إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

منتدى الصباح: الغموض بكل وضوح

 

بقلم: منير الشرفي(*)

بمجرد الاطلاع على المرسوم 30، المؤرخ في 19 ماي 2022، المُحدِث "للهيئة الوطنية الاستشارية من أجل جمهورية جديدة"، يُمكن الاستنتاج بأن الدستور المُنتظر هو دستور الرئيس قيس سعيّد. إذ جاء في نصّ المرسوم أن المطلوب من الهيئة تقديم "مُقترحات" (الفصل 8) تُرفع لرئيس الجمهورية (الفصل 22)، وذلك انطلاقا من إرادة الشعب "التي عبّر عنها في 17 ديسمبر 2010" وهو تاريخ الثورة حسب القراءة الشخصية للرئيس، ومن "الاستشارة الوطنية" التي نظّمها الرئيس.

دائما من حيث الشكل، فإن هذه الهيئة تتكوّن من لجنتين تمّ التنصيص على تركيبتيهما، حسب الأمر 505 بتاريخ 25 ماي، بشكل دقيق وبالاسم. فأما اللجنة الاقتصادية والاجتماعية فإن أغلبية الأسماء الستّة المذكورة لم تحضر اجتماعاتها، في حين حضرها آخرون. وأما اللجنة القانونية المُتكوّنة من عمداء كليات الحقوق، فلم يحضر أيٌّ من أعضائها بمن فيهم رئيسها المنصوص على اسمه في الأمر، وهو ما يُمكّننا من القول بأن لجنة أخرى غير المنصوص عليها في الأمر اجتمعت باسمها.

كما أن المطلوب من الهيئة، دائما حسب المرسوم 30، هو القيام بتأليف المقترحات وتضمينها في مشروع الدستور وعرضها على الرئيس قبل أسبوع من تاريخ 20 جوان، أي يوم 13 جوان. وهو ما لم يقع. وإذا سألت العميد بلعيد عن موعد الانتهاء من كتابة الدستور، يُجيبك: "ما ثمّة كان ربي اللي يعرف أو سيدي بلحسن". وهذا يُفيد بأن الإعلان عن النص الذي سيُعرض على الناخبين سيتأخّر عن الموعد المُنتظر والمحدد في المرسوم، علما بأن الموعد المُعلن هو أصلا مُتأخّر، حيث كان يستوجب نشره للعموم في تاريخ الدعوة للاستفتاء، أي قبل شهرين من 25 جويلية. فأيّ معنى لدعوة الناخبين للتصريح برأيهم في نصّ قبل أكثر من شهر من نشر النصّ؟

من حيث مضمون الدستور، يقول العميد الصادق بلعيد إن التنصيص على أن الدولة "الإسلام دينها" في الفصل الأول من الدستور لا معنى له ويُعطي الشرعية للأحزاب الدينية المُتطرّفة لتبسط نفوذها على الدولة وعلى المُجتمع، مُبرّرا حذف هذه العبارة أيضا بتناقضها مع الفصل الثاني الذي ينصّ على أن تونس دولة مدنية. ما يُمكن فهمه من تصريحات الأستاذ بلعيد أن الدستور الجديد سيُبقي على مبدأ مدنية الدولة ويحذف صبغتها الدينية. جميل. لكن أستاذنا يُصرّح في مكان آخر بأنه سيتمّ التنصيص على أننا "أمة عربية إسلامية". ألا تُعطي هذه العبارة الشرعية للأحزاب الدينية المُتطرّفة لتبسط نفوذها على الدولة وعلى المُجتمع؟ فما الذي سيتغيّر إذن بهذا التغيير؟

من ناحية أخرى، يبدو أن الدستور الجديد سوف يتعرّض إلى السياسة الاقتصادية للبلاد لعشرات السنين. كما يبدو أن الموضوع الاقتصادي سوف لن يقتصر التطرّق إليه على بعض المبادئ والحقوق العامّة، وإنما سيرسم الخطوط العريضة للسياسة الاقتصادية على أساس الاقتصاد الحر والليبيرالي. وهنا يُطرح السؤال: هل أن الأحزاب اليسارية، وخاصة منها الشيوعية، ستُمنع من المشاركة في الانتخابات المقبلة باعتبار أن برامجها تتنافى مع الدستور؟

هذه الملاحظات تُبيّن بعض جوانب الغموض حول الاستشارة وما سُمّي بـ"الحوار الوطني"، من حيث الشكل ومن حيث المضمون. لكن الغموض الأكبر هو الذي يشوب عملية الاستفتاء برمتها. وهنا لا بدّ من الإشارة في البداية إلى الضبابية التي تسود أعمال الهيئة العليا للانتخابات والتناقضات الواردة على لسان بعض أعضائها، وخاصّة فيما يتعلق بالحملة وبدور الداعين إلى المقاطعة، حيث صرّح أحدهم بأن الدعوة إلى مقاطعة الاستفتاء أثناء الحملة تُعدّ جريمة يُعاقب عليها القانون. وهنا يبدو لي أنه قبل منع الدعوة إلى مقاطعة الاستفتاء، لا بدّ من منع كتب كافكا من مكتبة الإيزي.

نأتي الآن إلى الاستفتاء ذاته. فالاستفتاء بـ"نعم" أو "لا" يكون عادة حول سؤال واحد واضح، مثل "هل أنت مع أو ضد النظام الرئاسي؟". أما إذا تعلّق الأمر بنص طويل يحتوي على عشرات الصفحات وعشرات الفصول، فإنّ الإجابة بـ"نعم" أو "لا" تُصبح صعبة للغاية، إذ يُمكن للناخب أن يكون موافقا على فصل وغير موافق على فصل آخر. وستكون منطقيّا الإجابة بـ"نعم" لا تُفيد حقيقة المواقفة التامة على النصّ، كما أن الإجابة بـ"لا" لا تفيد الرفض التام.

ومن ناحية أخرى فإن نتيجة الاستفتاء ستبقى رهينة القراءة السياسية التي سينتهجها أصحاب القرار. فماذا سيحصل إذا أدّى الاستفتاء إلى رفض مشروع الدستور؟ فراغ دستوري؟ العودة إلى دستور 2014؟ استقالة رئيس الجمهورية؟ ... وماذا سيحدث إذا كانت أغلبية المُصوّتين مع الدستور المُقترح، لكن بنسبة مشاركة ضئيلة جدا، مثل نسبة المشاركة المُسجّلة في الاستشارة الأخيرة (حوالي 6 بالمائة)؟ وفي هذه الحالة سيكون الدستور الجديد شرعيّا، لكن مشروعيّته محدودة وهشّة.

الشيء الوحيد الواضح في الوضع الذي نعيشه اليوم في تونس هو الغموض.

(*) رئيس المرصد الوطني للدفاع عن الدولة المدنية

 

 

منتدى الصباح: الغموض بكل وضوح

 

بقلم: منير الشرفي(*)

بمجرد الاطلاع على المرسوم 30، المؤرخ في 19 ماي 2022، المُحدِث "للهيئة الوطنية الاستشارية من أجل جمهورية جديدة"، يُمكن الاستنتاج بأن الدستور المُنتظر هو دستور الرئيس قيس سعيّد. إذ جاء في نصّ المرسوم أن المطلوب من الهيئة تقديم "مُقترحات" (الفصل 8) تُرفع لرئيس الجمهورية (الفصل 22)، وذلك انطلاقا من إرادة الشعب "التي عبّر عنها في 17 ديسمبر 2010" وهو تاريخ الثورة حسب القراءة الشخصية للرئيس، ومن "الاستشارة الوطنية" التي نظّمها الرئيس.

دائما من حيث الشكل، فإن هذه الهيئة تتكوّن من لجنتين تمّ التنصيص على تركيبتيهما، حسب الأمر 505 بتاريخ 25 ماي، بشكل دقيق وبالاسم. فأما اللجنة الاقتصادية والاجتماعية فإن أغلبية الأسماء الستّة المذكورة لم تحضر اجتماعاتها، في حين حضرها آخرون. وأما اللجنة القانونية المُتكوّنة من عمداء كليات الحقوق، فلم يحضر أيٌّ من أعضائها بمن فيهم رئيسها المنصوص على اسمه في الأمر، وهو ما يُمكّننا من القول بأن لجنة أخرى غير المنصوص عليها في الأمر اجتمعت باسمها.

كما أن المطلوب من الهيئة، دائما حسب المرسوم 30، هو القيام بتأليف المقترحات وتضمينها في مشروع الدستور وعرضها على الرئيس قبل أسبوع من تاريخ 20 جوان، أي يوم 13 جوان. وهو ما لم يقع. وإذا سألت العميد بلعيد عن موعد الانتهاء من كتابة الدستور، يُجيبك: "ما ثمّة كان ربي اللي يعرف أو سيدي بلحسن". وهذا يُفيد بأن الإعلان عن النص الذي سيُعرض على الناخبين سيتأخّر عن الموعد المُنتظر والمحدد في المرسوم، علما بأن الموعد المُعلن هو أصلا مُتأخّر، حيث كان يستوجب نشره للعموم في تاريخ الدعوة للاستفتاء، أي قبل شهرين من 25 جويلية. فأيّ معنى لدعوة الناخبين للتصريح برأيهم في نصّ قبل أكثر من شهر من نشر النصّ؟

من حيث مضمون الدستور، يقول العميد الصادق بلعيد إن التنصيص على أن الدولة "الإسلام دينها" في الفصل الأول من الدستور لا معنى له ويُعطي الشرعية للأحزاب الدينية المُتطرّفة لتبسط نفوذها على الدولة وعلى المُجتمع، مُبرّرا حذف هذه العبارة أيضا بتناقضها مع الفصل الثاني الذي ينصّ على أن تونس دولة مدنية. ما يُمكن فهمه من تصريحات الأستاذ بلعيد أن الدستور الجديد سيُبقي على مبدأ مدنية الدولة ويحذف صبغتها الدينية. جميل. لكن أستاذنا يُصرّح في مكان آخر بأنه سيتمّ التنصيص على أننا "أمة عربية إسلامية". ألا تُعطي هذه العبارة الشرعية للأحزاب الدينية المُتطرّفة لتبسط نفوذها على الدولة وعلى المُجتمع؟ فما الذي سيتغيّر إذن بهذا التغيير؟

من ناحية أخرى، يبدو أن الدستور الجديد سوف يتعرّض إلى السياسة الاقتصادية للبلاد لعشرات السنين. كما يبدو أن الموضوع الاقتصادي سوف لن يقتصر التطرّق إليه على بعض المبادئ والحقوق العامّة، وإنما سيرسم الخطوط العريضة للسياسة الاقتصادية على أساس الاقتصاد الحر والليبيرالي. وهنا يُطرح السؤال: هل أن الأحزاب اليسارية، وخاصة منها الشيوعية، ستُمنع من المشاركة في الانتخابات المقبلة باعتبار أن برامجها تتنافى مع الدستور؟

هذه الملاحظات تُبيّن بعض جوانب الغموض حول الاستشارة وما سُمّي بـ"الحوار الوطني"، من حيث الشكل ومن حيث المضمون. لكن الغموض الأكبر هو الذي يشوب عملية الاستفتاء برمتها. وهنا لا بدّ من الإشارة في البداية إلى الضبابية التي تسود أعمال الهيئة العليا للانتخابات والتناقضات الواردة على لسان بعض أعضائها، وخاصّة فيما يتعلق بالحملة وبدور الداعين إلى المقاطعة، حيث صرّح أحدهم بأن الدعوة إلى مقاطعة الاستفتاء أثناء الحملة تُعدّ جريمة يُعاقب عليها القانون. وهنا يبدو لي أنه قبل منع الدعوة إلى مقاطعة الاستفتاء، لا بدّ من منع كتب كافكا من مكتبة الإيزي.

نأتي الآن إلى الاستفتاء ذاته. فالاستفتاء بـ"نعم" أو "لا" يكون عادة حول سؤال واحد واضح، مثل "هل أنت مع أو ضد النظام الرئاسي؟". أما إذا تعلّق الأمر بنص طويل يحتوي على عشرات الصفحات وعشرات الفصول، فإنّ الإجابة بـ"نعم" أو "لا" تُصبح صعبة للغاية، إذ يُمكن للناخب أن يكون موافقا على فصل وغير موافق على فصل آخر. وستكون منطقيّا الإجابة بـ"نعم" لا تُفيد حقيقة المواقفة التامة على النصّ، كما أن الإجابة بـ"لا" لا تفيد الرفض التام.

ومن ناحية أخرى فإن نتيجة الاستفتاء ستبقى رهينة القراءة السياسية التي سينتهجها أصحاب القرار. فماذا سيحصل إذا أدّى الاستفتاء إلى رفض مشروع الدستور؟ فراغ دستوري؟ العودة إلى دستور 2014؟ استقالة رئيس الجمهورية؟ ... وماذا سيحدث إذا كانت أغلبية المُصوّتين مع الدستور المُقترح، لكن بنسبة مشاركة ضئيلة جدا، مثل نسبة المشاركة المُسجّلة في الاستشارة الأخيرة (حوالي 6 بالمائة)؟ وفي هذه الحالة سيكون الدستور الجديد شرعيّا، لكن مشروعيّته محدودة وهشّة.

الشيء الوحيد الواضح في الوضع الذي نعيشه اليوم في تونس هو الغموض.

(*) رئيس المرصد الوطني للدفاع عن الدولة المدنية

 

 

  Conception & Réalisation  Alpha Studios Copyright © 2023  assabahnews