لم يكن المشهد السياسي والخارطة الحزبية في تونس في عام 2021 مختلفا عما كان عليه الوضع في السنوات السابقة، بل مثل في شكله وأبعاده ومستجداته إفرازا وامتدادا لما كان عليه الوضع خلال العشرية التي سبقته وما شهدته من صراعات وتشتت وتشرذم وانقسامات وتحالفات وتوافقات وائتلافات ومهادنات وغيرها من المفاهيم التي تختزل في تفاصيلها وأبعادها حقيقة الوضع السياسي والحزبي على حد السواء قبل وبعد 25 جويلية اللحظة المفصلية في تاريخ تونس السياسي. فبعد الانقسامات والتشرذم تدخل جل مكونات المشهد الحزبي اليوم "المنطقة الرمادية" كنتيجة حتمية لتفعيل الفصل 80 من الدستور وما ترتب عنه من إجراءات رئاسية ما بعد 25 جويلية القاضي بتجميد البرلمان وتجميع كل السلطات في قصر قرطاج في هذه الفترة الاستثنائية، ليصبح وضعها اليوم أشبه بحالة "الموت السريري".
ويذكر أن حاليا هناك 236 حزبا متحصلا على ترخيص والرقم في انتظار الارتفاع إذا ما تمت الموافقة على مطالب أخرى مقدمة في الغرض لاسيما أن الخارطة الحزبية مرشحة اليوم للتوسع والتغيير والتوالد تماشيا مع المتغيرات والمستجدات التي فرضتها الإجراءات الرئاسية التي تم اتخاذها خلال هذه المرحلة الاستثنائية. ولكن كيف سيكون الأمر بالنسبة لهذه الأحزاب والتيارات والحركات السياسية إذا ما رجحت كفة الاستفتاء المنتظر القيام به حول النظام الانتخابي المقرر العمل به في الانتخابات السابقة لأوانها في 17 ديسمبر القادم، ليكون الخيار على النظام القاعدي المتمثل في الانتخاب على الأفراد وليس على القائمات؟
فولادة ودخول العام الذي يشارف على النهاية، لم تكن يسيرة نظرا لما رافقها من أزمات اقتصادية ومالية واجتماعية وسياسية بسبب مخلفات أزمة جائحة "كوفيد 19" وضغوط المانحين الدوليين مقابل احتدام للصراع القائم بين رؤوس السلطة التنفيذية والتشريعية ممثلة في قيس سعيد في قصر قرطاج وهشام مشيشي في القصبة وراشد الغنوشي في باردو وانسداد كل آفاق التواصل والتفاهم بينهم. وذلك بدعم وتزكية ومشاهدة من مكونات المشهد السياسي سواء تعلق الأمر بالأحزاب المكونة للبرلمان أو الشريكة والداعمة للمنظومة الحاكمة أو الجهات السياسية التي لفضتها صناديق انتخابات 2019، في الوقت الذي اشتدت فيه وتيرة الحراك والاحتجاجات الاجتماعية مقابل تعدد الانتهاكات وعمليات القمع الأمنية للمتظاهرين. وازداد الأمر تعقيدا بعد أن رفض رئيس الجمهورية قيس سعيد التحوير الوزاري لـ11 حقيبة وزارية الذي قام به رئيس الحكومة المُقَال هشام مشيشي وما خلفه من جدل واصطفاف حزبي ساهم في تعميق الأزمة وتأزيم المشهد السياسي.
ورغم تدخل الاتحاد العام التونسي للشغل وتقديمه لمبادرة لتقريب وجهات النظر والدفع لحلحلة الأزمة السياسية بين الجهات المتنازعة، إلا أن بقية مكونات المشهد السياسي ظلت عاجزة عن تقديم الحلول أو عن إثناء حركة النهضة وعملائها على مضيهم في تعفن المشهد والوضع السياسيين على حد السواء بالضلوع في خلق شقوق بين السلط وانتهاج سياسية "كسر العظام" والتداخل في المهام والتمرد على سعيد. وتحول الصراع على الصلاحيات إلى حقيقة معلنة لم تعد خافية على أحد. فيما حافظت النخب السياسية في مجملها على دورها السلبي بعضها اكتفى بالفرجة وبعضها الآخر حاول أن يجد له موطأ قدم في المشهد في خضم تصاعد حدة الصراع والانقسامات.
"سقطات" وتداعيات
فمند بداية العام الجاري عرف الحقل السياسي مستجدات وأطوارا ساهمت في ترذيل وتعفن المشهد على نحو عمق الهوة بين المواطن والسياسي وهو ما جعل نسبة كبيرة من المواطنين يخرجون في ذكرى إحياء عيد الجمهورية في حركات احتجاجية في كامل جهات الجمهورية للتعبير عن رفضهم لمكونات المشهد السياسي في تونس لاسيما أمام عجز المنظومة على تسيير دواليب الدولة مقابل إصرارها على انتهاج سياسية الهروب إلى الأمام ومواصلة الصراع والتنازع على السلطة والصلاحيات دون مبالاة بالوضع الصحي المتأزم بعد تفشي فيروس وكورونا وحصده لأرواح أكثر من 24 ألف مواطن وصيحات الفزع التي أطلقتها الإطارات الصحية والطبية ومشاهد الموتى والمرضى في الممرات ودون أسرة بعد عجز طاقة الاستيعاب بالمستشفيات وأزمتي الأوكسجين واللقاح فضلا عن غلاء المعيشة وتفشي الفساد وكلها ظواهر سلبية حمل المواطنون مسؤولية ترديها وانتشارها إلى المنظومة الحاكمة.
في المقابل ظلت مشاهد الخصومات وتبادل العنف اللفظي والمادي بما تحيل إليه من فظاعة وتعد على الحقوق وانتهاك للكرامات والحرمات على نحو تحولت فيه قبة البرلمان إلى أشبه بحلبة معارك يتصارع داخلها النواب من أجل تغليب مصالح شخصية وحزبية. كما حولت بعض الأحزاب وفي مقدمتها حركة النهضة قبة البرلمان إلى وكر للمهادنة وبث الرذيلة السياسية والتلاعب بالقوانين والتشريعات بما يخدم جهات حزبية محددة دون مبالاة بالمصلحة الوطنية أو المواطنين. ويكفي العودة والتوقف كرونولوجيا إلى أبرز الأحداث العناوين للمرحلة السياسية الأخيرة في عمر البرلمان منها تسجيل نائب لزميله بطريقة أقل ما يقال عنها أنها تعكس انحطاطا أخلاقيا، مرورا بمشاهد الاعتصامات داخل حرم البرلمان فاعتداء نائب على زميلته فزملائه بالعنف المادي وتواتر القضايا المرفوعة ضد نواب وتهكم نائب على رئيس الجمهورية وعلى المرأة والنواب المعارضين لكتلته والائتلاف الذي ينتمي له، إضافة إلى الأدوار والتحركات المستفزة للرأيين الخاص والعام في فضاءات وأماكن عمومية وخاصة على غرار حادثة المطار والاعتصام أمام مقر العلماء المسلمين وسط العاصمة وما نجم عنه من تدخل أمني عنيف، واستنكار المواطنين في الجهات وفي عدة منظمات وجهات لأدوار مشتبه بهم في التهريب والفساد من المتحزبين وتحكمهم في الحركة الاقتصادية وغيرها من مشاهد وأحداث تؤكد تراكم "سقطات" أهل السياسة من المتحزبين خاصة أن تداعيات ذلك كانت جد وخيمة على أصعدة مختلفة.
مشهد متحول
لئن سجلت نفس المرحلة السياسية دخول مكونات حزبية جديدة للمشهد بعد فشل وأفول أخرى إثر الانتخابات الأخيرة على غرار قلب تونس وائتلاف الكرامة الفتيين اللذين سريعا ما انصهرا في البرلمان في تيار النهضة الجارف رغم البون الشاسع بين الأول والثانيين في الأفكار والرؤى، فإن حركة الشعب والتيار الديمقراطي وتحيا تونس وغيرهم من الأقليات الحزبية اختارت الانضواء في كتل متقاربة في الأفكار والتوجهات. لكن ما ميز المشهد السياسي خلال هذا العام هو أن حزب الدستوري الحر حافظ على دوره وموقعه كصانع ومحرك لجانب هام من أجندات الساحة السياسية فضلا عن محافظته على أدواته في خوض معكرته ضد الإسلام السياسي ومناهضة حركة النهضة وفضح الأجندات المشبوهة والتمسك بالدولة الوطنية ومكتسباتها. وهو ما جعل هذا الحزب يواصل تصدر المشهد ونوايا التصويت في عمليات سبر الآراء إلى اليوم.
تغيير المقاييس
أعادت قرارات 25 جويلية جميع مكونات الحقل السياسي إلى مربع "العدمية" لتؤكد مدى هشاشة المنظومات الحزبية وعجزها عن الصمود وانهيارها السريع أمام أول هزة سياسية فعلية بسبب افتقارها لمشروع أو برنامج أو رؤى واضحة المعالم وتحميل الجميع لمكونات المشهد السياسي مسؤولية تردي الأوضاع وانتشار الفساد ليس في العامين الماضيين فحسب بل خلال سنوات ما بعد 2011 إلى اليوم وما عرفته المرحلة من تجاذبات وتحالفات تحت شعار "تقاطع بين ما هو ديمقراطي وأيديولوجي" وما شابها من ممارسات وتطورات وهشاشة النسيج الداخلي لمكونات الحقل السياسي جعلت المشهد متحولا لا يعرف الاستقرار.
لذلك لم تنجح محاولات السياسيين للعودة إلى المشهد من جديد خلال الفترة الاستثنائية رغم محولات إعادة ترتيب الأوراق والبحث عن أشكال جديدة للنشاط والتحرك والعودة سواء بالنسبة للأحزاب التي كانت مكونة للمنظومة والمشهد ما بعد انتخابات 2019 أو غيرها من الأحزاب الأخرى العائدة من بعيد من الكلاسيكية أو التي دحرتها صناديق الاقتراع الأخيرة جانبا. لتشهد الأشهر الأخيرة من السنة الحالية محاولات تشكل لجبهات وائتلافات وحركات جديدة تراهن في معادلات بحثها عن مواطن قوة على التقارب الفكري والسياسي من ناحية أو التقاطع في الأهداف وأغلبها آنية، ومناهض لتمشي قيس سعيد في تسيير وإدارة دواليب الدولة أو توجهه لتقديم مشروع سياسي جديد بموجبه سيتم تغيير قوانين وقواعد اللعبة السياسية المتعارف عليها.
خاصة أنه بعد الحديث علنا عن التوجه الجديد لهذا المشروع وما يتطلبه من قانون انتخابي قاعدي تتم المراهنة فيه على الأفراد وليس على القائمات فضلا عن مراجعة القانون الانتخابي وما يمكن أن يتظمنه من شروط قد تحرم نسبة كبيرة من الفاعلين في المشهد السياسي اليوم من الترشح للانتخابات التشريعية القادمة. والأمر لا يقتصر على بعض الأفراد بل قد يشمل إزاحة أحزاب من الحقل السياسي إذا ما تم الحسم في القضايا المرفوعة لدى محكمة المحاسبات حول التجاوزات المسجلة في الانتخابات الأخيرة.
نزيهة الغضباني
تونس – الصباح
لم يكن المشهد السياسي والخارطة الحزبية في تونس في عام 2021 مختلفا عما كان عليه الوضع في السنوات السابقة، بل مثل في شكله وأبعاده ومستجداته إفرازا وامتدادا لما كان عليه الوضع خلال العشرية التي سبقته وما شهدته من صراعات وتشتت وتشرذم وانقسامات وتحالفات وتوافقات وائتلافات ومهادنات وغيرها من المفاهيم التي تختزل في تفاصيلها وأبعادها حقيقة الوضع السياسي والحزبي على حد السواء قبل وبعد 25 جويلية اللحظة المفصلية في تاريخ تونس السياسي. فبعد الانقسامات والتشرذم تدخل جل مكونات المشهد الحزبي اليوم "المنطقة الرمادية" كنتيجة حتمية لتفعيل الفصل 80 من الدستور وما ترتب عنه من إجراءات رئاسية ما بعد 25 جويلية القاضي بتجميد البرلمان وتجميع كل السلطات في قصر قرطاج في هذه الفترة الاستثنائية، ليصبح وضعها اليوم أشبه بحالة "الموت السريري".
ويذكر أن حاليا هناك 236 حزبا متحصلا على ترخيص والرقم في انتظار الارتفاع إذا ما تمت الموافقة على مطالب أخرى مقدمة في الغرض لاسيما أن الخارطة الحزبية مرشحة اليوم للتوسع والتغيير والتوالد تماشيا مع المتغيرات والمستجدات التي فرضتها الإجراءات الرئاسية التي تم اتخاذها خلال هذه المرحلة الاستثنائية. ولكن كيف سيكون الأمر بالنسبة لهذه الأحزاب والتيارات والحركات السياسية إذا ما رجحت كفة الاستفتاء المنتظر القيام به حول النظام الانتخابي المقرر العمل به في الانتخابات السابقة لأوانها في 17 ديسمبر القادم، ليكون الخيار على النظام القاعدي المتمثل في الانتخاب على الأفراد وليس على القائمات؟
فولادة ودخول العام الذي يشارف على النهاية، لم تكن يسيرة نظرا لما رافقها من أزمات اقتصادية ومالية واجتماعية وسياسية بسبب مخلفات أزمة جائحة "كوفيد 19" وضغوط المانحين الدوليين مقابل احتدام للصراع القائم بين رؤوس السلطة التنفيذية والتشريعية ممثلة في قيس سعيد في قصر قرطاج وهشام مشيشي في القصبة وراشد الغنوشي في باردو وانسداد كل آفاق التواصل والتفاهم بينهم. وذلك بدعم وتزكية ومشاهدة من مكونات المشهد السياسي سواء تعلق الأمر بالأحزاب المكونة للبرلمان أو الشريكة والداعمة للمنظومة الحاكمة أو الجهات السياسية التي لفضتها صناديق انتخابات 2019، في الوقت الذي اشتدت فيه وتيرة الحراك والاحتجاجات الاجتماعية مقابل تعدد الانتهاكات وعمليات القمع الأمنية للمتظاهرين. وازداد الأمر تعقيدا بعد أن رفض رئيس الجمهورية قيس سعيد التحوير الوزاري لـ11 حقيبة وزارية الذي قام به رئيس الحكومة المُقَال هشام مشيشي وما خلفه من جدل واصطفاف حزبي ساهم في تعميق الأزمة وتأزيم المشهد السياسي.
ورغم تدخل الاتحاد العام التونسي للشغل وتقديمه لمبادرة لتقريب وجهات النظر والدفع لحلحلة الأزمة السياسية بين الجهات المتنازعة، إلا أن بقية مكونات المشهد السياسي ظلت عاجزة عن تقديم الحلول أو عن إثناء حركة النهضة وعملائها على مضيهم في تعفن المشهد والوضع السياسيين على حد السواء بالضلوع في خلق شقوق بين السلط وانتهاج سياسية "كسر العظام" والتداخل في المهام والتمرد على سعيد. وتحول الصراع على الصلاحيات إلى حقيقة معلنة لم تعد خافية على أحد. فيما حافظت النخب السياسية في مجملها على دورها السلبي بعضها اكتفى بالفرجة وبعضها الآخر حاول أن يجد له موطأ قدم في المشهد في خضم تصاعد حدة الصراع والانقسامات.
"سقطات" وتداعيات
فمند بداية العام الجاري عرف الحقل السياسي مستجدات وأطوارا ساهمت في ترذيل وتعفن المشهد على نحو عمق الهوة بين المواطن والسياسي وهو ما جعل نسبة كبيرة من المواطنين يخرجون في ذكرى إحياء عيد الجمهورية في حركات احتجاجية في كامل جهات الجمهورية للتعبير عن رفضهم لمكونات المشهد السياسي في تونس لاسيما أمام عجز المنظومة على تسيير دواليب الدولة مقابل إصرارها على انتهاج سياسية الهروب إلى الأمام ومواصلة الصراع والتنازع على السلطة والصلاحيات دون مبالاة بالوضع الصحي المتأزم بعد تفشي فيروس وكورونا وحصده لأرواح أكثر من 24 ألف مواطن وصيحات الفزع التي أطلقتها الإطارات الصحية والطبية ومشاهد الموتى والمرضى في الممرات ودون أسرة بعد عجز طاقة الاستيعاب بالمستشفيات وأزمتي الأوكسجين واللقاح فضلا عن غلاء المعيشة وتفشي الفساد وكلها ظواهر سلبية حمل المواطنون مسؤولية ترديها وانتشارها إلى المنظومة الحاكمة.
في المقابل ظلت مشاهد الخصومات وتبادل العنف اللفظي والمادي بما تحيل إليه من فظاعة وتعد على الحقوق وانتهاك للكرامات والحرمات على نحو تحولت فيه قبة البرلمان إلى أشبه بحلبة معارك يتصارع داخلها النواب من أجل تغليب مصالح شخصية وحزبية. كما حولت بعض الأحزاب وفي مقدمتها حركة النهضة قبة البرلمان إلى وكر للمهادنة وبث الرذيلة السياسية والتلاعب بالقوانين والتشريعات بما يخدم جهات حزبية محددة دون مبالاة بالمصلحة الوطنية أو المواطنين. ويكفي العودة والتوقف كرونولوجيا إلى أبرز الأحداث العناوين للمرحلة السياسية الأخيرة في عمر البرلمان منها تسجيل نائب لزميله بطريقة أقل ما يقال عنها أنها تعكس انحطاطا أخلاقيا، مرورا بمشاهد الاعتصامات داخل حرم البرلمان فاعتداء نائب على زميلته فزملائه بالعنف المادي وتواتر القضايا المرفوعة ضد نواب وتهكم نائب على رئيس الجمهورية وعلى المرأة والنواب المعارضين لكتلته والائتلاف الذي ينتمي له، إضافة إلى الأدوار والتحركات المستفزة للرأيين الخاص والعام في فضاءات وأماكن عمومية وخاصة على غرار حادثة المطار والاعتصام أمام مقر العلماء المسلمين وسط العاصمة وما نجم عنه من تدخل أمني عنيف، واستنكار المواطنين في الجهات وفي عدة منظمات وجهات لأدوار مشتبه بهم في التهريب والفساد من المتحزبين وتحكمهم في الحركة الاقتصادية وغيرها من مشاهد وأحداث تؤكد تراكم "سقطات" أهل السياسة من المتحزبين خاصة أن تداعيات ذلك كانت جد وخيمة على أصعدة مختلفة.
مشهد متحول
لئن سجلت نفس المرحلة السياسية دخول مكونات حزبية جديدة للمشهد بعد فشل وأفول أخرى إثر الانتخابات الأخيرة على غرار قلب تونس وائتلاف الكرامة الفتيين اللذين سريعا ما انصهرا في البرلمان في تيار النهضة الجارف رغم البون الشاسع بين الأول والثانيين في الأفكار والرؤى، فإن حركة الشعب والتيار الديمقراطي وتحيا تونس وغيرهم من الأقليات الحزبية اختارت الانضواء في كتل متقاربة في الأفكار والتوجهات. لكن ما ميز المشهد السياسي خلال هذا العام هو أن حزب الدستوري الحر حافظ على دوره وموقعه كصانع ومحرك لجانب هام من أجندات الساحة السياسية فضلا عن محافظته على أدواته في خوض معكرته ضد الإسلام السياسي ومناهضة حركة النهضة وفضح الأجندات المشبوهة والتمسك بالدولة الوطنية ومكتسباتها. وهو ما جعل هذا الحزب يواصل تصدر المشهد ونوايا التصويت في عمليات سبر الآراء إلى اليوم.
تغيير المقاييس
أعادت قرارات 25 جويلية جميع مكونات الحقل السياسي إلى مربع "العدمية" لتؤكد مدى هشاشة المنظومات الحزبية وعجزها عن الصمود وانهيارها السريع أمام أول هزة سياسية فعلية بسبب افتقارها لمشروع أو برنامج أو رؤى واضحة المعالم وتحميل الجميع لمكونات المشهد السياسي مسؤولية تردي الأوضاع وانتشار الفساد ليس في العامين الماضيين فحسب بل خلال سنوات ما بعد 2011 إلى اليوم وما عرفته المرحلة من تجاذبات وتحالفات تحت شعار "تقاطع بين ما هو ديمقراطي وأيديولوجي" وما شابها من ممارسات وتطورات وهشاشة النسيج الداخلي لمكونات الحقل السياسي جعلت المشهد متحولا لا يعرف الاستقرار.
لذلك لم تنجح محاولات السياسيين للعودة إلى المشهد من جديد خلال الفترة الاستثنائية رغم محولات إعادة ترتيب الأوراق والبحث عن أشكال جديدة للنشاط والتحرك والعودة سواء بالنسبة للأحزاب التي كانت مكونة للمنظومة والمشهد ما بعد انتخابات 2019 أو غيرها من الأحزاب الأخرى العائدة من بعيد من الكلاسيكية أو التي دحرتها صناديق الاقتراع الأخيرة جانبا. لتشهد الأشهر الأخيرة من السنة الحالية محاولات تشكل لجبهات وائتلافات وحركات جديدة تراهن في معادلات بحثها عن مواطن قوة على التقارب الفكري والسياسي من ناحية أو التقاطع في الأهداف وأغلبها آنية، ومناهض لتمشي قيس سعيد في تسيير وإدارة دواليب الدولة أو توجهه لتقديم مشروع سياسي جديد بموجبه سيتم تغيير قوانين وقواعد اللعبة السياسية المتعارف عليها.
خاصة أنه بعد الحديث علنا عن التوجه الجديد لهذا المشروع وما يتطلبه من قانون انتخابي قاعدي تتم المراهنة فيه على الأفراد وليس على القائمات فضلا عن مراجعة القانون الانتخابي وما يمكن أن يتظمنه من شروط قد تحرم نسبة كبيرة من الفاعلين في المشهد السياسي اليوم من الترشح للانتخابات التشريعية القادمة. والأمر لا يقتصر على بعض الأفراد بل قد يشمل إزاحة أحزاب من الحقل السياسي إذا ما تم الحسم في القضايا المرفوعة لدى محكمة المحاسبات حول التجاوزات المسجلة في الانتخابات الأخيرة.