إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

منتدى الصباح: إبحار في المياه المالحة.. قراءة في كتاب رفيقة البحوري" في المياه المالحة"

بقلم:أمال السويسي

تفتح الكتاب فتتدفّق كلمات الكاتبة رفيقة البحوري منسابة، تأخذك معها على متن سفينتها، تمخر بك عباب بحر ذكرياتها، ممسكة بدفة القيادة، مدركة مجرى الرياح، مثبتة أشرعتها في الاتجاه الصائب حتى لا تضلّ المسير وتغرق في لجة المياه المالحة .

 تحلّت الساردة في هذه السيرة الذاتية بأعلى درجات الشجاعة، فأظهرت للقارئ ما تعجز عنه كثيرات في مجتمعنا، ألم يقل جون لانكستر"إن أعلى درجات الشجاعة أن تجرؤ على الظهور على حقيقتك". لقد رسمت بكلماتها ما تعجز عدسات المصوّر عن التقاطه، فولجت إلى أعماق النفس واستنطقت كوامنها، ورغم قتامة بعض الصور" الشفافة كالدمعة والحالكة كالقبر" فإنك لا تجد نفسك إلا مستمتعا بهذه الرحلة.

"كنت كالسمكة في الأكواريوم أحملق بنظارات الغربة إلى العالم الخارجي بينما يضيع صوتي بين ذبذبات الماء واحتجاز الزجاج" هكذا خاضت الكاتبة صراعا سكنها مذ قرّرت الكتابة فكانت الثنائية التي مزّقت كيانها : الصمت أم البوح. "خوف التعرّي يطفئ وهج نفسي(...) أدخل الكتابة كأنما أدخل حفل تعر. شقيّة بحيائي... شقيّة بغروري". ولكن الغلبة كانت للبوح فكانت سيرة المياه المالحة انتصارا بعد انكسارات،"الكتابة صراع من أجل أن تكون وما أصعب ان تكون" ... فكانت الغواص الذي صعد إلى السطح بعد أن أيقن بهلاكه اختناقا.

ولأنها آمنت أن الإنسان مشروع يتحقق في سيرورة التاريخ خاضت الساردة معاركها باقتدار وعنفوان، وفي الحقيقة كان التقديم الذي استهلت به أثرها مرشدا لفك شيفرة الرحلة برمّتها إذ كان مكثّف الترميز وبمثابة مفتاح للإقبال على قراءة الاثر بنهم، تشوّقا لمعرفة خبايا هذه الملحمة بصيغتها الخصوصية وفي طابعها الكوني الانساني.فكان الجدّ الجالس على جلد خروف يسرد حكاية علي ابن السلطان هو مفتاح شيفرة الرحلة: لماذا اختار علي ابن السلطان ابن الخادمة طريق الخسارة؟

رافقترمزية الجد السيرة، تطفو أحيانا على سطح الكلمات وتغوص لتنسج ضمنيا فيما تبقى، رسمت ملامح طريق شاقة: الجد الوقور الساكن الهادئ الحكيم كما البحر هو في هذه السردية يحمل الأضداد والثنائيات المتناقضة، فبين موروث ساكن في العقل الجمعي ومستقبل حالم بالأفضل حزمت الكاتبة أمرها وخاضت رحلتها مسكونة برغبة الانعتاق والتحرّر الكامنة في ذاتها،متخلصة من عبء ثقيل لموروث ران على المجتمع. وقد ترجم في شكل صراع بين"النعيم والجحيم" هذا الفصل الذي لامس عن قرب عمق الكاتبة ورسم بجلاء حدّة الصراع.

 لامست هذه السيرة بسلاسة لغتها وبساطة مفرداتها رؤية شاملة ومقدرة خارقة على استيعاب رحابة الحياة وتمثّل غذى التجربة بنوع من المعاناة ولكن أهم ما صبغ ملامح هذه التجربة كان تلك الشحنة من التمرّد التي رافقت مسيرة تلك الفتاة منذ اليوم الأول من ولادتها. تمرّدت على الرضاعة أولا، وعلى السائد من حكايات المراهقات من صديقاتها وهن يسبحن في البحر معها، ويروين قصصا عن الحب والحبيب، كانت متمردة حتى في رفضها السباحة في الشاطئ الرملي وتفضيلها للشاطئ الصخري لتكتشف مكامن الجمال في الطبيعة. ولعلّ الحدث المؤسس لهذه الشحنة هو لحظة مخاض والدة الكاتبة التي"اشتهت البحر"فكان بمثابة وجود سابق للماهية، ماهية تتحقّق عبر التاريخ والفعل فيه، لكنها مفتوحة على مخاطر البحر في غموضه واتساعه.

إنّ الالتباس القائم بين حياة الكاتبة والبحر يكشف ماتملكه من حسّ مرهف ونزوع الى الرومنسية التي كثيرا ما تعسّفت عليها وكتمتها داخلها مفسحة المجال لتلك النزعة الثورية التي تسكنها. وهاتان النزعتان ليستا متناقضتين "فلايقدر على دفع ضريبة الدم إلا الذين يقدرون شرف الحياة "،هذه الرومنسية التي تقوم على إحساس خاص بالأشياء بلغت أوج تجلياتها في عبارة أوردتها الساردة وهي ترضع ابنتها يعاد حيث قالت" أحسست أني أرتوي بقدر تدفّق الحليب في فمها "،فعبّرت بذلك عن أعلى درجاتالإحساس بالأمومة.

لقد أرسلت الساردة عبر هذه السيرة رسائل مكثفة الترميز مفادها أنه ليس من الضروري امتلاكك لمهارات استثنائية في علوم البحار لتستطيع أن تنجو من العاصفة، فلحظة الإعصار ستجد داخلك طاقة استثنائية تكون لك سبيل النجاة. هذا ما ضمّنته الساردة في حكاية الأخطبوط الذي تمكّنمن البحّار وكاد يقضي عليه، فلم يجد بدا من عضّه ليحافظ على حياته.

رافقتنا هذه الرسائل المستبطنة طيلة الرحلة في السيرة الذاتية فكانت الحياة الجامعية للكاتبة مليئة بصور المواجهة مع الفرق المختصة للداخلية والبوليس السياسي،وكان الهروب من ملاحقاتهم هو صورة من صور أذرع ذلك الاخطبوط.

هنا أصل إلى الهاجس الذي سكن ويسكن الكاتبة وهو ذلك الخوف من أن تمتدّأذرع الأخطبوط إلى منظومتنا القيمية المتفتحة على الآخر والتي رسخت على مدى عقود في مسار من النضالات الحقوقية، وهو ما ترجم في عديد التشريعات الضامنة للحقوق والحريات.

فمن أذرع الأخطبوط إلى خفافيش الظلام أو الحرّيقة(قناديل البحر) كمانعتتهم أحيانا،هواجس أرّقت الساردة، فصوّرت المحاولات المتكررة للانقضاض على مكاسب الدولة المدنية.ورغم خطورة الموضوع لم يخل النص من روح الدعابة التي رافقت أحيانا وصفها لهم.تصف خطيبهم فتقول: "كان شدقه يتحرّك بطريقة آلية، محرّكا لحية كثة مشعثة، حباها الله بموفور الصحّة والعافية، وانطلقت على هواها، لا يشذبها مشذب ولا يحدّ مناندلاقها مقصّ". كان انحسار النور لحساب الظلام هو هاجس الكاتبة لان حبها لتونس وأرضها يجري فيها مجرى الدم، وخوفها على مكاسب خضبت بالدم هو ما يقلقها.

تختم الكاتبة سيرتها من حيث بدأت ومما استهلت أثرها: سردية الجد والخيار الصعب لعلي ابن السلطان، فالبداية كما النهاية تنطوي على قلق وجودي ترجم في مسيرة الكاتبة النضالية وما حملته من التزام تجاه واقعها الاجتماعي، وهو ضرورة يعكس روح المسؤولية والشجاعة التي تميّز عادة المثقفين الحقيقيين،إنه قلق ناجم عن مأساة الإنسان وهو يشق طريقه وجدانا وطلبا لنحت كيانهوماهيته وهو ما نحتته كاتبتنا في طيات هذه السيرة الذاتية.

انخرطت الكاتبة في الواقع وفعلت فيه ولم تكن سلبية إزاءه، وهو المعنى الحقيقي لإنسانية الإنسان كمهمة تتحقق عبر تاريخه، فلم تكتف بتشخيص الواقع بل مرّت الى الفعل فيه،لأنها وعته بتفاصيله، واختارت كسر قيود السلطة التقليدية. وهي بهذا الاختيار انتصرت لإرادتها، وأثبتت حريتها. اختارت الكاتبة الطريق الصواب فمجرد خروج هذه السيرة وما تحمله من دلالات في العنوان والرمزية وفي الشخصيات هو انتصار للذات وانتصار للإنسان.

 

منتدى الصباح: إبحار في المياه المالحة.. قراءة في كتاب رفيقة البحوري" في المياه المالحة"

بقلم:أمال السويسي

تفتح الكتاب فتتدفّق كلمات الكاتبة رفيقة البحوري منسابة، تأخذك معها على متن سفينتها، تمخر بك عباب بحر ذكرياتها، ممسكة بدفة القيادة، مدركة مجرى الرياح، مثبتة أشرعتها في الاتجاه الصائب حتى لا تضلّ المسير وتغرق في لجة المياه المالحة .

 تحلّت الساردة في هذه السيرة الذاتية بأعلى درجات الشجاعة، فأظهرت للقارئ ما تعجز عنه كثيرات في مجتمعنا، ألم يقل جون لانكستر"إن أعلى درجات الشجاعة أن تجرؤ على الظهور على حقيقتك". لقد رسمت بكلماتها ما تعجز عدسات المصوّر عن التقاطه، فولجت إلى أعماق النفس واستنطقت كوامنها، ورغم قتامة بعض الصور" الشفافة كالدمعة والحالكة كالقبر" فإنك لا تجد نفسك إلا مستمتعا بهذه الرحلة.

"كنت كالسمكة في الأكواريوم أحملق بنظارات الغربة إلى العالم الخارجي بينما يضيع صوتي بين ذبذبات الماء واحتجاز الزجاج" هكذا خاضت الكاتبة صراعا سكنها مذ قرّرت الكتابة فكانت الثنائية التي مزّقت كيانها : الصمت أم البوح. "خوف التعرّي يطفئ وهج نفسي(...) أدخل الكتابة كأنما أدخل حفل تعر. شقيّة بحيائي... شقيّة بغروري". ولكن الغلبة كانت للبوح فكانت سيرة المياه المالحة انتصارا بعد انكسارات،"الكتابة صراع من أجل أن تكون وما أصعب ان تكون" ... فكانت الغواص الذي صعد إلى السطح بعد أن أيقن بهلاكه اختناقا.

ولأنها آمنت أن الإنسان مشروع يتحقق في سيرورة التاريخ خاضت الساردة معاركها باقتدار وعنفوان، وفي الحقيقة كان التقديم الذي استهلت به أثرها مرشدا لفك شيفرة الرحلة برمّتها إذ كان مكثّف الترميز وبمثابة مفتاح للإقبال على قراءة الاثر بنهم، تشوّقا لمعرفة خبايا هذه الملحمة بصيغتها الخصوصية وفي طابعها الكوني الانساني.فكان الجدّ الجالس على جلد خروف يسرد حكاية علي ابن السلطان هو مفتاح شيفرة الرحلة: لماذا اختار علي ابن السلطان ابن الخادمة طريق الخسارة؟

رافقترمزية الجد السيرة، تطفو أحيانا على سطح الكلمات وتغوص لتنسج ضمنيا فيما تبقى، رسمت ملامح طريق شاقة: الجد الوقور الساكن الهادئ الحكيم كما البحر هو في هذه السردية يحمل الأضداد والثنائيات المتناقضة، فبين موروث ساكن في العقل الجمعي ومستقبل حالم بالأفضل حزمت الكاتبة أمرها وخاضت رحلتها مسكونة برغبة الانعتاق والتحرّر الكامنة في ذاتها،متخلصة من عبء ثقيل لموروث ران على المجتمع. وقد ترجم في شكل صراع بين"النعيم والجحيم" هذا الفصل الذي لامس عن قرب عمق الكاتبة ورسم بجلاء حدّة الصراع.

 لامست هذه السيرة بسلاسة لغتها وبساطة مفرداتها رؤية شاملة ومقدرة خارقة على استيعاب رحابة الحياة وتمثّل غذى التجربة بنوع من المعاناة ولكن أهم ما صبغ ملامح هذه التجربة كان تلك الشحنة من التمرّد التي رافقت مسيرة تلك الفتاة منذ اليوم الأول من ولادتها. تمرّدت على الرضاعة أولا، وعلى السائد من حكايات المراهقات من صديقاتها وهن يسبحن في البحر معها، ويروين قصصا عن الحب والحبيب، كانت متمردة حتى في رفضها السباحة في الشاطئ الرملي وتفضيلها للشاطئ الصخري لتكتشف مكامن الجمال في الطبيعة. ولعلّ الحدث المؤسس لهذه الشحنة هو لحظة مخاض والدة الكاتبة التي"اشتهت البحر"فكان بمثابة وجود سابق للماهية، ماهية تتحقّق عبر التاريخ والفعل فيه، لكنها مفتوحة على مخاطر البحر في غموضه واتساعه.

إنّ الالتباس القائم بين حياة الكاتبة والبحر يكشف ماتملكه من حسّ مرهف ونزوع الى الرومنسية التي كثيرا ما تعسّفت عليها وكتمتها داخلها مفسحة المجال لتلك النزعة الثورية التي تسكنها. وهاتان النزعتان ليستا متناقضتين "فلايقدر على دفع ضريبة الدم إلا الذين يقدرون شرف الحياة "،هذه الرومنسية التي تقوم على إحساس خاص بالأشياء بلغت أوج تجلياتها في عبارة أوردتها الساردة وهي ترضع ابنتها يعاد حيث قالت" أحسست أني أرتوي بقدر تدفّق الحليب في فمها "،فعبّرت بذلك عن أعلى درجاتالإحساس بالأمومة.

لقد أرسلت الساردة عبر هذه السيرة رسائل مكثفة الترميز مفادها أنه ليس من الضروري امتلاكك لمهارات استثنائية في علوم البحار لتستطيع أن تنجو من العاصفة، فلحظة الإعصار ستجد داخلك طاقة استثنائية تكون لك سبيل النجاة. هذا ما ضمّنته الساردة في حكاية الأخطبوط الذي تمكّنمن البحّار وكاد يقضي عليه، فلم يجد بدا من عضّه ليحافظ على حياته.

رافقتنا هذه الرسائل المستبطنة طيلة الرحلة في السيرة الذاتية فكانت الحياة الجامعية للكاتبة مليئة بصور المواجهة مع الفرق المختصة للداخلية والبوليس السياسي،وكان الهروب من ملاحقاتهم هو صورة من صور أذرع ذلك الاخطبوط.

هنا أصل إلى الهاجس الذي سكن ويسكن الكاتبة وهو ذلك الخوف من أن تمتدّأذرع الأخطبوط إلى منظومتنا القيمية المتفتحة على الآخر والتي رسخت على مدى عقود في مسار من النضالات الحقوقية، وهو ما ترجم في عديد التشريعات الضامنة للحقوق والحريات.

فمن أذرع الأخطبوط إلى خفافيش الظلام أو الحرّيقة(قناديل البحر) كمانعتتهم أحيانا،هواجس أرّقت الساردة، فصوّرت المحاولات المتكررة للانقضاض على مكاسب الدولة المدنية.ورغم خطورة الموضوع لم يخل النص من روح الدعابة التي رافقت أحيانا وصفها لهم.تصف خطيبهم فتقول: "كان شدقه يتحرّك بطريقة آلية، محرّكا لحية كثة مشعثة، حباها الله بموفور الصحّة والعافية، وانطلقت على هواها، لا يشذبها مشذب ولا يحدّ مناندلاقها مقصّ". كان انحسار النور لحساب الظلام هو هاجس الكاتبة لان حبها لتونس وأرضها يجري فيها مجرى الدم، وخوفها على مكاسب خضبت بالدم هو ما يقلقها.

تختم الكاتبة سيرتها من حيث بدأت ومما استهلت أثرها: سردية الجد والخيار الصعب لعلي ابن السلطان، فالبداية كما النهاية تنطوي على قلق وجودي ترجم في مسيرة الكاتبة النضالية وما حملته من التزام تجاه واقعها الاجتماعي، وهو ضرورة يعكس روح المسؤولية والشجاعة التي تميّز عادة المثقفين الحقيقيين،إنه قلق ناجم عن مأساة الإنسان وهو يشق طريقه وجدانا وطلبا لنحت كيانهوماهيته وهو ما نحتته كاتبتنا في طيات هذه السيرة الذاتية.

انخرطت الكاتبة في الواقع وفعلت فيه ولم تكن سلبية إزاءه، وهو المعنى الحقيقي لإنسانية الإنسان كمهمة تتحقق عبر تاريخه، فلم تكتف بتشخيص الواقع بل مرّت الى الفعل فيه،لأنها وعته بتفاصيله، واختارت كسر قيود السلطة التقليدية. وهي بهذا الاختيار انتصرت لإرادتها، وأثبتت حريتها. اختارت الكاتبة الطريق الصواب فمجرد خروج هذه السيرة وما تحمله من دلالات في العنوان والرمزية وفي الشخصيات هو انتصار للذات وانتصار للإنسان.

 

  Conception & Réalisation  Alpha Studios Copyright © 2023  assabahnews