إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

الحروب الصليبية وتأثيراتها على العلاقات بين الشرق والغرب

 

 

 

 

 

 

بقلم د. الصحراوي قمعون

صحفي باحث في علوم الاعلام والصحافة

هل يمكن اعتبار الحروب الصليبية التي شنها الغرب المسيحي على الشرق الإسلامي خلال القرون الماضية وآخرها الحروب الاستعمارية ،عنصر عداء أو تلاقحا ، قادرة على التجاوز وبناء علاقات ثقة وتعاون متكافئين وسياديين بين ضفتي المتوسط الشمالية المسيحية والجنوبية الإسلامية.

فالعالم العربي الإسلامي لازال يعيش حالة من التوتر الحضاري والتوجس والعداء مع العالم الأوروبي المسيحي،المساند دوما لاحتلال فلسطين من الصهيونية إلى اليوم . وهي حالة مستمرة من التوتر تتجدد اليوم كل مرة في الحملات الانتخابية في أوروبا وفي النقاشات الفكرية المتشنجة حول الهوية ،ومايردده البعض في الثقافة الأوروبية الشعبوية من مخاطر الجاليات الإسلامية المتزايدة ديمغرافيا وفكريا واقتصاديا وسياسيا في أوروبا علي طبيعتها المسيحية. وهي تخوفات تجد صداها في كتابات كثير من المثقفين المنتمين إلى اليمين المتطرف العنصري مثل الروائي ميشال هولباك، الذي نبه إلى مخاطر مسخ الهوية المسيحية في إحدى رواياته التي تخيل فيها صعود رئيس مسلم على رأس فرنسا بواسطة صندوق الاقتراع، إلى جانب الأطروحات المشابهة للفيلسوف الفرنسي ميشال أونفري، القريبة من اليمين المتطرف.

 وبعيدا عن هذه القراءات قصيرة النظر يرد المؤرخون بمنهجية التحليل المنطقي الخلدوني أن مسارات الحضارات اتبعت نفس النهج الإيجابي في التلاقح بين الكتلتين الإسلامية والمسيحية خلال القرون الأخيرة عبر تلك الحروب الدينية التي خلقت ديناميكية الصعود والأفول للحضارات التي بسطها ابن خلدون في كتابه "المقدمة".

صدمة الحداثة لدى الغرب

    فمثلما كانت حملة نابليون على مصر عام 1798 صدمة الحداثة بالنسبة للمسلمين الذين اكتشفوا مدى تخلفهم، كانت الحروب الصليبية منذ القرن الثاني عشر، أي خمسة قرون قبل ذلك ، صدمة للغرب المسيحي الذي اكتشف مدى تخلفه أمام تقدم الشرق الاسلامي، فنهض إلى إصلاح أوضاعه ودخل في حركية إصلاحية تجسمت مع حركة النهضة فيها مع القرن الخامس عشر والتي بدأت بالتعرف على أفكار الفلسفة الانسانية وتغليب العلوم على جانب الخرافة التي كانت مسيطرة علي أوروبا طوال القرون الوسطى المظلمة فيها.

في تلك الحروب الصليبية "المقدسة" ، صدم الصليبيون بمدى التقدم العلمي في الممالك الإسلامية التي كانت مجتمعات حضرية متطورة قائمة على الصناعة والفلاحة والتجارة، وفيها الصناعة متطورة في مجال صناعة الذهب والفضة وصناعات الحديد والأسلحة والجلود والصابون والسجاد، مما جعل الإيطاليين ينقلون تلك الصناعات المتطورة إلى مدنهم ومنها إلى عموم أوروبا الإقطاعية وقتها، التي كانت تتعرض إلى مجاعات دورية بسبب بدائية الأدوات المستعملة في الصناعة والفلاحة وعدم سيطرتها على طرق التجارة الإقليمية والعالمية ، التي سيحاول الصليبيون بداية من القرن الخامس عشر السيطرة عليها عبر خط تجارة البحر الأحمر وتجارة المحيط الهندي بعد اكتشاف أمريكا وطريق الهند الجديد .

  وقد شن الغرب المسيحي حروبا صليبية وصلت إلى خمس حملات متتالية في الزمان والمكان وهدفت إلى افتكاك حكم المنطقة المتوسطية والعالم عموما. وقد انطلقت تلك الحملات مبكرا من خلال نداء من البابا أورْبانْ الثاني عام 1095 في مدينة كليرمونفيران،جنوب فرنسا والذي دعا فيه إلى ما اسماه "إنقاذ الصليب من سيطرة الهلال" وشنّ حرب مقدسة لاسترجاع القدس ومهد ميلاد المسيح. وفي تلك الحروب تحالفت الممالك المسيحية في أوروبا من أجل طرد المسلمين من أوروبا والأندلس. ثم تحالفت تلك القوى المسيحية، المدعومة من البابا، لغزو المسلمين في عقر دارهم عبر الحملة الصليبية الثالثة التي قادها الامبراطور الالماني فريديريك باربوروسا، وملك انجلترا ريتشارد الأول الملقب"بقلب الأسد" وملك فرنسا فيليب أوغيست. وفشلت تلك الحملة لنزاعات كبيرة شخصية ودينية بين الثالوث المقدس. وقد استرجع القائد صلاح الدين الأيوبي مدينة القدس ثالث الحرمين الشريفين، من الصليبيين وذلك بقوة السلاح أو بقوة الحكمة والتفاوض مع الغزاة عبر اتفاقيات سلمية حتى إنهاء الوجود الصليبي من الأرض العربية عام 1291 . وكانت الدولة الايوبية التي أقامها صلاح الدين، تواصلت ثلاثة قرون وكانت دولة ذات طابع عسكري تُجنّد كل امكانيات الدولة لمحاربة الصليبيين وإخراجهم من المنطقة التي أرادوا غزوها تحت ذرائع دينية تاريخية واهية . وكان هذا المبرر الجهادي هو عقيدة الدولة الايوبية ودورها التاريخي في الصمود أمام جحافل الغزاة من الصليب الهجومي.

    وفي نظر المؤرخين، فقد أعاقت تلك الحملات الصليبية المكثفة مسيرة العالم الاسلامي الذي ظل خلالها في حالة استنفار عسكري ودفاع شرعي عن وجوده بعد أن كان منغمسا لقرون ماضية في ملحمة البحث العلمي وتطوير العلوم والمعرفة والفلسفة والمساهمة بذلك في تقدم الفكر البشري منذ اليونان. وقد توقف الإبداع العلمي والثقافي الاسلامي بسبب تلك الحملات الصليبية القادمة من الغرب التي تزامنت مع هجوم التتار والمغول من الشرق الأسيوي مما جعل الأمة الاسلامية في حالة دفاع شرعي عن وجودها أصلا، بعد أن اجتمعت عليها الخطوب والهجومات من الشرق الاسيوي والغرب الأوروبي.

المطبعة وصدمة الحداثة لدى العرب

كانت حملة الجنرال الفرنسي نابليون بونابارت على مصر عام 1799 أول مواجهة بين الشرق المسلم والغرب المسيحي منذ نهاية الحروب الصليبية وطرد الصليبيين من المشرق واسترجاع فلسطين وبيت المقدس على يد صلاح الدين الايوبي.

واستهدفت تلك الحملة احتلال مصر وبلاد الشام لقطع الطريق أمام بريطانيا التي تسيطر على طريق الهند للتجارة العالمية. وقد انتهت تلك الحملة بسرعة،إذ هزم جيش بونابارت الذي عاد إلى فرنسا لوقوع اضطرابات على السلطة هناك وتسلم سلطة الامبراطور بعد الانقلاب الحاصل في البلاد إيذانا بوضع حد لبقايا الثورة الفرنسية لعام 1789.

  لكن تلك الحملة على مصر اكتست طابعا علميا، لأنها تضمنت مجموعة من العلماء حملهم معه نابليون، وهم مهندسون ومعماريون ورسامون وأطباء ومستشرقون إلى جانب آلة طباعة تدخل مصر والعالم العربي الإسلامي لأول مرة . وكانت تلك المطبعة تطبع جريدة بالفرنسية عنوانها " لو كورييه دِيجِيبْتْ" (بريد مصر) كانت موجهة للجنود والمدنيين المصاحبين للحملة التي تضمنت مائة وستين من المدنيين العلماء. وكانت جريدة مخصصة لنشرأخبار الحملة ورفع معنويات الجنود في مواجهة الحملة التي تشنها بريطانيا ضدهم في تحالفها مع نظام المماليك القائم في القاهرة بدعم من الامبراطورية العثمانية. وكانت تلك الصحيفة تنشر أخبارا وتحقيقات وأوامر امبراطورية وتطبع من طرف صاحب المطبعة مارك أورال، وهو صديق بونابارت الذي كان يعطي للدعاية بالصحافة أهمية بالغة. وقد أنشا للغرض عام 1799 "معهد مصر" لنشر الثقافة والعلوم الفرنسية. وقد ساهم لاحقا في نشر اللغة الفرنسية التي ظلت لغة الأرستقراطية القريبة من بلاط الحكم بمصر .

   كما بدأت تلك المطبعة في استعمال الحروف الفارسية والعربية وقامت بطباعة الكتب ونشر المعرفة، مما شكل صدمة الحداثة للعرب الذين استفاقوا على مدى ما هم فيه من جمود وتأخر علمي وفكري.

وتفيد المصادر التاريخية أن تلك المطبعة كانت موجودة في المركب الذي كان يقيم فيه نابليون نفسه مع أركان جيشه، تأكيدا لأهميتها الاستراتيجية في التأثير على الأهالي وللدعاية لحملته في أي وقت يشاء. وكان يطبع فيها الأمر اليومي للجنود والبيان الموجه للشعب المصري لمساندته على "طرد المماليك والإنجليز المتحالفين معهم"، كما كان يردد في بياناته الدعائية المطبوعة على جناح السرعة من طرف الإمبراطور نابليون بونابارت المهووس حد المرضية بالعظمة الامبراطورية التي جعلته يشن حروبا على كل دول أوروبا وروسيا حتى انهزامه عند أسوار موسكو، مثله في ذلك مثل من لحقه في تلك الهلوسة الإمبراطورية للرايشتاغ، زميله الاوروبي المريض بنفس العظمة وهو الالماني ادولف هتلر الذي لقي نفس المصير.

 وكان بونابارت يعتبر المطبعة مثل قطعة سلاح او مدفع يقصف به الأعداء. وكان حريصا على أن لا تقع المطبعة بين يدي الأعداء من المسلمين المحرومين من المطبعة لمدة اكثر من قرنين بقرار من السلطان العثماني بدعوى " الخوف من تحريف كلام القرآن عند الطباعة الألية" ، كما كان يردد رجال الدين المتزمتون حول السلطان، مما جعل العالم العربي الإسلامي يبقي معزولا فكريا عن المعرفة الإنسانية ويحكم عليه بمزيد من الانحطاط والانغلاق ، لازال يقاسي منهما إلى اليوم ويسعى جاهدا للخروج من المهانة والتخلف..

 

 

 

 

 

 

  الحروب الصليبية وتأثيراتها على العلاقات بين الشرق والغرب

 

 

 

 

 

 

بقلم د. الصحراوي قمعون

صحفي باحث في علوم الاعلام والصحافة

هل يمكن اعتبار الحروب الصليبية التي شنها الغرب المسيحي على الشرق الإسلامي خلال القرون الماضية وآخرها الحروب الاستعمارية ،عنصر عداء أو تلاقحا ، قادرة على التجاوز وبناء علاقات ثقة وتعاون متكافئين وسياديين بين ضفتي المتوسط الشمالية المسيحية والجنوبية الإسلامية.

فالعالم العربي الإسلامي لازال يعيش حالة من التوتر الحضاري والتوجس والعداء مع العالم الأوروبي المسيحي،المساند دوما لاحتلال فلسطين من الصهيونية إلى اليوم . وهي حالة مستمرة من التوتر تتجدد اليوم كل مرة في الحملات الانتخابية في أوروبا وفي النقاشات الفكرية المتشنجة حول الهوية ،ومايردده البعض في الثقافة الأوروبية الشعبوية من مخاطر الجاليات الإسلامية المتزايدة ديمغرافيا وفكريا واقتصاديا وسياسيا في أوروبا علي طبيعتها المسيحية. وهي تخوفات تجد صداها في كتابات كثير من المثقفين المنتمين إلى اليمين المتطرف العنصري مثل الروائي ميشال هولباك، الذي نبه إلى مخاطر مسخ الهوية المسيحية في إحدى رواياته التي تخيل فيها صعود رئيس مسلم على رأس فرنسا بواسطة صندوق الاقتراع، إلى جانب الأطروحات المشابهة للفيلسوف الفرنسي ميشال أونفري، القريبة من اليمين المتطرف.

 وبعيدا عن هذه القراءات قصيرة النظر يرد المؤرخون بمنهجية التحليل المنطقي الخلدوني أن مسارات الحضارات اتبعت نفس النهج الإيجابي في التلاقح بين الكتلتين الإسلامية والمسيحية خلال القرون الأخيرة عبر تلك الحروب الدينية التي خلقت ديناميكية الصعود والأفول للحضارات التي بسطها ابن خلدون في كتابه "المقدمة".

صدمة الحداثة لدى الغرب

    فمثلما كانت حملة نابليون على مصر عام 1798 صدمة الحداثة بالنسبة للمسلمين الذين اكتشفوا مدى تخلفهم، كانت الحروب الصليبية منذ القرن الثاني عشر، أي خمسة قرون قبل ذلك ، صدمة للغرب المسيحي الذي اكتشف مدى تخلفه أمام تقدم الشرق الاسلامي، فنهض إلى إصلاح أوضاعه ودخل في حركية إصلاحية تجسمت مع حركة النهضة فيها مع القرن الخامس عشر والتي بدأت بالتعرف على أفكار الفلسفة الانسانية وتغليب العلوم على جانب الخرافة التي كانت مسيطرة علي أوروبا طوال القرون الوسطى المظلمة فيها.

في تلك الحروب الصليبية "المقدسة" ، صدم الصليبيون بمدى التقدم العلمي في الممالك الإسلامية التي كانت مجتمعات حضرية متطورة قائمة على الصناعة والفلاحة والتجارة، وفيها الصناعة متطورة في مجال صناعة الذهب والفضة وصناعات الحديد والأسلحة والجلود والصابون والسجاد، مما جعل الإيطاليين ينقلون تلك الصناعات المتطورة إلى مدنهم ومنها إلى عموم أوروبا الإقطاعية وقتها، التي كانت تتعرض إلى مجاعات دورية بسبب بدائية الأدوات المستعملة في الصناعة والفلاحة وعدم سيطرتها على طرق التجارة الإقليمية والعالمية ، التي سيحاول الصليبيون بداية من القرن الخامس عشر السيطرة عليها عبر خط تجارة البحر الأحمر وتجارة المحيط الهندي بعد اكتشاف أمريكا وطريق الهند الجديد .

  وقد شن الغرب المسيحي حروبا صليبية وصلت إلى خمس حملات متتالية في الزمان والمكان وهدفت إلى افتكاك حكم المنطقة المتوسطية والعالم عموما. وقد انطلقت تلك الحملات مبكرا من خلال نداء من البابا أورْبانْ الثاني عام 1095 في مدينة كليرمونفيران،جنوب فرنسا والذي دعا فيه إلى ما اسماه "إنقاذ الصليب من سيطرة الهلال" وشنّ حرب مقدسة لاسترجاع القدس ومهد ميلاد المسيح. وفي تلك الحروب تحالفت الممالك المسيحية في أوروبا من أجل طرد المسلمين من أوروبا والأندلس. ثم تحالفت تلك القوى المسيحية، المدعومة من البابا، لغزو المسلمين في عقر دارهم عبر الحملة الصليبية الثالثة التي قادها الامبراطور الالماني فريديريك باربوروسا، وملك انجلترا ريتشارد الأول الملقب"بقلب الأسد" وملك فرنسا فيليب أوغيست. وفشلت تلك الحملة لنزاعات كبيرة شخصية ودينية بين الثالوث المقدس. وقد استرجع القائد صلاح الدين الأيوبي مدينة القدس ثالث الحرمين الشريفين، من الصليبيين وذلك بقوة السلاح أو بقوة الحكمة والتفاوض مع الغزاة عبر اتفاقيات سلمية حتى إنهاء الوجود الصليبي من الأرض العربية عام 1291 . وكانت الدولة الايوبية التي أقامها صلاح الدين، تواصلت ثلاثة قرون وكانت دولة ذات طابع عسكري تُجنّد كل امكانيات الدولة لمحاربة الصليبيين وإخراجهم من المنطقة التي أرادوا غزوها تحت ذرائع دينية تاريخية واهية . وكان هذا المبرر الجهادي هو عقيدة الدولة الايوبية ودورها التاريخي في الصمود أمام جحافل الغزاة من الصليب الهجومي.

    وفي نظر المؤرخين، فقد أعاقت تلك الحملات الصليبية المكثفة مسيرة العالم الاسلامي الذي ظل خلالها في حالة استنفار عسكري ودفاع شرعي عن وجوده بعد أن كان منغمسا لقرون ماضية في ملحمة البحث العلمي وتطوير العلوم والمعرفة والفلسفة والمساهمة بذلك في تقدم الفكر البشري منذ اليونان. وقد توقف الإبداع العلمي والثقافي الاسلامي بسبب تلك الحملات الصليبية القادمة من الغرب التي تزامنت مع هجوم التتار والمغول من الشرق الأسيوي مما جعل الأمة الاسلامية في حالة دفاع شرعي عن وجودها أصلا، بعد أن اجتمعت عليها الخطوب والهجومات من الشرق الاسيوي والغرب الأوروبي.

المطبعة وصدمة الحداثة لدى العرب

كانت حملة الجنرال الفرنسي نابليون بونابارت على مصر عام 1799 أول مواجهة بين الشرق المسلم والغرب المسيحي منذ نهاية الحروب الصليبية وطرد الصليبيين من المشرق واسترجاع فلسطين وبيت المقدس على يد صلاح الدين الايوبي.

واستهدفت تلك الحملة احتلال مصر وبلاد الشام لقطع الطريق أمام بريطانيا التي تسيطر على طريق الهند للتجارة العالمية. وقد انتهت تلك الحملة بسرعة،إذ هزم جيش بونابارت الذي عاد إلى فرنسا لوقوع اضطرابات على السلطة هناك وتسلم سلطة الامبراطور بعد الانقلاب الحاصل في البلاد إيذانا بوضع حد لبقايا الثورة الفرنسية لعام 1789.

  لكن تلك الحملة على مصر اكتست طابعا علميا، لأنها تضمنت مجموعة من العلماء حملهم معه نابليون، وهم مهندسون ومعماريون ورسامون وأطباء ومستشرقون إلى جانب آلة طباعة تدخل مصر والعالم العربي الإسلامي لأول مرة . وكانت تلك المطبعة تطبع جريدة بالفرنسية عنوانها " لو كورييه دِيجِيبْتْ" (بريد مصر) كانت موجهة للجنود والمدنيين المصاحبين للحملة التي تضمنت مائة وستين من المدنيين العلماء. وكانت جريدة مخصصة لنشرأخبار الحملة ورفع معنويات الجنود في مواجهة الحملة التي تشنها بريطانيا ضدهم في تحالفها مع نظام المماليك القائم في القاهرة بدعم من الامبراطورية العثمانية. وكانت تلك الصحيفة تنشر أخبارا وتحقيقات وأوامر امبراطورية وتطبع من طرف صاحب المطبعة مارك أورال، وهو صديق بونابارت الذي كان يعطي للدعاية بالصحافة أهمية بالغة. وقد أنشا للغرض عام 1799 "معهد مصر" لنشر الثقافة والعلوم الفرنسية. وقد ساهم لاحقا في نشر اللغة الفرنسية التي ظلت لغة الأرستقراطية القريبة من بلاط الحكم بمصر .

   كما بدأت تلك المطبعة في استعمال الحروف الفارسية والعربية وقامت بطباعة الكتب ونشر المعرفة، مما شكل صدمة الحداثة للعرب الذين استفاقوا على مدى ما هم فيه من جمود وتأخر علمي وفكري.

وتفيد المصادر التاريخية أن تلك المطبعة كانت موجودة في المركب الذي كان يقيم فيه نابليون نفسه مع أركان جيشه، تأكيدا لأهميتها الاستراتيجية في التأثير على الأهالي وللدعاية لحملته في أي وقت يشاء. وكان يطبع فيها الأمر اليومي للجنود والبيان الموجه للشعب المصري لمساندته على "طرد المماليك والإنجليز المتحالفين معهم"، كما كان يردد في بياناته الدعائية المطبوعة على جناح السرعة من طرف الإمبراطور نابليون بونابارت المهووس حد المرضية بالعظمة الامبراطورية التي جعلته يشن حروبا على كل دول أوروبا وروسيا حتى انهزامه عند أسوار موسكو، مثله في ذلك مثل من لحقه في تلك الهلوسة الإمبراطورية للرايشتاغ، زميله الاوروبي المريض بنفس العظمة وهو الالماني ادولف هتلر الذي لقي نفس المصير.

 وكان بونابارت يعتبر المطبعة مثل قطعة سلاح او مدفع يقصف به الأعداء. وكان حريصا على أن لا تقع المطبعة بين يدي الأعداء من المسلمين المحرومين من المطبعة لمدة اكثر من قرنين بقرار من السلطان العثماني بدعوى " الخوف من تحريف كلام القرآن عند الطباعة الألية" ، كما كان يردد رجال الدين المتزمتون حول السلطان، مما جعل العالم العربي الإسلامي يبقي معزولا فكريا عن المعرفة الإنسانية ويحكم عليه بمزيد من الانحطاط والانغلاق ، لازال يقاسي منهما إلى اليوم ويسعى جاهدا للخروج من المهانة والتخلف..