إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

بلغت 4 أبار في الهكتار السقوي: المائدة المائية "استنزفت".. من يتحمل المسؤولية؟

 

تونس – الصباح

تحولت أزمة الماء في تونس في الفترة الأخيرة إلى حقيقة.. وأصبحت السلط المعنية ترى في الموارد المائية القضية الكبرى والتحدي القادم في ظل ندرة المياه ونقص الأمطار وتتالي سنوات الجفاف خاصة أن معطيات مؤكدة تفيد أن تونس أصبحت تعيش تحت خط الشح المائي.

وكان البنك الدولي أكد في تقرير أصدره سنة 2009، بان تونس  مهددة  بخطر الجفاف وإمكانية دخول البلاد في أزمة فقر مائي حاد خلال السنوات المقبلة، كما بين البنك الدولي أن الأزمة تعود إلى اعتماد تونس بشكل كبير على المياه السطحية من الأنهار والأمطار لتوفير ثلاثة أرباع حاجياتها من المياه، وهي تتركز في مناطق محدودة في شمال البلاد وغربها.

وضعية صعبة

حمّادي الحبيب المدير العام للتخطيط والتوازنات المائية بوزارة الفلاحة أفاد "الصباح" بان وضعية الموارد المائية في تونس صعبة من خلال استعراضه لآخر المؤشرات حول معدلات الأمطار والتي تمثلت في تسجيل 59 بالمائة من المعدل العام للتساقطات للفترة الممتدة من 1 سبتمبر إلى 6 جانفي 2023 في الشمال الغربي في حين بلغ المعدل بالشمال الشرقي 48 بالمائة و27 بالمائة بالوسط الغربي و22 بالمائة بالوسط الشرقي في حين بلغ معدل الأمطار بالنسبة للجنوب الغربي 20 بالمائة و15 بالمائة بالنسبة للجنوب الشرقي.

وابرز الحبيب أن نسبة امتلاء السدود بلغت حسب الأرقام المتوفرة لدى وزارة الفلاحة إلى غاية يوم الجمعة الفارط 113مليون متر مكعب لتبلغ نسبة امتلاء السدود 27.9 بالمائة، مضيفا انه يوميا تعقد اجتماعات على مستوى وزارة الفلاحة لتدارس الوضع لإيجاد حلول أمام نقص الأمطار والإيرادات وذلك بالتعاون مع مصالح المياه والمندوبيات الجهوية للتنمية الفلاحية.

تقلص الإيرادات

رضا قبوج، المدير العام للهندسة الريفية واستغلال المياه بوزارة الفلاحة أفاد "الصباح" بان التغييرات المناخية زادت في تأزم الوضع منذ سنة 2016 بسبب تواصل الجفاف ما أدى إلى تقلص الإرادات إلى اقل من المعدل إذ لم تتعد في أحسن الحالات 45 بالمائة ما دفعنا إلى التصرف في ندرة المياه وإعطاء الأولوية لمياه الشرب والبقية للري وتم خلال سنة 2016 تمكين نسبة لا تتعدى 20 بالمائة للري أساسا للأشجار المثمرة والزراعات العلفية.

وأكد مدير عام الهندسة الريفية واستغلال المياه بوزارة الفلاحة انه في تونس ليس لنا خيار إلا بالمحافظة على الموارد المائية الموجودة لأننا أصبحنا نعيش تحت خط الشح المائي، بمعدل 420 مترا مكعبا للفرد سنويا في حين أن معدل الشح المائي 500 متر مكعب والفقر المائي ألف لتر مكعب.

وحسب قبوج فان المجامع المائية في تونس يصل عددها إلى 2700 منها 1400 ماء صالح للشرب والبقية تستغل للري وهي متواجدة في المناطق الريفية، مضيفا بان هذه المجامع كانت في التسعينات أنظمة مائية بسيطة وعدد المنتفعين بها غير كبير لكن بعامل الوقت وفي ظل ندرة الموارد المائية تشعبت المشاكل واضطرت الهياكل المشرفة على هذه المجامع لتوسيع الشبكة مما عقد التصرف فيها مع العلم أن المجامع تعود بالنظر فنيا إلى وزارة الفلاحة وإداريا إلى الولاة.

وشدد ممثل وزارة الفلاحة على أن الربط العشوائي وعدم انضباط المنتفعين أدى إلى الاستغلال المفرط لطاقة المائدة المائية هذا بالإضافة إلى ارتفاع مديونية المجامع المائية إلى الشركة التونسية للكهرباء والغاز لتبلغ قيمة هذه الديون 10 مليون دينار.

إن الواقع المائي يجعلنا ندرك توجّها سلبيّا نحو التركيز على المياه الباطنيّة حيث تشير الأرقام إلى تطوّر نسبة استغلالها من 92 بالمائة سنة 2010 إلى 131 بالمائة سنة 2016 في المقابل نلاحظ إمهالا وسوء استغلال مياه التساقطات التي تذهب في اغلبها إلى البحر. هذا التقصير يطرح أزمة السدود التي كانت تستطيع أن تلعب دور الخزان والمزوّد الأهم للماء بتونس.

غياب الحوكمة

كما أنّ مجهودات الدولة والاستثمارات الطائلة التي تم توجيهها في سبيل تهيئة وبناء السدود الخزانة منذ الاستقلال اصطدمت بجملة من الانعكاسات المرتبطة بغياب استراتيجيات التخطيط والحوكمة. فمن ناحية لم تنجح هذه المنشآت في التكامل مع التقنيات التقليديّة التي كانت متّبعة بالبلاد التونسيّة لتعبئة المياه واستغلالها على غرار البحيرات الجبلية والمصاطب والمساقي والغوط، ومن ناحية أخرى تم إتلاف جزء كبير من هذا التراث التقني بسبب تركيز السياسية المائية الجديدة على تعبئة الماء دون المحافظة على أديم الأرض وعلى نسق تطعيم المائدة المائية مما أدّى إلى تقلّصها وارتفاع نسبة ملوحتها.

السدود وتأثيرها على المائدة المائية

إضافة إلى التأثيرات المباشرة لهذه السدود على التربة والمائدة المائية فإنها تتعرّض للتلف وعادة ما تمتلئ خزّاناتها بالطمي والحجارة وهو ما يقلّص من صلوحيتها وعمرها إلى نصف قرن. ويؤثر هذا التراجع في طاقة استيعاب السدود مباشرة وفي نسق توزيع المياه الموجّهة للاستعمال المنزلي وإلي المناطق السقويّة إضافة إلى التأثير في درجة تواتر هذا التوزيع الذي يؤدي بدوره إلى عزوف الفلاحين عن الإقبال على الزراعات الأساسية مثل الحبوب، والعلف، بسبب خوفهم من التلف الناجم عن اضطراب توزيع المياه وبالتالي اضطرارهم للإقبال على زراعة الخضر غيري الفصليّة والأشجار المثمرة وهذا التوجّه يمثل انحرافا عن اختيارات المشروع الأصلي الباحث عن تحقيق الاكتفاء الذاتي من الغذاء والذي تحمّلت فيه المجموعة الوطنيّة تكاليف إنجاز باهظة، وقد كان من المقرر ألا تزيد مساحة الخضروات عن ثلث المساحة المجهزة وقد دفع هذا التوجّه الجديد الفلاحين إلى البحث عن موارد مائيّة تعوّض الاضطراب في المياه التي توفّرها السدود، مما دفعهم إلى استنزاف المائدة المائية التي خضعت في مدّة قصيرة لنسق ضخ يفوق طاقة تجددها خاصة في مناطق ساحل بنزرت والوطن القبلي والساحل، بل إنّ بعض مناطق زراعة القوارص بالوطن القبلي بلغ فيها عدد الآبار بالهكتار الواحد 4 آبار.

وتؤكد المعطيات التي استند إليها الباحث في ورقته التحليلية إلى تواضع نسبة الاستهلاك البشري مقابل الطلب الكبير للقطاع الفلاحي بالاعتماد على تقارير وزارة الفلاحة بلغت نسبة المياه المستعملة من قبل مختلف القطاعات الاقتصادية حوالي 2.528 مليار متر مكعّب سنة 1996 وتنامى الطلب على المياه ليصل إلى قرابة 2,688 مليار متر مكعّب سنة 2010 ومن المتوقع أن يتنامى الطلب على المياه سنة 2030 إلى حدود 2.770 مليار متر مكعّب لتبلغ بذلك نسبة النموّ بين 1996 و2030 قرابة 9 بالمائة، لكنّ هذا التطوّر في الطلب على الماء يختلف بين القطاعات الاقتصادية والاستهلاك البشري. كما تسيطر الفلاحة على قرابة 84 بالمائة من حجم كميّات المياه المعبأة، وهي كميّات موجّهة للزراعات السقويّة وبالرغم من توقّعات وزارة الفلاحة بتراجع الطلب الفلاحي في الفترة الممتدة بين 1996 و2030 فإنّ الفلاحة تبقى المستهلك الأول للمياه بتونس.

وأفاد الباحث في التاريخ المعاصر أكرم هويمل انه بعد الثورة وبسبب الفوضى وفي ظل غياب الدولة، حفر الآبار العشوائية تضاعف مما أدى إلى إجهاد المائدة المائية بنسبة 100 بالمائة وأدى ذلك إلى ارتفاع نسبة الملوحة في الماء، هذا بالإضافة إلى اكتشاف وجود أزمة تتغذى من سوء التصرف وغياب إستراتيجية واضحة، في حين انه في الستينات نجحت الدولة في وضع سياسة مائية ذات فاعلية من خلال إحداث شبكة سدود مترابطة وكبيرة لكن اليوم السدود تمر بوضع صعب من حيث بنيتها المهترئة حيث فقدت قدرتها على التخزين بالشكل المطلوب إضافة إلى عدم استغلال التساقطات بالشكل اللازم إذ لا تتجاوز نسبة الاستغلال 10 بالمائة من قرابة 36 مليار متر مكعب في السنة يحزن منها فقط 4.8 مليار متر مكعب.

سدود مهترئة

وحسب هويمل فان عمر السدود يتراوح بين 70 و80 سنة في حين أنها في تونس توجد سدود هرمة ومهترئة وفقدت قدرتها على التخزين بالشكل المطلوب في المقابل يعيش العالم حربا مائية، فقد بدأت الصراعات منذ مدة بين الدول بسبب الماء حيث تسعى العديد من الدول لبسط نفوذها والسيطرة أكثر على موارد المياه.

قضية ومخاوف

وفي البحث الذي اجري اقر هويمل  بان قضيّة الماء في تونس بدأت تثير مخاوف الحكومات المتعاقبة وكذلك المختصين والباحثين في المجال المائي والبيئة والمناخ، كما يبدو أن هناك إجماعا حول الإقرار بتصنيف تونس ضمن الدّول التي باتت تشهد أزمة مرتبطة بالماء أصبحت تهدد السلم وتدفع بالمجتمع نحو الاحتجاج والضغط للمطالبة بتوفير الماء وتحسين جودته وعدم تواصل انقطاعه.

فهل أنّ اعتبار تونس بلدا فقيرا مائيّا هو حقيقة يجب التسليم بها، أم أنّ الاحتياجات المائيّة الاقتصادية والبشريّة أكثر بكثير من الإمكانيات الموجودة والبلاد غير قادرة على تعبئتها، أم أنّ هناك خللا في التصرّف في المياه ومعالجة هذا الخلل سيمكننا من تحقيق توازن بين العرض والطلب واكتفاء ذاتيّا يجعل حاجيات الفرد والمجموعة من المياه تصبح هدفا ممكن التحقّق؟

وانطلاقا من هذه الأسئلة حاول الباحث في التاريخ المعاصر من خلال ورقته التحليلية تحت عنوان أزمة المياه في تونس: سوء التصرّف في الموارد المائيّة يهدّد البلاد بالشحّ المائي البحث في حقيقة الإمكانيات المائيّة للبلاد التونسيّة وحجم الموارد المائيّة اللازم توفيرها حتى يخرج الفرد من دائرة الفقر المائي (400 متر مكعّب حاليّا) ويحقّق المستوى الذي تقرّه المعايير الدوليّة (900 متر مكعّب سنويّا على الأقل).

كما أنه وعلى وقع تتالي سنوات الجفاف فإن إيرادات السدود سنة 2017 شهدت تراجعا بنسبة 60 بالمائة، بل إن سدّ سيدي سالم الذي يعد أكبر سدّ بتونس لم تتجاوز تعبئته 20 بالمائة من طاقة استيعابه وهو ما تسبب في حدوث اضطرابات وانقطاعات متواصلة لملياه الشرب سنة 2017 وفي تدهور جودة المياه، كما شهدت نفس الصائفة بلوغ درجات الحرارة مستويات قياسية ممّا ضاعف معدل استهلاك مياه الشرب 4 مرات في بعض المناطق.

أمّا مياه الأودية والروافد المائية فهي لا تتجاوز 2.5 مليار متر مكعّب في حين تنحصر المياه الجوفية في حدود 2.1 مليار متر مكعّب في السنة. وتبرز المعطيات التي توفّرها الإدارة العامة للموارد المائية وجود تفاوت في التوزيع الجغرافي للمياه بين مختلف الأقاليم في تونس حيث يحتكر الشمال 81 بالمائة من المياه السطحية كما أنّ قرابة 60 بالمائة من الثروة المائية بصنفيها موجودة بالشمال، وترتكّز أغلب المياه السطحيّة بالشمال الغربي وذلك لتوفر مجاري مائية دائمة السيلان تلتقي كلها في حوض وادي مجردة ومنها مياه الروافد الشمالية مثل وادي بوهرتمة ووادي كساب بباجة وهي أودية شبه خالية من الملوحة.

جهاد الكلبوسي

    بلغت 4 أبار في الهكتار السقوي: المائدة المائية "استنزفت".. من يتحمل المسؤولية؟

 

تونس – الصباح

تحولت أزمة الماء في تونس في الفترة الأخيرة إلى حقيقة.. وأصبحت السلط المعنية ترى في الموارد المائية القضية الكبرى والتحدي القادم في ظل ندرة المياه ونقص الأمطار وتتالي سنوات الجفاف خاصة أن معطيات مؤكدة تفيد أن تونس أصبحت تعيش تحت خط الشح المائي.

وكان البنك الدولي أكد في تقرير أصدره سنة 2009، بان تونس  مهددة  بخطر الجفاف وإمكانية دخول البلاد في أزمة فقر مائي حاد خلال السنوات المقبلة، كما بين البنك الدولي أن الأزمة تعود إلى اعتماد تونس بشكل كبير على المياه السطحية من الأنهار والأمطار لتوفير ثلاثة أرباع حاجياتها من المياه، وهي تتركز في مناطق محدودة في شمال البلاد وغربها.

وضعية صعبة

حمّادي الحبيب المدير العام للتخطيط والتوازنات المائية بوزارة الفلاحة أفاد "الصباح" بان وضعية الموارد المائية في تونس صعبة من خلال استعراضه لآخر المؤشرات حول معدلات الأمطار والتي تمثلت في تسجيل 59 بالمائة من المعدل العام للتساقطات للفترة الممتدة من 1 سبتمبر إلى 6 جانفي 2023 في الشمال الغربي في حين بلغ المعدل بالشمال الشرقي 48 بالمائة و27 بالمائة بالوسط الغربي و22 بالمائة بالوسط الشرقي في حين بلغ معدل الأمطار بالنسبة للجنوب الغربي 20 بالمائة و15 بالمائة بالنسبة للجنوب الشرقي.

وابرز الحبيب أن نسبة امتلاء السدود بلغت حسب الأرقام المتوفرة لدى وزارة الفلاحة إلى غاية يوم الجمعة الفارط 113مليون متر مكعب لتبلغ نسبة امتلاء السدود 27.9 بالمائة، مضيفا انه يوميا تعقد اجتماعات على مستوى وزارة الفلاحة لتدارس الوضع لإيجاد حلول أمام نقص الأمطار والإيرادات وذلك بالتعاون مع مصالح المياه والمندوبيات الجهوية للتنمية الفلاحية.

تقلص الإيرادات

رضا قبوج، المدير العام للهندسة الريفية واستغلال المياه بوزارة الفلاحة أفاد "الصباح" بان التغييرات المناخية زادت في تأزم الوضع منذ سنة 2016 بسبب تواصل الجفاف ما أدى إلى تقلص الإرادات إلى اقل من المعدل إذ لم تتعد في أحسن الحالات 45 بالمائة ما دفعنا إلى التصرف في ندرة المياه وإعطاء الأولوية لمياه الشرب والبقية للري وتم خلال سنة 2016 تمكين نسبة لا تتعدى 20 بالمائة للري أساسا للأشجار المثمرة والزراعات العلفية.

وأكد مدير عام الهندسة الريفية واستغلال المياه بوزارة الفلاحة انه في تونس ليس لنا خيار إلا بالمحافظة على الموارد المائية الموجودة لأننا أصبحنا نعيش تحت خط الشح المائي، بمعدل 420 مترا مكعبا للفرد سنويا في حين أن معدل الشح المائي 500 متر مكعب والفقر المائي ألف لتر مكعب.

وحسب قبوج فان المجامع المائية في تونس يصل عددها إلى 2700 منها 1400 ماء صالح للشرب والبقية تستغل للري وهي متواجدة في المناطق الريفية، مضيفا بان هذه المجامع كانت في التسعينات أنظمة مائية بسيطة وعدد المنتفعين بها غير كبير لكن بعامل الوقت وفي ظل ندرة الموارد المائية تشعبت المشاكل واضطرت الهياكل المشرفة على هذه المجامع لتوسيع الشبكة مما عقد التصرف فيها مع العلم أن المجامع تعود بالنظر فنيا إلى وزارة الفلاحة وإداريا إلى الولاة.

وشدد ممثل وزارة الفلاحة على أن الربط العشوائي وعدم انضباط المنتفعين أدى إلى الاستغلال المفرط لطاقة المائدة المائية هذا بالإضافة إلى ارتفاع مديونية المجامع المائية إلى الشركة التونسية للكهرباء والغاز لتبلغ قيمة هذه الديون 10 مليون دينار.

إن الواقع المائي يجعلنا ندرك توجّها سلبيّا نحو التركيز على المياه الباطنيّة حيث تشير الأرقام إلى تطوّر نسبة استغلالها من 92 بالمائة سنة 2010 إلى 131 بالمائة سنة 2016 في المقابل نلاحظ إمهالا وسوء استغلال مياه التساقطات التي تذهب في اغلبها إلى البحر. هذا التقصير يطرح أزمة السدود التي كانت تستطيع أن تلعب دور الخزان والمزوّد الأهم للماء بتونس.

غياب الحوكمة

كما أنّ مجهودات الدولة والاستثمارات الطائلة التي تم توجيهها في سبيل تهيئة وبناء السدود الخزانة منذ الاستقلال اصطدمت بجملة من الانعكاسات المرتبطة بغياب استراتيجيات التخطيط والحوكمة. فمن ناحية لم تنجح هذه المنشآت في التكامل مع التقنيات التقليديّة التي كانت متّبعة بالبلاد التونسيّة لتعبئة المياه واستغلالها على غرار البحيرات الجبلية والمصاطب والمساقي والغوط، ومن ناحية أخرى تم إتلاف جزء كبير من هذا التراث التقني بسبب تركيز السياسية المائية الجديدة على تعبئة الماء دون المحافظة على أديم الأرض وعلى نسق تطعيم المائدة المائية مما أدّى إلى تقلّصها وارتفاع نسبة ملوحتها.

السدود وتأثيرها على المائدة المائية

إضافة إلى التأثيرات المباشرة لهذه السدود على التربة والمائدة المائية فإنها تتعرّض للتلف وعادة ما تمتلئ خزّاناتها بالطمي والحجارة وهو ما يقلّص من صلوحيتها وعمرها إلى نصف قرن. ويؤثر هذا التراجع في طاقة استيعاب السدود مباشرة وفي نسق توزيع المياه الموجّهة للاستعمال المنزلي وإلي المناطق السقويّة إضافة إلى التأثير في درجة تواتر هذا التوزيع الذي يؤدي بدوره إلى عزوف الفلاحين عن الإقبال على الزراعات الأساسية مثل الحبوب، والعلف، بسبب خوفهم من التلف الناجم عن اضطراب توزيع المياه وبالتالي اضطرارهم للإقبال على زراعة الخضر غيري الفصليّة والأشجار المثمرة وهذا التوجّه يمثل انحرافا عن اختيارات المشروع الأصلي الباحث عن تحقيق الاكتفاء الذاتي من الغذاء والذي تحمّلت فيه المجموعة الوطنيّة تكاليف إنجاز باهظة، وقد كان من المقرر ألا تزيد مساحة الخضروات عن ثلث المساحة المجهزة وقد دفع هذا التوجّه الجديد الفلاحين إلى البحث عن موارد مائيّة تعوّض الاضطراب في المياه التي توفّرها السدود، مما دفعهم إلى استنزاف المائدة المائية التي خضعت في مدّة قصيرة لنسق ضخ يفوق طاقة تجددها خاصة في مناطق ساحل بنزرت والوطن القبلي والساحل، بل إنّ بعض مناطق زراعة القوارص بالوطن القبلي بلغ فيها عدد الآبار بالهكتار الواحد 4 آبار.

وتؤكد المعطيات التي استند إليها الباحث في ورقته التحليلية إلى تواضع نسبة الاستهلاك البشري مقابل الطلب الكبير للقطاع الفلاحي بالاعتماد على تقارير وزارة الفلاحة بلغت نسبة المياه المستعملة من قبل مختلف القطاعات الاقتصادية حوالي 2.528 مليار متر مكعّب سنة 1996 وتنامى الطلب على المياه ليصل إلى قرابة 2,688 مليار متر مكعّب سنة 2010 ومن المتوقع أن يتنامى الطلب على المياه سنة 2030 إلى حدود 2.770 مليار متر مكعّب لتبلغ بذلك نسبة النموّ بين 1996 و2030 قرابة 9 بالمائة، لكنّ هذا التطوّر في الطلب على الماء يختلف بين القطاعات الاقتصادية والاستهلاك البشري. كما تسيطر الفلاحة على قرابة 84 بالمائة من حجم كميّات المياه المعبأة، وهي كميّات موجّهة للزراعات السقويّة وبالرغم من توقّعات وزارة الفلاحة بتراجع الطلب الفلاحي في الفترة الممتدة بين 1996 و2030 فإنّ الفلاحة تبقى المستهلك الأول للمياه بتونس.

وأفاد الباحث في التاريخ المعاصر أكرم هويمل انه بعد الثورة وبسبب الفوضى وفي ظل غياب الدولة، حفر الآبار العشوائية تضاعف مما أدى إلى إجهاد المائدة المائية بنسبة 100 بالمائة وأدى ذلك إلى ارتفاع نسبة الملوحة في الماء، هذا بالإضافة إلى اكتشاف وجود أزمة تتغذى من سوء التصرف وغياب إستراتيجية واضحة، في حين انه في الستينات نجحت الدولة في وضع سياسة مائية ذات فاعلية من خلال إحداث شبكة سدود مترابطة وكبيرة لكن اليوم السدود تمر بوضع صعب من حيث بنيتها المهترئة حيث فقدت قدرتها على التخزين بالشكل المطلوب إضافة إلى عدم استغلال التساقطات بالشكل اللازم إذ لا تتجاوز نسبة الاستغلال 10 بالمائة من قرابة 36 مليار متر مكعب في السنة يحزن منها فقط 4.8 مليار متر مكعب.

سدود مهترئة

وحسب هويمل فان عمر السدود يتراوح بين 70 و80 سنة في حين أنها في تونس توجد سدود هرمة ومهترئة وفقدت قدرتها على التخزين بالشكل المطلوب في المقابل يعيش العالم حربا مائية، فقد بدأت الصراعات منذ مدة بين الدول بسبب الماء حيث تسعى العديد من الدول لبسط نفوذها والسيطرة أكثر على موارد المياه.

قضية ومخاوف

وفي البحث الذي اجري اقر هويمل  بان قضيّة الماء في تونس بدأت تثير مخاوف الحكومات المتعاقبة وكذلك المختصين والباحثين في المجال المائي والبيئة والمناخ، كما يبدو أن هناك إجماعا حول الإقرار بتصنيف تونس ضمن الدّول التي باتت تشهد أزمة مرتبطة بالماء أصبحت تهدد السلم وتدفع بالمجتمع نحو الاحتجاج والضغط للمطالبة بتوفير الماء وتحسين جودته وعدم تواصل انقطاعه.

فهل أنّ اعتبار تونس بلدا فقيرا مائيّا هو حقيقة يجب التسليم بها، أم أنّ الاحتياجات المائيّة الاقتصادية والبشريّة أكثر بكثير من الإمكانيات الموجودة والبلاد غير قادرة على تعبئتها، أم أنّ هناك خللا في التصرّف في المياه ومعالجة هذا الخلل سيمكننا من تحقيق توازن بين العرض والطلب واكتفاء ذاتيّا يجعل حاجيات الفرد والمجموعة من المياه تصبح هدفا ممكن التحقّق؟

وانطلاقا من هذه الأسئلة حاول الباحث في التاريخ المعاصر من خلال ورقته التحليلية تحت عنوان أزمة المياه في تونس: سوء التصرّف في الموارد المائيّة يهدّد البلاد بالشحّ المائي البحث في حقيقة الإمكانيات المائيّة للبلاد التونسيّة وحجم الموارد المائيّة اللازم توفيرها حتى يخرج الفرد من دائرة الفقر المائي (400 متر مكعّب حاليّا) ويحقّق المستوى الذي تقرّه المعايير الدوليّة (900 متر مكعّب سنويّا على الأقل).

كما أنه وعلى وقع تتالي سنوات الجفاف فإن إيرادات السدود سنة 2017 شهدت تراجعا بنسبة 60 بالمائة، بل إن سدّ سيدي سالم الذي يعد أكبر سدّ بتونس لم تتجاوز تعبئته 20 بالمائة من طاقة استيعابه وهو ما تسبب في حدوث اضطرابات وانقطاعات متواصلة لملياه الشرب سنة 2017 وفي تدهور جودة المياه، كما شهدت نفس الصائفة بلوغ درجات الحرارة مستويات قياسية ممّا ضاعف معدل استهلاك مياه الشرب 4 مرات في بعض المناطق.

أمّا مياه الأودية والروافد المائية فهي لا تتجاوز 2.5 مليار متر مكعّب في حين تنحصر المياه الجوفية في حدود 2.1 مليار متر مكعّب في السنة. وتبرز المعطيات التي توفّرها الإدارة العامة للموارد المائية وجود تفاوت في التوزيع الجغرافي للمياه بين مختلف الأقاليم في تونس حيث يحتكر الشمال 81 بالمائة من المياه السطحية كما أنّ قرابة 60 بالمائة من الثروة المائية بصنفيها موجودة بالشمال، وترتكّز أغلب المياه السطحيّة بالشمال الغربي وذلك لتوفر مجاري مائية دائمة السيلان تلتقي كلها في حوض وادي مجردة ومنها مياه الروافد الشمالية مثل وادي بوهرتمة ووادي كساب بباجة وهي أودية شبه خالية من الملوحة.

جهاد الكلبوسي

  Conception & Réalisation  Alpha Studios Copyright © 2023  assabahnews