إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

منتدى الصباح: ظهور الصحفي الخوارزمي ومولد النصوص الصحفية الالكترونية

بقلم د. الصحراوي قمعون(*)

في واقع صحفي يختلط فيه الواقع بالخيال، تتوسع دائرة الذكاء الاصطناعي وقدرته على اكتساح كل مجالات العمل والإبداع في مستقبل تسيطر عليه آليات التحكم الخوارزمي في مجريات الأمور وكل نواحي الحياة في كل المجتمعات الإنسانية الحالية والمستقبلية.

وفي نهاية عام 2020 اقتحم جيل جديد من الخوارزميات المنتجة للنصوص الصحفية التي يمكن أن تهدد الصحفيين في مصدر وجودهم ومهنتهم الإبداعية، بعد أن غزا الذكاء الإصطناعي في النهاية عالم الكتابة والتحرير، وأصبح بفضل تلك الخوارزميات المبرمجة قادرا على كتابة المقالات الصحفية الجيدة شكلا ومحتوى. وقد تحول إلى مُولِّد للنصوص الصحفية المبرمجة، كما المولد الكهربائي الذي ينتج الطاقة الكهربائية، حسب ما يبرمج له المهندس أو العون المكلف به.

ويطلق على المولد الصحفي تسمية "جي بي تي 3". وهو يقوم بتوليد المعلومات والأفكار التي يلتقطها ويبحث عنها في الأنترنات ليصوغ منها مقالات حسب الخوارزمية التي يزود بها في مجال التحرير، كما في مجالات استعمال الخوارزميات للتحكم في السياسة والانتخابات والاقتصاد والمجتمع والعلوم . وله طاقة إنتاجية كبرى وغير محدودة لاتكل أو تصاب بالإجهاد الفكري أو البدني، أي أنه قادر على تعويض قاعات التحرير بصحفييها وصحفياتها في المستقبل. ويمكن أن يقع تشغيل الصحف أو المواقع في المستقبل الإصطناعي من طرف شخص واحد يقوم بشحن تطبيقات الخوارزمية للانتاج الصحفي المبرمج .

"الروبوت الصحفي الكاتب"

لقد وصلت درجة إتقان الكتابة الصحفية الالكترونية أن تابع أكثر من 26 ألف متصفح لمدونات أعجبوا بمقالات بثها المدون، ولم يتفطن سوى مبحر واحد إلى أن تلك المقالات لا يمكن أن تكون من إنتاج بشري، لأنها كثيفة وكثيرة، وهو ما جلب له انتقادات باقي المبحرين من القطيع في تلك المدونة، التي أعلن صاحبها أن مادتها الصحفية هي من إنتاج مولد المقالات الصحفية "الروبوت الصحفي الكاتب"، حسب الخوارزميات التي زود بها حاسوبه. وحسب تلك الخوارزميات والمحتويات التي تم تزويده وحشوه بها، كان الكمبيوتر يكتب مقالات صحفية وتحاليل عن المستجدات في العالم، من التحرش الجنسي إلى النظام العالمي الجديد، إلي المؤامرات الدولية، إلى العنصرية ومشاكل الهجرة السرية والانتحار وغيرها من المواضيع المحددة من رئيس قلم التحرير الإلكتروني .

ولم يقع كشف الكمبيوتر الصحفي المعلق بسبب نوعية الكتابة ومحتواها، بل بكثرة إنتاجه، حيث تساءل أحد المبحرين: كيف لهذا المدون أن يتناول كل هذه المواضيع بنفس السرعة والطاقة الإنتاجية المكثفة للمقالات السريعة . وهكذا عوض هذا المدون الالكتروني كثيف الانتاج، نسخة الصحفي المماثل في الصحافة التقليدية والذي يطلق عليه في الصحافة المصرية "صحفي يكتب بأصابعه العشرة".

وعلي الشبكة العنكبوتية يطالع أكثر من ثلاثين مليون شخص منصة "أَسْكْ رِيدِتْ" (إسأل المحرر) التي تضم مقالات وإجابات عن أسئلة المبحرين يجيب عليها الدماغ الاصطناعي بكل دقة وسرعة وتبحُّر في العلوم والمعلومات المفيدة الخاضعة للمنطق والعقل.

وقد قامت صحيفة "الغارديان" البريطانية العريقة التي تأسست عام 1821 بتكليف مولد النصوص الالكتروني "جي بي تي 3" بكتابة مقال رأي يكون هدفه إقناع البشر بأن الإنسان الآلي لا يريد الشر للإنسان الأصلي. ونشرت الصحيفة في عددها ليوم 10 سبتمبر 2020 نص المقال الذي صاغه الكمبيوتر. وكان عبارة عن مرافعة مؤثرة عن إنسانية الإنسان الآلي واحترامه للإنسان الآدمي. وتضمن نص المقال إنشاء تحريريا فيه تجميع للأفكار المتداولة في الأنترنات وعبارات مجمعة حسب المعلومات التي بحث عنها في الانترنات وجمعها حسب الخوارزمية المحددة له والمزود بها للغرض الإنتاجي الكمي والكيفي، والتي تعوض في واقع حال الكتابة الصحفية اليدوية، اختيار زاوية الموضوع واحترام الخط التحريري للكتابة وتوجه النشرية .

المذيعة الالكترونية

لقد صاحبت تطور استعمالات الذكاء الاصطناعي والإنسان الآلي في مختلف مجالات الإنتاج والإبداع، إدخاله إلى عالم إنتاج الصحافة المكتوبة والمسموعة والمرئية، حيث قامت مذيعة تلفزيونية آلية من نوع الروبوت بقراءة نشرة الأخبار التلفزية ومحاورة الضيوف في الأستوديو أو عن بعد، وذلك في التلفزيون الصيني خلال عام 2020. ونفس الأمر انطبق على التنشيط الإذاعي للإنسان الآلي أنثي أو ذكر، بمحاكاة أداء وتنشيط الصحفي أو الصحفية أو المنشط أو المنشطة .

ومن المنتظر أن يتوسع استخدام الروبوتات الصحفية في إطار توسع الاستخدام العام لها في مختلف مجالات الحياة، أي في إطار مجتمع يسيطر عليه الروبوت والإنسان الآلي والعمل عن بعد، وتتحكم فيه خوارزميات أبي جعفر الخوارزمي.

وفي كتابه الأخير المعنون " من الحمام الزاجل إلى الشبكات الاجتماعية وما بعدها"، الصادر عام 2021 ، يتحدث عالم الاقتصاد والإعلام والاستشراف الفرنسي جاك أتالي، عن ميلاد صحفيين إلكترونيين في المستقبل. ويتساءل :"هل سيقع تعويض الصحفيين بالروبوتات وبالذكاء الاصطناعي، أم سيبقون لاعبين لا غنى عنهم في الديمقراطية وفي التحكم في المعلومة والمراقبة عبر الخوارزميات الموجهة، لأن من يملك المعلومة يملك السلطة في مختلف الحضارات عبر التاريخ".

وتبقى الاشكالية المطروحة وهي أن هذه المسارات الذكية المستعملة لخلق الموديلات الكتابية في العالم الافتراضي، قد لا تكون قادرة على الاشتغال الكامل في العالم الحقيقي، وهي المشكلة الأساسية والجوهرية، خاصة في القطاعات الإبداعية بروح الوجدانية مثل الصحافة ومجالات الابداع الكتابي الاخرى، مثل كتابة الروايات ونظم الشعر والوقوف على الأطلال "بسقط اللوى بين الدخول وحومل" كما كان يتغزل الشاعر الضليل امرؤ القيس. كما يطرح السؤال الأخر حول مدى قدرة الصحفي الالكتروني للتفاعل مع احترم مدونة السلوك التقليدي وميثاق شرف مهنة الصحافة واحترام الخط التحريري للمؤسسة الاعلامية التي يشتغل عندها. وهي قضايا أقضت مضجع الإعلام التقليدي وكانت محل معارك ونضالات منذ عقود وقرون من الزمن من أجل احترام حرية التعبير وتأكيد مصداقية الرسالة الإعلامية في مواجهة السياسة والمجتمع.

فكيف ستكون الأحوال في ظل مستقبل الذكاء الصناعي الطاغي على أوجه الحياة . قد تبدو اليوم أسئلة خيالية واعتباطية غير حارقة، ولكنها تطرح بحدة علي مجتمع المعرفة الالكتروني وسيطرة أليات العمل عن بعد وتراسل المعطيات وتحكم الخوازميات في مناحي الحياة مع نهاية هذا القرن التقليدي المحتضر.

واليوم يساعد الكمبيوتر، منذ عقود الصحفي في البحث عن المعلومات التوثيقية في الموسوعات الإخبارية والتحليلية عبر تقنيات الكلمات المفاتيح . وتصل نسبة مساهمة الحاسوب في عملية كتابة وصياغة ، بل وتكييف وجهة المقال إلى أكثر من خمسين بالمائة حاليا لدى كثير من الصحافيين ورؤساء التحرير وسكريتيري التحرير. وقد عوضت لدى هؤلاء تقنية " أنسخ/ ألصق" تلك التقنية الغابرة في قاعات التحرير الصدأة وهي تقنية "قص المقص" . وقد تتزايد النسبة في المستقبل المنظور ليتربع الصحفي الإلكتروني القادم على مهل، على عرش صاحبة الجلالة، متحكما بذلك في مفاصل المقال بواسطة الخوارزميات التي يزود بها الدماغ الالكتروني للحاسوب الشخصي لكل صحفي أو مبدع . وهي سيناريوهات ممكنة وقابلة للتطبيق في ظل الاستحكامات التي وضعها عالم الجبر أبوبكر الخوازمي عالم الرياضيات والفلك القادم إلينا من إشعاعات العصور الوسيطة الإسلامية الزاهية. وهي تطبيقات ، مستمدة من الرياضيات وحساب الجبر والمقابلة التي يطلق عليها اليوم "خوارزمية" أو" ألغوريتم" بكل لغات العالم، وتقوم علميا على تراكيب ثلاثة وهي التسلسل والاختيار والتكرار.

هكذا اطبق الخوارزمي كالأخطبوط على كل نواحي الحياة العلمية والتقنية والفكرية والصحفية وعلى حاضر ومستقبل هذه الحضارة التي تعيش في ثنايا شبكتها العنكبوتية. وهو يعود اليوم من بغداد الرشيد ليتحكم في نواحي وتقنيات الحضارة العلمية الغربية اللاتينية الاغريقية، التي تسيطر على العالم اليوم منذ أكثر من خمسة قرون، بعد أن أخذت، مع سقوط غرناطة واكتشاف كيستوف كولومب لأمريكا في نفس العام 1492، مكانة الحضارة العربية الإسلامية التي سيطرت علميا على العالم قبلها لمدة خمسة قرون، وكان أبوجعفر الخوارزمي أحد أكبر علمائها .

وللتذكير فإن الخوارزمي المولود عام 781 والمتوفى عام 847 ميلادي، قد عاش في فترة أوج تلك الحضارة العربية الإسلامية في بغداد زمن الخليفة المستنير والعالم المأمون الذي عين الخوارزمي على رأس "بيت الحكمة"، وهي الأكاديمية العلمية والمكتبة العليا لتلك الحضارة، وكلفه برسم خريطة للأرض وهو مشروع علمي عمل فيه إلى جانبه فريق من البحاثة يبلغ سبعين عالما في وكالة الأبحاث العلمية التابعة لبيت الحكمة. ويعتبر الخوارزمي مؤسس علم الجبر. وقد عرض في كتابه " المختصر في حساب الجبر والمقابلة" أول حل منهجي للمعادلات الخطية والمعادلات التربيعية . وقد اعتبرت كتبه خلاصة العلوم السابقة للإغريق والفرس والهنود. وقد ترجمت إلى اللغات اللاتينية وكانت بداية الصحوة والنهضة العلمية الأوروبية إلى اليوم.

(*)صحفي باحث في الإعلام والصحافة

 

 

 

منتدى الصباح: ظهور الصحفي الخوارزمي ومولد النصوص الصحفية الالكترونية

بقلم د. الصحراوي قمعون(*)

في واقع صحفي يختلط فيه الواقع بالخيال، تتوسع دائرة الذكاء الاصطناعي وقدرته على اكتساح كل مجالات العمل والإبداع في مستقبل تسيطر عليه آليات التحكم الخوارزمي في مجريات الأمور وكل نواحي الحياة في كل المجتمعات الإنسانية الحالية والمستقبلية.

وفي نهاية عام 2020 اقتحم جيل جديد من الخوارزميات المنتجة للنصوص الصحفية التي يمكن أن تهدد الصحفيين في مصدر وجودهم ومهنتهم الإبداعية، بعد أن غزا الذكاء الإصطناعي في النهاية عالم الكتابة والتحرير، وأصبح بفضل تلك الخوارزميات المبرمجة قادرا على كتابة المقالات الصحفية الجيدة شكلا ومحتوى. وقد تحول إلى مُولِّد للنصوص الصحفية المبرمجة، كما المولد الكهربائي الذي ينتج الطاقة الكهربائية، حسب ما يبرمج له المهندس أو العون المكلف به.

ويطلق على المولد الصحفي تسمية "جي بي تي 3". وهو يقوم بتوليد المعلومات والأفكار التي يلتقطها ويبحث عنها في الأنترنات ليصوغ منها مقالات حسب الخوارزمية التي يزود بها في مجال التحرير، كما في مجالات استعمال الخوارزميات للتحكم في السياسة والانتخابات والاقتصاد والمجتمع والعلوم . وله طاقة إنتاجية كبرى وغير محدودة لاتكل أو تصاب بالإجهاد الفكري أو البدني، أي أنه قادر على تعويض قاعات التحرير بصحفييها وصحفياتها في المستقبل. ويمكن أن يقع تشغيل الصحف أو المواقع في المستقبل الإصطناعي من طرف شخص واحد يقوم بشحن تطبيقات الخوارزمية للانتاج الصحفي المبرمج .

"الروبوت الصحفي الكاتب"

لقد وصلت درجة إتقان الكتابة الصحفية الالكترونية أن تابع أكثر من 26 ألف متصفح لمدونات أعجبوا بمقالات بثها المدون، ولم يتفطن سوى مبحر واحد إلى أن تلك المقالات لا يمكن أن تكون من إنتاج بشري، لأنها كثيفة وكثيرة، وهو ما جلب له انتقادات باقي المبحرين من القطيع في تلك المدونة، التي أعلن صاحبها أن مادتها الصحفية هي من إنتاج مولد المقالات الصحفية "الروبوت الصحفي الكاتب"، حسب الخوارزميات التي زود بها حاسوبه. وحسب تلك الخوارزميات والمحتويات التي تم تزويده وحشوه بها، كان الكمبيوتر يكتب مقالات صحفية وتحاليل عن المستجدات في العالم، من التحرش الجنسي إلى النظام العالمي الجديد، إلي المؤامرات الدولية، إلى العنصرية ومشاكل الهجرة السرية والانتحار وغيرها من المواضيع المحددة من رئيس قلم التحرير الإلكتروني .

ولم يقع كشف الكمبيوتر الصحفي المعلق بسبب نوعية الكتابة ومحتواها، بل بكثرة إنتاجه، حيث تساءل أحد المبحرين: كيف لهذا المدون أن يتناول كل هذه المواضيع بنفس السرعة والطاقة الإنتاجية المكثفة للمقالات السريعة . وهكذا عوض هذا المدون الالكتروني كثيف الانتاج، نسخة الصحفي المماثل في الصحافة التقليدية والذي يطلق عليه في الصحافة المصرية "صحفي يكتب بأصابعه العشرة".

وعلي الشبكة العنكبوتية يطالع أكثر من ثلاثين مليون شخص منصة "أَسْكْ رِيدِتْ" (إسأل المحرر) التي تضم مقالات وإجابات عن أسئلة المبحرين يجيب عليها الدماغ الاصطناعي بكل دقة وسرعة وتبحُّر في العلوم والمعلومات المفيدة الخاضعة للمنطق والعقل.

وقد قامت صحيفة "الغارديان" البريطانية العريقة التي تأسست عام 1821 بتكليف مولد النصوص الالكتروني "جي بي تي 3" بكتابة مقال رأي يكون هدفه إقناع البشر بأن الإنسان الآلي لا يريد الشر للإنسان الأصلي. ونشرت الصحيفة في عددها ليوم 10 سبتمبر 2020 نص المقال الذي صاغه الكمبيوتر. وكان عبارة عن مرافعة مؤثرة عن إنسانية الإنسان الآلي واحترامه للإنسان الآدمي. وتضمن نص المقال إنشاء تحريريا فيه تجميع للأفكار المتداولة في الأنترنات وعبارات مجمعة حسب المعلومات التي بحث عنها في الانترنات وجمعها حسب الخوارزمية المحددة له والمزود بها للغرض الإنتاجي الكمي والكيفي، والتي تعوض في واقع حال الكتابة الصحفية اليدوية، اختيار زاوية الموضوع واحترام الخط التحريري للكتابة وتوجه النشرية .

المذيعة الالكترونية

لقد صاحبت تطور استعمالات الذكاء الاصطناعي والإنسان الآلي في مختلف مجالات الإنتاج والإبداع، إدخاله إلى عالم إنتاج الصحافة المكتوبة والمسموعة والمرئية، حيث قامت مذيعة تلفزيونية آلية من نوع الروبوت بقراءة نشرة الأخبار التلفزية ومحاورة الضيوف في الأستوديو أو عن بعد، وذلك في التلفزيون الصيني خلال عام 2020. ونفس الأمر انطبق على التنشيط الإذاعي للإنسان الآلي أنثي أو ذكر، بمحاكاة أداء وتنشيط الصحفي أو الصحفية أو المنشط أو المنشطة .

ومن المنتظر أن يتوسع استخدام الروبوتات الصحفية في إطار توسع الاستخدام العام لها في مختلف مجالات الحياة، أي في إطار مجتمع يسيطر عليه الروبوت والإنسان الآلي والعمل عن بعد، وتتحكم فيه خوارزميات أبي جعفر الخوارزمي.

وفي كتابه الأخير المعنون " من الحمام الزاجل إلى الشبكات الاجتماعية وما بعدها"، الصادر عام 2021 ، يتحدث عالم الاقتصاد والإعلام والاستشراف الفرنسي جاك أتالي، عن ميلاد صحفيين إلكترونيين في المستقبل. ويتساءل :"هل سيقع تعويض الصحفيين بالروبوتات وبالذكاء الاصطناعي، أم سيبقون لاعبين لا غنى عنهم في الديمقراطية وفي التحكم في المعلومة والمراقبة عبر الخوارزميات الموجهة، لأن من يملك المعلومة يملك السلطة في مختلف الحضارات عبر التاريخ".

وتبقى الاشكالية المطروحة وهي أن هذه المسارات الذكية المستعملة لخلق الموديلات الكتابية في العالم الافتراضي، قد لا تكون قادرة على الاشتغال الكامل في العالم الحقيقي، وهي المشكلة الأساسية والجوهرية، خاصة في القطاعات الإبداعية بروح الوجدانية مثل الصحافة ومجالات الابداع الكتابي الاخرى، مثل كتابة الروايات ونظم الشعر والوقوف على الأطلال "بسقط اللوى بين الدخول وحومل" كما كان يتغزل الشاعر الضليل امرؤ القيس. كما يطرح السؤال الأخر حول مدى قدرة الصحفي الالكتروني للتفاعل مع احترم مدونة السلوك التقليدي وميثاق شرف مهنة الصحافة واحترام الخط التحريري للمؤسسة الاعلامية التي يشتغل عندها. وهي قضايا أقضت مضجع الإعلام التقليدي وكانت محل معارك ونضالات منذ عقود وقرون من الزمن من أجل احترام حرية التعبير وتأكيد مصداقية الرسالة الإعلامية في مواجهة السياسة والمجتمع.

فكيف ستكون الأحوال في ظل مستقبل الذكاء الصناعي الطاغي على أوجه الحياة . قد تبدو اليوم أسئلة خيالية واعتباطية غير حارقة، ولكنها تطرح بحدة علي مجتمع المعرفة الالكتروني وسيطرة أليات العمل عن بعد وتراسل المعطيات وتحكم الخوازميات في مناحي الحياة مع نهاية هذا القرن التقليدي المحتضر.

واليوم يساعد الكمبيوتر، منذ عقود الصحفي في البحث عن المعلومات التوثيقية في الموسوعات الإخبارية والتحليلية عبر تقنيات الكلمات المفاتيح . وتصل نسبة مساهمة الحاسوب في عملية كتابة وصياغة ، بل وتكييف وجهة المقال إلى أكثر من خمسين بالمائة حاليا لدى كثير من الصحافيين ورؤساء التحرير وسكريتيري التحرير. وقد عوضت لدى هؤلاء تقنية " أنسخ/ ألصق" تلك التقنية الغابرة في قاعات التحرير الصدأة وهي تقنية "قص المقص" . وقد تتزايد النسبة في المستقبل المنظور ليتربع الصحفي الإلكتروني القادم على مهل، على عرش صاحبة الجلالة، متحكما بذلك في مفاصل المقال بواسطة الخوارزميات التي يزود بها الدماغ الالكتروني للحاسوب الشخصي لكل صحفي أو مبدع . وهي سيناريوهات ممكنة وقابلة للتطبيق في ظل الاستحكامات التي وضعها عالم الجبر أبوبكر الخوازمي عالم الرياضيات والفلك القادم إلينا من إشعاعات العصور الوسيطة الإسلامية الزاهية. وهي تطبيقات ، مستمدة من الرياضيات وحساب الجبر والمقابلة التي يطلق عليها اليوم "خوارزمية" أو" ألغوريتم" بكل لغات العالم، وتقوم علميا على تراكيب ثلاثة وهي التسلسل والاختيار والتكرار.

هكذا اطبق الخوارزمي كالأخطبوط على كل نواحي الحياة العلمية والتقنية والفكرية والصحفية وعلى حاضر ومستقبل هذه الحضارة التي تعيش في ثنايا شبكتها العنكبوتية. وهو يعود اليوم من بغداد الرشيد ليتحكم في نواحي وتقنيات الحضارة العلمية الغربية اللاتينية الاغريقية، التي تسيطر على العالم اليوم منذ أكثر من خمسة قرون، بعد أن أخذت، مع سقوط غرناطة واكتشاف كيستوف كولومب لأمريكا في نفس العام 1492، مكانة الحضارة العربية الإسلامية التي سيطرت علميا على العالم قبلها لمدة خمسة قرون، وكان أبوجعفر الخوارزمي أحد أكبر علمائها .

وللتذكير فإن الخوارزمي المولود عام 781 والمتوفى عام 847 ميلادي، قد عاش في فترة أوج تلك الحضارة العربية الإسلامية في بغداد زمن الخليفة المستنير والعالم المأمون الذي عين الخوارزمي على رأس "بيت الحكمة"، وهي الأكاديمية العلمية والمكتبة العليا لتلك الحضارة، وكلفه برسم خريطة للأرض وهو مشروع علمي عمل فيه إلى جانبه فريق من البحاثة يبلغ سبعين عالما في وكالة الأبحاث العلمية التابعة لبيت الحكمة. ويعتبر الخوارزمي مؤسس علم الجبر. وقد عرض في كتابه " المختصر في حساب الجبر والمقابلة" أول حل منهجي للمعادلات الخطية والمعادلات التربيعية . وقد اعتبرت كتبه خلاصة العلوم السابقة للإغريق والفرس والهنود. وقد ترجمت إلى اللغات اللاتينية وكانت بداية الصحوة والنهضة العلمية الأوروبية إلى اليوم.

(*)صحفي باحث في الإعلام والصحافة

 

 

 

  Conception & Réalisation  Alpha Studios Copyright © 2023  assabahnews