إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

صرحوا لـ"الصباح "من داخل الأراضي الصامدة في وجه الدمار الصهيو.ني.. كُتَاب فلسطين أمام "جحيم "غزَ.ة

 

هذا التحقيق ... أردناه ان يكون من داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة الصامدة في وجه آلة الدمار والخراب الصهيونية الغاشمة.

كتاب ومبدعون من رام الله وغزة وجباليا ونابلس وخان يونس وغيرها من المدن الفلسطينية الصامدة بشموخ امام الطغيان الصهيوني الذي استباح كل شيء ضاربا بعرض الحائط كل القوانين والأعراف الدولية، مستبيحا الدم الفلسطيني بكل غطرسة وصلف امام الصمت العربي وهو يرقب ويتابع التقتيل والتهجير والتطهير العرقي ولا يحرك ساكنا.

لقد اطلق ادباء وكتاب فلسطين الشهيدة صيحة الى عنان السماء تنديدا وفضحا لهذه المجازر اليومية  في حق شعب لا رغبة له سوى العيش الكريم في حرية  بعيدا عن اهوال التقتيل والتدمير.

انها صرخة مناضلين رفعوا القلم لمقاومة الحديد والنار.

إعداد محسن بن احمد

هذا التحقيق أردنا ان يكون " كُتًاب فلسطين امام جحيم غزة " محوره الرئيسي من خلال الأسئلة التي طرحناها على هؤلاء المثقفين والادباء حول دور الكتابة  في ظل العدوان المستمر على غزة.  ولنا ان نحيي بحرارة الشاعرة الفلسطينية المناضلة إيمان زياد صديقة الساحة الأدبية والشعرية في تونس ( لها اكثر  من اصدار شعري)  ونصوصها الابداعية وان كانت حزينة فانها تجعلها تتحرر من قيد ما. و كانت الشاعرة همزة الوصل بين " الصباح " و الشعراء والادباء والمثقفين الفلسطينيين  للتعبير والاصداع بموقفهم من هذا الذي تعيش على وقعه فلسطين وخاصة قطاع غزة.

 

ريتا طه "روائية وممثلة ".. فراغ مفاجئ طغى على الحالة الثقافية الفلسطينية طوال عام

فيما يخص الشأن الثقافي الفلسطيني والذي أثيرت حوله نقاشات كثيرة، وتعريفات متشابكة ومتضادة في الوقت ذاته، فإن الوسط الثقافي الفلسطيني ينقسم على ذاته منذ بدء الحرب الحالية، وانبرت بعض الأقلام جاهدة لاستنهاض القوى الثقافية من أجل القيام بدور فاعل لتصدير الحالة الراهنة من منظور ثقافي عبر المنصات الثقافية على الامتداد الإقليمي. ومنها من ركزت في تشريح وتفسير الحيثيات والمسببات لهذه الحال؛وفي كلتا الحالتين لم يتمكن كلا الطرفين من مجاراة الوقت. وها نحن الآن بعد سنة من حرب إبادة لم يشهد العصر الحديث مثيلا لها، ما زلنا نبحث عن انتاجات ثقافية فاعلة يمكنها التأثير ولو بالحد الأدنى في الأوساط الثقافية أو في الأوساط العالمية. الإخفاق الذي وضع المثقف الفلسطيني في خانة الباحث عن دوره، وبالتالي الباحث عن هويته  ووضعه أيضا في خانة المتهم بالتنحي عن واجبه المنوط به. فما يقلقني بشكل خاص هو عدم القدرة بعد الآن على رصد الفكرة التي يمكن أن يبنى عليها مشروع فكري يتبنى صياغة لكل هذا الزخم من المعطيات والتصورات. وبناء سبل للتعاطي مع الحالة المعنوية التي يمر بها الشعب الفلسطيني، والأخذ بزمام المبادرة لإنتاج حلول وقتية قادرة على التطور والاستمرار، الأمر الذي لا ينفصل عن سؤال: ماذا يفعل الأدب الفلسطيني أمام المجازر ؟ الإجابة واضحة لمن يمعن النظر في الفراغ المفاجئ الذي طغى على الحالة الثقافية الفلسطينية. ليكتشف هذا العقم الأدبي طوال عام كامل ونيف من المجازر، مستدرجا جلبة من المناكفات والسجالات بين صفوف المثقفين إذ كل يلقي بمواقفه في وجه الآخر باتهام بالتقصير وعدم الفهم والعجز.وهذا يدفعنا لفهم دور اليوميات في توثيق الألم؛  في حال اتفقنا على أن الحالة الثقافية بشقها الأدبي تمتاز بالعجز عن المبادرة والتأثير، فلا بد من إنصاف بعض المحاولات حتى لو لم ترقَ لمستوى جذب الانتباه في خضم ما يعيشه الشعب الفلسطيني من أهوال متسارعة في التصاعد. ولربما كانت هناك بعض النصوص التي توثق الأحداث بشكل طارئ أو مرتجل قادرة في وقت ما على ترتيب الصور وصياغتها بشكل أدبي. وهذا ما يجعل لليوميات دورا مهما في توثيق التفاصيل التي تصور المعاناة والألم   لعجز النص عن مضاهاة بشاعة الواقع وسرعة المشاهد قد تهدد بتلاشي المشاهد المصورة من الذاكرة. أما الكلمة فهي قادرة على وصف الزوايا الخفية، وشرح التفاصيل الدقيقة لتضفي عليها ثباتا في ذهن القارئ الذي سوف يراها بعين خياله بشكل مختلف، وشعور متأني يترجمه على طريقته الخاصة. فالتوثيق بالكتابة هي ضرورة لحفظ الحالة العاطفية في أرشيف الذاكرة، واسترجاعها في الوقت المناسب، وإخضاعها لعملية انعاش لتتحدث عن نفسها من جديد، ما يقودني إلى قلق الاحتلال من الكتابة المقاومة؛ لدرجة تصل الى  اغتيال الأدباء كغسان كنفاني، لما شكله من خطر في استنهاض الشعب.  لقد قام الاحتلال بحربا ثقافية مضادة ممنهجة عبر وسائل التواصل الاجتماعي من شأنها عرقلة أهداف أي إنتاج أدبي مقاوم. وهذا استنتاج توصل إليه العديد من الأدباء الذين باتوا يرون في أدب المقاومة الفلسطينية تراثا لا جدوى منه، والتأكيد عليه نظرا لخصوصية المرحلة، وصعوبة المواجهة. وربما هناك من ينتظر أن تتضح الرؤية ليتمكن من صياغة سرديته الخاصة.

 

مالك الريماوي"كاتب وباحث"..الأدب مادة حياة تُرمًم ما دمرته الحرب

في الحرب، كل حرب، يطغى الموت ويسود الألم ويسود الإنسان الذي ينتصر للحياة ويوظف قدرته في خلق القيم النقيضة للحرب والظلم والدمار وتنبثق الكتابة كصرخة الحياة في وجه الموت، صرخة الحق في وجه الظلم، وصرخة الجمال في وجه القبح والدمار. بما أن الكتابة هي وظيفة الكاتب، والكاتب مواطن وإنسان، فإن الكتابة في زمن الحرب تصبح وثيقة لانتقام الحياة من الموت، ومرافعة الحقيقة والخيال ضد الظلم في محكمة الوجود.

الأدب الفلسطيني اليوم أمام مهمة كونية وإنسانية، وهي توثيق الإبادة البشرية. يجب عليه توثيق صوت الضحايا الفلسطينيين، توثيق صمتهم وموتهم وخراب حياتهم وكشف الوجه الآخر للوجود وجه الشر المطلق المتمثل في الاستعمار والحرب والعدوان. الأدب الفلسطيني في هذا السياق يصبح المتخيل الكوني في مواجهة الشر الاستعماري والصمت العالمي. في الحرب يصبح الأدب مادة حياة ترمم ما دمرته الحرب، وتخلد المأساة في صورة نافذة أو لوحة أمل تطل على المستقبل.

الحرب هي قلب جذري للمنطق العادي. في زمن الحرب، ليس كل كاتب مواطنًا فقط، بل هو أيضًا كاتب. فكل مواطن يشعر بألمه ويعبر عنه، لكنه يصبح كاتبًا عندما يملك القدرة على تحويل ذلك الألم إلى كتابة تواجه الحرب وتصبح وسيلة للنجاة. نجاة الإنسان الفلسطيني الحاضر ونجاة إنسانية فلسطيني المستقبل.

في الحرب الوجودية لشعبه، لا يمكن للكاتب أن يكون كاتبًا فقط، بل يجب أن يكون أيضًا محاربًا. الكاتب المحارب هو من يشن غارات وجودية على الحرب نفسها، غارات تخلق ممكنات النجاة والصمود، وتعيد صياغة معنى الوجود في مواجهة الفناء، لتعطي للأمل منصة ينطلق منها الخيال. ترمم جسد المعنى الممزق بسبب القنابل العنقودية.وتبقي على الحياة في متحف التاريخ للتطهير العرقي.

واليوميات تكتب "سيرة الدم"، وترسم لوحات المعاناة، وتكشف وجه الإنسان من تحت الركام. دور اليوميات هو توثيق ما لا يكشفه المؤرخون عادة، وترك مادة للأحفاد تحمل صوت آبائهم وأجدادهم الذين التحموا بالأرض، واحترقوا بقنابل الفوسفور الأمريكية والصهيونية حينما قرروا البقاء في وطنهم.

وأكثر ما يقلقني هو إبادة الوعي: أن تتمكن الإبادة عبر تحطيم الجسد من الوصول لإبادة الروح، وإبادة التاريخ والذاكرة…إبادة الكلام فيخيم على العالم الصمت، والخوف، فيموت الكلام ويموت الخيال ويفنى صوت الكائن البشري. ما يقلقني هو أن نصبح الهنود الحمر في قارة الصمت العربي والتواطؤ العالمي مع المحتل،                                           

والمحتل دائمًا قلق. كل فعل يقض مضجعه، وبما أن الكتابة فعل في الوجود والوعي، فهي تمتد في الحاضر والمستقبل. المحتل يراقبها باستمرار، وفي زمن الإبادة يراها سلاحًا لأنها وسيلة لرسم جغرافيا الوعي. الجغرافيا التي لا تصل إليها طائراته وصواريخه.

 

ثورة حوامدة " روائية ".. الكتابة تحت النار محرقة أخرى!

في ساحة الحرب لا يمكن للكتابة ان تكون رفاهية، ولا يمكن للكلمة أن تداوي جراح اليد المبتورة، أو أن تلقي على الوجع خدرا موضعيا. هكذا تجد النصوص نفسها محاصرة من ذات الرصاصة التي اغتالت لغة الشاعر قبل جسده، وافتكت الحياة من الروائي والفنان والمبدع في غزة. الرصاصة الموجهة باستمرار للحياة تجعل الكتابة تحت خط النار خطوة كاملة المعنى لتوثيق ما جرى ويجري، وما هو آت.

أيمر الوجع مثلما يمر الوقت هكذا سريعا؟ أيضع العالم الغائب فعلا وقولا -رغم متابعته للكارثة-في حسابه لموتنا أدوات لحساب كم لبثنا، سوى عدد الأرجل المبتورة والأجساد المتناثرة والوجوه المحترقة؟ وعدد الخطوات التي مشاها الناس في نزوحهم من أراضي الله الواسعة إلى الله ذاته.

الجحيم لا يُعَنوَن، الموت لا يُعَرّف، والفقد لا مرادف له سوى الفقد، أن تتنازل عن شيء ما لك أو منك، في كل مرة بطريقة أشد وأقسى، هل ينتزع الألم أحاسيسنا من بواطن الروح إذا ما تراكم الشعور ذاته وتعاظم في كل اخذٍ، هكذا هي الكتابة عن الحرب في الحرب، إِنصافٌ للحقِ وأَنصافٍ للصورة!

يقول جاك داريدا "لا شيء خارج النص"، وأنا أقول - من بين ارتدادات الموت المجاني لقناعة الجاني - أن لا شيء يُخرجه النص في هذه المقتلة! لا الأسماء التي حملها أصحابها ولا الأحلام التي حملتهم للمستقبل، حين نذكرها أنُشمل فيها حياتهم وسكونهم، ضحكاتهم وأحزانهم، تيههم وتماهيهم ؟ لا فعل الكتابة يكفي ولا يمكنه ان يحصي ما أرادوه وما صدقوه وما كذبوه حين نكتب عنهم. قصصهم التي دفنت معهم في رمال غزة ابتلعت كل ما يعجز النص على تقديمه، لذلك الحروف في ساعة الحرب ليست إلا وسيلة للتأكيد على صدقية الروح الحيّة وسط موات الكلام.

اعيش تبعات هذا العدوان على حدود الجسد قبل الجغرافيا،

تساءلت:

لمن أكتب؟  إذا كان للدم ما يقوله؟

لمن أكتب؟ والأطفال وجهنا الذي رافق المسافة بين الرصاصة والخيمة.

لمن اكتب؟ والعالم صندوق عجائب يصفق للقاتل ويحتفل على جثمان القتيل.

من سيقرأ حرقة الأم وهي تبحث عن شيء ما يؤكد لها النهاية الأبدية لفلذة كبدها، من سيقول للموت مهلا نحن أبناء الحياة، ويحاسب القاضي على احتمالية الأمل؟

ما يخنق العبرات في دواخلي ان يَسُوقَ/ يُسَوّقَ لنا العالم ثقافة الكارثة، ونورث للأجيال نحن أحفاد جيل النكبة الفلسطينية حِمْلَ المقتلة، لا أحلام الغد ولا مستقبل البلاد، أحفاد الدم وأبناء المقتلة لا شيء لهم سوى المزيد من الدم، هكذا يحب العالم الصورة.

ما يخيفني جدوى الكتابة/فعل الكتابة ذاتها، عام كامل من الصراخ في وجه العدالة، فوجدنا ان الطريق إلى الله أكثر سهولة من الطريق إلى خلقه.

ما يخيفني ان يكون الإبداع مقتصرا على مسرحة الموت لا لتوثيق الفجيعة، فكانت جثامين الضحايا تحمل على أكتاف المعنى قبل أكتاف المشيعين.

كل من شهد على الحرب وشهدت عليه له حق الكتابة عنها، هذا ليس ترفا، وإنما ابجدية الشراكة الطبيعية للحق في الحياة والكرامة والحرية.

 

عامر بدران "كاتب وشاعر".. الكاتب الواعي مطالب بالإبقاء على جذوة نضاله ونضال شعبه.

الأدب الفلسطيني الحقيقي يحاول ألا يكون ضحية إضافية، هذا ما يستطيع فعله في ظل هذا التوحش والقتل اليومي أمام عدسات الكاميرات. لقد حاول الأدب الفلسطيني عبر عقود طويلة أن يكون عدسة لالتقاط إجرام محتليه ومعاناة شعبه، لكنه في هذه الحرب، التي تقتل الشاعر مثلما تقتل المقاتل، يحاول أن يصمد على أقل تقدير.

نستطيع بالمجاز تسمية ما يجري حرباً، لكنه في الحقيقة عدوان سافر على شعب أعزل يطالب بحقوقه منذ مائة عام. لذا فالكاتب في ظل هذا العدوان، مواطن يتعرض كأهله وبقية شعبه للقتل والاعتقال والتهجير. يصبح الكاتب كاتباً حين يتعلق الأمر بمقاومة هذا العدوان، فمن هذه الزاوية هو يحمل قلماً بدل الحجر، وورقاً بدل البندقية. أقصد أنه كاتب حين يقوم، ومواطن أعزل حين يتعرض للقتل أو الاعتقال.

لعل الكلمة المفتاحية في هذا السؤال هي كلمة القومية. لذا فإنني أعتقد أن أهم دور للكاتب، الواعي تحديداً بقضية شعبه، هو أن يبقي على جذوة نضاله ونضال شعبه في هذه الحدود. لا يمكنني تخيل كاتب ينجر لتحويل قضيته من قضية قومية سياسية إلى قضية دينية تُدار بمصطلحات الحق والباطل، أو إلى قضية إنسانية تُدار بمساعدات الغذاء والدواء. على الكاتب تحديداً أن يمنع الانزلاق إلى مربعات بعيدة عن كون قضيته قضية قومية. هذا هو دوره في الحرب وغير الحرب.

قد أبدو متحاملاً إن قلت إن وظيفة اليوميات لدى كاتب يحمل قضية كقضية الشعب الفلسطيني، لا يجب أن تكون توثيقاً للألم. فهكذا توثيق ينتج قارئاً محباً للثأر أو قارئاً يائساً. الدور الحقيقي لليوميات في ظل العدوان أو الحرب أو النضال هو توثيق الصواب والخطأ. لا أقصد هنا الكتابة السياسية المجردة فحسب، بل حتى الكتابة الأدبية، والتي وإن وثقت الألم، عليها أن تشير إلى سببه ولو بالرمز.

بكل تأكيد، فكل كتابة وكل فن وكل إبداع، إنما يشير إلى جدارة صاحبه، ومعركتنا مع هذا العدو، في جانب كبير منها، هي معركة جدارة. هو يحاول أن ينزع عنا الأهلية، فما بالك حين يصطدم بشعب ينتج فناً أو رواية؟ ثم إن أحد أهم العناصر التي تجعل من مجموعة بشرية شعباً هي فنونه. أعني أننا بالفن والإبداع بكافة مستوياته، نصبح شعباً، والمحتل لا يريدنا كذلك.

أن ينزلق إلى الندب والعادية، هكذا باختصار شديد. المحاكاة المؤلمة في تاريخ أي شعب أو أية جماعة تولد إحساساً باللاجدوى وباليأس، وهذه بدورها تخلق بيئة يحاول فيها كل من تألم أن يدلي بقوله. من الجيد أن يقول الجميع روايتهم، لكن من الجيد أن لا نفقد المعايير، إن صح التعبير. رغم كل ما يعانيه الفلسطيني، إلا أنني لا أحب أن يؤخذ انتمائي هذا من ضمن معايير تقييمي كأديب، ولا أحب كذلك معاملة الشأن الثقافي لشعب مظلوم بدافع ولو قليل من الشفقة. هذه قضية كبيرة، وعلى أدبائها وفنانيها أن يحملوها لا أن تحملهم هي.

 

 فداء زياد"كاتبة".. الأدب أهم العناصر التي تشكل سردية حقيقية لفعل الوجود الفلسطيني

يواجه الفلسطينيون، بشكل عام، أشرس احتلال شهدته الأرض منذ بداية وجوده. فالكل الفلسطيني، بمستوياته وطبقاته الاجتماعية، يقاوم. والإجابة على تساؤل دور الأدب في مواجهة المجزرة هي ذاتها إجابة عن  سؤال جدوى الخلق. فالمعركة في أصلها ووجودها نابعة من الاحتلال، الذي يعتمد في سياسته لتشكيل هويته في المنطقة على السرقة: سرقة الأرض، وتجريد السكان من حقوقهم، وحرمانهم من حق وجودهم وممارسة فعل الوجود على أرضهم.

والأدب الفلسطيني ضمن هويته التي حصرت بها يفرض عليه أهم رسالة في مواجهة ذلك وهي "حماية الرواية" "حماية الحكاية". تقتل اسرائيل منذ العام بوحشية الوجود الغزي على الأرض بالتهجير والتجويع والتشريد بهدف واحد هو القضاء على فعل المقاومة باعتبار مبرر الهدف أنه فعل يهدد أمنها وتنفي عن الفلسطيني الغزي مدنيته وتقدمه للعالم مسلحاً بسلاح يقتلها. تنفي عن الغزي فعل مقاومته لحصاره وتقدمه للعالم عبر اسطواناته أنه مجموعة من الحيوانات البشرية ويجب القضاء عليه. الأدب هواحد وأهم العناصر التي تشكل سردية حقيقية لفعل الوجود الفلسطيني باعتبار الفن دليل مادي حقيقي لفعل الحضارة لا الهمجية التي تروجها إسرائيل، وفعل الأدب أثناء المجزرة من الغزي ذاته أولاً وأبداً هي فعل التوثيق وحفظ حكاية المظلومية الفلسطينية في مواجهة الاحتلال وهي مساهمته في تشكيل الوعي العربي والعالمي كأثر وكنتاج للعملية التاريخية. ولذلك فالانخراط في واقع ومسؤولية الكتابة من خلال الكاتب هو إنتماء للهوية باعتباره الفلسطيني الذي يقتل ولا يمكن عزل  هويته ومواطنته عن دوره ككاتب أو كفاعل ثقافي في الحياة. قتلت إسرائيل غسان كنفاني لكن لم تقتل "صفية" وغيرها من النماذج التي وثقها الأدب. اغتالت ناجي العلي وبقي حنظلة رمزاً فنياً يقدم دلالة وشاهد على فعل سرقة كل شيء من الفلسطيني. وقتلت في غزة حتى كتابة هذا ما يقارب 50 ألف غزي على اعتبار الهوية ومع اختلاف أدوارهم في الحياة معلمين، مثقفين، طلاب، أكاديميين، عمال.  شهدنا على قتلهم للإنسان الفلسطيني وتزيد شراسته في محاربة الصوت الفاعل كقتل الأكاديمي والمترجم د. رفعت العرعير. الذي رفع شعار حماية الحكاية منذ بداية الإبادة. وقتلت من حاول حماية شمال غزة من المجاعة المهندس الزراعي "يوسف أبو ربيع" هذه الأسماء وثقتها الجهات الرسمية لكن أثر فعلها كيف يبقى هو دور الأدب في تشكيل نماذج تعيش أيضاً. فالأدب فعل توثيق الحدث لا الأشخاص. وهنا اقتبس من قصة "موت سرير رقم12" لغسان كنفاني: " أريد أن أتكلم عن الموت، عن موت يحدث أمامك، لا عن موت تسمع عنه، إن الفرق بين هذين الطرازين من الموت، فرق شاسع لا يستطيع أن يدركه إلا من يشاهد إنساناً ينكمش بغطاء سريره بكل ما في أصابعه الراجفة من قوة، كي يقاوم انزلاقاً رهيباً إلى الفناء. إذا خرجت من حالة العمومية إلى حالة الخصوصية التي تمثلني كغزية فلسطينية تعيش حرب إبادة منذ عام فقدت فيها من فقدت من أصدقاء وأصحاب وعائلة، وما فقدت من بيوت ومعالم للمدينة وتجربة نزوح فإن في هذا لا ينفصل عن دور فعل الكتابة بأصله إنسانياً نحن بحاجة لدليل مادي حقيقي لفعل الفن وأنه شكل من أشكال الإسعاف النفسي في مواجهة هذا الموت. الكتابة فعل التواصل مع الجميع إلى جانب كاميرات الإعلام والاحتلال يحارب فعل التواصل هذا من خلال قطعه إذ يشكل صوت المظلوم هاجساً حقيقياً في اثبات اجرامها وايغالها في الدم الفلسطيني أكثر. هي قطعت شبكات الاتصال مراراً وواصلت قصف البيوت ومنعت وصول الإسعاف بقطع الطرق عليه  ليظل الفن عموماً والكتابة خصوصاً هي جزء من الأمل المعلق بالنجاة على ضعفها وربما تكون معضلة الأمل أنه يلون المأساة ويقدمها في قالب فني في ظل قتل كل وسائل التواصل مع العالم ليبقى فعل الكتابة الشاهد المشاهد الموثق الفاعل الواصل بالصوت لإحداث الصوت بتوثيق المجرزة الحادثة والمستمرة. هل من أحد ينكر أثر "مديح الظل العالي" في توثيق حدث حصار بيروت وهذا ما تفعله الكتابة توثيق الحدث الحادث والمستمر كي لا يقتل الفلسطيني بلا حكاية تدلل على مظلوميته. فالمحتل لا  حيلة له إلا الاستمرار بسرقة الأرواح والوجود كي ينفي شعور اللفظ والرفض الذي يتنامى بداخله كفرد ووجود بلا أرض ولا هوية في مواجهة رواية الجمع الفلسطيني مالك الأرض والهوية.

 

خليل ناصيف "كاتب".. مزعج جدا .. ظهور أصوات تركب موجة الحرب وتتاجر بمعاناة الناس

حجم الحرب الحالية على غزة باغت الأدباء الفلسطينيين ، وأظننا عشنا اسابيعها الأولى في حالة من الحزن والشلل ، لاحقا أخذ قسم من الكتاب يكتب عنها ما يشبه اليوميات سواء كوصف للاحداث أو كتابة شعوره نحوها ، وقسم من الكتاب التزم الصمت حتى الان والبعض منهم قام بكتابة رواية أو ديوان شعر ، رأيي الشخصي أن دور الادب خلال الحرب بشكل عام هامشي وأن الوضع الحالي يتطلب من الكاتب التوثيق مع وقفة للتفكير بكل ما أوصلنا الى اللحظة الراهنة ، أما كتابة روايات وقصص عن حرب غزة فأهل غزة وهم شهود المجزرة أولى الناس بالكتابة عنها والأفضل أن يحدث ذلك بعد الحرب لا خلالها ، الحرب لم تنته بعد والكتابة حاليا عنها فيها الكثير من التسرع .

والكاتب والفنان بشكل عام في الحروب أشبه ما يكون بخياط بدلات سهرة في عالم يعج بدكاكين الملابس الجاهزة ، باختصار بضاعة الادب راكدة في الحروب ، في الحرب الكاتب ليس مواطنا عاديا بل هو واحد من بين أكثر الناس تضررا من الحرب ، يكفيه مقولات من مثل :

" الناس تموت وأنت مشغول بتجارة الكلمات " .

والحقيقة أن الكاتب العربي ليس مؤثرا بشكل ملموس وذلك بسبب انخفاض سقف الحريات في العالم العربي وعزوف الناس عن القراءة بشكل عام والكاتب الفلسطيني ليس استثناءً ، لا يجب ان نتوقع من الكاتب القيام بمهام وزير الدفاع او وزير التربية والتعليم ، كل ما هو مطلوب من الكاتب في الحروب القومية هو ان يقوم بالتوثيق وايصال صوت الناس والانحياز للحق ، فان عجز عن كل ذلك فعلى الأقل ليبتعد عن المتاجرة بالمعاناة وعن تثبيط الروح المعنوية للناس . في الواقع اذا لم يكن للكتابة دور مؤثر في حالة السلم فغالبا لن يكون لها اثر في حالة الحرب .

الفنون عند الشعب المحتل هي وثيقة تسجل بأن هذا الشعب حي وموجود وفعال في محيطه الإنساني وانه ليس مجرد مجموعة افراد متوحشين . هذا دورها ولذلك يجب اتقانها وتقديمها بأفضل صورة وتجنب الاتكاء على عدالة القضية لتقديم الفن الضعيف او النص الضعيف فهذا لن يخدم سوى العدو. وأكثر ما يقلقني في الشأن الثقافي في هذا الجحيم  هو ظهور أصوات تركب موجة الحرب وتتاجر بمعاناة الناس مقابل المال والنجومية ، وصدور أعمال  رديئة فنيا لا تعكس حقيقة ما يجري في غزة أو تتجاهل أصوات على حساب أصوات أخرى .

صرحوا لـ"الصباح "من داخل الأراضي الصامدة في وجه الدمار الصهيو.ني..   كُتَاب فلسطين أمام "جحيم "غزَ.ة

 

هذا التحقيق ... أردناه ان يكون من داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة الصامدة في وجه آلة الدمار والخراب الصهيونية الغاشمة.

كتاب ومبدعون من رام الله وغزة وجباليا ونابلس وخان يونس وغيرها من المدن الفلسطينية الصامدة بشموخ امام الطغيان الصهيوني الذي استباح كل شيء ضاربا بعرض الحائط كل القوانين والأعراف الدولية، مستبيحا الدم الفلسطيني بكل غطرسة وصلف امام الصمت العربي وهو يرقب ويتابع التقتيل والتهجير والتطهير العرقي ولا يحرك ساكنا.

لقد اطلق ادباء وكتاب فلسطين الشهيدة صيحة الى عنان السماء تنديدا وفضحا لهذه المجازر اليومية  في حق شعب لا رغبة له سوى العيش الكريم في حرية  بعيدا عن اهوال التقتيل والتدمير.

انها صرخة مناضلين رفعوا القلم لمقاومة الحديد والنار.

إعداد محسن بن احمد

هذا التحقيق أردنا ان يكون " كُتًاب فلسطين امام جحيم غزة " محوره الرئيسي من خلال الأسئلة التي طرحناها على هؤلاء المثقفين والادباء حول دور الكتابة  في ظل العدوان المستمر على غزة.  ولنا ان نحيي بحرارة الشاعرة الفلسطينية المناضلة إيمان زياد صديقة الساحة الأدبية والشعرية في تونس ( لها اكثر  من اصدار شعري)  ونصوصها الابداعية وان كانت حزينة فانها تجعلها تتحرر من قيد ما. و كانت الشاعرة همزة الوصل بين " الصباح " و الشعراء والادباء والمثقفين الفلسطينيين  للتعبير والاصداع بموقفهم من هذا الذي تعيش على وقعه فلسطين وخاصة قطاع غزة.

 

ريتا طه "روائية وممثلة ".. فراغ مفاجئ طغى على الحالة الثقافية الفلسطينية طوال عام

فيما يخص الشأن الثقافي الفلسطيني والذي أثيرت حوله نقاشات كثيرة، وتعريفات متشابكة ومتضادة في الوقت ذاته، فإن الوسط الثقافي الفلسطيني ينقسم على ذاته منذ بدء الحرب الحالية، وانبرت بعض الأقلام جاهدة لاستنهاض القوى الثقافية من أجل القيام بدور فاعل لتصدير الحالة الراهنة من منظور ثقافي عبر المنصات الثقافية على الامتداد الإقليمي. ومنها من ركزت في تشريح وتفسير الحيثيات والمسببات لهذه الحال؛وفي كلتا الحالتين لم يتمكن كلا الطرفين من مجاراة الوقت. وها نحن الآن بعد سنة من حرب إبادة لم يشهد العصر الحديث مثيلا لها، ما زلنا نبحث عن انتاجات ثقافية فاعلة يمكنها التأثير ولو بالحد الأدنى في الأوساط الثقافية أو في الأوساط العالمية. الإخفاق الذي وضع المثقف الفلسطيني في خانة الباحث عن دوره، وبالتالي الباحث عن هويته  ووضعه أيضا في خانة المتهم بالتنحي عن واجبه المنوط به. فما يقلقني بشكل خاص هو عدم القدرة بعد الآن على رصد الفكرة التي يمكن أن يبنى عليها مشروع فكري يتبنى صياغة لكل هذا الزخم من المعطيات والتصورات. وبناء سبل للتعاطي مع الحالة المعنوية التي يمر بها الشعب الفلسطيني، والأخذ بزمام المبادرة لإنتاج حلول وقتية قادرة على التطور والاستمرار، الأمر الذي لا ينفصل عن سؤال: ماذا يفعل الأدب الفلسطيني أمام المجازر ؟ الإجابة واضحة لمن يمعن النظر في الفراغ المفاجئ الذي طغى على الحالة الثقافية الفلسطينية. ليكتشف هذا العقم الأدبي طوال عام كامل ونيف من المجازر، مستدرجا جلبة من المناكفات والسجالات بين صفوف المثقفين إذ كل يلقي بمواقفه في وجه الآخر باتهام بالتقصير وعدم الفهم والعجز.وهذا يدفعنا لفهم دور اليوميات في توثيق الألم؛  في حال اتفقنا على أن الحالة الثقافية بشقها الأدبي تمتاز بالعجز عن المبادرة والتأثير، فلا بد من إنصاف بعض المحاولات حتى لو لم ترقَ لمستوى جذب الانتباه في خضم ما يعيشه الشعب الفلسطيني من أهوال متسارعة في التصاعد. ولربما كانت هناك بعض النصوص التي توثق الأحداث بشكل طارئ أو مرتجل قادرة في وقت ما على ترتيب الصور وصياغتها بشكل أدبي. وهذا ما يجعل لليوميات دورا مهما في توثيق التفاصيل التي تصور المعاناة والألم   لعجز النص عن مضاهاة بشاعة الواقع وسرعة المشاهد قد تهدد بتلاشي المشاهد المصورة من الذاكرة. أما الكلمة فهي قادرة على وصف الزوايا الخفية، وشرح التفاصيل الدقيقة لتضفي عليها ثباتا في ذهن القارئ الذي سوف يراها بعين خياله بشكل مختلف، وشعور متأني يترجمه على طريقته الخاصة. فالتوثيق بالكتابة هي ضرورة لحفظ الحالة العاطفية في أرشيف الذاكرة، واسترجاعها في الوقت المناسب، وإخضاعها لعملية انعاش لتتحدث عن نفسها من جديد، ما يقودني إلى قلق الاحتلال من الكتابة المقاومة؛ لدرجة تصل الى  اغتيال الأدباء كغسان كنفاني، لما شكله من خطر في استنهاض الشعب.  لقد قام الاحتلال بحربا ثقافية مضادة ممنهجة عبر وسائل التواصل الاجتماعي من شأنها عرقلة أهداف أي إنتاج أدبي مقاوم. وهذا استنتاج توصل إليه العديد من الأدباء الذين باتوا يرون في أدب المقاومة الفلسطينية تراثا لا جدوى منه، والتأكيد عليه نظرا لخصوصية المرحلة، وصعوبة المواجهة. وربما هناك من ينتظر أن تتضح الرؤية ليتمكن من صياغة سرديته الخاصة.

 

مالك الريماوي"كاتب وباحث"..الأدب مادة حياة تُرمًم ما دمرته الحرب

في الحرب، كل حرب، يطغى الموت ويسود الألم ويسود الإنسان الذي ينتصر للحياة ويوظف قدرته في خلق القيم النقيضة للحرب والظلم والدمار وتنبثق الكتابة كصرخة الحياة في وجه الموت، صرخة الحق في وجه الظلم، وصرخة الجمال في وجه القبح والدمار. بما أن الكتابة هي وظيفة الكاتب، والكاتب مواطن وإنسان، فإن الكتابة في زمن الحرب تصبح وثيقة لانتقام الحياة من الموت، ومرافعة الحقيقة والخيال ضد الظلم في محكمة الوجود.

الأدب الفلسطيني اليوم أمام مهمة كونية وإنسانية، وهي توثيق الإبادة البشرية. يجب عليه توثيق صوت الضحايا الفلسطينيين، توثيق صمتهم وموتهم وخراب حياتهم وكشف الوجه الآخر للوجود وجه الشر المطلق المتمثل في الاستعمار والحرب والعدوان. الأدب الفلسطيني في هذا السياق يصبح المتخيل الكوني في مواجهة الشر الاستعماري والصمت العالمي. في الحرب يصبح الأدب مادة حياة ترمم ما دمرته الحرب، وتخلد المأساة في صورة نافذة أو لوحة أمل تطل على المستقبل.

الحرب هي قلب جذري للمنطق العادي. في زمن الحرب، ليس كل كاتب مواطنًا فقط، بل هو أيضًا كاتب. فكل مواطن يشعر بألمه ويعبر عنه، لكنه يصبح كاتبًا عندما يملك القدرة على تحويل ذلك الألم إلى كتابة تواجه الحرب وتصبح وسيلة للنجاة. نجاة الإنسان الفلسطيني الحاضر ونجاة إنسانية فلسطيني المستقبل.

في الحرب الوجودية لشعبه، لا يمكن للكاتب أن يكون كاتبًا فقط، بل يجب أن يكون أيضًا محاربًا. الكاتب المحارب هو من يشن غارات وجودية على الحرب نفسها، غارات تخلق ممكنات النجاة والصمود، وتعيد صياغة معنى الوجود في مواجهة الفناء، لتعطي للأمل منصة ينطلق منها الخيال. ترمم جسد المعنى الممزق بسبب القنابل العنقودية.وتبقي على الحياة في متحف التاريخ للتطهير العرقي.

واليوميات تكتب "سيرة الدم"، وترسم لوحات المعاناة، وتكشف وجه الإنسان من تحت الركام. دور اليوميات هو توثيق ما لا يكشفه المؤرخون عادة، وترك مادة للأحفاد تحمل صوت آبائهم وأجدادهم الذين التحموا بالأرض، واحترقوا بقنابل الفوسفور الأمريكية والصهيونية حينما قرروا البقاء في وطنهم.

وأكثر ما يقلقني هو إبادة الوعي: أن تتمكن الإبادة عبر تحطيم الجسد من الوصول لإبادة الروح، وإبادة التاريخ والذاكرة…إبادة الكلام فيخيم على العالم الصمت، والخوف، فيموت الكلام ويموت الخيال ويفنى صوت الكائن البشري. ما يقلقني هو أن نصبح الهنود الحمر في قارة الصمت العربي والتواطؤ العالمي مع المحتل،                                           

والمحتل دائمًا قلق. كل فعل يقض مضجعه، وبما أن الكتابة فعل في الوجود والوعي، فهي تمتد في الحاضر والمستقبل. المحتل يراقبها باستمرار، وفي زمن الإبادة يراها سلاحًا لأنها وسيلة لرسم جغرافيا الوعي. الجغرافيا التي لا تصل إليها طائراته وصواريخه.

 

ثورة حوامدة " روائية ".. الكتابة تحت النار محرقة أخرى!

في ساحة الحرب لا يمكن للكتابة ان تكون رفاهية، ولا يمكن للكلمة أن تداوي جراح اليد المبتورة، أو أن تلقي على الوجع خدرا موضعيا. هكذا تجد النصوص نفسها محاصرة من ذات الرصاصة التي اغتالت لغة الشاعر قبل جسده، وافتكت الحياة من الروائي والفنان والمبدع في غزة. الرصاصة الموجهة باستمرار للحياة تجعل الكتابة تحت خط النار خطوة كاملة المعنى لتوثيق ما جرى ويجري، وما هو آت.

أيمر الوجع مثلما يمر الوقت هكذا سريعا؟ أيضع العالم الغائب فعلا وقولا -رغم متابعته للكارثة-في حسابه لموتنا أدوات لحساب كم لبثنا، سوى عدد الأرجل المبتورة والأجساد المتناثرة والوجوه المحترقة؟ وعدد الخطوات التي مشاها الناس في نزوحهم من أراضي الله الواسعة إلى الله ذاته.

الجحيم لا يُعَنوَن، الموت لا يُعَرّف، والفقد لا مرادف له سوى الفقد، أن تتنازل عن شيء ما لك أو منك، في كل مرة بطريقة أشد وأقسى، هل ينتزع الألم أحاسيسنا من بواطن الروح إذا ما تراكم الشعور ذاته وتعاظم في كل اخذٍ، هكذا هي الكتابة عن الحرب في الحرب، إِنصافٌ للحقِ وأَنصافٍ للصورة!

يقول جاك داريدا "لا شيء خارج النص"، وأنا أقول - من بين ارتدادات الموت المجاني لقناعة الجاني - أن لا شيء يُخرجه النص في هذه المقتلة! لا الأسماء التي حملها أصحابها ولا الأحلام التي حملتهم للمستقبل، حين نذكرها أنُشمل فيها حياتهم وسكونهم، ضحكاتهم وأحزانهم، تيههم وتماهيهم ؟ لا فعل الكتابة يكفي ولا يمكنه ان يحصي ما أرادوه وما صدقوه وما كذبوه حين نكتب عنهم. قصصهم التي دفنت معهم في رمال غزة ابتلعت كل ما يعجز النص على تقديمه، لذلك الحروف في ساعة الحرب ليست إلا وسيلة للتأكيد على صدقية الروح الحيّة وسط موات الكلام.

اعيش تبعات هذا العدوان على حدود الجسد قبل الجغرافيا،

تساءلت:

لمن أكتب؟  إذا كان للدم ما يقوله؟

لمن أكتب؟ والأطفال وجهنا الذي رافق المسافة بين الرصاصة والخيمة.

لمن اكتب؟ والعالم صندوق عجائب يصفق للقاتل ويحتفل على جثمان القتيل.

من سيقرأ حرقة الأم وهي تبحث عن شيء ما يؤكد لها النهاية الأبدية لفلذة كبدها، من سيقول للموت مهلا نحن أبناء الحياة، ويحاسب القاضي على احتمالية الأمل؟

ما يخنق العبرات في دواخلي ان يَسُوقَ/ يُسَوّقَ لنا العالم ثقافة الكارثة، ونورث للأجيال نحن أحفاد جيل النكبة الفلسطينية حِمْلَ المقتلة، لا أحلام الغد ولا مستقبل البلاد، أحفاد الدم وأبناء المقتلة لا شيء لهم سوى المزيد من الدم، هكذا يحب العالم الصورة.

ما يخيفني جدوى الكتابة/فعل الكتابة ذاتها، عام كامل من الصراخ في وجه العدالة، فوجدنا ان الطريق إلى الله أكثر سهولة من الطريق إلى خلقه.

ما يخيفني ان يكون الإبداع مقتصرا على مسرحة الموت لا لتوثيق الفجيعة، فكانت جثامين الضحايا تحمل على أكتاف المعنى قبل أكتاف المشيعين.

كل من شهد على الحرب وشهدت عليه له حق الكتابة عنها، هذا ليس ترفا، وإنما ابجدية الشراكة الطبيعية للحق في الحياة والكرامة والحرية.

 

عامر بدران "كاتب وشاعر".. الكاتب الواعي مطالب بالإبقاء على جذوة نضاله ونضال شعبه.

الأدب الفلسطيني الحقيقي يحاول ألا يكون ضحية إضافية، هذا ما يستطيع فعله في ظل هذا التوحش والقتل اليومي أمام عدسات الكاميرات. لقد حاول الأدب الفلسطيني عبر عقود طويلة أن يكون عدسة لالتقاط إجرام محتليه ومعاناة شعبه، لكنه في هذه الحرب، التي تقتل الشاعر مثلما تقتل المقاتل، يحاول أن يصمد على أقل تقدير.

نستطيع بالمجاز تسمية ما يجري حرباً، لكنه في الحقيقة عدوان سافر على شعب أعزل يطالب بحقوقه منذ مائة عام. لذا فالكاتب في ظل هذا العدوان، مواطن يتعرض كأهله وبقية شعبه للقتل والاعتقال والتهجير. يصبح الكاتب كاتباً حين يتعلق الأمر بمقاومة هذا العدوان، فمن هذه الزاوية هو يحمل قلماً بدل الحجر، وورقاً بدل البندقية. أقصد أنه كاتب حين يقوم، ومواطن أعزل حين يتعرض للقتل أو الاعتقال.

لعل الكلمة المفتاحية في هذا السؤال هي كلمة القومية. لذا فإنني أعتقد أن أهم دور للكاتب، الواعي تحديداً بقضية شعبه، هو أن يبقي على جذوة نضاله ونضال شعبه في هذه الحدود. لا يمكنني تخيل كاتب ينجر لتحويل قضيته من قضية قومية سياسية إلى قضية دينية تُدار بمصطلحات الحق والباطل، أو إلى قضية إنسانية تُدار بمساعدات الغذاء والدواء. على الكاتب تحديداً أن يمنع الانزلاق إلى مربعات بعيدة عن كون قضيته قضية قومية. هذا هو دوره في الحرب وغير الحرب.

قد أبدو متحاملاً إن قلت إن وظيفة اليوميات لدى كاتب يحمل قضية كقضية الشعب الفلسطيني، لا يجب أن تكون توثيقاً للألم. فهكذا توثيق ينتج قارئاً محباً للثأر أو قارئاً يائساً. الدور الحقيقي لليوميات في ظل العدوان أو الحرب أو النضال هو توثيق الصواب والخطأ. لا أقصد هنا الكتابة السياسية المجردة فحسب، بل حتى الكتابة الأدبية، والتي وإن وثقت الألم، عليها أن تشير إلى سببه ولو بالرمز.

بكل تأكيد، فكل كتابة وكل فن وكل إبداع، إنما يشير إلى جدارة صاحبه، ومعركتنا مع هذا العدو، في جانب كبير منها، هي معركة جدارة. هو يحاول أن ينزع عنا الأهلية، فما بالك حين يصطدم بشعب ينتج فناً أو رواية؟ ثم إن أحد أهم العناصر التي تجعل من مجموعة بشرية شعباً هي فنونه. أعني أننا بالفن والإبداع بكافة مستوياته، نصبح شعباً، والمحتل لا يريدنا كذلك.

أن ينزلق إلى الندب والعادية، هكذا باختصار شديد. المحاكاة المؤلمة في تاريخ أي شعب أو أية جماعة تولد إحساساً باللاجدوى وباليأس، وهذه بدورها تخلق بيئة يحاول فيها كل من تألم أن يدلي بقوله. من الجيد أن يقول الجميع روايتهم، لكن من الجيد أن لا نفقد المعايير، إن صح التعبير. رغم كل ما يعانيه الفلسطيني، إلا أنني لا أحب أن يؤخذ انتمائي هذا من ضمن معايير تقييمي كأديب، ولا أحب كذلك معاملة الشأن الثقافي لشعب مظلوم بدافع ولو قليل من الشفقة. هذه قضية كبيرة، وعلى أدبائها وفنانيها أن يحملوها لا أن تحملهم هي.

 

 فداء زياد"كاتبة".. الأدب أهم العناصر التي تشكل سردية حقيقية لفعل الوجود الفلسطيني

يواجه الفلسطينيون، بشكل عام، أشرس احتلال شهدته الأرض منذ بداية وجوده. فالكل الفلسطيني، بمستوياته وطبقاته الاجتماعية، يقاوم. والإجابة على تساؤل دور الأدب في مواجهة المجزرة هي ذاتها إجابة عن  سؤال جدوى الخلق. فالمعركة في أصلها ووجودها نابعة من الاحتلال، الذي يعتمد في سياسته لتشكيل هويته في المنطقة على السرقة: سرقة الأرض، وتجريد السكان من حقوقهم، وحرمانهم من حق وجودهم وممارسة فعل الوجود على أرضهم.

والأدب الفلسطيني ضمن هويته التي حصرت بها يفرض عليه أهم رسالة في مواجهة ذلك وهي "حماية الرواية" "حماية الحكاية". تقتل اسرائيل منذ العام بوحشية الوجود الغزي على الأرض بالتهجير والتجويع والتشريد بهدف واحد هو القضاء على فعل المقاومة باعتبار مبرر الهدف أنه فعل يهدد أمنها وتنفي عن الفلسطيني الغزي مدنيته وتقدمه للعالم مسلحاً بسلاح يقتلها. تنفي عن الغزي فعل مقاومته لحصاره وتقدمه للعالم عبر اسطواناته أنه مجموعة من الحيوانات البشرية ويجب القضاء عليه. الأدب هواحد وأهم العناصر التي تشكل سردية حقيقية لفعل الوجود الفلسطيني باعتبار الفن دليل مادي حقيقي لفعل الحضارة لا الهمجية التي تروجها إسرائيل، وفعل الأدب أثناء المجزرة من الغزي ذاته أولاً وأبداً هي فعل التوثيق وحفظ حكاية المظلومية الفلسطينية في مواجهة الاحتلال وهي مساهمته في تشكيل الوعي العربي والعالمي كأثر وكنتاج للعملية التاريخية. ولذلك فالانخراط في واقع ومسؤولية الكتابة من خلال الكاتب هو إنتماء للهوية باعتباره الفلسطيني الذي يقتل ولا يمكن عزل  هويته ومواطنته عن دوره ككاتب أو كفاعل ثقافي في الحياة. قتلت إسرائيل غسان كنفاني لكن لم تقتل "صفية" وغيرها من النماذج التي وثقها الأدب. اغتالت ناجي العلي وبقي حنظلة رمزاً فنياً يقدم دلالة وشاهد على فعل سرقة كل شيء من الفلسطيني. وقتلت في غزة حتى كتابة هذا ما يقارب 50 ألف غزي على اعتبار الهوية ومع اختلاف أدوارهم في الحياة معلمين، مثقفين، طلاب، أكاديميين، عمال.  شهدنا على قتلهم للإنسان الفلسطيني وتزيد شراسته في محاربة الصوت الفاعل كقتل الأكاديمي والمترجم د. رفعت العرعير. الذي رفع شعار حماية الحكاية منذ بداية الإبادة. وقتلت من حاول حماية شمال غزة من المجاعة المهندس الزراعي "يوسف أبو ربيع" هذه الأسماء وثقتها الجهات الرسمية لكن أثر فعلها كيف يبقى هو دور الأدب في تشكيل نماذج تعيش أيضاً. فالأدب فعل توثيق الحدث لا الأشخاص. وهنا اقتبس من قصة "موت سرير رقم12" لغسان كنفاني: " أريد أن أتكلم عن الموت، عن موت يحدث أمامك، لا عن موت تسمع عنه، إن الفرق بين هذين الطرازين من الموت، فرق شاسع لا يستطيع أن يدركه إلا من يشاهد إنساناً ينكمش بغطاء سريره بكل ما في أصابعه الراجفة من قوة، كي يقاوم انزلاقاً رهيباً إلى الفناء. إذا خرجت من حالة العمومية إلى حالة الخصوصية التي تمثلني كغزية فلسطينية تعيش حرب إبادة منذ عام فقدت فيها من فقدت من أصدقاء وأصحاب وعائلة، وما فقدت من بيوت ومعالم للمدينة وتجربة نزوح فإن في هذا لا ينفصل عن دور فعل الكتابة بأصله إنسانياً نحن بحاجة لدليل مادي حقيقي لفعل الفن وأنه شكل من أشكال الإسعاف النفسي في مواجهة هذا الموت. الكتابة فعل التواصل مع الجميع إلى جانب كاميرات الإعلام والاحتلال يحارب فعل التواصل هذا من خلال قطعه إذ يشكل صوت المظلوم هاجساً حقيقياً في اثبات اجرامها وايغالها في الدم الفلسطيني أكثر. هي قطعت شبكات الاتصال مراراً وواصلت قصف البيوت ومنعت وصول الإسعاف بقطع الطرق عليه  ليظل الفن عموماً والكتابة خصوصاً هي جزء من الأمل المعلق بالنجاة على ضعفها وربما تكون معضلة الأمل أنه يلون المأساة ويقدمها في قالب فني في ظل قتل كل وسائل التواصل مع العالم ليبقى فعل الكتابة الشاهد المشاهد الموثق الفاعل الواصل بالصوت لإحداث الصوت بتوثيق المجرزة الحادثة والمستمرة. هل من أحد ينكر أثر "مديح الظل العالي" في توثيق حدث حصار بيروت وهذا ما تفعله الكتابة توثيق الحدث الحادث والمستمر كي لا يقتل الفلسطيني بلا حكاية تدلل على مظلوميته. فالمحتل لا  حيلة له إلا الاستمرار بسرقة الأرواح والوجود كي ينفي شعور اللفظ والرفض الذي يتنامى بداخله كفرد ووجود بلا أرض ولا هوية في مواجهة رواية الجمع الفلسطيني مالك الأرض والهوية.

 

خليل ناصيف "كاتب".. مزعج جدا .. ظهور أصوات تركب موجة الحرب وتتاجر بمعاناة الناس

حجم الحرب الحالية على غزة باغت الأدباء الفلسطينيين ، وأظننا عشنا اسابيعها الأولى في حالة من الحزن والشلل ، لاحقا أخذ قسم من الكتاب يكتب عنها ما يشبه اليوميات سواء كوصف للاحداث أو كتابة شعوره نحوها ، وقسم من الكتاب التزم الصمت حتى الان والبعض منهم قام بكتابة رواية أو ديوان شعر ، رأيي الشخصي أن دور الادب خلال الحرب بشكل عام هامشي وأن الوضع الحالي يتطلب من الكاتب التوثيق مع وقفة للتفكير بكل ما أوصلنا الى اللحظة الراهنة ، أما كتابة روايات وقصص عن حرب غزة فأهل غزة وهم شهود المجزرة أولى الناس بالكتابة عنها والأفضل أن يحدث ذلك بعد الحرب لا خلالها ، الحرب لم تنته بعد والكتابة حاليا عنها فيها الكثير من التسرع .

والكاتب والفنان بشكل عام في الحروب أشبه ما يكون بخياط بدلات سهرة في عالم يعج بدكاكين الملابس الجاهزة ، باختصار بضاعة الادب راكدة في الحروب ، في الحرب الكاتب ليس مواطنا عاديا بل هو واحد من بين أكثر الناس تضررا من الحرب ، يكفيه مقولات من مثل :

" الناس تموت وأنت مشغول بتجارة الكلمات " .

والحقيقة أن الكاتب العربي ليس مؤثرا بشكل ملموس وذلك بسبب انخفاض سقف الحريات في العالم العربي وعزوف الناس عن القراءة بشكل عام والكاتب الفلسطيني ليس استثناءً ، لا يجب ان نتوقع من الكاتب القيام بمهام وزير الدفاع او وزير التربية والتعليم ، كل ما هو مطلوب من الكاتب في الحروب القومية هو ان يقوم بالتوثيق وايصال صوت الناس والانحياز للحق ، فان عجز عن كل ذلك فعلى الأقل ليبتعد عن المتاجرة بالمعاناة وعن تثبيط الروح المعنوية للناس . في الواقع اذا لم يكن للكتابة دور مؤثر في حالة السلم فغالبا لن يكون لها اثر في حالة الحرب .

الفنون عند الشعب المحتل هي وثيقة تسجل بأن هذا الشعب حي وموجود وفعال في محيطه الإنساني وانه ليس مجرد مجموعة افراد متوحشين . هذا دورها ولذلك يجب اتقانها وتقديمها بأفضل صورة وتجنب الاتكاء على عدالة القضية لتقديم الفن الضعيف او النص الضعيف فهذا لن يخدم سوى العدو. وأكثر ما يقلقني في الشأن الثقافي في هذا الجحيم  هو ظهور أصوات تركب موجة الحرب وتتاجر بمعاناة الناس مقابل المال والنجومية ، وصدور أعمال  رديئة فنيا لا تعكس حقيقة ما يجري في غزة أو تتجاهل أصوات على حساب أصوات أخرى .

  Conception & Réalisation  Alpha Studios Copyright © 2023  assabahnews