذا استنقاصا لقيمة مهندسينا وفلاحينا لكن يعني ربح الوقت تجنبا للتعقيدات الإدارية والإجرائية وعقلية عدم المبادرة خوفا من المحاسبة بسبب قوانين بالية ولا عيب في اعتماد التجارب الناجحة إذا تأكدت نجاعة تطبيقها في بلادنا.
إذا قمنا بدراسات مقارنة سوف نكتشف أن التجارب الناجحة بدأت بالتركيز على القرى والمساحات الصغيرة ضمن مخطط دعم مادي كتوفير مواد البناء والتكفل بمصاريف ترصد للقرية طبقا لما تقدمه من مخطط مرقم لإنجاز المسالك الفلاحية والطرقات وشراء لوازم الزراعة وآلياتها وبناء الطرقات والمستوصفات والمدارس وقاعات السينما ومرافق عمومية تلبي حاجة القرية وتحقق لها الاكتفاء الذاتي.
أتحدث عن تجربة درستها تتعلق بكوريا الجنوبية تفوقها الصناعي والاقتصادي انطلق بالنهوض بالفلاحة وتحسين مردودها رغم توفره على ثمانين بالمائة فقط من الأراضي الزراعية وتمكن بفضل نجاح فلاحتها من تحقيق اكتفائها الذاتي وتصدير منتجاتها للأسواق المجاورة وحتى البعيدة من المرور نحو تحقيق تفوق صناعي بمرتبة عالية عالميا.
وكان الشأن كذلك بالنسبة لنمور آسيا كاليابان وغيرها من البلدان التي أدركت أن ضمان المستقبل والاستقلال الحقيقي يمران بتطوير الفلاحة وعدم التعويل على الخارج لضمان أمنها الغذائي.
كتاب السيدة فاطمة بن بشر الصادر عن الكريديف في الصائفة الماضية والذي قرأته واعدت قراءته وتصفحه لأنه يحمل عطر بادية ولدت وترعرعت بين أحضانها ويشدني لها دائما الحنين ويؤسفني أنها لم تتمكن ولم تمكن من النهوض الذاتي ومن تأكيد تمسكها بدورها والعمل على الحفاظ على مكانتها لأن الذين يخططون قد تشدهم أرقام بورصة التوازنات المالية والتحولات الجيواستراتيجية عن إدراك عمق الهوة بينها وبين واقع ما يعرف في قاموس السياسة عندنا بالمناطق المهمشة.
 
مراكز تكوين وجامعات تخصص فلاحة ضرورة ملحة
والغاية من التعريف بكتاب السيدة فاطمة بن بشر هو التوسع في الحديث عن دور الفلاحة المركزي في بلادنا. وقد أردت تسليط الضوء حوله ونحن في خضم الحوارات والخلافات والمناكفات الطاغية حول السياسة في كل المنابر، للدور الهام والمفصلي الذي يمكن للفلاحة أن تلعبه في التخفيف من وطأة الأزمة الاقتصادية التي تعيشها تونس لو بوأ المجتمع والإعلام الفلاحة المكانة التي تستحقها كركيزة أساسية تؤهل البلاد لما هو أفضل لضمان غذاء مواطنيها وجعل الفلاحة محركا للتنمية في الميادين الاقتصادية الأخرى.
كذلك هناك ملفات هامة تتطلب الاهتمام لعل أهمها الأراضي الدولية التي ليست في وضعية إنتاج. فالمتابع لبرنامج "السانية" لبوبكر بن عكاشة على قناة "التاسعة" يلاحظ أنه من البرامج النادرة عن الفلاحة في بلادنا وهو يثير الاهتمام للروبورتاجات والنصائح التي تقدمها نخبة من المهندسين والمهندسات من خريجي معاهد وجامعات تونسية تدرس حصريا مادة الفلاحة. هذا البرنامج ذكرني ببرنامج إذاعي للزميل محمد النوري عبيد وكذلك برنامج آخر للعربي بلحاج صادق في الإذاعة الوطنية وأيضا برنامج كانت تنتجه الزميلة حورية قلاتي مع بلحاج صادق ابن سي العربي رحمهم الله يجيب فيه على أسئلة المستمعين.
مثل تلك البرامج التلفزية تخفف عن متابعيها عناء حوارات متشنجة.
ولعل بعض القنوات بدأت تستشعر ثقل تكرار مواضيع تتعلق بالسياسة على المتلقي فالتفتت للثقافة الراقية وللفنون ووجهت اهتمامها للتعريف بنجاحات تونسية بالداخل والخارج وبتشجيع الشباب على الخلق والإبداع.
أعلم أن المعركة شرسة بين أدوات تواصل اجتماعية مفتوحة على كل الواجهات بكل حرية وحتى أكثر ومشهد سمعي بصري يسعى للحفاظ على وجوده مع التقيد بالقوانين وسطوة شح الإمكانيات المالية والحدود المجتمعية لكن المتلقي يرنو للتجديد ولفتح عدسات كاميرات التلفزات على اهتمامات شباب متعطش للمعرفة ولأدراك طرق وأسباب التقدم الذي يهاجمه عبر هاتفه المحمول ويفرض عليه مقارنة مضنية بين واقعه وما يجري في عوالم أخرى تتعلق همم شبابها بالبحث عن الفضاء الأسود وسبر أغوار الكون مثل ما تقوم به العالمة التونسية لينا نصيب التي أطلت علينا من شاشة قناة "قرطاج" في برنامج تلفزي واعد وهناك العديد من الأسماء التونسية المتفوقة تشرف بلادنا عبر العالم وتنزع ولو القليل من سحب التشاؤم التي تثقل عزائم الشباب وتغلق آفاق الحياة أمامه .
واليوم من المفيد الانتباه إلى الحاجة للمعاهد الفلاحية ومراكز التكوين الفلاحي لكل المستويات فتحا لآفاق العديد من الشباب العاطل عن العمل وتحفيز الحاملين لشهائد عليا للقيام بتكوين إضافي في المعاهد الفلاحية العليا ليفتح لهم مجال العمل في الفلاحة وليقع تأهيلهم للاستفادة من برنامج كراء مقاسم من أراضي الدولة للمتحصلين على شهادة تؤهلكم لذلك.
 
دور هام للتعاون الخارجي
كذلك يمكن التعاون مع أشقاء وأصدقاء تونس كما المنظمات الأممية والمؤسسات غير الحكومية لإعانة الشبان المتخرج من مراكز التكوين على بعث مشاريع صغرى كالتي تمت في الجنوب منذ عدة سنوات بالتعاون مع المكتب الدولي للعمل أو مع اليابان وكوريا في الشمال الغربي والوسط وألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية عن طريق وكالاتها للتعاون الخارجي وبمساهمة مؤسسات تعاون لبلدان شقيقة.
هناك مشاريع ناجحة لجمعيات تنشط في تربية الماشية كما نكتشف بمناسبة معارض موسمية نتائج مهمة لعدة مشاريع أهلية بعثتها نساء ريفيات وكذلك في المدن كصناعة الأجبان أو تربية النحل أو استخراج الزيوت النباتية وابتكارات في ميدان الصناعات التقليدية.
كل هذا يدل على أن المجال مفتوح للخلق والإبداع في الميادين الفلاحية واليدوية التي تخلق دخلا محترما لمتعاطيها وتوفر مواطن شغل وتدفع بديناميكية اقتصادية البلاد في حاجة ماسة لها.
تحية للسيدة فاطمة بن بشر وقد ذكرني جانب العمل والجهد في كتابها والمجالات الواسعة التي توفرها أراضي تونس للعمل بحكاية قصيد لافونتان Le laboureur et ses enfants  بما يعني أن تونس تملك أراض "تنتج الزعفران" كما يقول المثل عندنا وهي بحاجة أكيدة لمزيد الاهتمام بالفلاحة ووضعها على صدارة أوليات الدولة والمجتمع.
قصة المزارع وأبنائه للافونتان حرية بأن تلهم أولي أمرنا وكل العائلة الفلاحية بأجيالها الجديدة لتعود لتونس خضرتها ومطامير قمحها وشعيرها وليس ذلك بالصعب لو تشحذ كل العزائم الصادقة لتخرج مخططات النهوض بالفلاحة من الرفوف لتصبح واقعا ملموسا بفضل كفاءة المهندسين ومراكز البحوث الفلاحية ومواكبة الدولة وتشجيع الفلاح وتعاطي الفلاحة.
واختم بما ذكرته الدكتورة نجلاء علاني بوحولة المديرة العامة للكريديف في مقدمة الكتاب بأن  مرور السيدة فاطمة بن بشر في أعماق الريف أبرز في  نفس الوقت متانة العلاقة بين هذا الصنف من النساء والأرض وهي أصل حياتهن وأداة عملهن بما يفسر رمزية تمسكهن بالأرض التي تلتصق بكيانهن وتضيف أن العاملات الناشطات يشكلن في مفهوم السيدة فاطمة بن بشر المحرك الاقتصادي الأساسي للجهة الضامن لتنمية الفلاحة بها.
وقد ذكرت الكاتبة أن الحظ نالها لما عاشت قرابة عشرين سنة في منطقة -مشيخة بن بشير-رغم أنها تتمتع بخصوصيات ملفتة للنظر على أصعدة متنوعة أولها الطبيعة حيث تتجاور غابات الفرنان بعين دراهم مع البحر أين كان تجار المرجان الإيطاليين يرسون  بواخرهم فيها يبحثون عن مرجان طبرقة الثمين ثم هناك في اتجاه الغرب تمتد الأراضي الخصبة ذات التراب الأسود تلك الأراضي التي تغذى منها سكان كثيرون من تونس ومن خارج تونس في زمن الاستعمار منذ العهود الغابرة وتزخر الجهة بآثار الحضارة القديمة التي طبعت الجهة من مدينة بلاريجيا وهي فريدة من نوعها ومكان لا يتميز فقط بفسيفسائه الرائعة بل كذلك بمسرحه الأثري الذي ما زال يستغل في العروض الثقافية ويجلب الزوار من الداخل والخارج كما نجد مرمر شمت والذي كانت تصدر منه كميات هامة إلى  روما عاصمة إمبراطورية الرومان .
ولا بد في الختام من التركيز على تلك الجملة التي قالتها الكاتبة والني تلخص كل شيء تقريبا: "ندرك عبر سلوكيات أهل الريف ذلك الاحترام الذي يكنونه للأرض الأم تلك التي تدفعهم للسخاء حتى وإن كان بهم خصاصة".
 
*مدير تحرير صحف "دار الصباح" سابقا