كتب الأستاذ عبد الودود العمراني في قراءة لرسالة الرئيس قيس سعيد:تثير رسالة رئيس الدولة الموجهة لرئيس مجلس النواب ردود أفعال مختلفة بحسب أدوات قراءتها. هنا سأحاول استخدام أدوات عملي وهي من مجالات تاريخ الفن، والحضارة العربية الإسلامية، وبعض مراسم الدبلوماسية الدولية.ولنبدأ بالشكل ثم نتناول المضمون.الشكلاستخدم الرئيس كما دأب على ذلك الخط المغربي، وما من شك أن للرئاسة خطاطين يتولون المهمة إذ لم نشاهد الرئيس يكتب هذه الرسائل بل رأيناه يوقعها فحسب. ويشتكي بعض القراء من صعوبة قراءة هذا الخط والواقع أن ذلك يعود لتخلي الكثير من المساجد في تونس عن المصحف التونسي المكتوب بالخط المغربي أي نسخة ورش، وقد جاء سيل جارف من المصاحف من المشرق العربي بخطوط مختلفة تعوّد عليها الناس في عهد بن علي ولم يعودوا يلتفتوا إلا نادرا للنسخة التونسية المكتوبة بالخط المغربي. ويمكن القول إن إحياء الرئاسة لهذا الخط رسالة مبطنة مفادها أنه عندنا خطنا وعندنا مصحفنا وعندنا قراءتنا للإسلام الزيتوني (والعاشوري كذلك نسبة للتحرير والتنوير للفاضل بن عاشور الذي كان من أوائل من أبرز مقاصد الشريعة قبل أن يسوّقه القرضاوي ويجعل منه أصلا تجاريا للإخوان المسلمين. ومن يرد دليلا إضافيا نذكره بأن أول من أشرف وقنن الصيرفة الإسلامية هو مفتي الديار التونسية السابق المرحوم مختار السلامي الذي ترأس عند تأسيسه "مجلس الخدمات المالية الإسلامية" ومقره في كوالالمبور في ماليزيا، ووضع أسس البنوك الإسلامية والتأمين الإسلامي أو التكافل).أما من الناحية الجمالية فمن المعلوم بين المتخصصين أن تونس أنتجت في العصر الوسيط مصحفين من أجمل وأندر وأرقى المصاحف في العالم هما على التوالي: المصحف الأزرق ومصحف الحاضنة. وإن كان كلاهما بالخط الكوفي فهما شاهدان على عراقة فن الخط في تونس منذ زهاء الألف سنة. فلا غرابة أن يستعيد رئيس الجمهورية هذا التراث التليد ويحييه ويبرزه من خلال استخدامه الرمزي البروتوكولي للخط المغربي (كما يفعل الديوان الملكي في المغرب الشقيق).إضافة لما سبق فإن كل دواوين رؤساء الدول والملوك في مختلف بلدان العالم يختارون خطا مميزا ويضعون شروطا دقيقة في كتابة المراسلات. فلماذا نستكثر ذلك على رئيسنا بينما هو يخدم أصالتنا وهويتنا التونسية المغاربية؟ونختم هذه القراءة المقتضبة للشكل بالتوقف عند اللفافة المستخدمة للرسالة. فإذا تثبتنا في شهادات أرقى الجامعات في العالم نرى أن الشهادات العليا تقدم على شكل لفائف تربط بالخيط الأحمر وكانت قديما تسكّ بالشمع الأحمر. وهذه بدورها لفتة أنيقة تليق بمقام الرئاسة في زمن سادت فيه الرداءة في الذوق واختلط فيه الذوق السوقي بالذوق الراقي نتيجة تقدم أهل المال على أهل العلم. وأين ذوق بائع الدجاج (مع احترامنا له) صاحب المال من ذوق المثقف صاحب العلم والمعرفة! بل إن بائع دجاج في تونس أصبح من أثرى أثرياء البلاد حتى أضحى يمشي على هيئة الديك الرومي ويتحكم بالريع في جزء من دواليب الدولة.المضمونأما في المضمون فقد أرسل الرئيس منذ البداية لكمتين، يسرى ثم يمنى، لمخاطبه. فاللكمة الأولى ارتطمت على وجه المخاطب عندما ذكر الرئيس نفسه بالاسم واكتفى بصفة مخاطبه دون أن يذكر اسمه في النص الذي يتوسط بداية الرسالة. ثم أردفها بلكمة يمينية أخرى على وجه الغنوشي إذ لم يفتتح خطابه بالسلام عليه، بل راوغه بأن ألقى السلام على نفسه ولطمه قائلا: "ولكم مثل الذي ألقينا". ثم ثبّت الرئيس لكمته التي طرحت الغنوشي أرضا في نهاية الرسالة عندما ألقى عليه سلام النبي موسى عليه السلام على فرعون المتكبر: "والسلام على من اتبع الهدى"، ومعلوم أن هذا عادة ما يكون سلام المسلم على غير المسلم.ثم مباشرة بعد ذلك فضح الرئيس مراوغة الغنوشي أو على الأقل جهله بفنون الإدارة (الذي يعاني منه النواب منذ توليه الرئاسة) بأن ذكّره في المرجع بخطأ في التاريخ ولسان حاله يقول: أعلم أنك غبي لا تولي أهمية للتواريخ والمراجع لكنها أساس العلوم والمعارف وحري بك أن تكون دقيقا في ذكر مراجعك. ها هو الأستاذ الجامعي يصحح طالبا غبيا أهمل أبجديات صياغة البحث!! نعم التاريخ ليس يوم الجلسة العامة كما ذكر الغنوشي في مراسلته بل تاريخ المصادقة على مشروع القانون. هكذا!بعد ذلك يفتتح الرئيس محاججته بما يسمى في الأعمال الأكاديمية التبرير وبالإنكليزية يكون مقدمة للعمل بعنوان (Rationale) ويطلق عليه أهل القانون (التعليل أو المسوغات)، وهنا يذكر الرئيس ما يبدو أن الغنوشي تجاهله ومن ذلك: اليمين بداية لاحترام الدستور، وثانيا الفصل 84 الذي يمنح الرئيس حق رد مشاريع القوانين للمجلس. وعلى إثر ذلك يحقن الرئيس الغنوشي بحقنتين مؤلمتين إذ يختار من القرآن آيتين تشيران للأجل، آيتين مختارتان من بين أكثر من 50 مرة ذُكرت فيها مفردة "أجل" في القرآن. تذكّر الآية الأولى الغنوشي بالموت لعله يتذكر أو تنفعه الذكرى (ولكل أمة أجل، فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون)، ويليها بآية فيها نكث العهد الذي مارسه الغنوشي في أكثر من موضع وأقله وعده لما عاد لتونس بألا يتدخل في السياسة وغير ذلك من أكاذيبه الفجة (فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون). وتنطبق الآية على من كشف الله عنه رجز المنفى بواسطة الثورة فوعد بحب تونس وترابها ولما استقرت له الأمور نكث وعده.بعد ذلك يمر الرئيس للأجل الذي حدده الدستور وهنا يأتي السؤال الطبيعي: من الذي تجاوز الأجل الدستوري في 2014؟ هل هو الرئيس؟ طبعا هي النهضة وحلفائها خوفا من سلطة المحكمة الدستورية المستقلة التي بيدها إمكانية إبطال نتائج الانتخابات إذا تبين أنها نتاج مال فاسد وإعلام مأجور، أي: الأدوات نفسها التي استخدمتها النهضة للوصول للحكم.بعد ذلك يمر الرئيس إلى الاستشهاد بالشعر والنية طبعا أن الشعر حمال حكمة لعل الغنوشي يدركها، وقد اختار له من روائع ألي العتاهية في نصح الحاكم إذا ألقى السمع وكان له فؤاد، والمهم هنا ما لا يظهر وهو عنوان القصيدة التي فيها رسالة للغنوشي الذليل الطماع، وعنوان قصيدة أبي العتاهية: (أذلّ الحرص والطمع الرقابا)وإن كان الرئيس اختار منها المقطع الذي له علاقة بحسن الإدارة واحترام الآجال ليكون منسجما مع سياق الخطاب فالأرجح أن ما يمرره هو: يا ذليل يا طماع. وفيما يلي المقطع:وَلَيسَ بِحاكِمٍ مَن لا يُباليأَأَخطَأَ في الحُكومَةِ أَم أَصاباوَإِنَّ لِكُلِّ تَلخيصٍ لَوَجهاًوَإِنَّ لِكُلِّ مَسأَلَةٍ جَواباوَإِنَّ لِكُلِّ حادِثَةٍ لَوَقتاًوَإِنَّ لِكُلِّ ذي عَمَلٍ حِساباوَإِنَّ لِكُلِّ مُطَّلَعٍ لَحَدّاًوَإِنَّ لِكُلِّ ذي عَمَلٍ حِسابابعد ذلك ينقش الرئيس نقشتين متتالين، الأولى نحوية تتعلق بتأويل الواو عند سيبويه، والثانية سجعا على التوابع والزوابع، عنوان رسالة ابن شهيد الأندلسي التي سبقت زمنيا رسالة الغفران والتي يقول بعض الباحثين إن الشاعر الإيطالي دانتي استوحى منها "الكوميديا الإلهية".وتنقسم باقي الرسالة مضمونا إلى جزئين اثنين. يتمحور الأول حول محاججة قانونية موثقة بالمراجع من الدستور وفقه القانون وقرارات المحكمة الإدارية ليثبت الدليل القاطع على تراخي المجلس في صياغة مشروع قانون المحكمة الدستورية ومسؤولية النهضة عن ذلك لأن التأخير قرار ثابت وليس تهاون يمكن تجاوزه.أما المحور الثاني ففيه تحذير مباشر للغنوشي مفاده أن الرئيس على علم بأفاعيل النهضة وتلاعبها بمصلحة البلاد وربما بجرائمها المالية والإرهابية، ويضيف إليه الرئيس تعزير قوي لخصه في أن السارق والمرتشي لا يمكن له أن يدعي الأمانة والصدق. ويقول الرئيس في هذا الصدد:"...فكيف لمن هو مُطالَب أمام القضاء وفارّ من العدالة، بل كيف للراشي والمرتشي والمدان والمعتدي بمحكمة ينتصر إليها في الظاهر ويعمل إلى التسلل إليها في الخفاء؟"يعني حزبك وقلب تونس وأنتم الحزام الذي صوت لمشروع القانون فيكم المدان والفار من العدالة، والراشي والمرتشي والمدان والمعتدي وتدعون أنكم تريدون محكمة دستورية لتستخدموها كما استخدمتم الدولة لأغراضكم الدنيئة.هذه رسالة رئيس دولة يُؤْمِن إيمانًا راسخا بالقانون والعدل ويسمي الأشياء بمسمياتها، وهي قبل كل شيء رسالة كان يجدر بالشعب التونسي الاحتفال بها في شارع الحبيب بورقيبة لأنها تحفظ لبلادنا بعض ماء الوجه وتفيدنا أنه ما زال في تونس من يؤمن بالأخلاق وبالاستقامة، وأن موجات الفاسدين التي تتالت على الحكم زائلة يوما ما مثلما زال المخلوع...
كتب الأستاذ عبد الودود العمراني في قراءة لرسالة الرئيس قيس سعيد:تثير رسالة رئيس الدولة الموجهة لرئيس مجلس النواب ردود أفعال مختلفة بحسب أدوات قراءتها. هنا سأحاول استخدام أدوات عملي وهي من مجالات تاريخ الفن، والحضارة العربية الإسلامية، وبعض مراسم الدبلوماسية الدولية.ولنبدأ بالشكل ثم نتناول المضمون.الشكلاستخدم الرئيس كما دأب على ذلك الخط المغربي، وما من شك أن للرئاسة خطاطين يتولون المهمة إذ لم نشاهد الرئيس يكتب هذه الرسائل بل رأيناه يوقعها فحسب. ويشتكي بعض القراء من صعوبة قراءة هذا الخط والواقع أن ذلك يعود لتخلي الكثير من المساجد في تونس عن المصحف التونسي المكتوب بالخط المغربي أي نسخة ورش، وقد جاء سيل جارف من المصاحف من المشرق العربي بخطوط مختلفة تعوّد عليها الناس في عهد بن علي ولم يعودوا يلتفتوا إلا نادرا للنسخة التونسية المكتوبة بالخط المغربي. ويمكن القول إن إحياء الرئاسة لهذا الخط رسالة مبطنة مفادها أنه عندنا خطنا وعندنا مصحفنا وعندنا قراءتنا للإسلام الزيتوني (والعاشوري كذلك نسبة للتحرير والتنوير للفاضل بن عاشور الذي كان من أوائل من أبرز مقاصد الشريعة قبل أن يسوّقه القرضاوي ويجعل منه أصلا تجاريا للإخوان المسلمين. ومن يرد دليلا إضافيا نذكره بأن أول من أشرف وقنن الصيرفة الإسلامية هو مفتي الديار التونسية السابق المرحوم مختار السلامي الذي ترأس عند تأسيسه "مجلس الخدمات المالية الإسلامية" ومقره في كوالالمبور في ماليزيا، ووضع أسس البنوك الإسلامية والتأمين الإسلامي أو التكافل).أما من الناحية الجمالية فمن المعلوم بين المتخصصين أن تونس أنتجت في العصر الوسيط مصحفين من أجمل وأندر وأرقى المصاحف في العالم هما على التوالي: المصحف الأزرق ومصحف الحاضنة. وإن كان كلاهما بالخط الكوفي فهما شاهدان على عراقة فن الخط في تونس منذ زهاء الألف سنة. فلا غرابة أن يستعيد رئيس الجمهورية هذا التراث التليد ويحييه ويبرزه من خلال استخدامه الرمزي البروتوكولي للخط المغربي (كما يفعل الديوان الملكي في المغرب الشقيق).إضافة لما سبق فإن كل دواوين رؤساء الدول والملوك في مختلف بلدان العالم يختارون خطا مميزا ويضعون شروطا دقيقة في كتابة المراسلات. فلماذا نستكثر ذلك على رئيسنا بينما هو يخدم أصالتنا وهويتنا التونسية المغاربية؟ونختم هذه القراءة المقتضبة للشكل بالتوقف عند اللفافة المستخدمة للرسالة. فإذا تثبتنا في شهادات أرقى الجامعات في العالم نرى أن الشهادات العليا تقدم على شكل لفائف تربط بالخيط الأحمر وكانت قديما تسكّ بالشمع الأحمر. وهذه بدورها لفتة أنيقة تليق بمقام الرئاسة في زمن سادت فيه الرداءة في الذوق واختلط فيه الذوق السوقي بالذوق الراقي نتيجة تقدم أهل المال على أهل العلم. وأين ذوق بائع الدجاج (مع احترامنا له) صاحب المال من ذوق المثقف صاحب العلم والمعرفة! بل إن بائع دجاج في تونس أصبح من أثرى أثرياء البلاد حتى أضحى يمشي على هيئة الديك الرومي ويتحكم بالريع في جزء من دواليب الدولة.المضمونأما في المضمون فقد أرسل الرئيس منذ البداية لكمتين، يسرى ثم يمنى، لمخاطبه. فاللكمة الأولى ارتطمت على وجه المخاطب عندما ذكر الرئيس نفسه بالاسم واكتفى بصفة مخاطبه دون أن يذكر اسمه في النص الذي يتوسط بداية الرسالة. ثم أردفها بلكمة يمينية أخرى على وجه الغنوشي إذ لم يفتتح خطابه بالسلام عليه، بل راوغه بأن ألقى السلام على نفسه ولطمه قائلا: "ولكم مثل الذي ألقينا". ثم ثبّت الرئيس لكمته التي طرحت الغنوشي أرضا في نهاية الرسالة عندما ألقى عليه سلام النبي موسى عليه السلام على فرعون المتكبر: "والسلام على من اتبع الهدى"، ومعلوم أن هذا عادة ما يكون سلام المسلم على غير المسلم.ثم مباشرة بعد ذلك فضح الرئيس مراوغة الغنوشي أو على الأقل جهله بفنون الإدارة (الذي يعاني منه النواب منذ توليه الرئاسة) بأن ذكّره في المرجع بخطأ في التاريخ ولسان حاله يقول: أعلم أنك غبي لا تولي أهمية للتواريخ والمراجع لكنها أساس العلوم والمعارف وحري بك أن تكون دقيقا في ذكر مراجعك. ها هو الأستاذ الجامعي يصحح طالبا غبيا أهمل أبجديات صياغة البحث!! نعم التاريخ ليس يوم الجلسة العامة كما ذكر الغنوشي في مراسلته بل تاريخ المصادقة على مشروع القانون. هكذا!بعد ذلك يفتتح الرئيس محاججته بما يسمى في الأعمال الأكاديمية التبرير وبالإنكليزية يكون مقدمة للعمل بعنوان (Rationale) ويطلق عليه أهل القانون (التعليل أو المسوغات)، وهنا يذكر الرئيس ما يبدو أن الغنوشي تجاهله ومن ذلك: اليمين بداية لاحترام الدستور، وثانيا الفصل 84 الذي يمنح الرئيس حق رد مشاريع القوانين للمجلس. وعلى إثر ذلك يحقن الرئيس الغنوشي بحقنتين مؤلمتين إذ يختار من القرآن آيتين تشيران للأجل، آيتين مختارتان من بين أكثر من 50 مرة ذُكرت فيها مفردة "أجل" في القرآن. تذكّر الآية الأولى الغنوشي بالموت لعله يتذكر أو تنفعه الذكرى (ولكل أمة أجل، فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون)، ويليها بآية فيها نكث العهد الذي مارسه الغنوشي في أكثر من موضع وأقله وعده لما عاد لتونس بألا يتدخل في السياسة وغير ذلك من أكاذيبه الفجة (فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون). وتنطبق الآية على من كشف الله عنه رجز المنفى بواسطة الثورة فوعد بحب تونس وترابها ولما استقرت له الأمور نكث وعده.بعد ذلك يمر الرئيس للأجل الذي حدده الدستور وهنا يأتي السؤال الطبيعي: من الذي تجاوز الأجل الدستوري في 2014؟ هل هو الرئيس؟ طبعا هي النهضة وحلفائها خوفا من سلطة المحكمة الدستورية المستقلة التي بيدها إمكانية إبطال نتائج الانتخابات إذا تبين أنها نتاج مال فاسد وإعلام مأجور، أي: الأدوات نفسها التي استخدمتها النهضة للوصول للحكم.بعد ذلك يمر الرئيس إلى الاستشهاد بالشعر والنية طبعا أن الشعر حمال حكمة لعل الغنوشي يدركها، وقد اختار له من روائع ألي العتاهية في نصح الحاكم إذا ألقى السمع وكان له فؤاد، والمهم هنا ما لا يظهر وهو عنوان القصيدة التي فيها رسالة للغنوشي الذليل الطماع، وعنوان قصيدة أبي العتاهية: (أذلّ الحرص والطمع الرقابا)وإن كان الرئيس اختار منها المقطع الذي له علاقة بحسن الإدارة واحترام الآجال ليكون منسجما مع سياق الخطاب فالأرجح أن ما يمرره هو: يا ذليل يا طماع. وفيما يلي المقطع:وَلَيسَ بِحاكِمٍ مَن لا يُباليأَأَخطَأَ في الحُكومَةِ أَم أَصاباوَإِنَّ لِكُلِّ تَلخيصٍ لَوَجهاًوَإِنَّ لِكُلِّ مَسأَلَةٍ جَواباوَإِنَّ لِكُلِّ حادِثَةٍ لَوَقتاًوَإِنَّ لِكُلِّ ذي عَمَلٍ حِساباوَإِنَّ لِكُلِّ مُطَّلَعٍ لَحَدّاًوَإِنَّ لِكُلِّ ذي عَمَلٍ حِسابابعد ذلك ينقش الرئيس نقشتين متتالين، الأولى نحوية تتعلق بتأويل الواو عند سيبويه، والثانية سجعا على التوابع والزوابع، عنوان رسالة ابن شهيد الأندلسي التي سبقت زمنيا رسالة الغفران والتي يقول بعض الباحثين إن الشاعر الإيطالي دانتي استوحى منها "الكوميديا الإلهية".وتنقسم باقي الرسالة مضمونا إلى جزئين اثنين. يتمحور الأول حول محاججة قانونية موثقة بالمراجع من الدستور وفقه القانون وقرارات المحكمة الإدارية ليثبت الدليل القاطع على تراخي المجلس في صياغة مشروع قانون المحكمة الدستورية ومسؤولية النهضة عن ذلك لأن التأخير قرار ثابت وليس تهاون يمكن تجاوزه.أما المحور الثاني ففيه تحذير مباشر للغنوشي مفاده أن الرئيس على علم بأفاعيل النهضة وتلاعبها بمصلحة البلاد وربما بجرائمها المالية والإرهابية، ويضيف إليه الرئيس تعزير قوي لخصه في أن السارق والمرتشي لا يمكن له أن يدعي الأمانة والصدق. ويقول الرئيس في هذا الصدد:"...فكيف لمن هو مُطالَب أمام القضاء وفارّ من العدالة، بل كيف للراشي والمرتشي والمدان والمعتدي بمحكمة ينتصر إليها في الظاهر ويعمل إلى التسلل إليها في الخفاء؟"يعني حزبك وقلب تونس وأنتم الحزام الذي صوت لمشروع القانون فيكم المدان والفار من العدالة، والراشي والمرتشي والمدان والمعتدي وتدعون أنكم تريدون محكمة دستورية لتستخدموها كما استخدمتم الدولة لأغراضكم الدنيئة.هذه رسالة رئيس دولة يُؤْمِن إيمانًا راسخا بالقانون والعدل ويسمي الأشياء بمسمياتها، وهي قبل كل شيء رسالة كان يجدر بالشعب التونسي الاحتفال بها في شارع الحبيب بورقيبة لأنها تحفظ لبلادنا بعض ماء الوجه وتفيدنا أنه ما زال في تونس من يؤمن بالأخلاق وبالاستقامة، وأن موجات الفاسدين التي تتالت على الحكم زائلة يوما ما مثلما زال المخلوع...