إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

النظام الرئاسي الفرنسي وهاجس الاستقرار السياسي

 بقلم د. الصحراوي قمعون(*)

لازالت تونس اليوم تبحث عن النظام السياسي الملائم لها ولخصوصياتها الحضارية بعد قرن ونصف من تجربتها الإصلاحية الرائدة بإصدارها أول دستور في العالم العربي الإسلامي وهو دستور عهد الأمان عام 1860 ثم اعتمادها النظام الجمهوي الرئاسي غداة استقلالها.

 وقد عاشت البلاد التونسية منذ ذلك الاستقلال ولمدة نصف قرن في ظل نظام سياسي رئاسي عادي أو مطلق حسب الفترات والتنقيحات وحسب الأهواء والإكراهات. وهو مستوحي من النظام السياسي الفرنسي للجمهورية السادسة، قبل أن تغير تونس وجهتها عام 2011 إلى نظام هجين يجمع بين تناقضات ومساوئ كل من الرئاسي والبرلماني طوال العشرية الماضية، لم يتحقق فيها استقرار المؤسسات الحيوية للسلطة.

 وها هي تعود من جديد إلى نظام رئاسي كامل، حسب ما نص عليه الدستور الجديد المصادق عليه في استفتاء هذا العام 2022. ويتطلب النظام الفرنسي، في البلدان التي تستورده وتعتمده، تحسينات وتحيينات حسب خصوصيات البلد المستورد، خاصة وأنه في بلده الأصل يوجد محل مراجعات دورية وفكرية وانتقادات بناءة من طرف منظري الأنظمة السياسية وكتاب الدساتير، كما يتبين في هذا المقال، من مواقف مختلف المنظرين في هذا المجال علي الساحة الفرنسية. وفي بلدان العالم الثالث ومنها تونس بدستوريها لعام 1959 و2014 يوجد منظرو الدساتير وكتبتها "على الذمة"، مثل الخياط (تارزي)، كما صرح أحد هؤلاء إلى أحد الصحفيين، حيث يقوم بخياطة الدستور "كالكسوة الجاهزة" ،إما حسب مقاس مالك السلطة شخصيا، أو حسب مقاس وطلبات المنظمات الدولية المهتمة بالديمقراطية الفوقية المسقطة والتي لها أجندات خاصة متعددة الجنسيات. وقد ازدهرت هذه الأخيرة وهيمنت علي المشهد الدستوري والحقوقي خلال العشرية المنقضية في تونس.

  واستنادا إلى تفاصيل نظريات مدارس القانون الدستوري المقارنة، والى تاريخ الأفكار السياسية من أرسطو والفارابي إلى طوكفيل، فإن النظام الرئاسي الفرنسي الحالي سمح في نظر المختصين ، باستمرار النظام السياسي المستقر لأكثر من ستين سنة منذ الجمهورية السادسة مع توفير آليات لفض النزاعات بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية وضمان استقرار واشتغال المؤسسات الدستورية، حيث يقوم على سلطة رئيس الجمهورية ، تليه سلطة البرلمان وباقي مكونات سلطة الحكم. وهو نظام سياسي للحكم السلطوي يتناسب مع الإرث السياسي للحكم القائم على رأس واحد أعلى للسلطة في بلدان العالم العربي الإسلامي قديما وحديثا، انتقل فيها الحكم السلطوي المطلق من الإمبراطور، إلى الخليفة، إلى الأمير، إلى الباي، إلى الرئيس الأوحد المفدى. فرنسا وسلطة الإدارة النافذة لقد تناول علماء السياسة الفرنسيين في دراساتهم الأكاديمية ومؤلفاتهم العديدة واقع الحياة السياسية في بلادهم وخصوصية مسار السلطة فيها، التي تملك فيها الدولة اليوم سلطة نافذة وهي إدارتها المركزية التي تتمتع بقدر كبير من التأثير والنجاعة، رغم التطور الحاصل في الأنظمة السياسية المتلاحقة فيها منذ قرون وفي الدول المجاورة لها. وقد نقلت هذه القوة الضاربة للإدارة الفرنسية نموذجها المتضخم ونظامها السياسي إلى الدول التي استعمرتها مثل بلدان المغرب العربي أو القارة الإفريقية ، وهي دول تشكو من قوة وثقل جهاز الإدارة المتشابك مع دواليب الدولة وتفرعات السلطة فيها. ويقول عالم السياسة الفرنسي ستانلي هوفمان، في كتابه "حول فرنسا"(سِيرْ لاَ فْرَانْسْ. ِص 225):"منذ قرون ظلت مأساة فرنسا كمجموعة سياسية متمثلة في العلاقات بين المجتمع والدولة وهي عبارة عن سلسلة من التوازن والانخرام بين الإثنين، تبدو أكثر أهمية من التواتر العرضي للأنظمة والثورات ...لقد ظل التوازن قائما حول الدولة التي يتمثل دورها في خنق كل الأزمات المهددة بالنشوب، ليس فقط من خلال القضاء على مصادر استقلال السلطة، ولكن أيضا من خلال تطويع فئة المؤثرين في المجتمع وضمان حد أدنى من التحرك الاجتماعي، ومن خلال ممارسة أشكال عدة من الرقابة المادية والمعنوية على جمهور الشعب." استمرارية الدولة الفاعلة كما تناول من جهته فرانسوا بوريلا، وهو أحد دارسي النظام السياسي الفرنسي في العديد من الكتب والبحوث التي أصدرها، واقع السلطة السياسية ودور الأحزاب في النظام السياسي التعددي، معتبرا أن فرنسا، التي دخلت في الجمهورية الخامسة منذ 1962، حرص النظام المتلاحق فيها على ضمان استمرارية الدولة الفاعلة عبر آليات مختلفة، وقع تعهدها بالزيادة والنقصان في التنقيحات الدستورية التي تراوحت بين جرعات من النظام البرلماني وتكريس النظام الرئاسي منذ عام 1962 مع الرئيس "شارل ديغول" الذي حكم بالشرعية التاريخية التي منحتها له تزعمه حركة تحرير فرنسا من الاحتلال الألماني. وهكذا فإن مهندسي النظام السياسي الفرنسي وضعوا نصب أعينهم إيجاد رأس وسلطة للدولة بهدف حماية الديمقراطية، أي التعددية الحزبية. فعلى مستوى سلطة الدولة، وفي أعلى هرم السلطة ليس هناك مجال للنقاشات أو الاحتجاجات على ماهية مصلحة الدولة والتي جسمها (ديغول) في ندوة صحفية بتاريخ 5 سبتمبر 1965 حين قال: (من الأهمية بمكان أن تتجلى إرادة الأمة بشكل إجمالي حين يتعلق الأمر بمصير البلاد). وهكذا فإن رئيس الدولة يبقى فوق الخلافات وبمنأى عن التجاذبات. "وفي المقابل وعلى مستوى السلطة التشريعية البرلمانية التي تحتل المرتبة الثانية، فإن المجال مفتوح للعبة المصالح وشهية الحكم والأفكار حتى يقوم البرلمان بدوره التمثيلي" ، كما جاء في كتاب بوريلا (ص50). وفي نظر هؤلاء المنظرين الفرنسيين ، فإن هذا النظام يشجع تركيز مصلحة الدولة فوق كل الأحزاب حيث يتميز النظام الفرنسي بتشجيع الثنائية السياسية عوض الثنائية الحزبية. ويصبح المرشح إلى رئاسة الجمهورية ممثلا لتيار سياسي شامل (يمين أو يسار) وليس ممثلا للحزب الذي يتزعمه، وهو أمر انطبق على "ديغول" و"بومبيدو" و"شيراك" (يمين) و"ميتران" الذي كان مرشح جبهة اليسار (الحزب الاشتراكي والحزب الشيوعي)، وعلى الانتخابات الأخيرة لعام 2022. وهكذا ضمنت الدولة الفرنسية استمرارية السلطة الحاكمة، حتى في صورة اضطراب الآليات عند اختلال التوازن بين أغلبية الرئاسة التنفيذية والأغلبية البرلمانية، وهو ما تجسم في تجربة التعايش السياسي بين رئيس اشتراكي (ميتران) وحكومة يمينية برئاسة (شيراك) بعد فوز اليمين في الانتخابات التشريعية. وهو نفس السيناريو الذي تكرر مع شيراك ذاته حين وجد نفسه، وهو رئيس الدولة، أمام أغلبية يسارية في البرلمان واضطر إلى تكليف الاشتراكي (ليونال جوسبان) برئاسة حكومة يسارية. ويبقى النظام السياسي الفرنسي الذي تطور على مدى أكثر من قرنين منذ الثورة الفرنسية عام 1789 ، كما يقول فرانسوا بوريلا، "غير معقد التركيبة في ظاهره. ويتكون من جهاز أساسي، وهو رئيس الجمهورية، وجهاز ثانوي وهو البرلمان، وجهاز ثالث يربط بين الإثنين وهو الحكومة. ويتم اتخاذ القرارات حسب آلية توزيع المهام بين سلطة البرلمان وسلطة الحكومة، وهي آلية تخضع للدستور والممارسة. كما أن الدور المركزي لرئيس الجمهورية في العملية السياسية والسباق الانتخابي من أجل الحفاظ على السلطة أو الحصول عليها وإزاحة الآخر، تجعل الإستراتيجية الرئاسية منصبة على القبول بالزعيم حتى في ظل انعدام البرامج بهدف الوصول إلى الحكم مهما كان الثمن. حدود الاستقرار السياسي ولكن هذا النظام الذي يضمن استقرار مؤسسات الدولة يلقى الانتقاد من معارضيه، كما يقول بوريلا، في كتابه الأخر "الأحزاب السياسية في فرنسا اليوم". (ص. 5) :'' وفي نظر منتقديه من قوى الوسط فإن النظام السياسي الفرنسي الحالي ليس سوى نظام سلطة فردية يسمح باستعمار الدولة من قبل حزب واحد ". ومن جهته، ينتقد عالم الاجتماع الفرنسي بيار ميرماي، في الكتاب الذي أصدره عام 2014 بعنوان "إعادة بناء فرنسا: نداء من أجل ديمقراطية إيجابية"، واقع الحياة السياسية في فرنسا التي يصفها بأنها تعيش "احتضار النموذج الجمهوري" وتعطل الديمقراطية بسبب أزمة الثقة في الدولة والسلطة وتفاقم الفروقات الاجتماعية والتوترات والمخاطر داخل مجتمع أصبح "أحادي التوجه وعمودي المنهج ". والمطلوب في نظره، أن تعود الدولة "تعددية التوجه وأفقية المنهج" في عملية بنائها. ويقترح للخروج من الأزمة "إرساء ديمقراطية إيجابية تندرج في إطار عقد اجتماعي يقوم على مجتمع أفقي وتعاوني"

(*)صحفي باحث في علوم الاعلام والصحافة

 

النظام الرئاسي الفرنسي وهاجس الاستقرار السياسي

 بقلم د. الصحراوي قمعون(*)

لازالت تونس اليوم تبحث عن النظام السياسي الملائم لها ولخصوصياتها الحضارية بعد قرن ونصف من تجربتها الإصلاحية الرائدة بإصدارها أول دستور في العالم العربي الإسلامي وهو دستور عهد الأمان عام 1860 ثم اعتمادها النظام الجمهوي الرئاسي غداة استقلالها.

 وقد عاشت البلاد التونسية منذ ذلك الاستقلال ولمدة نصف قرن في ظل نظام سياسي رئاسي عادي أو مطلق حسب الفترات والتنقيحات وحسب الأهواء والإكراهات. وهو مستوحي من النظام السياسي الفرنسي للجمهورية السادسة، قبل أن تغير تونس وجهتها عام 2011 إلى نظام هجين يجمع بين تناقضات ومساوئ كل من الرئاسي والبرلماني طوال العشرية الماضية، لم يتحقق فيها استقرار المؤسسات الحيوية للسلطة.

 وها هي تعود من جديد إلى نظام رئاسي كامل، حسب ما نص عليه الدستور الجديد المصادق عليه في استفتاء هذا العام 2022. ويتطلب النظام الفرنسي، في البلدان التي تستورده وتعتمده، تحسينات وتحيينات حسب خصوصيات البلد المستورد، خاصة وأنه في بلده الأصل يوجد محل مراجعات دورية وفكرية وانتقادات بناءة من طرف منظري الأنظمة السياسية وكتاب الدساتير، كما يتبين في هذا المقال، من مواقف مختلف المنظرين في هذا المجال علي الساحة الفرنسية. وفي بلدان العالم الثالث ومنها تونس بدستوريها لعام 1959 و2014 يوجد منظرو الدساتير وكتبتها "على الذمة"، مثل الخياط (تارزي)، كما صرح أحد هؤلاء إلى أحد الصحفيين، حيث يقوم بخياطة الدستور "كالكسوة الجاهزة" ،إما حسب مقاس مالك السلطة شخصيا، أو حسب مقاس وطلبات المنظمات الدولية المهتمة بالديمقراطية الفوقية المسقطة والتي لها أجندات خاصة متعددة الجنسيات. وقد ازدهرت هذه الأخيرة وهيمنت علي المشهد الدستوري والحقوقي خلال العشرية المنقضية في تونس.

  واستنادا إلى تفاصيل نظريات مدارس القانون الدستوري المقارنة، والى تاريخ الأفكار السياسية من أرسطو والفارابي إلى طوكفيل، فإن النظام الرئاسي الفرنسي الحالي سمح في نظر المختصين ، باستمرار النظام السياسي المستقر لأكثر من ستين سنة منذ الجمهورية السادسة مع توفير آليات لفض النزاعات بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية وضمان استقرار واشتغال المؤسسات الدستورية، حيث يقوم على سلطة رئيس الجمهورية ، تليه سلطة البرلمان وباقي مكونات سلطة الحكم. وهو نظام سياسي للحكم السلطوي يتناسب مع الإرث السياسي للحكم القائم على رأس واحد أعلى للسلطة في بلدان العالم العربي الإسلامي قديما وحديثا، انتقل فيها الحكم السلطوي المطلق من الإمبراطور، إلى الخليفة، إلى الأمير، إلى الباي، إلى الرئيس الأوحد المفدى. فرنسا وسلطة الإدارة النافذة لقد تناول علماء السياسة الفرنسيين في دراساتهم الأكاديمية ومؤلفاتهم العديدة واقع الحياة السياسية في بلادهم وخصوصية مسار السلطة فيها، التي تملك فيها الدولة اليوم سلطة نافذة وهي إدارتها المركزية التي تتمتع بقدر كبير من التأثير والنجاعة، رغم التطور الحاصل في الأنظمة السياسية المتلاحقة فيها منذ قرون وفي الدول المجاورة لها. وقد نقلت هذه القوة الضاربة للإدارة الفرنسية نموذجها المتضخم ونظامها السياسي إلى الدول التي استعمرتها مثل بلدان المغرب العربي أو القارة الإفريقية ، وهي دول تشكو من قوة وثقل جهاز الإدارة المتشابك مع دواليب الدولة وتفرعات السلطة فيها. ويقول عالم السياسة الفرنسي ستانلي هوفمان، في كتابه "حول فرنسا"(سِيرْ لاَ فْرَانْسْ. ِص 225):"منذ قرون ظلت مأساة فرنسا كمجموعة سياسية متمثلة في العلاقات بين المجتمع والدولة وهي عبارة عن سلسلة من التوازن والانخرام بين الإثنين، تبدو أكثر أهمية من التواتر العرضي للأنظمة والثورات ...لقد ظل التوازن قائما حول الدولة التي يتمثل دورها في خنق كل الأزمات المهددة بالنشوب، ليس فقط من خلال القضاء على مصادر استقلال السلطة، ولكن أيضا من خلال تطويع فئة المؤثرين في المجتمع وضمان حد أدنى من التحرك الاجتماعي، ومن خلال ممارسة أشكال عدة من الرقابة المادية والمعنوية على جمهور الشعب." استمرارية الدولة الفاعلة كما تناول من جهته فرانسوا بوريلا، وهو أحد دارسي النظام السياسي الفرنسي في العديد من الكتب والبحوث التي أصدرها، واقع السلطة السياسية ودور الأحزاب في النظام السياسي التعددي، معتبرا أن فرنسا، التي دخلت في الجمهورية الخامسة منذ 1962، حرص النظام المتلاحق فيها على ضمان استمرارية الدولة الفاعلة عبر آليات مختلفة، وقع تعهدها بالزيادة والنقصان في التنقيحات الدستورية التي تراوحت بين جرعات من النظام البرلماني وتكريس النظام الرئاسي منذ عام 1962 مع الرئيس "شارل ديغول" الذي حكم بالشرعية التاريخية التي منحتها له تزعمه حركة تحرير فرنسا من الاحتلال الألماني. وهكذا فإن مهندسي النظام السياسي الفرنسي وضعوا نصب أعينهم إيجاد رأس وسلطة للدولة بهدف حماية الديمقراطية، أي التعددية الحزبية. فعلى مستوى سلطة الدولة، وفي أعلى هرم السلطة ليس هناك مجال للنقاشات أو الاحتجاجات على ماهية مصلحة الدولة والتي جسمها (ديغول) في ندوة صحفية بتاريخ 5 سبتمبر 1965 حين قال: (من الأهمية بمكان أن تتجلى إرادة الأمة بشكل إجمالي حين يتعلق الأمر بمصير البلاد). وهكذا فإن رئيس الدولة يبقى فوق الخلافات وبمنأى عن التجاذبات. "وفي المقابل وعلى مستوى السلطة التشريعية البرلمانية التي تحتل المرتبة الثانية، فإن المجال مفتوح للعبة المصالح وشهية الحكم والأفكار حتى يقوم البرلمان بدوره التمثيلي" ، كما جاء في كتاب بوريلا (ص50). وفي نظر هؤلاء المنظرين الفرنسيين ، فإن هذا النظام يشجع تركيز مصلحة الدولة فوق كل الأحزاب حيث يتميز النظام الفرنسي بتشجيع الثنائية السياسية عوض الثنائية الحزبية. ويصبح المرشح إلى رئاسة الجمهورية ممثلا لتيار سياسي شامل (يمين أو يسار) وليس ممثلا للحزب الذي يتزعمه، وهو أمر انطبق على "ديغول" و"بومبيدو" و"شيراك" (يمين) و"ميتران" الذي كان مرشح جبهة اليسار (الحزب الاشتراكي والحزب الشيوعي)، وعلى الانتخابات الأخيرة لعام 2022. وهكذا ضمنت الدولة الفرنسية استمرارية السلطة الحاكمة، حتى في صورة اضطراب الآليات عند اختلال التوازن بين أغلبية الرئاسة التنفيذية والأغلبية البرلمانية، وهو ما تجسم في تجربة التعايش السياسي بين رئيس اشتراكي (ميتران) وحكومة يمينية برئاسة (شيراك) بعد فوز اليمين في الانتخابات التشريعية. وهو نفس السيناريو الذي تكرر مع شيراك ذاته حين وجد نفسه، وهو رئيس الدولة، أمام أغلبية يسارية في البرلمان واضطر إلى تكليف الاشتراكي (ليونال جوسبان) برئاسة حكومة يسارية. ويبقى النظام السياسي الفرنسي الذي تطور على مدى أكثر من قرنين منذ الثورة الفرنسية عام 1789 ، كما يقول فرانسوا بوريلا، "غير معقد التركيبة في ظاهره. ويتكون من جهاز أساسي، وهو رئيس الجمهورية، وجهاز ثانوي وهو البرلمان، وجهاز ثالث يربط بين الإثنين وهو الحكومة. ويتم اتخاذ القرارات حسب آلية توزيع المهام بين سلطة البرلمان وسلطة الحكومة، وهي آلية تخضع للدستور والممارسة. كما أن الدور المركزي لرئيس الجمهورية في العملية السياسية والسباق الانتخابي من أجل الحفاظ على السلطة أو الحصول عليها وإزاحة الآخر، تجعل الإستراتيجية الرئاسية منصبة على القبول بالزعيم حتى في ظل انعدام البرامج بهدف الوصول إلى الحكم مهما كان الثمن. حدود الاستقرار السياسي ولكن هذا النظام الذي يضمن استقرار مؤسسات الدولة يلقى الانتقاد من معارضيه، كما يقول بوريلا، في كتابه الأخر "الأحزاب السياسية في فرنسا اليوم". (ص. 5) :'' وفي نظر منتقديه من قوى الوسط فإن النظام السياسي الفرنسي الحالي ليس سوى نظام سلطة فردية يسمح باستعمار الدولة من قبل حزب واحد ". ومن جهته، ينتقد عالم الاجتماع الفرنسي بيار ميرماي، في الكتاب الذي أصدره عام 2014 بعنوان "إعادة بناء فرنسا: نداء من أجل ديمقراطية إيجابية"، واقع الحياة السياسية في فرنسا التي يصفها بأنها تعيش "احتضار النموذج الجمهوري" وتعطل الديمقراطية بسبب أزمة الثقة في الدولة والسلطة وتفاقم الفروقات الاجتماعية والتوترات والمخاطر داخل مجتمع أصبح "أحادي التوجه وعمودي المنهج ". والمطلوب في نظره، أن تعود الدولة "تعددية التوجه وأفقية المنهج" في عملية بنائها. ويقترح للخروج من الأزمة "إرساء ديمقراطية إيجابية تندرج في إطار عقد اجتماعي يقوم على مجتمع أفقي وتعاوني"

(*)صحفي باحث في علوم الاعلام والصحافة

 

  Conception & Réalisation  Alpha Studios Copyright © 2023  assabahnews