- مختص في علم اجتماع لـ"الصباح": عندما تغيب الشفافية تصعب مطالبة الناس بالانخراط في التضامن والتبرع
لم تلق دعوة رئيس الحكومة هشام مشيشي التونسيين للمساهمة في صندوق التبرعات، الذي تمّ إحداثه لمرافقة الفئات والقطاعات الهشة بسبب جائحة كورونا، أي ترحاب ولا مساندة تُذكر من فئة واسعة من الناس على غرار سياسيين وقياديين في أحزاب وناشطي المجتمع المدني وحتى صحفيين.
بل كانت هذه الدعوة منذ أن تم الاعلان عنها يوم السبت 10 أفريل 2021 محل تندر واستخفاف وغضب على مواقع التواصل الاجتماعي خاصة الفايسبوك، وأيضا إلى مناسبة للتساؤل عن مآل أموال تبرعات صندوق 1818 الذي أُحدث بدوره لدعم مجهودات الدولة في مجابهة الجائحة.
انعدام الثقة
ولئن أكد مشيشي في تصريح إعلامي في نفس اليوم أنه ستوضع الآليات اللازمة لضمان شفافية عملية جمع التبرعات وتوزيعها في إطار هذا الصندوق فإن غياب الشفافية والمصداقية والوضوح منذ سنوات في ما يخصّ التصرف في صناديق التبرعات والهبات وعدم تحمل الحكومة لمسؤوليتها في مرافقة الفئات الهشة والضعيفة كان سببا كافيا لإثار هذه الموجة من الغضب وجعل التونسيين يفقدون الثقة في كل مساع تقرّها هذه الحكومة وحتى الحكومات السابقة.
هذه المرة كانت موجة الرفض أكبر بكثير من ذي قبل، فهناك تقريبا إجماع على استنكار دعوات التبرع والدعوة إلى ذلك وحث الناس إلى عدم السقوط في فخّ الحكومة من جديد، فعلى حدّ قول العديدين "من يريد مساعدة الناس فليطرق أبوابهم مباشرة دون واسطة الحكومة".
فأكثر ما تمّ تداوله على الفايسبوك هي عبارة "لا يُلدغ المؤمن جحر مرتين".
منذ الفترة الأولى من بدء انتشار فيروس كوفييد 19، ورغم التجارب المريرة للشعب التونسي مع التبرع للصناديق التي تُحدثها لمجابهة أزمة ما، هبّ غالبية المواطنين بمختلف فئاتهم الاجتماعية للتبرع لفائدة صندوق 18-18 لمكافحة كورونا لتفوق قيمة التبرعات 200 مليون دينار لفائدة وزارة الصحة.
ومنذ إحداثه، لم يتوقف التونسيون عن السؤال عن مآل الأموال التي تم جمعها، فيم صُرفت؟ وإلى أي جهة تمّ توجيهها؟ لتكون الإجابات من المسؤولين في أعلى هرم السلطة متضاربة. من ذلك التصريح المفاجئ لرئيس الحكومة هشام مشيشي الذي قال في حوار له الأحد 18 أكتوبر 2020، على القناة الوطنية الأولى، إنه إلى غاية تعيينه على رأس الحكومة لم يصرف أي مليم من تبرعات صندوق مجابهة فيروس كورونا 1818.
انتقادات ساخرة
وفي نفس السياق برر مشيشي تأخر صرف الأموال إلى البيروقراطية وإلى التعامل مع الجائحة بشكل عادي وانتظار الصفقات وكأنها صفقات اقتناء سيارات وفق تعبيره ليضيف أن الدولة مازالت تعتمد طرقا كلاسيكية في صرف الهبات والاعتمادات المتأتية من الخارج بما لا يتماشى مع دقة الظرف، مشددا على ضرورة استنباط حلول بعيدة عما هو سائد.
هذا التصريح جُوبه بموجة من الانتقادات الساخرة وصلت إلى حدّ السب والشتم والغضب من المسؤولين التونسيين، ليُسارع البعض منهم بما فيه نواب إلى نشر القائمة التفصيلية فيما بُوبت الأموال المُتبرع بها.
تواصلت هذه الموجة من الانتقادات من قبل السياسيين مع الدعوة الثانية التي رافقت خبر إحداث صندوق التبرعات حيث وعد مشيشي بوضع آليات لضمان الشفافية في عملية جمع التبرعات وتوزيعها على الفئات الهشة ومع ذلك تواصل الرفض لانعدام الثقة وفقدانها.
في هذا السياق كتب النائب بدر الدين القمودي على صفحته الرسمية بالفايسبوك "المشيشي يُعلن عن إحداث صندوق لجمع التبرعات، أعطينا كشفا عن صندوق 1818 أولا، إضافة إلى أكثر من ستة آلاف مليار وردت كهبات ومساعدات دولية لم نعرف كيف صرفت وأين؟".
لم يأت هذا الطلب على لسان القمودي فقط بل العديد من التونسيين توجهوا للحكومة بذات السؤال من قبيل "فين فلوس 1818 يا المشيشي"، وهو تساؤل يحيل على تفسير سوسيولوجي يوضح تغير مفاهيم التضامن.
شكل جديد من التضامن
في هذا السياق أوضح أستاذ علم الاجتماع صلاح الدين بن فرج في تصريح لـ"الصباح" أنّ "مفاهيم التضامن نفسها لها تعريف علمي وسوسيولوجي، فأشكال التضامن التي نعرفها في المجتمعات التقليدية كانت قائمة على القرابة الدموية فتكون درجات تقسيم العمل محدودة وتتشابه المهام والأدوار وأين خلاص الفرد يكون مرتبطا بمدى احترامه لضوابط هذا التضامن الاجتماعي الذي يجعل الفرد يشعر بالحماية والأمان باعتبار الرابطة الدموية وليس الرابطة المهنية أو غيرها".
وبالتالي "يُسمى هذا التضامن بالتضامن الآلي، لكن في المجتمعات الحديثة انتقلنا من هذا الشكل التقليدي إلى شكل جديد من التضامن وهو التضامن العضوي بمفهوم التكامل، في إطار هذه الفلسفة أي خلل يطرأ على أشكال التضامن بتعريفها الجديد بمعنى أنه إذا كان الشخص المتضامن لا يرى تكاملا بينه وبين الأطراف الأخرى، فإن ذلك سيدفع الأشخاص إلى رفض أي شكل من أشكال التضامن التي هي قائمة على أهداف فيها مصالح مشتركة حيث تحدث الاستفادة للجميع".
غياب الشفافية
لذلك "هناك مطالبة بإثبات جدارة الدعوة إلى التضامن، فعندما نعود إلى الواقع التونسي كانت هناك تجربة أولى للتبرعات سارع إليها الجميع وكانت هناك تبرعات بالملايين والمليارات ولكن في نفس الوقت نتفاجأ بأخبار فيها تشكيك رسمي على غرار ما صرح به النائب بدر الدين القمودي موجها خطابه لرئيس الحكومة ليسأله عن مآل تبرعات صندوق 1818 والهبات التي وصلت تونس".
فـ "إلى اليوم الناس تتساءلون أين ذهبت تلك الأموال وأيضا مجمل الهبات التي تحصلت عليها تونس منذ سنة 2011، فعندما تغيب الشفافية يصعب مطالبة الناس بالانخراط في التضامن والتبرع. وهنا أذكر مثال التبرعات التي جمعت للنادي الافريقي فعندما توفر عامل الوضوح والمصداقية ونشر المعطيات يوميا للجميع انساق محبو الفريق في حملة جمع الأموال وأصبح حدثا عالميا ليس فقط لأنه محب لناديه وإنما أيضا بفضل شفافية اللجنة المشرفة على التبرعات".
لكن "هذا للأسف الشديد غائب في مسائل وملفات أخرى فكان دائما هناك تشكيك وتساؤلات عن كيفية التصرف في أموال التبرعات والهبات، وهذا التشكيك لم يأت فقط من مواطنين عاديين وإنما أيضا من هيئات ونقابات ومن صحفيين الذين رأوا أنه لا توجد مبررات لهذه الدعوة ولا وجود لأي مصداقية من ورائها".
أوضح صلاح الدين بن فرج أيضا أنّ "المسؤولين لا يفهمون ولا يريدون أن يعلموا ويتقبلوا ماهي التمثلات والانعكاسات لأي دعوة فمع كل مشروع جديد يجب أن تكون هناك دراسة علمية واجتماعية لفهم ردود الأفعال وكيفية مجاراتها وإيجاد الحلول لها".
إيمان عبد اللطيف
- مختص في علم اجتماع لـ"الصباح": عندما تغيب الشفافية تصعب مطالبة الناس بالانخراط في التضامن والتبرع
لم تلق دعوة رئيس الحكومة هشام مشيشي التونسيين للمساهمة في صندوق التبرعات، الذي تمّ إحداثه لمرافقة الفئات والقطاعات الهشة بسبب جائحة كورونا، أي ترحاب ولا مساندة تُذكر من فئة واسعة من الناس على غرار سياسيين وقياديين في أحزاب وناشطي المجتمع المدني وحتى صحفيين.
بل كانت هذه الدعوة منذ أن تم الاعلان عنها يوم السبت 10 أفريل 2021 محل تندر واستخفاف وغضب على مواقع التواصل الاجتماعي خاصة الفايسبوك، وأيضا إلى مناسبة للتساؤل عن مآل أموال تبرعات صندوق 1818 الذي أُحدث بدوره لدعم مجهودات الدولة في مجابهة الجائحة.
انعدام الثقة
ولئن أكد مشيشي في تصريح إعلامي في نفس اليوم أنه ستوضع الآليات اللازمة لضمان شفافية عملية جمع التبرعات وتوزيعها في إطار هذا الصندوق فإن غياب الشفافية والمصداقية والوضوح منذ سنوات في ما يخصّ التصرف في صناديق التبرعات والهبات وعدم تحمل الحكومة لمسؤوليتها في مرافقة الفئات الهشة والضعيفة كان سببا كافيا لإثار هذه الموجة من الغضب وجعل التونسيين يفقدون الثقة في كل مساع تقرّها هذه الحكومة وحتى الحكومات السابقة.
هذه المرة كانت موجة الرفض أكبر بكثير من ذي قبل، فهناك تقريبا إجماع على استنكار دعوات التبرع والدعوة إلى ذلك وحث الناس إلى عدم السقوط في فخّ الحكومة من جديد، فعلى حدّ قول العديدين "من يريد مساعدة الناس فليطرق أبوابهم مباشرة دون واسطة الحكومة".
فأكثر ما تمّ تداوله على الفايسبوك هي عبارة "لا يُلدغ المؤمن جحر مرتين".
منذ الفترة الأولى من بدء انتشار فيروس كوفييد 19، ورغم التجارب المريرة للشعب التونسي مع التبرع للصناديق التي تُحدثها لمجابهة أزمة ما، هبّ غالبية المواطنين بمختلف فئاتهم الاجتماعية للتبرع لفائدة صندوق 18-18 لمكافحة كورونا لتفوق قيمة التبرعات 200 مليون دينار لفائدة وزارة الصحة.
ومنذ إحداثه، لم يتوقف التونسيون عن السؤال عن مآل الأموال التي تم جمعها، فيم صُرفت؟ وإلى أي جهة تمّ توجيهها؟ لتكون الإجابات من المسؤولين في أعلى هرم السلطة متضاربة. من ذلك التصريح المفاجئ لرئيس الحكومة هشام مشيشي الذي قال في حوار له الأحد 18 أكتوبر 2020، على القناة الوطنية الأولى، إنه إلى غاية تعيينه على رأس الحكومة لم يصرف أي مليم من تبرعات صندوق مجابهة فيروس كورونا 1818.
انتقادات ساخرة
وفي نفس السياق برر مشيشي تأخر صرف الأموال إلى البيروقراطية وإلى التعامل مع الجائحة بشكل عادي وانتظار الصفقات وكأنها صفقات اقتناء سيارات وفق تعبيره ليضيف أن الدولة مازالت تعتمد طرقا كلاسيكية في صرف الهبات والاعتمادات المتأتية من الخارج بما لا يتماشى مع دقة الظرف، مشددا على ضرورة استنباط حلول بعيدة عما هو سائد.
هذا التصريح جُوبه بموجة من الانتقادات الساخرة وصلت إلى حدّ السب والشتم والغضب من المسؤولين التونسيين، ليُسارع البعض منهم بما فيه نواب إلى نشر القائمة التفصيلية فيما بُوبت الأموال المُتبرع بها.
تواصلت هذه الموجة من الانتقادات من قبل السياسيين مع الدعوة الثانية التي رافقت خبر إحداث صندوق التبرعات حيث وعد مشيشي بوضع آليات لضمان الشفافية في عملية جمع التبرعات وتوزيعها على الفئات الهشة ومع ذلك تواصل الرفض لانعدام الثقة وفقدانها.
في هذا السياق كتب النائب بدر الدين القمودي على صفحته الرسمية بالفايسبوك "المشيشي يُعلن عن إحداث صندوق لجمع التبرعات، أعطينا كشفا عن صندوق 1818 أولا، إضافة إلى أكثر من ستة آلاف مليار وردت كهبات ومساعدات دولية لم نعرف كيف صرفت وأين؟".
لم يأت هذا الطلب على لسان القمودي فقط بل العديد من التونسيين توجهوا للحكومة بذات السؤال من قبيل "فين فلوس 1818 يا المشيشي"، وهو تساؤل يحيل على تفسير سوسيولوجي يوضح تغير مفاهيم التضامن.
شكل جديد من التضامن
في هذا السياق أوضح أستاذ علم الاجتماع صلاح الدين بن فرج في تصريح لـ"الصباح" أنّ "مفاهيم التضامن نفسها لها تعريف علمي وسوسيولوجي، فأشكال التضامن التي نعرفها في المجتمعات التقليدية كانت قائمة على القرابة الدموية فتكون درجات تقسيم العمل محدودة وتتشابه المهام والأدوار وأين خلاص الفرد يكون مرتبطا بمدى احترامه لضوابط هذا التضامن الاجتماعي الذي يجعل الفرد يشعر بالحماية والأمان باعتبار الرابطة الدموية وليس الرابطة المهنية أو غيرها".
وبالتالي "يُسمى هذا التضامن بالتضامن الآلي، لكن في المجتمعات الحديثة انتقلنا من هذا الشكل التقليدي إلى شكل جديد من التضامن وهو التضامن العضوي بمفهوم التكامل، في إطار هذه الفلسفة أي خلل يطرأ على أشكال التضامن بتعريفها الجديد بمعنى أنه إذا كان الشخص المتضامن لا يرى تكاملا بينه وبين الأطراف الأخرى، فإن ذلك سيدفع الأشخاص إلى رفض أي شكل من أشكال التضامن التي هي قائمة على أهداف فيها مصالح مشتركة حيث تحدث الاستفادة للجميع".
غياب الشفافية
لذلك "هناك مطالبة بإثبات جدارة الدعوة إلى التضامن، فعندما نعود إلى الواقع التونسي كانت هناك تجربة أولى للتبرعات سارع إليها الجميع وكانت هناك تبرعات بالملايين والمليارات ولكن في نفس الوقت نتفاجأ بأخبار فيها تشكيك رسمي على غرار ما صرح به النائب بدر الدين القمودي موجها خطابه لرئيس الحكومة ليسأله عن مآل تبرعات صندوق 1818 والهبات التي وصلت تونس".
فـ "إلى اليوم الناس تتساءلون أين ذهبت تلك الأموال وأيضا مجمل الهبات التي تحصلت عليها تونس منذ سنة 2011، فعندما تغيب الشفافية يصعب مطالبة الناس بالانخراط في التضامن والتبرع. وهنا أذكر مثال التبرعات التي جمعت للنادي الافريقي فعندما توفر عامل الوضوح والمصداقية ونشر المعطيات يوميا للجميع انساق محبو الفريق في حملة جمع الأموال وأصبح حدثا عالميا ليس فقط لأنه محب لناديه وإنما أيضا بفضل شفافية اللجنة المشرفة على التبرعات".
لكن "هذا للأسف الشديد غائب في مسائل وملفات أخرى فكان دائما هناك تشكيك وتساؤلات عن كيفية التصرف في أموال التبرعات والهبات، وهذا التشكيك لم يأت فقط من مواطنين عاديين وإنما أيضا من هيئات ونقابات ومن صحفيين الذين رأوا أنه لا توجد مبررات لهذه الدعوة ولا وجود لأي مصداقية من ورائها".
أوضح صلاح الدين بن فرج أيضا أنّ "المسؤولين لا يفهمون ولا يريدون أن يعلموا ويتقبلوا ماهي التمثلات والانعكاسات لأي دعوة فمع كل مشروع جديد يجب أن تكون هناك دراسة علمية واجتماعية لفهم ردود الأفعال وكيفية مجاراتها وإيجاد الحلول لها".