إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

بديهية العدالة

بقلم: سارة بن حسين

لقد اختلفت مفاهيم العدل والمساواة في الفلسفة كما في الديانات التوحيدية رغم أنها قد تبدو منصهرة تماما قبل أي تشريح فلسفي أو ديني لها، وقد سال حبر أقلام معاصرة كثيرة في هذه المسائل مجتمعة أو مفصلة وربما تداخلت فيها مفاهيم أخرى مثل الحق والقانون والقوة وغيرها. وهذه المفاهيم كانت ملازمة للإنسان منذ بداية الحضارة فقد ألف أفلاطون كتاب الجمهورية سنة 380 قبل الميلاد وهو عبارة عن حوار بين سقراط وبعض الشخصيات يتحدث فيه عن المدينة الفاضلة كما يتصورها، وقد شهدت هذه المفاهيم طفرتها في عصر الأنوار في أوروبا، لكنني أريد اليوم أن أتناول واقع العدالة في تونس وبالتركيز على دور القاضي ومدى شعوره بأهمية هذا الدور، أريد أن أتناول دور القاضي بين الموجود والمنشود في مرحلة دقيقة يتداخل فيها دوره بشدة مع الأمن القومي..

قال العلامة التونسي عبد الرحمان بن خلدون إن "العدل أساس العمران" وقال أيضا "إذا حللت بإفريقية فوافق أو نافق أو غادر البلاد". فإذا كانت العدالة قائمة فلماذا أوافق أو أنافق أو أغادر البلاد؟!! لماذا أضطر للمناورة تجنبا للصدام؟!! وهل افترض ابن خلدون غياب العدالة في بلاد إفريقية التي هي تونس وقدمها كبديهية يؤسس عليها البديهية الثانية التي تقوم على حتمية المناورة أو المغادرة؟

إن السلطة السياسية هي التي تقوم بإرساء العدل والمساواة معا أما القضاء فهو الذي يقوم بإرساء العدل، وبدون العدل لن تكون هناك مساواة ولا حقوق ولا أمن، وحين يغيب كل ذلك تصبح السلطة السياسية بدورها مهددة في وجودها وتنهار كل المؤسسات..

إن العدل يا سيدي القاضي لا يتحقق نتيجة لدراسات جامعية وأكاديمية مكثفة أو إبحار في الفصول القانونية و تحليلها وتفكيكها وتطبيق النصوص فقط، إن العدل فكرة وقيمة، وهو لا ينفصل عن جملة من المعطيات الفطرية التي ولدت بها ولا يمكن ينفصل تماما عن الأنا الأعلى الذي يستبطنه لاوعيك بالضرورة. إن الخير في العدل، فعندما يفتقر داخلك للقيم الإنسانية على سبيل المثال لا يمكنك عندها أن تكون عادلا مهما كنت رياضيا في تطبيقك للنصوص. أن تكون إنسانا، هذا في اعتقادي أول شرط والشرط الثاني أن تشعر بالانتماء لهذه الأرض باستمرار، أن تشعر بأنك جندي في هذا الوطن وأن من واجبك أن تعمل على تحقيق العدالة وفي سبيل ذلك تتعالى عما يبخس قيمك وذاتك كقاض عادل، وفي الحقيقة لا أحد يستطيع أن يبخس القاضي فيك، لأنك وحدك من تموضع ذاتك، ترفعها حين تعدل وتهوي بها حين تتقاعس عن إرساء العدل وتظلم لأي سبب أو تتخلى عن دورك..

أكاد أقول أن القاضي يولد قاضيا لأنه يولد عادلا ومفهوم القاضي بالنسبة لي يساوي العدل ومن يحيد عن قيم العدل لا يمكن أن يكون بالضرورة قاضيا، ويصبح المفهوم في هذه الحالة أكبر من الشخص المكلف بإرساء العدل وأخل بواجبه. ولا أريد أن أخرج في سياق المعنى عن الراهن التونسي ليكون سؤالي لك سيدي القاضي المكلف بإرساء العدل؟ ماذا يفعل المواطن حين تتخلى عن واجبك لسبب ما أو لغير سبب؟ أين يذهب؟ وماذا يمكن أن يحل بالإنسان وبالوطن؟ إن الإجابة تتوفر في قوارب الموت وفي الخدمات العمومية المتردية وفي استفحال الرشوة والفساد وحالة الإحباط العامة، إنها تتوفر في استفحال العنف والسرقة والسلب والكثير من الأزمات الطاحنة..

سيدي القاضي إن دورك هو الدور الصعب في هذا الزمن المستحيل، والأدوار الصعبة تتطلب نفوسا راقية لا تعرف المحاباة ولا العجز ولا الخوف ولا السير ضمن القطيع..

إن دورك سيدي القاضي يتمثل في تحقيق العدالة التي يقوم على أساسها بنيان وطن كامل ودورك يحافظ على الإنسان في هذا الوطن، الإنسان بالمعنى القيمي والوجودي معا، والعدالة حين تتحقق كفيلة بأن تبني الإنسان وتصلح ما تهدم فيه. ولو كانت العدالة قد تحققت ما كان ليثور الناس ولا كانوا فضلوا قوارب الموت على وطن عادل وبلا فساد ولا فكر مسؤول في سرقة موارد الدولة ولا حاول عون أو موظف ابتزاز الناس والتنكيل بهم لاضطرارهم إلى الرشوة ولا قام محتكر بتجويع الأطفال والمرضى والمسنين ولا احتاجت الدولة لاقتطاع الرواتب لتعديل الميزانية التي استنزفها الساسة اللصوص ولو كانت العدالة قد تحققت لما وصل الوطن إلى هذه الحالة من الانهيار ولما وصل الإنسان في الوطن إلى مرحلة فقدان الأمل والثقة في الدولة وفي الغد..

إن دورك سيدي القاضي يبني ولا يهدم، هكذا يجب أن يكون، وحيث تقف تكون البدايات كما يمكن أن تأخذنا إلى النهايات ، ولك الاختيار..

يحيا القضاء العادل وتحيا تونس.

بديهية العدالة

بقلم: سارة بن حسين

لقد اختلفت مفاهيم العدل والمساواة في الفلسفة كما في الديانات التوحيدية رغم أنها قد تبدو منصهرة تماما قبل أي تشريح فلسفي أو ديني لها، وقد سال حبر أقلام معاصرة كثيرة في هذه المسائل مجتمعة أو مفصلة وربما تداخلت فيها مفاهيم أخرى مثل الحق والقانون والقوة وغيرها. وهذه المفاهيم كانت ملازمة للإنسان منذ بداية الحضارة فقد ألف أفلاطون كتاب الجمهورية سنة 380 قبل الميلاد وهو عبارة عن حوار بين سقراط وبعض الشخصيات يتحدث فيه عن المدينة الفاضلة كما يتصورها، وقد شهدت هذه المفاهيم طفرتها في عصر الأنوار في أوروبا، لكنني أريد اليوم أن أتناول واقع العدالة في تونس وبالتركيز على دور القاضي ومدى شعوره بأهمية هذا الدور، أريد أن أتناول دور القاضي بين الموجود والمنشود في مرحلة دقيقة يتداخل فيها دوره بشدة مع الأمن القومي..

قال العلامة التونسي عبد الرحمان بن خلدون إن "العدل أساس العمران" وقال أيضا "إذا حللت بإفريقية فوافق أو نافق أو غادر البلاد". فإذا كانت العدالة قائمة فلماذا أوافق أو أنافق أو أغادر البلاد؟!! لماذا أضطر للمناورة تجنبا للصدام؟!! وهل افترض ابن خلدون غياب العدالة في بلاد إفريقية التي هي تونس وقدمها كبديهية يؤسس عليها البديهية الثانية التي تقوم على حتمية المناورة أو المغادرة؟

إن السلطة السياسية هي التي تقوم بإرساء العدل والمساواة معا أما القضاء فهو الذي يقوم بإرساء العدل، وبدون العدل لن تكون هناك مساواة ولا حقوق ولا أمن، وحين يغيب كل ذلك تصبح السلطة السياسية بدورها مهددة في وجودها وتنهار كل المؤسسات..

إن العدل يا سيدي القاضي لا يتحقق نتيجة لدراسات جامعية وأكاديمية مكثفة أو إبحار في الفصول القانونية و تحليلها وتفكيكها وتطبيق النصوص فقط، إن العدل فكرة وقيمة، وهو لا ينفصل عن جملة من المعطيات الفطرية التي ولدت بها ولا يمكن ينفصل تماما عن الأنا الأعلى الذي يستبطنه لاوعيك بالضرورة. إن الخير في العدل، فعندما يفتقر داخلك للقيم الإنسانية على سبيل المثال لا يمكنك عندها أن تكون عادلا مهما كنت رياضيا في تطبيقك للنصوص. أن تكون إنسانا، هذا في اعتقادي أول شرط والشرط الثاني أن تشعر بالانتماء لهذه الأرض باستمرار، أن تشعر بأنك جندي في هذا الوطن وأن من واجبك أن تعمل على تحقيق العدالة وفي سبيل ذلك تتعالى عما يبخس قيمك وذاتك كقاض عادل، وفي الحقيقة لا أحد يستطيع أن يبخس القاضي فيك، لأنك وحدك من تموضع ذاتك، ترفعها حين تعدل وتهوي بها حين تتقاعس عن إرساء العدل وتظلم لأي سبب أو تتخلى عن دورك..

أكاد أقول أن القاضي يولد قاضيا لأنه يولد عادلا ومفهوم القاضي بالنسبة لي يساوي العدل ومن يحيد عن قيم العدل لا يمكن أن يكون بالضرورة قاضيا، ويصبح المفهوم في هذه الحالة أكبر من الشخص المكلف بإرساء العدل وأخل بواجبه. ولا أريد أن أخرج في سياق المعنى عن الراهن التونسي ليكون سؤالي لك سيدي القاضي المكلف بإرساء العدل؟ ماذا يفعل المواطن حين تتخلى عن واجبك لسبب ما أو لغير سبب؟ أين يذهب؟ وماذا يمكن أن يحل بالإنسان وبالوطن؟ إن الإجابة تتوفر في قوارب الموت وفي الخدمات العمومية المتردية وفي استفحال الرشوة والفساد وحالة الإحباط العامة، إنها تتوفر في استفحال العنف والسرقة والسلب والكثير من الأزمات الطاحنة..

سيدي القاضي إن دورك هو الدور الصعب في هذا الزمن المستحيل، والأدوار الصعبة تتطلب نفوسا راقية لا تعرف المحاباة ولا العجز ولا الخوف ولا السير ضمن القطيع..

إن دورك سيدي القاضي يتمثل في تحقيق العدالة التي يقوم على أساسها بنيان وطن كامل ودورك يحافظ على الإنسان في هذا الوطن، الإنسان بالمعنى القيمي والوجودي معا، والعدالة حين تتحقق كفيلة بأن تبني الإنسان وتصلح ما تهدم فيه. ولو كانت العدالة قد تحققت ما كان ليثور الناس ولا كانوا فضلوا قوارب الموت على وطن عادل وبلا فساد ولا فكر مسؤول في سرقة موارد الدولة ولا حاول عون أو موظف ابتزاز الناس والتنكيل بهم لاضطرارهم إلى الرشوة ولا قام محتكر بتجويع الأطفال والمرضى والمسنين ولا احتاجت الدولة لاقتطاع الرواتب لتعديل الميزانية التي استنزفها الساسة اللصوص ولو كانت العدالة قد تحققت لما وصل الوطن إلى هذه الحالة من الانهيار ولما وصل الإنسان في الوطن إلى مرحلة فقدان الأمل والثقة في الدولة وفي الغد..

إن دورك سيدي القاضي يبني ولا يهدم، هكذا يجب أن يكون، وحيث تقف تكون البدايات كما يمكن أن تأخذنا إلى النهايات ، ولك الاختيار..

يحيا القضاء العادل وتحيا تونس.

  Conception & Réalisation  Alpha Studios Copyright © 2023  assabahnews