إن التخلي عن مدنية الدولة في مشروع دستور الرئيس فيس سعيد وتعويضها ب"مقاصد الشريعة" التي تختص بها الدولة وحدها، هو الباب الذي سيشرع من جديد على اختلافات التأويل والنزاعات والمراوحة بين الشدة لحد التكفير وهدر الدماء، والرحمة تبشيرا بالجنة وحسن المآب باختلاف ميول وأهواء رئيس الدولة ثم الرؤساء الذين يتداولون على حكم البلاد إن تم الإفساح في المجال لذلك التداول أصلا.كل ذلك فيما المواطن يعيش مسلوب الإرادة مفعولا به، وكأنه غيرُ راشد ولاعاقل وقد حُط من قيمته إلى مرتبة الرعية الذي يقف دوره عند مبايعة الخليفة ثم الإنزواء في ركن بيته.
فوُجوبيةُ إعلان مدنية الدولة في الدستور في حد ذاتها تحمل في طياتها تأكيدا صريحا أن القانون هو الأعلى وأن المؤسسات هي إطاره وأن الديمقراطية واستقلال السلط هي ركائزه وأن المواطَنة هي المحرك الفاعل والغاية النهائية من عُلويتِه في عمل سُلط وهيئات وهياكل ومسؤولي تلك الدولة..
وكل ذلك ينفي عن الدولة المدنية والقائمين عليها والداعين لها تهمةَ الكفر ومعاداة الدين التي يحاولون تشويهها بها. بل على العكس تماما من ذلك، فإن الدولة المدنية بمواصفاتها وركائزها التي ذكرنا بعضها في الفقرة السابقة هي مصدر أمنِ وأمانِ المواطنين واطمئنانِهم على معتقداتهم وأفكارهم، مهما كان تصنيفها، بأن الدولة بقانونها هي الحامية لهم والضامنة لحريتهم ولمساواتهم أمام القانون وفيه، والمنقذُ لهم من الإبتزازِ باسم الدين ومن إدامةِ خوفهم من عقابٍ وعذابٍ يتهددانهم في كل آنٍ وحين.
إن المواطنين في الدولة المدنية هم في الأصل رُشَّدٌ عاقلون ومسؤولون عن أفعالهم، وأهمها المشاركةُ وحسنُ اختيار الدستور الذي ينظم ويدير شؤون حياتهم اليومية بصفة جلية واضحة، على عكس الدولة الدينية، سواءٌ وفق خيار الشريعة الصرفة أو مقاصدها،والني تظل دائما، وفي الحالتين، محل تأويلاتٍ شتى بحسب اختلاف المذاهب الفقهية المعروفة والمتفرعة عنها، وهي بالعشرات إن لم نقل بالمئات،لدى السنة والشيعة على حدٍ سواء. وكلها تتفيَّأ ظلَ الأمة الإسلامية.
ويكفي الرجوع إلى محطات سلسال الدم الذي طبع حقبا عديدة من تاريخ هذه الأمة، منذ مقتل ثلاثة من الخلفاء الراشدين الأربعة وإلى ماعانته وتعانيه إلى الآن، شعوب عديدة مثل افغانستان وسوريا والعراق وليبيا، وقبلها تونس ومصر في ظل الحكم الفردي وحكم الإخوان ولوبيات الفساد، تحت غطاء الدين وإجرام الإرهاب، وبإغداق الوعود الكاذبة فيما الدولة والمواطن يئِنَّان تحت وطأة التفقير والتجهيل والتكبيل بالديون لحد الإنذار بالإفلاس..
لذلك، فإن كل تغييبٍ لذكر واعتماد مبدا الدولة المدنية في الدستور، لايمكن أن يكون إلا بغاية تجميع السلط في قبضة الحاكم ليديرها على هواه أو ما يظهر له أنه في سياق مقاصد الشريعة فيدخله في خانة المقدس الممنوع على عموم الشعب وحتى نخبهم المجادلة فيه.
إن انفراد الدولة بالشأن الديني في الدولة المدنية يجب أن يتمثل في العناصر التالية :
*تنظيم عمل القائمين على أماكن العبادة مثل أيمة المساجد، والسهر على تكوينهم في مدارس مختصة تشترط توفر أساس معرفي وتعليميٍ أدني وهو شهادة الباكالوريا.
*استصدار قانون يشرح دور المشرفين على أماكن العبادة على اختلافها في كامل البلاد، من حيث الحض على التكاتف والتحابب بين المواطنين جميعا بقطع النظرعن معتقداتهم، واحترامُ الوالدين لذريتهم ومعاملتُهم بالتساوي، واحترامُ الأبناء، بنين وبنات، لوالديهم ورعايتُهم لهم في كبرهم.
*ترميم أماكن العبادة والعناية بها.
* تنظيم تراتيب الإحتفال بالأعياد الدينية وتنظيمُ مواسم الحج والعمرة والسهرُ على حسن سيرها.
ولكن للأسف فوجئنا بدلا عن ذلكبمشروع الدستور الذي نشره رئيس الدوله في الرائد الرسمي ملغيا مبدأَ وخيارَ الدولة المدنية ومستعيضا عنه بخيار الدولة الدينية والاختصاص بتصريف شؤونها وفق مقاصدها من وجهة اجتهاد الدولة التي هو رئيسها.
إنها النُقلة القسرية أو الإرتداد القسري الذي اختاره الرئيسقيسسعيد وجعله ركيزةً وسمةً أساسيةً في مشروع دستوره الذي نشره بديلا عما أنجزه فريق اللجنة الإستشارية المتركب من أكثر من أربعين عضوا من شرائج اجتماعية وسياسية مختلفةبرئاسة العميد الصادق بلعيد وبمساعدة الأستاذين أمين محفوظ وبودربالة..
وعلى هذا الأساس، يتأكد لي أن مشروعدستور الرئيس هذا يُعد هدية ثمينة للإسلام السياسي مجازةً لممثليه، على تنوعهم. وما صمتُهم الآن عليه إلا برهنةٌ على فرحهم به. فقد بذلوا كل ماقدروا عليه وأكثر منذ عام 2012 ومطلع2013، داخل المجلس التأسيسي وخارجه على منابر المساجد وفي الساحات والشوارع على وقع أخبار الاغتيالات والتصفيات التي طالت رموزا وطنية، في إطار السعي إلى فرض الشريعة وحدها أساساً للتشريع والحكم في الدولة ولم ينجحوا، فجنحوا اضطرارا أمام غضبة الجماهير الكبرى في اعتصام الرحيل الشهير وسلموا بالحل الوسط والجمع بين الفصلين الأول والثاني من دستور 27 جانفي 2014. وهاهم الآن يستطعمون هدية الرئيس لهم باعتماد مقاصد الشريعة التي ستكون من اختصاص الدولة، في الحاضر وفي المستقبل لو يُكتب لهذا المشروع أن يمر.
بكلمة، وللتاريخ أرى أنه لو يتم ذلك، فسيكون عبارةً عن قنبلةٍ موقوتةٍ قابلة للانفجار للأسف الشديد في شعبنا في زمنٍ قادم غير بعيد..
ولكن وبرغم ذلك واتقاءً لذلك، يبقى للشعب حقُ التعبير عن موقفه بحريةٍ ووضوح من هذا المشروع المعروض على استفتائه بشأنه، على أن تكون المشاركة الفعلية هي وسيلة التعبير الأبلغ، سواء بكلمة "نعم" أو بكلمة"لا". لأن، برأيي، خيار المقاطعة لايُحتسب قانونا في عملية التصويت بنتيجتها، سوى بصفة تقديرية اجتهادية وغير دقيقة.
وبعد كل هذا، عودٌ على عنوان هذا المقال، وإجابةً على كل الذين اختاروا التصويت ب"نعم" منعا لعودة منظومة حكم السنوات العشر الأخيرة، فإن هذه المنظومة التي افتُضح غدرُها للشعب وإهدارُها لخيراته وأمواله بتحالفٍ عضوي مع لوبيات الفساد والعمالة، لن تعود إلى سدة الحكم والتحكم في مقدرات ومصير شعبنا، إلا إذا مكنهم رئيس الدولة من ذلك تحت أي تبريرٍ أو مُسمى. وخاصة حين تدفع بأسماءٍ وعلاماتٍ تجارية جديدة كما بدانا نسمع ونلاحظ منذ مدة غير طويلة.
فلنحكم جميعا عقولًنا وضمائرَنا، ، مهما تنوعت واختلفت مواقفُنا. ولنجعل نصب أعيننا مستقبل أبنائنا وكل الأجيال القادمة. ونستحضر تاريخنا القديم والحديث، الثري والمتنوع، لنبني على الجيد فيه ونتجنب الضار منه بوضوح ومن دون لفٍ ودوران يصلان حد التحامل والتجني.
بقلم:مختار اللواتي
إن التخلي عن مدنية الدولة في مشروع دستور الرئيس فيس سعيد وتعويضها ب"مقاصد الشريعة" التي تختص بها الدولة وحدها، هو الباب الذي سيشرع من جديد على اختلافات التأويل والنزاعات والمراوحة بين الشدة لحد التكفير وهدر الدماء، والرحمة تبشيرا بالجنة وحسن المآب باختلاف ميول وأهواء رئيس الدولة ثم الرؤساء الذين يتداولون على حكم البلاد إن تم الإفساح في المجال لذلك التداول أصلا.كل ذلك فيما المواطن يعيش مسلوب الإرادة مفعولا به، وكأنه غيرُ راشد ولاعاقل وقد حُط من قيمته إلى مرتبة الرعية الذي يقف دوره عند مبايعة الخليفة ثم الإنزواء في ركن بيته.
فوُجوبيةُ إعلان مدنية الدولة في الدستور في حد ذاتها تحمل في طياتها تأكيدا صريحا أن القانون هو الأعلى وأن المؤسسات هي إطاره وأن الديمقراطية واستقلال السلط هي ركائزه وأن المواطَنة هي المحرك الفاعل والغاية النهائية من عُلويتِه في عمل سُلط وهيئات وهياكل ومسؤولي تلك الدولة..
وكل ذلك ينفي عن الدولة المدنية والقائمين عليها والداعين لها تهمةَ الكفر ومعاداة الدين التي يحاولون تشويهها بها. بل على العكس تماما من ذلك، فإن الدولة المدنية بمواصفاتها وركائزها التي ذكرنا بعضها في الفقرة السابقة هي مصدر أمنِ وأمانِ المواطنين واطمئنانِهم على معتقداتهم وأفكارهم، مهما كان تصنيفها، بأن الدولة بقانونها هي الحامية لهم والضامنة لحريتهم ولمساواتهم أمام القانون وفيه، والمنقذُ لهم من الإبتزازِ باسم الدين ومن إدامةِ خوفهم من عقابٍ وعذابٍ يتهددانهم في كل آنٍ وحين.
إن المواطنين في الدولة المدنية هم في الأصل رُشَّدٌ عاقلون ومسؤولون عن أفعالهم، وأهمها المشاركةُ وحسنُ اختيار الدستور الذي ينظم ويدير شؤون حياتهم اليومية بصفة جلية واضحة، على عكس الدولة الدينية، سواءٌ وفق خيار الشريعة الصرفة أو مقاصدها،والني تظل دائما، وفي الحالتين، محل تأويلاتٍ شتى بحسب اختلاف المذاهب الفقهية المعروفة والمتفرعة عنها، وهي بالعشرات إن لم نقل بالمئات،لدى السنة والشيعة على حدٍ سواء. وكلها تتفيَّأ ظلَ الأمة الإسلامية.
ويكفي الرجوع إلى محطات سلسال الدم الذي طبع حقبا عديدة من تاريخ هذه الأمة، منذ مقتل ثلاثة من الخلفاء الراشدين الأربعة وإلى ماعانته وتعانيه إلى الآن، شعوب عديدة مثل افغانستان وسوريا والعراق وليبيا، وقبلها تونس ومصر في ظل الحكم الفردي وحكم الإخوان ولوبيات الفساد، تحت غطاء الدين وإجرام الإرهاب، وبإغداق الوعود الكاذبة فيما الدولة والمواطن يئِنَّان تحت وطأة التفقير والتجهيل والتكبيل بالديون لحد الإنذار بالإفلاس..
لذلك، فإن كل تغييبٍ لذكر واعتماد مبدا الدولة المدنية في الدستور، لايمكن أن يكون إلا بغاية تجميع السلط في قبضة الحاكم ليديرها على هواه أو ما يظهر له أنه في سياق مقاصد الشريعة فيدخله في خانة المقدس الممنوع على عموم الشعب وحتى نخبهم المجادلة فيه.
إن انفراد الدولة بالشأن الديني في الدولة المدنية يجب أن يتمثل في العناصر التالية :
*تنظيم عمل القائمين على أماكن العبادة مثل أيمة المساجد، والسهر على تكوينهم في مدارس مختصة تشترط توفر أساس معرفي وتعليميٍ أدني وهو شهادة الباكالوريا.
*استصدار قانون يشرح دور المشرفين على أماكن العبادة على اختلافها في كامل البلاد، من حيث الحض على التكاتف والتحابب بين المواطنين جميعا بقطع النظرعن معتقداتهم، واحترامُ الوالدين لذريتهم ومعاملتُهم بالتساوي، واحترامُ الأبناء، بنين وبنات، لوالديهم ورعايتُهم لهم في كبرهم.
*ترميم أماكن العبادة والعناية بها.
* تنظيم تراتيب الإحتفال بالأعياد الدينية وتنظيمُ مواسم الحج والعمرة والسهرُ على حسن سيرها.
ولكن للأسف فوجئنا بدلا عن ذلكبمشروع الدستور الذي نشره رئيس الدوله في الرائد الرسمي ملغيا مبدأَ وخيارَ الدولة المدنية ومستعيضا عنه بخيار الدولة الدينية والاختصاص بتصريف شؤونها وفق مقاصدها من وجهة اجتهاد الدولة التي هو رئيسها.
إنها النُقلة القسرية أو الإرتداد القسري الذي اختاره الرئيسقيسسعيد وجعله ركيزةً وسمةً أساسيةً في مشروع دستوره الذي نشره بديلا عما أنجزه فريق اللجنة الإستشارية المتركب من أكثر من أربعين عضوا من شرائج اجتماعية وسياسية مختلفةبرئاسة العميد الصادق بلعيد وبمساعدة الأستاذين أمين محفوظ وبودربالة..
وعلى هذا الأساس، يتأكد لي أن مشروعدستور الرئيس هذا يُعد هدية ثمينة للإسلام السياسي مجازةً لممثليه، على تنوعهم. وما صمتُهم الآن عليه إلا برهنةٌ على فرحهم به. فقد بذلوا كل ماقدروا عليه وأكثر منذ عام 2012 ومطلع2013، داخل المجلس التأسيسي وخارجه على منابر المساجد وفي الساحات والشوارع على وقع أخبار الاغتيالات والتصفيات التي طالت رموزا وطنية، في إطار السعي إلى فرض الشريعة وحدها أساساً للتشريع والحكم في الدولة ولم ينجحوا، فجنحوا اضطرارا أمام غضبة الجماهير الكبرى في اعتصام الرحيل الشهير وسلموا بالحل الوسط والجمع بين الفصلين الأول والثاني من دستور 27 جانفي 2014. وهاهم الآن يستطعمون هدية الرئيس لهم باعتماد مقاصد الشريعة التي ستكون من اختصاص الدولة، في الحاضر وفي المستقبل لو يُكتب لهذا المشروع أن يمر.
بكلمة، وللتاريخ أرى أنه لو يتم ذلك، فسيكون عبارةً عن قنبلةٍ موقوتةٍ قابلة للانفجار للأسف الشديد في شعبنا في زمنٍ قادم غير بعيد..
ولكن وبرغم ذلك واتقاءً لذلك، يبقى للشعب حقُ التعبير عن موقفه بحريةٍ ووضوح من هذا المشروع المعروض على استفتائه بشأنه، على أن تكون المشاركة الفعلية هي وسيلة التعبير الأبلغ، سواء بكلمة "نعم" أو بكلمة"لا". لأن، برأيي، خيار المقاطعة لايُحتسب قانونا في عملية التصويت بنتيجتها، سوى بصفة تقديرية اجتهادية وغير دقيقة.
وبعد كل هذا، عودٌ على عنوان هذا المقال، وإجابةً على كل الذين اختاروا التصويت ب"نعم" منعا لعودة منظومة حكم السنوات العشر الأخيرة، فإن هذه المنظومة التي افتُضح غدرُها للشعب وإهدارُها لخيراته وأمواله بتحالفٍ عضوي مع لوبيات الفساد والعمالة، لن تعود إلى سدة الحكم والتحكم في مقدرات ومصير شعبنا، إلا إذا مكنهم رئيس الدولة من ذلك تحت أي تبريرٍ أو مُسمى. وخاصة حين تدفع بأسماءٍ وعلاماتٍ تجارية جديدة كما بدانا نسمع ونلاحظ منذ مدة غير طويلة.
فلنحكم جميعا عقولًنا وضمائرَنا، ، مهما تنوعت واختلفت مواقفُنا. ولنجعل نصب أعيننا مستقبل أبنائنا وكل الأجيال القادمة. ونستحضر تاريخنا القديم والحديث، الثري والمتنوع، لنبني على الجيد فيه ونتجنب الضار منه بوضوح ومن دون لفٍ ودوران يصلان حد التحامل والتجني.