إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

فتح ملف التسفير لفك "شيفرات" العشرية الماضية

 

 

تونس – الصباح

أعاد فتح القضاء التونسي في هذه الفترة ملف التسفير إلى بؤر التوتر والإرهاب الذي كان عنوانا بارزا لمرحلة تونس ما بعد ثورة 2011، الجدل من جديد حول ملف "حارق" ومصدر "ألغاز" محكم التعقيد تتداخل فيه عدة جهات وعوامل وأجندات، ألقى بتداعياته على الأمن القومي في تونس في مرحلة الانتقال الديمقراطي وتعداه ليشمل المشهد السياسي والوضع الاجتماعي والثقافي والفكري ويلقي بثقله أيضا على سياسة الدولة داخليا وإقليميا ودوليا. ويعد هذا الملف من بين "الملفات الكبرى الأخرى "المفاتيح" التي ميزت نفس المرحلة وهزت الرأيين الخاص والعام في تونس وخارجها، واعتبر البعض الحسم فيها مسألة مفصلية في تاريخ تونس المعاصر، وقد تعهد رئيس الجمهورية قيس سعيد وعدة جهات أخرى في تونس بفتحها والحسم فيها بعد أن شابها التعطيل والتلاعب بملفاتها مثل الاغتيالات السياسية والإرهاب والفساد الذي نخر مؤسسات وهياكل الدولة. وقد نشطت عدة جمعيات وهياكل في المجال بما حول عملية التسفير إلى منجز يتباهى به البعض ويتسابق من أجله البعض الآخر. 

وإذا كان القضاء التونسي قد فتح من جديد ملف التسفير بعد ما يقارب عشر سنوات من انطلاق إرهاصاته الأولى سنة 2012، فإن تحقيقاته الموسعة قد طالت إلى حد الآن وفق ما أعلنت عنه الجهات الرسمية مسؤولين وأمنيين ووزراء سابقين ورجال أعمال وسياسيين منهم من ينتمي لحركة النهضة أو مقربين منها. وشملت قائمة المتهمين أكثر من 100 شخص تورطوا في تسفير الشباب للقتال ضمن المجموعات الإرهابية في سوريا من بينهم القيادي السابق في حركة النهضة الحبيب اللوز والنائب السابق بالبرلمان وصاحب شركة طيران محمد الفريخة وعبد الكريم العبيدي وفتحي البلدي وفتحي بوصيدة ورضا الجوادي والشيخ البشير بلحسن وأشخاص آخرين وعلي العريض القيادي نائب رئيس حركة النهضة ووزير داخلية ورئيس الحكومة الأسبق إضافة إلى مثول الغنوشي أمام الوحدة الوطنية للبحث في جرائم الإرهاب والجرائم المنظمة الماسة بسلامة التراب الوطني ببوشوشة بالعاصمة أمس، فضلا عما أعلنه القيادي في نفس الحزب نورالدين البحيري بأن جهة تابعة لوزارة العدل أعلمت فرع المحامين بتونس بأنه سيتم استدعاؤه إلى جانب كل من عبد الرؤوف العيادي رئيس حركة وفاء المنشقة عن المؤتمر من أجل الجمهورية، الحزب الذي كان قياديا فيه إضافة إلى أنور أولاد علي وذلك للتحقيق معهم في ملف التسفير خلال الأيام القادمة.

ويجدر التذكير أن فتح هذا الملف كان على خلفية شكاية رفعتها فاطمة المسدي النائب السابق بالبرلمان المنحل وعضوة لجنة التحقيق في شبكات التسفير في نفس البرلمان، في ديسمبر 2021 بالمحكمة العسكرية. إذ سبق أن صدرت أحكاما بالسجن مدى الحياة وأخرى تراوحت بين سنتين و80 سنة في حق متهمين في قضايا التسفير والإرهاب في مارس سنة 2021 وذلك بعد أن أصدرت الدائرة الجنائية بالمحكمة الابتدائية بتونس العاصمة المختصة في مكافحة الإرهاب أحكام بالسجن مدى الحياة وأحكاما أخرى تراوحت بين عامين و80 سنة سجنا في حق عدد من المتهمين في 5 قضايا إرهابية متعلقة أساسا بالتسفير نحو بؤر التوتر وبجرائم إرهابية أخرى. ويكفي العودة إلى ما أكده الناطق الرسمي باسم المحكمة الابتدائية بتونس محسن الدالي، في تصريح لوكالة تونس إفريقيا للأنباء في نفس الفترة ومفاده أن الدائرة الجنائية المذكورة نظرت في 5 قضايا إرهابية شملت 61 متهما من بينهم 6 بحالة إيقاف، والبقية في حالة سراح أو فرار، وشملت عناصر قيادية في تنظيمات إرهابية.

 محطات مفصلية

إذ عرفت تونس بعد الثورة محطات مفصلية هدفها تغيير النمط المجتمعي وسياسة الدولة المدنية المعاصرة لإرساء منظومة جديدة تقطع مع ما هو "علماني" كمصطلح يختزل في أبعاده ومفهومه نمطا سياسيا وثقافيا وفكريا قائما. وتؤكد عديد الجهات أن التسفير والإرهاب لم تكن عمليات مسقطة على المجتمع التونسي بل توفرت جملة من العوامل والآليات الممنهجة التي مهدت لها الطريق في سياق ما عرفته بلادنا من محاولات تغيير النمط المجتمعي التونسي  بإدخال ثقافات ومظاهر سلوكية فردية وجماعية غير مألوفة وغريبة على المجتمع والثقافة التونسيين في تلك الفترة وذلك تحت شعار "الحريات" باعتبار أن بلادنا في تلك الحقبة كانت ترزح تحت نظام ديكتاتوري وقمع الحريات شكلت من بين العوامل التي حركت معاول الثورة ضد منظومة بن علي في أواخر 2010.  فبعد أشهر قليلة من فرار الرئيس الراحل زين العابدين بن علي إلى السعودية والقطع رسميا مع منظومته الحاكمة سجلت بلادنا بوادر نشر ظواهر وأنماط ثقافية ومظاهر اجتماعية جديدة دخيلة على تونس كان عنوانها الكبير هو "أسلمة" المجتمع التونسي، وكان قياديو حركة النهضة في صدارة الدعوة والتشجيع على ذلك. ويكفي العودة إلى الحديث المسرب من لقاء راشد الغنوشي، رئيس حركة النهضة، مع رجل الأعمال فتحي دمق، المتهم في قضية تآمر على الأمن القومي، وما تضمنه من عبارات مفاتيح "الجيش موش مضمون".. لتفتح أبواب الحملات الدعوية وبث "أفكار دخيلة" لدعاة أجانب ممن تتعارض أفكارهم مع الثقافة والفكر والمنهج الإسلامي التونسي على غرار وجدي غنيم وثقافة ختان الفتيات في تونس لتتبعها الدعوات إلى الجهاد. إضافة إلى توسع الجهاز الدعوي ونشاطه في كامل جهات الجمهورية على نحو حول تونس إلى منصة دعوية تشتغل على الاستقطاب وبث الفكر السلفي في مرحلة ثم تسفير الشباب إلى بؤر التوتر والإرهاب في مرحلة ثانية. ولم يقتصر الأمر على المهمشين وذوي المستوى التعليمي المحدود والذكور بل شمل أيضا الفتيات والنساء والطلبة وخريجي الجامعات. فانتشرت ظاهرة حرق والاعتداء على الزوايا والمقابر والمواقع الأثرية والثقافية وترهيب المثقفين والسياسيين والناشطين المدنيين الرافضين لمثل هذه الأنماط "الإخوانية" الدخيلة على تونس.

 وكان التجمع الكبير الذي شهدته مدينة القيروان في ماي 2012 بمشاركة موسعة لأنصار الشريعة الحاملين للرايات السوداء ورافعين شعارات فيها عنف وتهديد أثناء استعراض للقوة بحضور زعيم التنظيم سيف الله بن حسين المعروف بأبي عياض، تأكيد على وجهة المجتمع التونسي الجديدة آنذاك، وتم الإعلان خلال نفس المناسبة عن رؤية الحركة لتونس جديدة يجري فيها إصلاح الإعلام والتعليم والسياحة والتجارة وفقا لتعاليم الإسلام. وتمت الدعوة إلى إقامة نقابة عمال "إسلامية" تتصدى للنقابات القوية التي يهيمن عليها العلمانيون، والتي اصطدمت مرارا مع الحكومة التي يقودها الإسلاميون في تونس.

فكان أن طغى تحولت المساحات الحوارية التلفزية والإذاعية والإعلام البديل بعد الهجمة الموسعة على وسائل الإعلام والإعلاميين، إلى أشبه بمحطات لبث الفكر الدعوي والسلفي تشجع على الجهات وتنظر للإرهاب بشكل مباشر أو غير مباشر. وقد تم طرح عديد القضايا خلال السنوات الماضية ذات صلة بملف التسفير منها تدليس وتسهيل جوازات السفر والتدريب و"الدمغجة" والتكوين وتسفير.

كما يكفي العودة إلى ظاهرة "جهاد النكاح" وما أثارته من جدل في أوساط سياسية ومدنية نظرا لتضاربها مع واقع المرأة التونسية وما أكدته من كفاءة وريادة في مختلف المجالات على مستويين وطني وعالمي وما تحظى به من حقوق ومكتسبات تكرسها مجلة الأحوال الشخصية. إضافة إلى عمليات إرهابية نفذتها نساء، كلها كانت عوامل ونتائج لعمليات التسفير والاستقطاب التي عرفتها بلادنا خلال العشرية السوداء التي حمل فيها البعض أعلام سوداء بديلا لعلم تونس برمزيته الوطنية.

 إخطبوط فساد وإرهاب

سبق أن كشفت هيئة الدفاع عن الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي في مناسبات سابقة أن عن وجود إخطبوط ضالع في الفساد والإرهاب متورط في التسفير والاغتيالات السياسية والعمليات الإرهابية التي ذهب ضحيتها عشرات من أبناء المؤسستين العسكرية والأمنية فضلا عن الاعتداءات الإرهابية التي مثلت ضربة قاسمة للاقتصاد الوطني وليس للسياحة  فحسب على غرار العمليات الإرهابية في متحف باردو في 18 مارس 2015 وما خلفته من ضحايا إضافة إلى الاعتداء الإرهابي على أحد النزل بسوسة الذي خلف عشرات القتلى والجرحى. وبينت الأبحاث أن هذه العمليات شارك فيها عائدون من بؤر التوتر وقاموا بعديد عمليات القتل والذبح والتفجير.

وقد كان لهذه العمليات تداعيات سلبية على تونس ليس في مستوى اقتصادي وسياحي فحسب وإنما على المشهد السياسي والحركة الفكرية والثقافية التي طغى عليها الفساد والعنف اللفطي والمادي والشعبوية.

 المرزوقي مهد الطريق 

لئن تباينت المعطيات والأرقام حول عدد من تم تسفيرهم إلى بؤر التوتر والإرهاب، فإن الإجماع على قدرة عمليات الاستقطاب والتسفير على الزج بآلاف من أبناء تونس في "محرقة" الإرهاب خال العشرية الماضية لتكون ذروة العملية سنتي 2012 و2013. وأجمعت عديد الجهات على أن قرار رئيس الجمهورية المؤقت منصف المرزوقي قطع العلاقات مع سوريا وطرد السفير السوري بتونس وغلق سفارة تونس بدمشق في فيفري 2012 واحتضان بلادنا لمؤتمر أصدقاء سوريا في شهر أفريل من نفس العام كان بمثابة فتح الطريق على مصراعيه للشباب التونسي لينخرط في الإرهاب في الوقت الذي كان ينتظر الاستجابة لجملة من المطالب التي رفعها في ثورة "الياسمين" منها الشغل والحرية والكرامة الوطنية.  وقد أكدت اللجنة التونسية لمكافحة الإرهاب سنة 2019،  أن عدد المقاتلين التونسيين في بؤر التوتر بلغ حوالي 3 آلاف، عاد منهم إلى تونس 1000 عنصر إرهابي، إلى غاية 2018". فيما بينت تقارير دولية وأممية أن عدد التونسيين الذين التحقوا ببؤر الصراع والإرهاب تجاوز الخمسة آلاف. إذ لا تزال عديد العائلات التونسية تعيش على وقع ألم الفراق والعصف بأحلام أبنائها ممن تم استقطابهم في عمليات تسفير إلى بلدان تشهد توتر وحروب وإرهاب على غرار سوريا والعراق وليبيا واليمن ومالي أو تم استقطابها من قبل تنظيمات إرهابية تنشط في تونس، وتؤكد العمليات المسجلة في تونس خلال العشرية الماضية تأكيد على ذلك. ويبقى هذا الملف مفتوحا لتطورات أخرى نظرا لتشابكه وتداخله مع ملفات حارقة أخرى من قبيل ملفا الاغتيالات السياسية والإرهاب التي تنتظر بدورها الفتح والحسم بعد تعافي المؤسسة القضائية من التمكن والتوظيف "السياسي" والحزبي، مثلا يذهب إلى ذلك عدد من المتابعين للشأن العام في تونس.

نزيهة الغضباني

   فتح ملف التسفير لفك "شيفرات" العشرية الماضية

 

 

تونس – الصباح

أعاد فتح القضاء التونسي في هذه الفترة ملف التسفير إلى بؤر التوتر والإرهاب الذي كان عنوانا بارزا لمرحلة تونس ما بعد ثورة 2011، الجدل من جديد حول ملف "حارق" ومصدر "ألغاز" محكم التعقيد تتداخل فيه عدة جهات وعوامل وأجندات، ألقى بتداعياته على الأمن القومي في تونس في مرحلة الانتقال الديمقراطي وتعداه ليشمل المشهد السياسي والوضع الاجتماعي والثقافي والفكري ويلقي بثقله أيضا على سياسة الدولة داخليا وإقليميا ودوليا. ويعد هذا الملف من بين "الملفات الكبرى الأخرى "المفاتيح" التي ميزت نفس المرحلة وهزت الرأيين الخاص والعام في تونس وخارجها، واعتبر البعض الحسم فيها مسألة مفصلية في تاريخ تونس المعاصر، وقد تعهد رئيس الجمهورية قيس سعيد وعدة جهات أخرى في تونس بفتحها والحسم فيها بعد أن شابها التعطيل والتلاعب بملفاتها مثل الاغتيالات السياسية والإرهاب والفساد الذي نخر مؤسسات وهياكل الدولة. وقد نشطت عدة جمعيات وهياكل في المجال بما حول عملية التسفير إلى منجز يتباهى به البعض ويتسابق من أجله البعض الآخر. 

وإذا كان القضاء التونسي قد فتح من جديد ملف التسفير بعد ما يقارب عشر سنوات من انطلاق إرهاصاته الأولى سنة 2012، فإن تحقيقاته الموسعة قد طالت إلى حد الآن وفق ما أعلنت عنه الجهات الرسمية مسؤولين وأمنيين ووزراء سابقين ورجال أعمال وسياسيين منهم من ينتمي لحركة النهضة أو مقربين منها. وشملت قائمة المتهمين أكثر من 100 شخص تورطوا في تسفير الشباب للقتال ضمن المجموعات الإرهابية في سوريا من بينهم القيادي السابق في حركة النهضة الحبيب اللوز والنائب السابق بالبرلمان وصاحب شركة طيران محمد الفريخة وعبد الكريم العبيدي وفتحي البلدي وفتحي بوصيدة ورضا الجوادي والشيخ البشير بلحسن وأشخاص آخرين وعلي العريض القيادي نائب رئيس حركة النهضة ووزير داخلية ورئيس الحكومة الأسبق إضافة إلى مثول الغنوشي أمام الوحدة الوطنية للبحث في جرائم الإرهاب والجرائم المنظمة الماسة بسلامة التراب الوطني ببوشوشة بالعاصمة أمس، فضلا عما أعلنه القيادي في نفس الحزب نورالدين البحيري بأن جهة تابعة لوزارة العدل أعلمت فرع المحامين بتونس بأنه سيتم استدعاؤه إلى جانب كل من عبد الرؤوف العيادي رئيس حركة وفاء المنشقة عن المؤتمر من أجل الجمهورية، الحزب الذي كان قياديا فيه إضافة إلى أنور أولاد علي وذلك للتحقيق معهم في ملف التسفير خلال الأيام القادمة.

ويجدر التذكير أن فتح هذا الملف كان على خلفية شكاية رفعتها فاطمة المسدي النائب السابق بالبرلمان المنحل وعضوة لجنة التحقيق في شبكات التسفير في نفس البرلمان، في ديسمبر 2021 بالمحكمة العسكرية. إذ سبق أن صدرت أحكاما بالسجن مدى الحياة وأخرى تراوحت بين سنتين و80 سنة في حق متهمين في قضايا التسفير والإرهاب في مارس سنة 2021 وذلك بعد أن أصدرت الدائرة الجنائية بالمحكمة الابتدائية بتونس العاصمة المختصة في مكافحة الإرهاب أحكام بالسجن مدى الحياة وأحكاما أخرى تراوحت بين عامين و80 سنة سجنا في حق عدد من المتهمين في 5 قضايا إرهابية متعلقة أساسا بالتسفير نحو بؤر التوتر وبجرائم إرهابية أخرى. ويكفي العودة إلى ما أكده الناطق الرسمي باسم المحكمة الابتدائية بتونس محسن الدالي، في تصريح لوكالة تونس إفريقيا للأنباء في نفس الفترة ومفاده أن الدائرة الجنائية المذكورة نظرت في 5 قضايا إرهابية شملت 61 متهما من بينهم 6 بحالة إيقاف، والبقية في حالة سراح أو فرار، وشملت عناصر قيادية في تنظيمات إرهابية.

 محطات مفصلية

إذ عرفت تونس بعد الثورة محطات مفصلية هدفها تغيير النمط المجتمعي وسياسة الدولة المدنية المعاصرة لإرساء منظومة جديدة تقطع مع ما هو "علماني" كمصطلح يختزل في أبعاده ومفهومه نمطا سياسيا وثقافيا وفكريا قائما. وتؤكد عديد الجهات أن التسفير والإرهاب لم تكن عمليات مسقطة على المجتمع التونسي بل توفرت جملة من العوامل والآليات الممنهجة التي مهدت لها الطريق في سياق ما عرفته بلادنا من محاولات تغيير النمط المجتمعي التونسي  بإدخال ثقافات ومظاهر سلوكية فردية وجماعية غير مألوفة وغريبة على المجتمع والثقافة التونسيين في تلك الفترة وذلك تحت شعار "الحريات" باعتبار أن بلادنا في تلك الحقبة كانت ترزح تحت نظام ديكتاتوري وقمع الحريات شكلت من بين العوامل التي حركت معاول الثورة ضد منظومة بن علي في أواخر 2010.  فبعد أشهر قليلة من فرار الرئيس الراحل زين العابدين بن علي إلى السعودية والقطع رسميا مع منظومته الحاكمة سجلت بلادنا بوادر نشر ظواهر وأنماط ثقافية ومظاهر اجتماعية جديدة دخيلة على تونس كان عنوانها الكبير هو "أسلمة" المجتمع التونسي، وكان قياديو حركة النهضة في صدارة الدعوة والتشجيع على ذلك. ويكفي العودة إلى الحديث المسرب من لقاء راشد الغنوشي، رئيس حركة النهضة، مع رجل الأعمال فتحي دمق، المتهم في قضية تآمر على الأمن القومي، وما تضمنه من عبارات مفاتيح "الجيش موش مضمون".. لتفتح أبواب الحملات الدعوية وبث "أفكار دخيلة" لدعاة أجانب ممن تتعارض أفكارهم مع الثقافة والفكر والمنهج الإسلامي التونسي على غرار وجدي غنيم وثقافة ختان الفتيات في تونس لتتبعها الدعوات إلى الجهاد. إضافة إلى توسع الجهاز الدعوي ونشاطه في كامل جهات الجمهورية على نحو حول تونس إلى منصة دعوية تشتغل على الاستقطاب وبث الفكر السلفي في مرحلة ثم تسفير الشباب إلى بؤر التوتر والإرهاب في مرحلة ثانية. ولم يقتصر الأمر على المهمشين وذوي المستوى التعليمي المحدود والذكور بل شمل أيضا الفتيات والنساء والطلبة وخريجي الجامعات. فانتشرت ظاهرة حرق والاعتداء على الزوايا والمقابر والمواقع الأثرية والثقافية وترهيب المثقفين والسياسيين والناشطين المدنيين الرافضين لمثل هذه الأنماط "الإخوانية" الدخيلة على تونس.

 وكان التجمع الكبير الذي شهدته مدينة القيروان في ماي 2012 بمشاركة موسعة لأنصار الشريعة الحاملين للرايات السوداء ورافعين شعارات فيها عنف وتهديد أثناء استعراض للقوة بحضور زعيم التنظيم سيف الله بن حسين المعروف بأبي عياض، تأكيد على وجهة المجتمع التونسي الجديدة آنذاك، وتم الإعلان خلال نفس المناسبة عن رؤية الحركة لتونس جديدة يجري فيها إصلاح الإعلام والتعليم والسياحة والتجارة وفقا لتعاليم الإسلام. وتمت الدعوة إلى إقامة نقابة عمال "إسلامية" تتصدى للنقابات القوية التي يهيمن عليها العلمانيون، والتي اصطدمت مرارا مع الحكومة التي يقودها الإسلاميون في تونس.

فكان أن طغى تحولت المساحات الحوارية التلفزية والإذاعية والإعلام البديل بعد الهجمة الموسعة على وسائل الإعلام والإعلاميين، إلى أشبه بمحطات لبث الفكر الدعوي والسلفي تشجع على الجهات وتنظر للإرهاب بشكل مباشر أو غير مباشر. وقد تم طرح عديد القضايا خلال السنوات الماضية ذات صلة بملف التسفير منها تدليس وتسهيل جوازات السفر والتدريب و"الدمغجة" والتكوين وتسفير.

كما يكفي العودة إلى ظاهرة "جهاد النكاح" وما أثارته من جدل في أوساط سياسية ومدنية نظرا لتضاربها مع واقع المرأة التونسية وما أكدته من كفاءة وريادة في مختلف المجالات على مستويين وطني وعالمي وما تحظى به من حقوق ومكتسبات تكرسها مجلة الأحوال الشخصية. إضافة إلى عمليات إرهابية نفذتها نساء، كلها كانت عوامل ونتائج لعمليات التسفير والاستقطاب التي عرفتها بلادنا خلال العشرية السوداء التي حمل فيها البعض أعلام سوداء بديلا لعلم تونس برمزيته الوطنية.

 إخطبوط فساد وإرهاب

سبق أن كشفت هيئة الدفاع عن الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي في مناسبات سابقة أن عن وجود إخطبوط ضالع في الفساد والإرهاب متورط في التسفير والاغتيالات السياسية والعمليات الإرهابية التي ذهب ضحيتها عشرات من أبناء المؤسستين العسكرية والأمنية فضلا عن الاعتداءات الإرهابية التي مثلت ضربة قاسمة للاقتصاد الوطني وليس للسياحة  فحسب على غرار العمليات الإرهابية في متحف باردو في 18 مارس 2015 وما خلفته من ضحايا إضافة إلى الاعتداء الإرهابي على أحد النزل بسوسة الذي خلف عشرات القتلى والجرحى. وبينت الأبحاث أن هذه العمليات شارك فيها عائدون من بؤر التوتر وقاموا بعديد عمليات القتل والذبح والتفجير.

وقد كان لهذه العمليات تداعيات سلبية على تونس ليس في مستوى اقتصادي وسياحي فحسب وإنما على المشهد السياسي والحركة الفكرية والثقافية التي طغى عليها الفساد والعنف اللفطي والمادي والشعبوية.

 المرزوقي مهد الطريق 

لئن تباينت المعطيات والأرقام حول عدد من تم تسفيرهم إلى بؤر التوتر والإرهاب، فإن الإجماع على قدرة عمليات الاستقطاب والتسفير على الزج بآلاف من أبناء تونس في "محرقة" الإرهاب خال العشرية الماضية لتكون ذروة العملية سنتي 2012 و2013. وأجمعت عديد الجهات على أن قرار رئيس الجمهورية المؤقت منصف المرزوقي قطع العلاقات مع سوريا وطرد السفير السوري بتونس وغلق سفارة تونس بدمشق في فيفري 2012 واحتضان بلادنا لمؤتمر أصدقاء سوريا في شهر أفريل من نفس العام كان بمثابة فتح الطريق على مصراعيه للشباب التونسي لينخرط في الإرهاب في الوقت الذي كان ينتظر الاستجابة لجملة من المطالب التي رفعها في ثورة "الياسمين" منها الشغل والحرية والكرامة الوطنية.  وقد أكدت اللجنة التونسية لمكافحة الإرهاب سنة 2019،  أن عدد المقاتلين التونسيين في بؤر التوتر بلغ حوالي 3 آلاف، عاد منهم إلى تونس 1000 عنصر إرهابي، إلى غاية 2018". فيما بينت تقارير دولية وأممية أن عدد التونسيين الذين التحقوا ببؤر الصراع والإرهاب تجاوز الخمسة آلاف. إذ لا تزال عديد العائلات التونسية تعيش على وقع ألم الفراق والعصف بأحلام أبنائها ممن تم استقطابهم في عمليات تسفير إلى بلدان تشهد توتر وحروب وإرهاب على غرار سوريا والعراق وليبيا واليمن ومالي أو تم استقطابها من قبل تنظيمات إرهابية تنشط في تونس، وتؤكد العمليات المسجلة في تونس خلال العشرية الماضية تأكيد على ذلك. ويبقى هذا الملف مفتوحا لتطورات أخرى نظرا لتشابكه وتداخله مع ملفات حارقة أخرى من قبيل ملفا الاغتيالات السياسية والإرهاب التي تنتظر بدورها الفتح والحسم بعد تعافي المؤسسة القضائية من التمكن والتوظيف "السياسي" والحزبي، مثلا يذهب إلى ذلك عدد من المتابعين للشأن العام في تونس.

نزيهة الغضباني

  Conception & Réalisation  Alpha Studios Copyright © 2023  assabahnews