إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

عائلات تتداين لـ"الاستثمار" في دراسة أبنائها في الخارج.. الناجحون في الباكالوريا يهجرون الجامعات التونسية..!!

 

 

• رئيس الجمعية التونسية لجودة التعليم: تحوّل التّعليم الجامعيّ في الدّول الأجنبيّة إلى مسار رئيسيّ من مسارات الهجرة النّظاميّة

• دكتور في علم النفس التربوي: مازالت المدرسة وآلية التوجيه "ماكينة" تنتج اللامساواة

• مستشار أوّل في الإعلام والتوجيه المدرسي والجامعي: لا توجد مقاربات للتوجيه الجامعي.. والتعامل مع الطلبة على أساس أرقام وليس ذوات

تونس – الصباح

لم يعد حلم الدراسة في الخارج يراود فقط من تفوقوا في امتحانات الباكالوريا في تونس حيث أصبح العديد من التلاميذ حتى من الحاصلين على نتائج متوسطة يلهثون وراء مغادرة البلاد والبحث عن آفاق للتعليم العالي خارج البلاد.. ظاهرة تنامت في السنوات الأخيرة بشكل ملفت للانتباه وهذا أمر يعتبره العديد من التلاميذ وأوليائهم يعود الى أسباب تتعلق أساسا بجودة خدمات التّعليم الجامعيّ العموميّ وبالتّقلّص المستمر للفرص أمام حاملي الشّهادات الجامعيّة في بيئة العمل في تونس.

ومع تغير الصورة النمطية للعائلة التونسية التي أصبح هاجسها الأساسي ليس فقط النجاح في الباكالوريا، بل أي مصير مهني وبيئة عمل تنتظر ابنها؟ إذ أصبحت عديد العائلات تشجع أبناءها على السفر للدراسة في الخارج بحثا عن آفاق وفرص تعليم وعمل أفضل.

كما لم تمنع التكاليف العالية للدراسة في الخارج العائلة التونسية من خوض المعركة نظرا لارتفاع مصاريف التسجيل في الدراسة والإقامة ليرتفع عددهم من سنة الى أخرى بحثا عن اختصاصات علمية لم يتمكنوا من الالتحاق بها في تونس مثل الطب والهندسة وغيرها من الاختصاصات غير المتوفرة في المؤسسات الجامعية التونسية.

وفي هذا الخصوص قال رئيس الجمعية التونسية لجودة التعليم سليم قاسم لـ"الصباح" إنه عُرف عن الأسرة التّونسيّة منذ العهد القرطاجيّ تعلّقَها بالعِلم والمعرفة وتضحيتَها في سبيل أن يبلغ أبناؤها أرقى الدّرجات في هذا المجال، ورغم الظّروف المادّيّة القاسية التي تمرّ بها العديد من الأسر اليوم، فان الأولويّة المطلقة بالنسبة إليهم يحظى بها الإنفاق على التّعليم في ميزانياّتها. وليس من النّادر أن نرى العديد من الأولياء يضطرّون إلى بيع ممتلكاتهم أو يلجؤون للاقتراض لتغطية تكاليف التّعليم الخاصّ أو الدّروس الخصوصيّة أو التّعليم الجامعيّ لأبنائهم.

وأكد قاسم تضاعف ظاهرة النّزوح نحو التّعليم الجامعيّ الخاص بتونس، أو الهجرة نحو التّعليم الجامعيّ الأجنبيّ في دول أوروبا وأمريكا الشّماليّة بالخصوص في السّنوات الأخيرة. وهي ظاهرة تكلّف العائلة التّونسيّة مبالغ طائلة قد تصل إلى مئات الآلاف من الدّنانير، خاصّة في ظلّ ارتفاع معاليم التسجيل والسّفر والإقامة من ناحية وتراجع سعر صرف الدّينار التّونسيّ من ناحية أخرى.

وأضاف "حين نتحدّث عن تقلّص جودة الخدمات الجامعيّة فإنّ ذلك يبدأ من عمليّات التّوجيه التي تُلقي سنويّا بعشرات الآلاف من الطّلبة في شعب لا تلائم قدراتهم وميولاتهم، وهو ما يجعلهم يبحثون عن حلول فرديّة إمّا عبر إعادة التّوجيه أو اللّجوء إلى المؤسّسات الجامعيّة الخاصّة، أو الهجرة نحو الجامعات الأجنبيّة لمن استطاع إليها سبيلا".

كما تطرق محدثنا إلى فشل منظومة التّوجيه الجامعيّ وافتقار العمليّة التّعليميّة ذاتها إلى أبسط مقوّمات الحوكمة وخاصّة منها الشّفافيّة والمساءلة، حيث لا يزال الوسط الجامعيّ يقبل ببعض الممارسات الفرديّة بل ويحميها، وهي ممارسات تقود عديد الطّلاب إلى مسارات اليأس والفشل، وتدفع عددا آخر منهم إلى البحث عن آفاق أخرى أكثر عدلا ونزاهة.

وأشار قاسم الى تحوّل التّعليم الجامعيّ في الدّول الأجنبيّة إلى مسار رئيسيّ من مسارات الهجرة النّظاميّة، حيث تكون الشّهادة الجامعيّة مفتاحا للحصول على حقّ العمل والإقامة في تلك الدّول، وذلك في ظلّ انحسار الآفاق أمام كفاءاتنا الشّابة لتحقيق آمالها وطموحاتها على أرض وطنها، بسبب الصّعوبات الاقتصاديّة المزمنة، واعتبارا لتفاقم كلّ الظّواهر المؤثّرة على مناخ العمل وتراجع جودة الحياة إلى أدنى مستوياتها، لذلك فإنّ الأولياء التّونسيّين يخوضون منذ سنوات معركة صامتة من أجل ضمان مستقبل مشرق لأبنائهم رغم قتامة الظّروف المحيطة، وقد اختاروا أن يكون التّعليم هو السّاحة التي تدور فيها هذه المعركة لثقتهم فيه وتعويلهم عليه. وهي معركة بطوليّة بكلّ المقاييس، لا يضحّي فيها هؤلاء الأولياء بالجهد والوقت والمال فحسب، ولكنّهم يقبلون عليها راضين وهم يعلمون تماما أنّ كلفتها الحقيقيّة ستكون الوحدة التي ستلفّهم وهم في أرذل العمر، حين يكون قطار العمر قد تقدّم بهم نحو محطّاته الأخيرة، ويكون الأبناء قد هاجروا واستقرّوا بعيدا، وإنّه لشرف ما بعده شرف لهؤلاء الأولياء، ولكنّه عار ما بعده عار على كلّ من دفع ببلادنا إلى هذا المستوى من الانحدار الذي يدفع بعشرات الآلاف من أسرنا إلى أن تقدّم مثل هذا المستوى من التّضحيات.

الدكتور في علم النفس التربوي محرز الدريسي رأى أنه من بين إشكالات التوجيه الجامعي أن هذه الأنشطة التحسيسية لازالت محدودة وتقتصر على إعلام جماعي في غالبيته وأن الممارسات الفعلية في المؤسّسات المدرسيّة أو الجامعية في مجال التّوجيه ما يزال تطغى عليها الطّرق التّقليديّة التي لا تساعد على اكتساب مهارات تمكن التلميذ من الاستعلام الذّاتي.

وكان الدريسي خلال عرضه مؤخرا في يوم دراسي حول الشباب التونسي والتوجيه الجامعي، أي مكانة لمبدأ تكافؤ الفرص؟ قال إن التفاوت في النتائج ليس نتاج التفاوت في الذكاء وإنما صنع اجتماعي وجهوي ويتداخل هذان العاملان في تعميق منسوب الفوارق ويتدعم مع مفاعيل ومؤثرات المؤسسات المتنوعة، وعلى الرغم من إعلان جملة من الإجراءات الجديدة وتفعيل مبدأ التمييز الإيجابي في التوجيه الجامعي انطلاقا من السنة الجامعية 2018-2019 بتخصيص 8% لفائدة الناجحين من المناطق الداخلية والتي تم ضبطها في حدود 30 شعبة تتوزع على حوالي 30 مؤسسة جامعية، لم نلحظ بلورة قانونية واضحة لهذا القرار سواء في صيغته أو في كيفية تطبيقه، ولم ترتق لتكون جزءا من المسار الإصلاحي.

واعتبر الدكتور في علم النفس التربوي أن المدرسة وآلية التوجيه "ماكينة" تنتج اللامساواة وتعيد إنتاجها بين الأجيال وتوزيع "الخيرات الجامعية" (الاختصاصات والمؤسسات)، ويتوزع "المنتصرون" و"المنهزمون" من الانتقاء حسب معايير اجتماعية وجهوية ومؤسسية. وتكشف خارطة نسبة النجاح تفاوتا رهيبا بين معاهد الشريط الساحلي والمناطق الداخلية، لا تختلف نسبة النجاح في الباكالوريا عن خريطة توزيع المشاريع، خريطة الاستثمار، خريطة البطالة، خريطة مؤشر التنمية الجهوية، هذا بالإضافة الى أن نظام التوجيه الجامعي يقوم على الامتياز والتفوّق في بعض الاختصاصات، وهو ما يوفّر حظوظًا أوسع لأبناء العائلات المرموقة اجتماعيّا ومن هذه الاختصاصات مثلا الطب والصيدلة وطب الأسنان وغيرها وهي اختصاصات تستقطب طلبة ذوي مستوى اجتماعي مرموق، وفي المقابل يكون أبناء العائلات ذات الدخل المتوسط والمحدود أقل حظا في هذه الاختصاصات رغم وجود طلبة متفوقين وممتازين.

ولعل من بين إشكالات التوجيه الجامعي حسب الدريسي أن هذه الأنشطة التحسيسية مازالت محدودة وتقتصر على إعلام جماعي في غالبيته وأن الممارسات الفعلية في المؤسّسات المدرسيّة أو الجامعية في مجال التّوجيه مازالت تطغى عليها الطّرق التّقليديّة التي لا تساعد على اكتساب مهارات تمكن التلميذ من الاستعلام الذّاتي، ولعل أحد الأسباب في ذلك نقص الموارد اللوجستية والبشرية ومحدودية عدد مستشاري التوجيه، بنسبة تغطية ضئيلة بعيدة عن المعايير الدولية تماما، وكذلك افتقاد وزارة التعليم العالي إلى مثل هذا السلك، ما جعل عملية التوجيه قائمة أساسًا على التصرّف في الأدفاق وتوزيعهم على الكليات وفق طاقة الاستيعاب دون اعتبار رغبات الطلبة وتطلّعاتهم. وتستفحل المعضلات مع تمحور التوجيه الجامعي حول استحقاقات امتحان الباكالوريا والمعدلات المرتفعة، واعتماد مبدأ التميز كقاعدة ضرورية للدراسة بالخارج، والمعاهد التحضيرية التونسية والراغبين في الالتحاق بالدراسات الطبية، ويحشر التلاميذ/ الطلاب في خانة الركض خلف التميز ومعايير التفوق والتنافس "الشرس"، يتحول إلى هاجس يؤرق جميع المترشحين ومعيار فرز و"سيف" مسلط على رقبتهم.

وأضاف دكتور علم النفس التربوي انه هكذا تظهر عمليات التوجيه الجامعي في الغالب كنتائج مفروضة وليست اختيارات ذاتية تعبر عن قناعات ورغبات وتخطيط إلا لعدد محدود من الطلبة، ونلمس فيما وراء زغاريد النجاح وابتسامات الفرح دمعات متوارية وإرادات مهمشة/ مهشمة، وينقل التوجيه/ لحظات أخذ قرار إلى لحظات مؤلمة. ويعيش جمهور واسع من الناجحين نتائج التوجيه وتداعياته كإخفاق ثان، جعله أداة مؤسسية لتعميق "التصدع المجتمعي"، ويبدو وكأنه لا يلغي الفوارق، بل يعزز الفوارق الاجتماعية مصدر التفاوت والحظوظ غير المتساوية بين التلاميذ، فالتوجيه يقسم ويعمق الفوارق، وينقل المنظومة من تعميم التعليم إلى تعميم التفاوت، ويحول من خلال عملياته اللاتكافؤ الاجتماعي والثقافي إلى لا تكافؤ في القدرات. لهذا تم رصد آلاف الملفّات الخاصّة بإعادة التوجيه قاربت 20 بالمائة، وبحسب وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، فإن عدد المترشحين الذين تخلّفوا عن المشاركة في الدورتين الأولى والثانية أو لم يحصلوا على توجيه فيها، يحسب بالآلاف من جميع الشعب بنسبة 12.91 بالمائة.

محمّد البشير الهيشري مستشار أوّل في الإعلام والتوجيه المدرسي والجامعي أكد أن الجمعيّة التونسيّة للإعلام والتوجيه المدرسي والجامعي والمهني الذي يعد هو أعضائها أشارت في أكثر من مناسبة إلى خطورة تقليص طاقة الاستيعاب للناجحين من شعبة الرياضيّات في امتحان الباكالوريا 2021 وذلك بالنسبة للشعب الجامعيّة المؤدّية إلى مجالات الاختصاص الهندسي، مضيفا بأنه رغم محاولات سلطة الإشراف تدارك الأمر وقامت بتعديل طاقة الاستيعاب قبيل الدورة الرئيسيّة لعمليّة التوجيه لكن هذه العمليّة لم تكن كافية لإنصاف العدد الكبير من الناجحين بتميّز حتّى يلتحقوا بالشعب الجامعيّة التي تعرف إقبالا مكثّفا على غرار الأقسام التحضيرية للدراسات الهندسية والاختصاصات الطبّية وشبه الطبية إضافة إلى بعض اختصاصات العلوم الاقتصاديّة وعلوم التصرّف. كما أنّ الترفيع في طاقة الاستيعاب شمل اختصاصات جامعيّة لا تعرف ضغطا كبيرا إمّا لنقص جاذبيّتها أو لأنّها تدرّس في بعض المؤسّسات الجامعيّة البعيدة عن العاصمة والمدن الساحليّة الكبرى.

وأضاف محمّد البشير الهيشري لـ"الصباح" بأن التوجيه الجامعي هو نهاية مشروع شخصي للتلميذ لان الجامعة تعد المرحلة الأخيرة من البناء، منتقدا غياب مقاربات للتوجيه الجامعي باستثناء التصرف في الأدفاق بمعنى كيف توزع الناجحين في عدد من الاختصاصات والمؤسسات الجامعية دون الأخذ بعين الاعتبار الملمح الخاص بالتلميذ/ الطالب وكأننا نتعامل مع أرقام وليس مع ذوات.

جهاد الكلبوسي

 

 

 

 

 

 

 

 

عائلات تتداين لـ"الاستثمار" في دراسة أبنائها في الخارج..  الناجحون في الباكالوريا يهجرون الجامعات التونسية..!!

 

 

• رئيس الجمعية التونسية لجودة التعليم: تحوّل التّعليم الجامعيّ في الدّول الأجنبيّة إلى مسار رئيسيّ من مسارات الهجرة النّظاميّة

• دكتور في علم النفس التربوي: مازالت المدرسة وآلية التوجيه "ماكينة" تنتج اللامساواة

• مستشار أوّل في الإعلام والتوجيه المدرسي والجامعي: لا توجد مقاربات للتوجيه الجامعي.. والتعامل مع الطلبة على أساس أرقام وليس ذوات

تونس – الصباح

لم يعد حلم الدراسة في الخارج يراود فقط من تفوقوا في امتحانات الباكالوريا في تونس حيث أصبح العديد من التلاميذ حتى من الحاصلين على نتائج متوسطة يلهثون وراء مغادرة البلاد والبحث عن آفاق للتعليم العالي خارج البلاد.. ظاهرة تنامت في السنوات الأخيرة بشكل ملفت للانتباه وهذا أمر يعتبره العديد من التلاميذ وأوليائهم يعود الى أسباب تتعلق أساسا بجودة خدمات التّعليم الجامعيّ العموميّ وبالتّقلّص المستمر للفرص أمام حاملي الشّهادات الجامعيّة في بيئة العمل في تونس.

ومع تغير الصورة النمطية للعائلة التونسية التي أصبح هاجسها الأساسي ليس فقط النجاح في الباكالوريا، بل أي مصير مهني وبيئة عمل تنتظر ابنها؟ إذ أصبحت عديد العائلات تشجع أبناءها على السفر للدراسة في الخارج بحثا عن آفاق وفرص تعليم وعمل أفضل.

كما لم تمنع التكاليف العالية للدراسة في الخارج العائلة التونسية من خوض المعركة نظرا لارتفاع مصاريف التسجيل في الدراسة والإقامة ليرتفع عددهم من سنة الى أخرى بحثا عن اختصاصات علمية لم يتمكنوا من الالتحاق بها في تونس مثل الطب والهندسة وغيرها من الاختصاصات غير المتوفرة في المؤسسات الجامعية التونسية.

وفي هذا الخصوص قال رئيس الجمعية التونسية لجودة التعليم سليم قاسم لـ"الصباح" إنه عُرف عن الأسرة التّونسيّة منذ العهد القرطاجيّ تعلّقَها بالعِلم والمعرفة وتضحيتَها في سبيل أن يبلغ أبناؤها أرقى الدّرجات في هذا المجال، ورغم الظّروف المادّيّة القاسية التي تمرّ بها العديد من الأسر اليوم، فان الأولويّة المطلقة بالنسبة إليهم يحظى بها الإنفاق على التّعليم في ميزانياّتها. وليس من النّادر أن نرى العديد من الأولياء يضطرّون إلى بيع ممتلكاتهم أو يلجؤون للاقتراض لتغطية تكاليف التّعليم الخاصّ أو الدّروس الخصوصيّة أو التّعليم الجامعيّ لأبنائهم.

وأكد قاسم تضاعف ظاهرة النّزوح نحو التّعليم الجامعيّ الخاص بتونس، أو الهجرة نحو التّعليم الجامعيّ الأجنبيّ في دول أوروبا وأمريكا الشّماليّة بالخصوص في السّنوات الأخيرة. وهي ظاهرة تكلّف العائلة التّونسيّة مبالغ طائلة قد تصل إلى مئات الآلاف من الدّنانير، خاصّة في ظلّ ارتفاع معاليم التسجيل والسّفر والإقامة من ناحية وتراجع سعر صرف الدّينار التّونسيّ من ناحية أخرى.

وأضاف "حين نتحدّث عن تقلّص جودة الخدمات الجامعيّة فإنّ ذلك يبدأ من عمليّات التّوجيه التي تُلقي سنويّا بعشرات الآلاف من الطّلبة في شعب لا تلائم قدراتهم وميولاتهم، وهو ما يجعلهم يبحثون عن حلول فرديّة إمّا عبر إعادة التّوجيه أو اللّجوء إلى المؤسّسات الجامعيّة الخاصّة، أو الهجرة نحو الجامعات الأجنبيّة لمن استطاع إليها سبيلا".

كما تطرق محدثنا إلى فشل منظومة التّوجيه الجامعيّ وافتقار العمليّة التّعليميّة ذاتها إلى أبسط مقوّمات الحوكمة وخاصّة منها الشّفافيّة والمساءلة، حيث لا يزال الوسط الجامعيّ يقبل ببعض الممارسات الفرديّة بل ويحميها، وهي ممارسات تقود عديد الطّلاب إلى مسارات اليأس والفشل، وتدفع عددا آخر منهم إلى البحث عن آفاق أخرى أكثر عدلا ونزاهة.

وأشار قاسم الى تحوّل التّعليم الجامعيّ في الدّول الأجنبيّة إلى مسار رئيسيّ من مسارات الهجرة النّظاميّة، حيث تكون الشّهادة الجامعيّة مفتاحا للحصول على حقّ العمل والإقامة في تلك الدّول، وذلك في ظلّ انحسار الآفاق أمام كفاءاتنا الشّابة لتحقيق آمالها وطموحاتها على أرض وطنها، بسبب الصّعوبات الاقتصاديّة المزمنة، واعتبارا لتفاقم كلّ الظّواهر المؤثّرة على مناخ العمل وتراجع جودة الحياة إلى أدنى مستوياتها، لذلك فإنّ الأولياء التّونسيّين يخوضون منذ سنوات معركة صامتة من أجل ضمان مستقبل مشرق لأبنائهم رغم قتامة الظّروف المحيطة، وقد اختاروا أن يكون التّعليم هو السّاحة التي تدور فيها هذه المعركة لثقتهم فيه وتعويلهم عليه. وهي معركة بطوليّة بكلّ المقاييس، لا يضحّي فيها هؤلاء الأولياء بالجهد والوقت والمال فحسب، ولكنّهم يقبلون عليها راضين وهم يعلمون تماما أنّ كلفتها الحقيقيّة ستكون الوحدة التي ستلفّهم وهم في أرذل العمر، حين يكون قطار العمر قد تقدّم بهم نحو محطّاته الأخيرة، ويكون الأبناء قد هاجروا واستقرّوا بعيدا، وإنّه لشرف ما بعده شرف لهؤلاء الأولياء، ولكنّه عار ما بعده عار على كلّ من دفع ببلادنا إلى هذا المستوى من الانحدار الذي يدفع بعشرات الآلاف من أسرنا إلى أن تقدّم مثل هذا المستوى من التّضحيات.

الدكتور في علم النفس التربوي محرز الدريسي رأى أنه من بين إشكالات التوجيه الجامعي أن هذه الأنشطة التحسيسية لازالت محدودة وتقتصر على إعلام جماعي في غالبيته وأن الممارسات الفعلية في المؤسّسات المدرسيّة أو الجامعية في مجال التّوجيه ما يزال تطغى عليها الطّرق التّقليديّة التي لا تساعد على اكتساب مهارات تمكن التلميذ من الاستعلام الذّاتي.

وكان الدريسي خلال عرضه مؤخرا في يوم دراسي حول الشباب التونسي والتوجيه الجامعي، أي مكانة لمبدأ تكافؤ الفرص؟ قال إن التفاوت في النتائج ليس نتاج التفاوت في الذكاء وإنما صنع اجتماعي وجهوي ويتداخل هذان العاملان في تعميق منسوب الفوارق ويتدعم مع مفاعيل ومؤثرات المؤسسات المتنوعة، وعلى الرغم من إعلان جملة من الإجراءات الجديدة وتفعيل مبدأ التمييز الإيجابي في التوجيه الجامعي انطلاقا من السنة الجامعية 2018-2019 بتخصيص 8% لفائدة الناجحين من المناطق الداخلية والتي تم ضبطها في حدود 30 شعبة تتوزع على حوالي 30 مؤسسة جامعية، لم نلحظ بلورة قانونية واضحة لهذا القرار سواء في صيغته أو في كيفية تطبيقه، ولم ترتق لتكون جزءا من المسار الإصلاحي.

واعتبر الدكتور في علم النفس التربوي أن المدرسة وآلية التوجيه "ماكينة" تنتج اللامساواة وتعيد إنتاجها بين الأجيال وتوزيع "الخيرات الجامعية" (الاختصاصات والمؤسسات)، ويتوزع "المنتصرون" و"المنهزمون" من الانتقاء حسب معايير اجتماعية وجهوية ومؤسسية. وتكشف خارطة نسبة النجاح تفاوتا رهيبا بين معاهد الشريط الساحلي والمناطق الداخلية، لا تختلف نسبة النجاح في الباكالوريا عن خريطة توزيع المشاريع، خريطة الاستثمار، خريطة البطالة، خريطة مؤشر التنمية الجهوية، هذا بالإضافة الى أن نظام التوجيه الجامعي يقوم على الامتياز والتفوّق في بعض الاختصاصات، وهو ما يوفّر حظوظًا أوسع لأبناء العائلات المرموقة اجتماعيّا ومن هذه الاختصاصات مثلا الطب والصيدلة وطب الأسنان وغيرها وهي اختصاصات تستقطب طلبة ذوي مستوى اجتماعي مرموق، وفي المقابل يكون أبناء العائلات ذات الدخل المتوسط والمحدود أقل حظا في هذه الاختصاصات رغم وجود طلبة متفوقين وممتازين.

ولعل من بين إشكالات التوجيه الجامعي حسب الدريسي أن هذه الأنشطة التحسيسية مازالت محدودة وتقتصر على إعلام جماعي في غالبيته وأن الممارسات الفعلية في المؤسّسات المدرسيّة أو الجامعية في مجال التّوجيه مازالت تطغى عليها الطّرق التّقليديّة التي لا تساعد على اكتساب مهارات تمكن التلميذ من الاستعلام الذّاتي، ولعل أحد الأسباب في ذلك نقص الموارد اللوجستية والبشرية ومحدودية عدد مستشاري التوجيه، بنسبة تغطية ضئيلة بعيدة عن المعايير الدولية تماما، وكذلك افتقاد وزارة التعليم العالي إلى مثل هذا السلك، ما جعل عملية التوجيه قائمة أساسًا على التصرّف في الأدفاق وتوزيعهم على الكليات وفق طاقة الاستيعاب دون اعتبار رغبات الطلبة وتطلّعاتهم. وتستفحل المعضلات مع تمحور التوجيه الجامعي حول استحقاقات امتحان الباكالوريا والمعدلات المرتفعة، واعتماد مبدأ التميز كقاعدة ضرورية للدراسة بالخارج، والمعاهد التحضيرية التونسية والراغبين في الالتحاق بالدراسات الطبية، ويحشر التلاميذ/ الطلاب في خانة الركض خلف التميز ومعايير التفوق والتنافس "الشرس"، يتحول إلى هاجس يؤرق جميع المترشحين ومعيار فرز و"سيف" مسلط على رقبتهم.

وأضاف دكتور علم النفس التربوي انه هكذا تظهر عمليات التوجيه الجامعي في الغالب كنتائج مفروضة وليست اختيارات ذاتية تعبر عن قناعات ورغبات وتخطيط إلا لعدد محدود من الطلبة، ونلمس فيما وراء زغاريد النجاح وابتسامات الفرح دمعات متوارية وإرادات مهمشة/ مهشمة، وينقل التوجيه/ لحظات أخذ قرار إلى لحظات مؤلمة. ويعيش جمهور واسع من الناجحين نتائج التوجيه وتداعياته كإخفاق ثان، جعله أداة مؤسسية لتعميق "التصدع المجتمعي"، ويبدو وكأنه لا يلغي الفوارق، بل يعزز الفوارق الاجتماعية مصدر التفاوت والحظوظ غير المتساوية بين التلاميذ، فالتوجيه يقسم ويعمق الفوارق، وينقل المنظومة من تعميم التعليم إلى تعميم التفاوت، ويحول من خلال عملياته اللاتكافؤ الاجتماعي والثقافي إلى لا تكافؤ في القدرات. لهذا تم رصد آلاف الملفّات الخاصّة بإعادة التوجيه قاربت 20 بالمائة، وبحسب وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، فإن عدد المترشحين الذين تخلّفوا عن المشاركة في الدورتين الأولى والثانية أو لم يحصلوا على توجيه فيها، يحسب بالآلاف من جميع الشعب بنسبة 12.91 بالمائة.

محمّد البشير الهيشري مستشار أوّل في الإعلام والتوجيه المدرسي والجامعي أكد أن الجمعيّة التونسيّة للإعلام والتوجيه المدرسي والجامعي والمهني الذي يعد هو أعضائها أشارت في أكثر من مناسبة إلى خطورة تقليص طاقة الاستيعاب للناجحين من شعبة الرياضيّات في امتحان الباكالوريا 2021 وذلك بالنسبة للشعب الجامعيّة المؤدّية إلى مجالات الاختصاص الهندسي، مضيفا بأنه رغم محاولات سلطة الإشراف تدارك الأمر وقامت بتعديل طاقة الاستيعاب قبيل الدورة الرئيسيّة لعمليّة التوجيه لكن هذه العمليّة لم تكن كافية لإنصاف العدد الكبير من الناجحين بتميّز حتّى يلتحقوا بالشعب الجامعيّة التي تعرف إقبالا مكثّفا على غرار الأقسام التحضيرية للدراسات الهندسية والاختصاصات الطبّية وشبه الطبية إضافة إلى بعض اختصاصات العلوم الاقتصاديّة وعلوم التصرّف. كما أنّ الترفيع في طاقة الاستيعاب شمل اختصاصات جامعيّة لا تعرف ضغطا كبيرا إمّا لنقص جاذبيّتها أو لأنّها تدرّس في بعض المؤسّسات الجامعيّة البعيدة عن العاصمة والمدن الساحليّة الكبرى.

وأضاف محمّد البشير الهيشري لـ"الصباح" بأن التوجيه الجامعي هو نهاية مشروع شخصي للتلميذ لان الجامعة تعد المرحلة الأخيرة من البناء، منتقدا غياب مقاربات للتوجيه الجامعي باستثناء التصرف في الأدفاق بمعنى كيف توزع الناجحين في عدد من الاختصاصات والمؤسسات الجامعية دون الأخذ بعين الاعتبار الملمح الخاص بالتلميذ/ الطالب وكأننا نتعامل مع أرقام وليس مع ذوات.

جهاد الكلبوسي

 

 

 

 

 

 

 

 

  Conception & Réalisation  Alpha Studios Copyright © 2023  assabahnews