إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

منتدى الصباح: بيت الحكمة وعلاقتها باللغة الوطنية في ميزان مفهوم الحجر اللغوي

 

 

 بقلم:الأستاذ الدكتور محمود الذوادي(*)

حكمة استعمال اللغة لتطويرها

 ربما لم يُنشَر مقال صحفي حول موضوع هذه السطور.تُطلق بيتُ الحكمة على نفسها بأنها المجمع التونسي للعلوم والفنون والآداب وقد أصبحت مؤسسة عمومية أي وطنية منذ 1996. تعلن بيت الحكمة أنها " تهتم أساسا بعلوم اللغة العربية وتطويرها ". يتمثل أحد أهداف هذا الشعار في عزم بيت الحكمة على تمكين اللغة العربية/الوطنية من التطور. طبعا، من السبل البسيطة المباشرة لتطوير اللغات هو استعمالها المكثف والكامل في كل الميادين لأن اللغات كائنات حية تنمو وتتقدم وتبلغ أوج نضجها وفتوتها لما يقع استعمالها دون استثناء في الأمور الصغيرة والكبيرة وما بينهما. تلك هي العلاقة الطبيعية السليمة بين الناس و المؤسسات و المجتمعات ولغاتهم.

هيمنة استعمال الفرنسية

تفيد المعطيات أن استعمال اللغة الفرنسية (لغة المستعمِر) في بيت الحكمة من طرف النخب الثقافية والفكرية التونسية يطغى في الندوات والمؤتمرات والملتقيات التي ينظمها ويشرف عليها المسئولون في هذه المؤسسة الوطنية حتى إذا كانت مواضيع تلك اللقاءات تونسية أو عربية إسلامية. أكتفي بذكر مثالين فقط اقتصرت فيها تلك النخب على استعمال اللغة الفرنسية بعد أكثر من 60 سنة من 'الاستقلال التام':

1-أشرفت بيتُ الحكمة في 1-2 /06/ 2022 على ندوة بعنوان (بورقيبة المصلح) تحدث فيها جامعيون ومثقفون تونسيون من الرجال والنساء حول الزعيم باللغة الفرنسية فقط. والسؤال المشروع هنا: لماذا لم يستعمل هؤلاء اللغة الوطنية في مؤسسة وطنية حول زعيم وطني؟

2- نظمت النساء الديمقراطيات ندوة في 28 -01-2012 في بيت الحكمة تحدثت فيها بعض النساء المثقفات عن وضع المرأة في المنطقة العربية الإسلامية خاصة. اختار هؤلاء جميعا اللغة الفرنسية في القيام بمداخلاتهن رغم أن مكانة المرأة في القرآن والحديث ولدى الفقهاء كانت الموضوع الرئيسي للندوة. يُعتبر مثل هذا السلوك اللغوي المغترب امتدادا لما تشير إليه بعض الملاحظات حول أن المرأة التونسية التي يبدو أنها أكثر انجذابا من الرجل إلى الفرنسية، وهو أمر يؤثر بالطبع سلبا على علاقة الأجيال التونسية الشابة باللغة الوطنية/العربية المتمثلة في رغبة معظمهم "الحرق" إلى اللغات الأجنبية بسبب مركبات عقد نفسية وقصور فهم موضوعي لوجوب وجود علاقة سليمة (استعمال كامل في الحديث والكتابة) مع اللغات الوطنية. وبالتالي، فهؤلاء المثقفات لَسْنَ نساء ونصف في الوطنية اللغوية.

مشروعية تشابه الحجر اللغوي مع نظيره الصحي

لا يجوز لعالم النفس والاجتماع على الخصوص الصمتُ عن ظاهرة طغيان اللغة الفرنسية في بيت الحكمة. فالظاهرة ليست من نوع 'ظاهرة هََكَََاكَا وبْرَا' بتعبير الدارجة التونسية. أي لا بد من محاولة العثور عن أسباب ذات مصداقية تفسر الظاهرة. يمكن تفسير تلك السلوكيات اللغوية المغتربة بفقدان ما نسميه الحجر اللغوي لدى الذين فضلوا ويفضلون استعمال اللغة الفرنسية. وهو سبب لا يكاد يخطر على بال أحد من الدارسين للمسألة اللغوية في المجتمعات البشرية. يتمثل الحجر اللغوي في أن يستعمل الناس لغاتهم فقط في كل ميادين الحياة بما فيها التدريس على الأقل حتى نهاية التعليم الثانوي. وهذا ما نجده، مثلا، في المجتمعات الأوروبية. فبحضور الحجر اللغوي يكسب الناس ما نسميها 'العلاقة الحميمة' مع تلك اللغات والتي تتجلى في حب لها والغيرة عليها والدفاع عنها والاعتزاز بها واستعمالها قبل أي لغة أخرى. يتشابه الحجر اللغوي مع الحجر الصحي في تأثيرات كل منهما بقوة على المحجور (الصحة أو اللغة). فالإجراءات الصحية الشديدة (الابتعاد الاجتماعي ولباس الكمامات وغسل اليدين والعزل المنزلي..) ضد تفشي فيروس الكورونا وفروعها تحمي الفرد كثيرا من الإصابة بالكورونا . وبالمثل يحمي الحجر اللغوي لغات الأم أو اللغات الوطنية من تفشي فيروس انتشار استعمال اللغات الأجنبية في الحديث والكتابة. وهكذا، فسلامة صحة الفرد وسلامة لغته هما حصيلة لهذين النوعين من الحجر. من المؤكد أن الذين فضلوا ويفضلون استعمال اللغة الفرنسية في بيت الحكمة بدلا عن اللغة العربية/ الوطنية هم مثقفون وجامعيون تونسيون حُرموا من الحجر اللغوي في لغتهم الوطنية عكس ما نجده ، مثلا، لدى الجامعيين والمثقفين الأوروبيين الذين درسوا ويدرسون جميع المواد الدراسية بلغاتهم الوطنية من المرحلة الابتدائية حتى نهاية المرحلة الثانوية على الأقل. أما الحجر اللغوي في اللغة العربية في نظام التعليم التونسي فهو غائب بالكامل في الماضي في المدرسة الصادقية ومدارس البعثات ، من جهة، والمداس التونسية العمومية بعد 'الاستقلال' ، من جهة ثانية. ولا شك أن الأغلبية الساحقة من العاملين في بيت الحكمة أمس واليوم درسوا في تلك الأنظمة الثلاثة من التعليم التونسي التي تحرم خريجها من الوطنية اللغوية التي تحفزهم على استعمال لغتهم في المقام الأول قبل لغة المستعمِر وأي لغة أجنبية أخرى.

 ونقده للازدواجية اللغوية Albert Memmi

مقارنة بصمت معظم المثقفين التونسيين في بيت الحكمة وغيرها، لم يسكت المثقف التونسي الفرنسي اليهودي ألبار ميمي عن أثر الاستعمار اللغوي في شخصية المستعمَر. يتحدث ميمَي في كتابه

Portrait du colonisé et du colonisateur عن آثار الازدواجية/الثنائية اللغوية (التي أسميها الازدواجية اللغوية الأمارة في عنوان أحد كتبي 2013) لدى الشمالي الإفريقي (التونسي والجزائري والمغربي): إن هذا التمزق الجوهري للمستعمَر يجد تعبيره ورمزيته بشكل خاص في ازدواجية اللغة. فلا يتم إنقاذ المستعمَر من الأمية إلا ليقع في الازدواجية اللغوية. زياد ة على ذلك، فإن لغة الأم الشائعة الاستعمال هذه لا تسمح ولو بتسيير بعض الأمور الاجتماعية أو اختراق نوافذ الإدارة أو تنظيم حركة البريد. حيث أن البيروقراطية بكاملها وكذلك التقنية بمختلف مجالاتها لا تستعمل إلا لغة المستعمَر، سواء في إشارات المسافات في الطرق ولوحات المحطات والشوارع إلخ.... هكذا، يكون المستعمَر غريبا في بلده (حتى بعد أكثر من 60 سنة من 'الاستقلال' كما تشهد لغة اللافتات،مثلا، في المدن والقرى التونسية). يرى ميمي أن المستعمَر المزدوج اللغة لا يخرج من سجنه إلا ليخضع لكارثة ثقافية لن يستطيع أبدا تجاوزها تماما. إن عدم التطابق بين لغة الأم ولغة الثقافة ليس أمرا مقتصرا على أبناء المستعمَر. فامتلاك لغتين لا يعني فقط امتلاك أداتين بل هو الاشتراك في مملكتين نفسية وثقافية. إذ أن العاملين الرمزيين المحمولين عبر لغتين يوجدان في حالة نزاع بين عالم المستعمِرين الفرنسيين وعالم سكان المغرب العربي.فلغة هؤلاء السكان تتغذى من أحاسيس المواطنين وانفعالاتهم وأحلامهم وشحنات عواطفهم. لكنها تُعتبر أقل قيمة في الظروف الاستعمارية وما بعدها كما هو الحال في المجتمع التونسي اليوم. فإذا ما أراد المستعمَر امتلاك مهنة أو تحقيق مكانة والإحساس بوجوده في المدينة وفي العالم، ومنه ََوجَب عليه بداية أن يخضع للغة الآخرين، لغة أسياده المستعمِرين. ففي هذه الأزمة اللغوية ، يجد التونسي،على سبيل المثال، لغته في موقع الانسحاق والازدراء. ومن ثم، يُبعد من ذاته اللغة العربية/الوطنية التي يعتبرها عاجزة من جراء الاستعمار فيُخفيها عن عيون الأجانب، بحيث لا يظهر ارتياحه إلا بالحديث بلغة المستعمَر.. إنها مأساة اللغة المزدوجة. يصدق كثيرا وصفُ ميمي لآثار الازدواجية اللغوية على النخب التونسية التي تعطي الأولوية للغة المستعمِر في بيت الحكمة رغم أن هذه الأخيرة تصرح في موقعها الالكتروني أنها " تهتم أساسا بعلوم اللغة العربية وتطويرها". طبيعيا وبديهيا أن تطوير أي لغة يتحقق بمدى استعمالها وهو ما تفعل عكسه بيتُ الحكمة ، أي إقصاء استعمال اللغة الوطنية/ العربية كما رأينا في المثالين المذكورين في مطلع هذا المقال. وهو موقف يشجبه بقوة بيتُ الشاعر العربي:

إذا فعل الفتى ما عنه ينهى فمن جهتين لا جهة أساء

النخب التونسية وحداثتها المغشوشة

مقارنة بمفهوم الحداثة في المجتمعات الغربية، فإن الكثير من النخب التونسية تتبنى حداثة مغشوشة. حصرت وتحصر النخب الغربية ومجتمعاتها تعاملها مع الحداثة في تهميش دور الدين في حياة الأفراد والمجتمعات. أما معظم النخب التونسية فتتبنى تهميش كل من الدين الإسلامي واللغة العربية. أوضحنا تهميش اللغة الوطنية في بيت الحكمة أعلاه. بالنسبة لتهميش مكانة الدين الإسلامي فيكفي ما ذكره بعضُ المثقفين من بيت الحكمة أن هناك مساعي لحذف قسم الدراسات الإسلامية فيها. وهكذا، يجوز القول إن تقليد تلك النخب التونسية للحداثة الغربية هي عملية مغشوشة. لأن هذه النخب تنحرف عن النمط الأصلي الغربي للحداثة الذي يهمش الدين فقط ، بينما أضافت النخب التونسية عملية التهميش إلى لغتها العربية. يتمثل الغش كذلك في عجز تلك النخب في الوفاء لأخلاقيات المناداة بقيم المجتمع المدني. فالعناية باللغة العربية وحمايتها وإعطاؤها المكانة الأولى كلغة وطنية مطلب مدني في مجتمع يقول دستوره إن العربية هي لغته الوطنية الوحيدة. وبالتأكيد إن ممارسة الحداثة المغشوشة لدى تلك النخب ذات جذور استعمارية أحدثت نوعين من التصدع في هويتها أديا إلى ميلاد حداثة مغشوشة تهاجم ليس الجانب الديني فقط من هوية الشعب التونسي وإنما تنقض أيضا وربما بأكثر قوة على الجانب اللغوي لمنظومة الهوية العربية الإسلامية للشعب التونسي. وفي المقابل، ترحب النخب التونسية صاحبة الحجر اللغوي (خريجو شعبة أ المعربة بالكامل في مطلع الاستقلال) بالمعالم الحقيقية النيرة للحداثة الغربية السليمة التي تعتز بلغاتها الوطنية قبل أي لغة أخرى، كما رأينا.

(*)عالم الاجتماع

 

 

 

 

 

منتدى الصباح: بيت الحكمة وعلاقتها باللغة الوطنية في ميزان مفهوم الحجر اللغوي

 

 

 بقلم:الأستاذ الدكتور محمود الذوادي(*)

حكمة استعمال اللغة لتطويرها

 ربما لم يُنشَر مقال صحفي حول موضوع هذه السطور.تُطلق بيتُ الحكمة على نفسها بأنها المجمع التونسي للعلوم والفنون والآداب وقد أصبحت مؤسسة عمومية أي وطنية منذ 1996. تعلن بيت الحكمة أنها " تهتم أساسا بعلوم اللغة العربية وتطويرها ". يتمثل أحد أهداف هذا الشعار في عزم بيت الحكمة على تمكين اللغة العربية/الوطنية من التطور. طبعا، من السبل البسيطة المباشرة لتطوير اللغات هو استعمالها المكثف والكامل في كل الميادين لأن اللغات كائنات حية تنمو وتتقدم وتبلغ أوج نضجها وفتوتها لما يقع استعمالها دون استثناء في الأمور الصغيرة والكبيرة وما بينهما. تلك هي العلاقة الطبيعية السليمة بين الناس و المؤسسات و المجتمعات ولغاتهم.

هيمنة استعمال الفرنسية

تفيد المعطيات أن استعمال اللغة الفرنسية (لغة المستعمِر) في بيت الحكمة من طرف النخب الثقافية والفكرية التونسية يطغى في الندوات والمؤتمرات والملتقيات التي ينظمها ويشرف عليها المسئولون في هذه المؤسسة الوطنية حتى إذا كانت مواضيع تلك اللقاءات تونسية أو عربية إسلامية. أكتفي بذكر مثالين فقط اقتصرت فيها تلك النخب على استعمال اللغة الفرنسية بعد أكثر من 60 سنة من 'الاستقلال التام':

1-أشرفت بيتُ الحكمة في 1-2 /06/ 2022 على ندوة بعنوان (بورقيبة المصلح) تحدث فيها جامعيون ومثقفون تونسيون من الرجال والنساء حول الزعيم باللغة الفرنسية فقط. والسؤال المشروع هنا: لماذا لم يستعمل هؤلاء اللغة الوطنية في مؤسسة وطنية حول زعيم وطني؟

2- نظمت النساء الديمقراطيات ندوة في 28 -01-2012 في بيت الحكمة تحدثت فيها بعض النساء المثقفات عن وضع المرأة في المنطقة العربية الإسلامية خاصة. اختار هؤلاء جميعا اللغة الفرنسية في القيام بمداخلاتهن رغم أن مكانة المرأة في القرآن والحديث ولدى الفقهاء كانت الموضوع الرئيسي للندوة. يُعتبر مثل هذا السلوك اللغوي المغترب امتدادا لما تشير إليه بعض الملاحظات حول أن المرأة التونسية التي يبدو أنها أكثر انجذابا من الرجل إلى الفرنسية، وهو أمر يؤثر بالطبع سلبا على علاقة الأجيال التونسية الشابة باللغة الوطنية/العربية المتمثلة في رغبة معظمهم "الحرق" إلى اللغات الأجنبية بسبب مركبات عقد نفسية وقصور فهم موضوعي لوجوب وجود علاقة سليمة (استعمال كامل في الحديث والكتابة) مع اللغات الوطنية. وبالتالي، فهؤلاء المثقفات لَسْنَ نساء ونصف في الوطنية اللغوية.

مشروعية تشابه الحجر اللغوي مع نظيره الصحي

لا يجوز لعالم النفس والاجتماع على الخصوص الصمتُ عن ظاهرة طغيان اللغة الفرنسية في بيت الحكمة. فالظاهرة ليست من نوع 'ظاهرة هََكَََاكَا وبْرَا' بتعبير الدارجة التونسية. أي لا بد من محاولة العثور عن أسباب ذات مصداقية تفسر الظاهرة. يمكن تفسير تلك السلوكيات اللغوية المغتربة بفقدان ما نسميه الحجر اللغوي لدى الذين فضلوا ويفضلون استعمال اللغة الفرنسية. وهو سبب لا يكاد يخطر على بال أحد من الدارسين للمسألة اللغوية في المجتمعات البشرية. يتمثل الحجر اللغوي في أن يستعمل الناس لغاتهم فقط في كل ميادين الحياة بما فيها التدريس على الأقل حتى نهاية التعليم الثانوي. وهذا ما نجده، مثلا، في المجتمعات الأوروبية. فبحضور الحجر اللغوي يكسب الناس ما نسميها 'العلاقة الحميمة' مع تلك اللغات والتي تتجلى في حب لها والغيرة عليها والدفاع عنها والاعتزاز بها واستعمالها قبل أي لغة أخرى. يتشابه الحجر اللغوي مع الحجر الصحي في تأثيرات كل منهما بقوة على المحجور (الصحة أو اللغة). فالإجراءات الصحية الشديدة (الابتعاد الاجتماعي ولباس الكمامات وغسل اليدين والعزل المنزلي..) ضد تفشي فيروس الكورونا وفروعها تحمي الفرد كثيرا من الإصابة بالكورونا . وبالمثل يحمي الحجر اللغوي لغات الأم أو اللغات الوطنية من تفشي فيروس انتشار استعمال اللغات الأجنبية في الحديث والكتابة. وهكذا، فسلامة صحة الفرد وسلامة لغته هما حصيلة لهذين النوعين من الحجر. من المؤكد أن الذين فضلوا ويفضلون استعمال اللغة الفرنسية في بيت الحكمة بدلا عن اللغة العربية/ الوطنية هم مثقفون وجامعيون تونسيون حُرموا من الحجر اللغوي في لغتهم الوطنية عكس ما نجده ، مثلا، لدى الجامعيين والمثقفين الأوروبيين الذين درسوا ويدرسون جميع المواد الدراسية بلغاتهم الوطنية من المرحلة الابتدائية حتى نهاية المرحلة الثانوية على الأقل. أما الحجر اللغوي في اللغة العربية في نظام التعليم التونسي فهو غائب بالكامل في الماضي في المدرسة الصادقية ومدارس البعثات ، من جهة، والمداس التونسية العمومية بعد 'الاستقلال' ، من جهة ثانية. ولا شك أن الأغلبية الساحقة من العاملين في بيت الحكمة أمس واليوم درسوا في تلك الأنظمة الثلاثة من التعليم التونسي التي تحرم خريجها من الوطنية اللغوية التي تحفزهم على استعمال لغتهم في المقام الأول قبل لغة المستعمِر وأي لغة أجنبية أخرى.

 ونقده للازدواجية اللغوية Albert Memmi

مقارنة بصمت معظم المثقفين التونسيين في بيت الحكمة وغيرها، لم يسكت المثقف التونسي الفرنسي اليهودي ألبار ميمي عن أثر الاستعمار اللغوي في شخصية المستعمَر. يتحدث ميمَي في كتابه

Portrait du colonisé et du colonisateur عن آثار الازدواجية/الثنائية اللغوية (التي أسميها الازدواجية اللغوية الأمارة في عنوان أحد كتبي 2013) لدى الشمالي الإفريقي (التونسي والجزائري والمغربي): إن هذا التمزق الجوهري للمستعمَر يجد تعبيره ورمزيته بشكل خاص في ازدواجية اللغة. فلا يتم إنقاذ المستعمَر من الأمية إلا ليقع في الازدواجية اللغوية. زياد ة على ذلك، فإن لغة الأم الشائعة الاستعمال هذه لا تسمح ولو بتسيير بعض الأمور الاجتماعية أو اختراق نوافذ الإدارة أو تنظيم حركة البريد. حيث أن البيروقراطية بكاملها وكذلك التقنية بمختلف مجالاتها لا تستعمل إلا لغة المستعمَر، سواء في إشارات المسافات في الطرق ولوحات المحطات والشوارع إلخ.... هكذا، يكون المستعمَر غريبا في بلده (حتى بعد أكثر من 60 سنة من 'الاستقلال' كما تشهد لغة اللافتات،مثلا، في المدن والقرى التونسية). يرى ميمي أن المستعمَر المزدوج اللغة لا يخرج من سجنه إلا ليخضع لكارثة ثقافية لن يستطيع أبدا تجاوزها تماما. إن عدم التطابق بين لغة الأم ولغة الثقافة ليس أمرا مقتصرا على أبناء المستعمَر. فامتلاك لغتين لا يعني فقط امتلاك أداتين بل هو الاشتراك في مملكتين نفسية وثقافية. إذ أن العاملين الرمزيين المحمولين عبر لغتين يوجدان في حالة نزاع بين عالم المستعمِرين الفرنسيين وعالم سكان المغرب العربي.فلغة هؤلاء السكان تتغذى من أحاسيس المواطنين وانفعالاتهم وأحلامهم وشحنات عواطفهم. لكنها تُعتبر أقل قيمة في الظروف الاستعمارية وما بعدها كما هو الحال في المجتمع التونسي اليوم. فإذا ما أراد المستعمَر امتلاك مهنة أو تحقيق مكانة والإحساس بوجوده في المدينة وفي العالم، ومنه ََوجَب عليه بداية أن يخضع للغة الآخرين، لغة أسياده المستعمِرين. ففي هذه الأزمة اللغوية ، يجد التونسي،على سبيل المثال، لغته في موقع الانسحاق والازدراء. ومن ثم، يُبعد من ذاته اللغة العربية/الوطنية التي يعتبرها عاجزة من جراء الاستعمار فيُخفيها عن عيون الأجانب، بحيث لا يظهر ارتياحه إلا بالحديث بلغة المستعمَر.. إنها مأساة اللغة المزدوجة. يصدق كثيرا وصفُ ميمي لآثار الازدواجية اللغوية على النخب التونسية التي تعطي الأولوية للغة المستعمِر في بيت الحكمة رغم أن هذه الأخيرة تصرح في موقعها الالكتروني أنها " تهتم أساسا بعلوم اللغة العربية وتطويرها". طبيعيا وبديهيا أن تطوير أي لغة يتحقق بمدى استعمالها وهو ما تفعل عكسه بيتُ الحكمة ، أي إقصاء استعمال اللغة الوطنية/ العربية كما رأينا في المثالين المذكورين في مطلع هذا المقال. وهو موقف يشجبه بقوة بيتُ الشاعر العربي:

إذا فعل الفتى ما عنه ينهى فمن جهتين لا جهة أساء

النخب التونسية وحداثتها المغشوشة

مقارنة بمفهوم الحداثة في المجتمعات الغربية، فإن الكثير من النخب التونسية تتبنى حداثة مغشوشة. حصرت وتحصر النخب الغربية ومجتمعاتها تعاملها مع الحداثة في تهميش دور الدين في حياة الأفراد والمجتمعات. أما معظم النخب التونسية فتتبنى تهميش كل من الدين الإسلامي واللغة العربية. أوضحنا تهميش اللغة الوطنية في بيت الحكمة أعلاه. بالنسبة لتهميش مكانة الدين الإسلامي فيكفي ما ذكره بعضُ المثقفين من بيت الحكمة أن هناك مساعي لحذف قسم الدراسات الإسلامية فيها. وهكذا، يجوز القول إن تقليد تلك النخب التونسية للحداثة الغربية هي عملية مغشوشة. لأن هذه النخب تنحرف عن النمط الأصلي الغربي للحداثة الذي يهمش الدين فقط ، بينما أضافت النخب التونسية عملية التهميش إلى لغتها العربية. يتمثل الغش كذلك في عجز تلك النخب في الوفاء لأخلاقيات المناداة بقيم المجتمع المدني. فالعناية باللغة العربية وحمايتها وإعطاؤها المكانة الأولى كلغة وطنية مطلب مدني في مجتمع يقول دستوره إن العربية هي لغته الوطنية الوحيدة. وبالتأكيد إن ممارسة الحداثة المغشوشة لدى تلك النخب ذات جذور استعمارية أحدثت نوعين من التصدع في هويتها أديا إلى ميلاد حداثة مغشوشة تهاجم ليس الجانب الديني فقط من هوية الشعب التونسي وإنما تنقض أيضا وربما بأكثر قوة على الجانب اللغوي لمنظومة الهوية العربية الإسلامية للشعب التونسي. وفي المقابل، ترحب النخب التونسية صاحبة الحجر اللغوي (خريجو شعبة أ المعربة بالكامل في مطلع الاستقلال) بالمعالم الحقيقية النيرة للحداثة الغربية السليمة التي تعتز بلغاتها الوطنية قبل أي لغة أخرى، كما رأينا.

(*)عالم الاجتماع

 

 

 

 

 

  Conception & Réalisation  Alpha Studios Copyright © 2023  assabahnews