إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

منتدى الصباح: الذكرى الأولى لرحيل المفكّر والمؤرّخ هشام جعيّط.. هكذا فكّر في المقدّس ونقد التاريخ بحثا عن إسهام جديد في صنعه(2 من 3)

بقلم د.محمد الكحلاوي(*)

في القسم الذي سبق كنّا قد تطرقتا إلى معالم الإطار العام الذي تشكّل ضمنه المشروع النقدي الفكري الحضاري للأستاذ هشام جعيّط، نطرق في قسم اليوم بالتحليل كيف تصوّر روح الشخصية العربية الإسلاميّة ومميّزات تشكّل كيانها الحضاري.

2- التاريخ وروح الحضارة والشخصية

 أراد جعيّط، من خلال بحثه، حول مدينة الكوفة وتطوّرها الحضاري؛ بوصفها نموذجا دالّا على أطر "نشأة" المدينة العربية الإسلامية" والسياقات المتحكّمة في ظهور معالمها، أن يبيّن كيف أنّها مثّلت نموذجا عرفته نشأة كيانات مدن أخرى؛ المدينة، الفسطاط، القيروان، فاس.. حيث مثّل ذلك نواة لتشكّل كيان اجتماعي حضاري ضمن دولة غدت إمبراطورية، ذات حضور فاعل في التاريخ الكوني. وهنا يرصد هشام جعيط كيف أنّ الأمر لم يكن فحسب نتيجة عوامل اقتصادية، أو نتاج وضع الجزيرة العربية، ووضع طريق التجارة، واستراتيجيات السيطرة عليها. لقد رأى جعيّط أنّ "الرّوح الحضاري المميّز" للشعب/ الأمّة، في تجلّيه التاريخي عبر إرادة المجموعة، وعبر تمثّل عقلاني لمعالم العقيدة الدّينية التي جاء بها الإسلام ولجماع ما انطوت عليه من مثل عليا، كان وراء ظهور المدينة وتكوّن معالم الحضارة والثقافة.وهنا يوضّح جعيّط كيف أنّ فترة البعثة المحمدية، لا يمكن اعتبارها تجسيدا لـ"دولة النبوّة،" بل كانت هناك سلطة روحية وكاريزما ذات وجاهة ونفوذ أخلاقي روحي وديني واجتماعي وتشريعي للرسول محمّد (ص) الذي "لم يكن يصبو إلى السياسة والتسلّط" (جعيط، الوحي والقرآن والنبوّة، ص9). وقد استحالت تلك الكاريزما في نظره، عبر التاريخ، في سلطة عليا روحية، لعلّها مثّلت نواة جنينية لدولة، لكنّها أمست مدار صراع في مستوى تفسير الخطاب الديني وتأويله، من جهة ما له صلة بسبل اتبّاع نموذج تلك السلطة الروحيّة التي اختصّ بها الرسول في الواقع التاريخي، فطُرحت الأسئلة حول إمكانات تحويلها إلى سلطة زمنية مرجعيّة، وهو ما تجلّى في وقوع حدث "الفتنة" (37هـ- 40ه)، حيث ظهرت بامتياز "جدلية الدّين والسياسة في الإسلام المبكّر". وظلّ من ثمّ هناك اختلاف قائم ومستمرّ، حول السلطة وشكلها وخصوصية علاقتها بالدين قيما ومثلا تُعتمد مرجعية للحكم.

 وضمن هذا المسار اهتمّ جعيّط، بالبحث في "تأسيس الغرب الإسلامي"، بوصفه مثّل ولادة لكيان حضاري وثقافي وسياسي، ظهرت معالمه وخصوصيته، نتاج التفاعل جدلي بين عوامل مختلفة، إذ لم يكن ذلك التأسيس ممكنا،"لولا مؤسّسات قويّة خلقت تقليدا سياسيّا متماسكا على مرّ القرون وإمبراطورية سميكة؛ ولولا جاذبيّة الإسلام..". (جعيط، تأسيس الغرب الإسلامي، الطليعة، بيروت، ص 8، 9).

هكذا جاءت ريادة مشروع جعيّط في قراءة التاريخ الإسلامي وإعادة كتابة تحوّلاته الكبرى والمفصلية تجاوزا للنزعة التقليدية التي استمرّ حضورها إلى العصر الحديث، وكان من أبرز سماتها طغيان أسلوب الدفاع ونزعة التمجيد وإقصاء الرأي المخالف، انطلاقا من الانتصار إلى رأي فرقة أو نحلة بعينها، وإن ظهر قدر عال من الموضوعية في بعض الكتابات، مثل تاريخ الطبري وابن خلدون.

    في سياق ذلك كان تفاعل جعيّط نقديا مع كتابات المستشرقين والباحثين الغربيين، سواء من خلاله حرصه على نقض فكرة الاستناد إلى عامل واحد بعينه (اقتصادي، عرقي، ديني..)، في تفسير حركة التاريخ وتكوّن الحضارة، أو حين حاول دحض فكرة "المركزية الأوروبية" التي تسرّبت إلى بعض الدراسات الأنتربولوجية أو التاريخية، وأثّرت في بلورة شكل نظرة الآخر إلى العرب والإسلام ديانة وحضارة، من جهة قيام تلك النظرة على الاستعلاء أو في انطلاقها من الشعور بالتفوّق الحضاري.

   تبعا لذلك تولّدت مبكّرا لدى هشام جعيّط ضرورة الاشتغال فكرة الشخصية الجماعية في بعدها الرّوحي الحضاري والثقافي الدّيني،من خلال رصد تفاعل ذلك مع عوامل أخرى، حيث أراد تبيّن خصائص سياق تكوّن الشخصية الحضارية، بوصفها نواة لهويّة منفتحة على التنوّع متفاعلة مع حركة التاريخ، حيث لا وجود لهويّة ذات مفهوم مغلق على ذاته وثابت عبر التاريخ، فالمفهوم يتكوّن، ويعاد إنتاجه ويُعاد تشكيل صورته ودلالاته انطلاقا من التفاعل مع مقتضيات السياق وحركة التاريخ وشكل التواصل مع الآخر ثقافة وحضارة. وهو ما يعني أنّ الشخصيّة العربية الإسلامية صارت مكوّنا تاريخيا حضاريا، يمتح من الدين، ويستلهم من مثله عبر مستويات مختلفة من التمثّل تتحوّل ويُعاد تشكيلها، لذا يخلص جعيّط، إلى أنّه لا معنى لإنجاز أيّ مشروع إصلاحي يقصي تماما بعد الدّين أو يأخذ به لوحده، أويرفض ما عداه، فالإصلاح يكون بواسطة الدّين وفيه وبمعزل عنهفي الآن نفسه (الشخصية العربية الإسلامية والمصير، ص 112)، انطلاقا من منظور يوظّف المعرفة، ويستند إلى تعقّل مدرك للتاريخ وللقوانين المتحكّمة في حركته وسيرورته.

    ضمن هذا السياق تفاعل جعيّط مع ما طرحه الفكّر والمؤرّخ عبد الله العروي في كتابه "الإيديولجيا العربية المعاصرة"، الصادر أواسط ستينات القرن العشرين، حيث لم ير العروي وجاهة في تحميل التراث مسؤولية الهزيمة أو إخفاق مشروع النهضة والتقدّم. وقد اشتدّ الجدل أكثر في مثل هذه القضايا على إثر حدوث هزيمة 1967م، فبدت لجعيّط، في معرض ذلك، ضرورة إعادة قراءة مكوّنات الشخصية في علاقتها بتراثها ورموزها الثقافية وتمثّلاتها لتاريخها، ليكشف عن وجوه الإشكال ومواضع الخلل، حيث أمسى من الضروري تجديد الوعي واستئناف القراءة والنقد، لتجديد إنتاج مفهوم الهويّة والشخصية وتحقيق الانفتاح على الحداثة، والمشاركة في مساراتها، دون تصادم مع الدّين أو الثقافة أو إقصاء التراث، ودون تنكّر للهويّة أو القفز عليها. لقد أراد جعيّط أن يطرح أشكال بحث وأطر تفكير جديدة تفيد في مجال التفسير والفهم، لا تقصى أبعاد وجود الكائن (الهويّة، التاريخ، التراث)، لكن لا تتعامل معها بوصفها مفاهيم ثابتة ومطلقة، إذ التحوّل قانون يسري على كل الظواهر الثقافية والحضارية.

(*) جامعة قرطاج -تونس

 

منتدى الصباح: الذكرى الأولى لرحيل المفكّر والمؤرّخ هشام جعيّط..   هكذا فكّر في المقدّس ونقد التاريخ بحثا عن إسهام جديد في صنعه(2 من 3)

بقلم د.محمد الكحلاوي(*)

في القسم الذي سبق كنّا قد تطرقتا إلى معالم الإطار العام الذي تشكّل ضمنه المشروع النقدي الفكري الحضاري للأستاذ هشام جعيّط، نطرق في قسم اليوم بالتحليل كيف تصوّر روح الشخصية العربية الإسلاميّة ومميّزات تشكّل كيانها الحضاري.

2- التاريخ وروح الحضارة والشخصية

 أراد جعيّط، من خلال بحثه، حول مدينة الكوفة وتطوّرها الحضاري؛ بوصفها نموذجا دالّا على أطر "نشأة" المدينة العربية الإسلامية" والسياقات المتحكّمة في ظهور معالمها، أن يبيّن كيف أنّها مثّلت نموذجا عرفته نشأة كيانات مدن أخرى؛ المدينة، الفسطاط، القيروان، فاس.. حيث مثّل ذلك نواة لتشكّل كيان اجتماعي حضاري ضمن دولة غدت إمبراطورية، ذات حضور فاعل في التاريخ الكوني. وهنا يرصد هشام جعيط كيف أنّ الأمر لم يكن فحسب نتيجة عوامل اقتصادية، أو نتاج وضع الجزيرة العربية، ووضع طريق التجارة، واستراتيجيات السيطرة عليها. لقد رأى جعيّط أنّ "الرّوح الحضاري المميّز" للشعب/ الأمّة، في تجلّيه التاريخي عبر إرادة المجموعة، وعبر تمثّل عقلاني لمعالم العقيدة الدّينية التي جاء بها الإسلام ولجماع ما انطوت عليه من مثل عليا، كان وراء ظهور المدينة وتكوّن معالم الحضارة والثقافة.وهنا يوضّح جعيّط كيف أنّ فترة البعثة المحمدية، لا يمكن اعتبارها تجسيدا لـ"دولة النبوّة،" بل كانت هناك سلطة روحية وكاريزما ذات وجاهة ونفوذ أخلاقي روحي وديني واجتماعي وتشريعي للرسول محمّد (ص) الذي "لم يكن يصبو إلى السياسة والتسلّط" (جعيط، الوحي والقرآن والنبوّة، ص9). وقد استحالت تلك الكاريزما في نظره، عبر التاريخ، في سلطة عليا روحية، لعلّها مثّلت نواة جنينية لدولة، لكنّها أمست مدار صراع في مستوى تفسير الخطاب الديني وتأويله، من جهة ما له صلة بسبل اتبّاع نموذج تلك السلطة الروحيّة التي اختصّ بها الرسول في الواقع التاريخي، فطُرحت الأسئلة حول إمكانات تحويلها إلى سلطة زمنية مرجعيّة، وهو ما تجلّى في وقوع حدث "الفتنة" (37هـ- 40ه)، حيث ظهرت بامتياز "جدلية الدّين والسياسة في الإسلام المبكّر". وظلّ من ثمّ هناك اختلاف قائم ومستمرّ، حول السلطة وشكلها وخصوصية علاقتها بالدين قيما ومثلا تُعتمد مرجعية للحكم.

 وضمن هذا المسار اهتمّ جعيّط، بالبحث في "تأسيس الغرب الإسلامي"، بوصفه مثّل ولادة لكيان حضاري وثقافي وسياسي، ظهرت معالمه وخصوصيته، نتاج التفاعل جدلي بين عوامل مختلفة، إذ لم يكن ذلك التأسيس ممكنا،"لولا مؤسّسات قويّة خلقت تقليدا سياسيّا متماسكا على مرّ القرون وإمبراطورية سميكة؛ ولولا جاذبيّة الإسلام..". (جعيط، تأسيس الغرب الإسلامي، الطليعة، بيروت، ص 8، 9).

هكذا جاءت ريادة مشروع جعيّط في قراءة التاريخ الإسلامي وإعادة كتابة تحوّلاته الكبرى والمفصلية تجاوزا للنزعة التقليدية التي استمرّ حضورها إلى العصر الحديث، وكان من أبرز سماتها طغيان أسلوب الدفاع ونزعة التمجيد وإقصاء الرأي المخالف، انطلاقا من الانتصار إلى رأي فرقة أو نحلة بعينها، وإن ظهر قدر عال من الموضوعية في بعض الكتابات، مثل تاريخ الطبري وابن خلدون.

    في سياق ذلك كان تفاعل جعيّط نقديا مع كتابات المستشرقين والباحثين الغربيين، سواء من خلاله حرصه على نقض فكرة الاستناد إلى عامل واحد بعينه (اقتصادي، عرقي، ديني..)، في تفسير حركة التاريخ وتكوّن الحضارة، أو حين حاول دحض فكرة "المركزية الأوروبية" التي تسرّبت إلى بعض الدراسات الأنتربولوجية أو التاريخية، وأثّرت في بلورة شكل نظرة الآخر إلى العرب والإسلام ديانة وحضارة، من جهة قيام تلك النظرة على الاستعلاء أو في انطلاقها من الشعور بالتفوّق الحضاري.

   تبعا لذلك تولّدت مبكّرا لدى هشام جعيّط ضرورة الاشتغال فكرة الشخصية الجماعية في بعدها الرّوحي الحضاري والثقافي الدّيني،من خلال رصد تفاعل ذلك مع عوامل أخرى، حيث أراد تبيّن خصائص سياق تكوّن الشخصية الحضارية، بوصفها نواة لهويّة منفتحة على التنوّع متفاعلة مع حركة التاريخ، حيث لا وجود لهويّة ذات مفهوم مغلق على ذاته وثابت عبر التاريخ، فالمفهوم يتكوّن، ويعاد إنتاجه ويُعاد تشكيل صورته ودلالاته انطلاقا من التفاعل مع مقتضيات السياق وحركة التاريخ وشكل التواصل مع الآخر ثقافة وحضارة. وهو ما يعني أنّ الشخصيّة العربية الإسلامية صارت مكوّنا تاريخيا حضاريا، يمتح من الدين، ويستلهم من مثله عبر مستويات مختلفة من التمثّل تتحوّل ويُعاد تشكيلها، لذا يخلص جعيّط، إلى أنّه لا معنى لإنجاز أيّ مشروع إصلاحي يقصي تماما بعد الدّين أو يأخذ به لوحده، أويرفض ما عداه، فالإصلاح يكون بواسطة الدّين وفيه وبمعزل عنهفي الآن نفسه (الشخصية العربية الإسلامية والمصير، ص 112)، انطلاقا من منظور يوظّف المعرفة، ويستند إلى تعقّل مدرك للتاريخ وللقوانين المتحكّمة في حركته وسيرورته.

    ضمن هذا السياق تفاعل جعيّط مع ما طرحه الفكّر والمؤرّخ عبد الله العروي في كتابه "الإيديولجيا العربية المعاصرة"، الصادر أواسط ستينات القرن العشرين، حيث لم ير العروي وجاهة في تحميل التراث مسؤولية الهزيمة أو إخفاق مشروع النهضة والتقدّم. وقد اشتدّ الجدل أكثر في مثل هذه القضايا على إثر حدوث هزيمة 1967م، فبدت لجعيّط، في معرض ذلك، ضرورة إعادة قراءة مكوّنات الشخصية في علاقتها بتراثها ورموزها الثقافية وتمثّلاتها لتاريخها، ليكشف عن وجوه الإشكال ومواضع الخلل، حيث أمسى من الضروري تجديد الوعي واستئناف القراءة والنقد، لتجديد إنتاج مفهوم الهويّة والشخصية وتحقيق الانفتاح على الحداثة، والمشاركة في مساراتها، دون تصادم مع الدّين أو الثقافة أو إقصاء التراث، ودون تنكّر للهويّة أو القفز عليها. لقد أراد جعيّط أن يطرح أشكال بحث وأطر تفكير جديدة تفيد في مجال التفسير والفهم، لا تقصى أبعاد وجود الكائن (الهويّة، التاريخ، التراث)، لكن لا تتعامل معها بوصفها مفاهيم ثابتة ومطلقة، إذ التحوّل قانون يسري على كل الظواهر الثقافية والحضارية.

(*) جامعة قرطاج -تونس

 

  Conception & Réalisation  Alpha Studios Copyright © 2023  assabahnews