ليس من المبلغة في شيء وصف الوضع السياسي التونسي اليوم بأنه وضع ينتمي إلى عالم اللامعقول. وبالتالي يُنفِّر مأزقُ الوضع السياسي التونسي من إسالة أي نقطة حبر حوله لأنه مضيعة للوقت والجهد.إذن، فالصمت حكمة بهذا الصدد وتعبير في نفس الوقت عن حالة اليأس التي يبثها ذلك المأزق في نفس أي كاتب يحترم نفسه. رغم ذلك، فالحالة عاجلة لتشخيص البعض من معالم هذا الوضع السياسي الخطير. لقد عبر أخيرا أحدُ الصحفيين التونسيين المشهورين عن حالة اليأس بقوله إنه يخجل من رؤية عجز النخب السياسية التونسية شبه الكامل بالنسبة للخروج من ذلك المأزق العويص. فالوضع نكبة لما حققه المجتمع التونسي من مكتسبات المواطنة اللائقة التي تبغض معاملةَ أعضاء المجتمع كرعايا لا كمواطنين حقيقيين يتبرِؤون من تفرد الرئيس أو غيره بالحكم الفردي والسلطة ولا يرضون إلا بالحاكم أو المسئول الذي "يشاورهم في الأمر" كسلوك سياسي أو مدني ينادي به بقوة صوتُ النقل (آيات القرآن) وخطاب العقل (التفكير البشري السليم الرؤية) . فالإعراض عن ذلك هو السلوك المزعج الداهم الذي يبشر بمصير حمّال لمخاطر جمّة لا يستطيع المجتمع التونسي تحمل أعبائها وأوزارها في المستقبل القريب.
غروب الاستثناء التونسي
وهكذا، سقط شعارُ الاستثناء التونسي بالمعنى الإيجابي ليتحول إلى مشهد سياسي حزين لم يُنتظر وقوعُه لا في داخل البلاد ولا في الخارج بتلك المعالم الحمّالة لحطب اليأس ونار الفتنة في هذا الشعب المتجانس الهوية. يفيد مصطلح الاستثناء التونسي وقوع ثورة في تونس في 2011 أدت إلى تبني الديمقراطية كنظام للحكم يسمح بتكوين الأحزاب وحرية التعبير والفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية، وهو ما فشلت فيه بقية ثورات الربيع العربي. قادت ذلك التغيير الثوري في المجتمع التونسي نخب سياسية وثقافية الأمر الذي أثر في مواقف معظم طبقات وفئات الشعب التي رحبت جماعيا -على ما يبدو- بالنظام السياسي الجديد. لكن تشير، من جهة أخرى، استطلاعات الرأي أن هناك أغلبية تونسية تساند الرئيس قيس سعيد الذي أطاح بكثير من معالم الديمقراطية مثل إزاحة المؤسسات التشريعية كالبرلمان والنفور من التشاور مع الأطراف الفاعلة في المجتمع التونسي مما جعل كثيرا من تلك الأطراف – مثل الاتحاد التونسي للشغل- ترفض دعوة الرئيس إلى حوار لا تتوفر فيه أبجدية الحوار الحقيقي النزيه والمثمر. ومن ثم، إذا كانت نتائج الاستطلاعات ذات مصداقية ، فإن موقف تلك الأغلبية المساندة للرئيس يثير كثيرا من الريبة والشك حول ثقتها وإيمانها بالديمقراطية وممارستها.و يعني هذا أن أسس منظومة الديمقراطية لا تزال بدائية عند معظم التونسيين والتونسيات. وهذا ليس بالأمر الغريب إذ يحتاج تعلّم مبادئ الديمقراطية وممارستها إلى أمد طويل لكي ترسخ أركانُها وأقدامها في صُلب نفسية الشخصية القاعدية في المجتمع التونسي.
اضطراب مواقف النخب
أما مواقف عديد النخب التونسية من المسألة الديمقراطية فيغلب عليه لُبس محيّر. فهذا فريق من الجامعيين والمثقفين يبررون الإنفراد بالحكم واستمرار قواعد الفترة الاستثنائية التي أتى بها قرار25 جويلية 2021 . وهناك صنف ثان من الجامعيين والمثقفين الذين يهيمن عليهم التذبذب وفقدان التشخيص الصادق للمربع الأول للأزمة الحالية في تونس. ومنه، فقد هؤلاء رأيَ الشجعان. ألم يقل المتنبي: الرأي قبل شجاعة الشجعان هو الأول وهي المحل الثاني؟ فهؤلاء يباركون مواقف الرئيس لكنهم يرفضون أن يُعاملوا كرعايا من طرف رئيس الدولة. وهو موقف متناقض للغاية. يرى علم النفس أنه سلوك يكلّف النفس البشرية ما لا طاقة لها به، أي أنها لا بد أن تبحث عن مخرج من ذلك التناقض الذي تعيشه شخصياتُ هؤلاء الجامعيين والمثقفين. يتمثل الحل في إضعاف أو إلغاء معالم ذلك التناقض النفسي في بؤرة منظومة الشخصية البشرية. فيكون ذلك إما بالاصطفاف إلى جانب الرئيس والتخلي عن مبادئ النظام الديمقراطي الصحيح أو تبني الاتجاه المعاكس، أي ترك خطة الرئيس جانبا و احتضان ميثاق وبنود مشروع الحكم الديمقراطي الذي تكون فيه الشورى في المجتمع قيمة سامية نبيلة. يتزايد اليوم عدد الذين ينسحبون من قبضة الولاء للرئيس ويُولُّون وجوههم نحو اعتناق مبادئ النظام الديمقراطي أو يفضلون الاستقلالية من عالم السياسة. تُحقِّق المخارجُ الثلاثة حلولا لذلك التناقض النفسي الذي يُحدثه عنصران متعارضان في التركيبة النفسية للشخصية الإنسانية. تفيد الملاحظات الميدانية أن عددا لا بأس به من هؤلاء لا يزال سجينا للمتاعب النفسية المرهقة والمفسدة لطمأنينة الشخصية البشرية. فتلك المواقف للنخب لا تمنحها مشروعية لكي تكون قادرة على قيادة جماعية متينة لإخراج البلاد من الوضع الخانق الذي يتحدث عنه الغربيون منذ زمن ويُفصح عنه اليوم حتى أقرب الجيران العرب ناهيك عن المنظمات والشخصيات الوطنية وفي طليعتها الاتحاد العام للشغل.
(*) عالم الاجتماع
بقلم :الأستاذ الدكتور محمود الذوادي(*)
معالم اليأس السياسي
ليس من المبلغة في شيء وصف الوضع السياسي التونسي اليوم بأنه وضع ينتمي إلى عالم اللامعقول. وبالتالي يُنفِّر مأزقُ الوضع السياسي التونسي من إسالة أي نقطة حبر حوله لأنه مضيعة للوقت والجهد.إذن، فالصمت حكمة بهذا الصدد وتعبير في نفس الوقت عن حالة اليأس التي يبثها ذلك المأزق في نفس أي كاتب يحترم نفسه. رغم ذلك، فالحالة عاجلة لتشخيص البعض من معالم هذا الوضع السياسي الخطير. لقد عبر أخيرا أحدُ الصحفيين التونسيين المشهورين عن حالة اليأس بقوله إنه يخجل من رؤية عجز النخب السياسية التونسية شبه الكامل بالنسبة للخروج من ذلك المأزق العويص. فالوضع نكبة لما حققه المجتمع التونسي من مكتسبات المواطنة اللائقة التي تبغض معاملةَ أعضاء المجتمع كرعايا لا كمواطنين حقيقيين يتبرِؤون من تفرد الرئيس أو غيره بالحكم الفردي والسلطة ولا يرضون إلا بالحاكم أو المسئول الذي "يشاورهم في الأمر" كسلوك سياسي أو مدني ينادي به بقوة صوتُ النقل (آيات القرآن) وخطاب العقل (التفكير البشري السليم الرؤية) . فالإعراض عن ذلك هو السلوك المزعج الداهم الذي يبشر بمصير حمّال لمخاطر جمّة لا يستطيع المجتمع التونسي تحمل أعبائها وأوزارها في المستقبل القريب.
غروب الاستثناء التونسي
وهكذا، سقط شعارُ الاستثناء التونسي بالمعنى الإيجابي ليتحول إلى مشهد سياسي حزين لم يُنتظر وقوعُه لا في داخل البلاد ولا في الخارج بتلك المعالم الحمّالة لحطب اليأس ونار الفتنة في هذا الشعب المتجانس الهوية. يفيد مصطلح الاستثناء التونسي وقوع ثورة في تونس في 2011 أدت إلى تبني الديمقراطية كنظام للحكم يسمح بتكوين الأحزاب وحرية التعبير والفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية، وهو ما فشلت فيه بقية ثورات الربيع العربي. قادت ذلك التغيير الثوري في المجتمع التونسي نخب سياسية وثقافية الأمر الذي أثر في مواقف معظم طبقات وفئات الشعب التي رحبت جماعيا -على ما يبدو- بالنظام السياسي الجديد. لكن تشير، من جهة أخرى، استطلاعات الرأي أن هناك أغلبية تونسية تساند الرئيس قيس سعيد الذي أطاح بكثير من معالم الديمقراطية مثل إزاحة المؤسسات التشريعية كالبرلمان والنفور من التشاور مع الأطراف الفاعلة في المجتمع التونسي مما جعل كثيرا من تلك الأطراف – مثل الاتحاد التونسي للشغل- ترفض دعوة الرئيس إلى حوار لا تتوفر فيه أبجدية الحوار الحقيقي النزيه والمثمر. ومن ثم، إذا كانت نتائج الاستطلاعات ذات مصداقية ، فإن موقف تلك الأغلبية المساندة للرئيس يثير كثيرا من الريبة والشك حول ثقتها وإيمانها بالديمقراطية وممارستها.و يعني هذا أن أسس منظومة الديمقراطية لا تزال بدائية عند معظم التونسيين والتونسيات. وهذا ليس بالأمر الغريب إذ يحتاج تعلّم مبادئ الديمقراطية وممارستها إلى أمد طويل لكي ترسخ أركانُها وأقدامها في صُلب نفسية الشخصية القاعدية في المجتمع التونسي.
اضطراب مواقف النخب
أما مواقف عديد النخب التونسية من المسألة الديمقراطية فيغلب عليه لُبس محيّر. فهذا فريق من الجامعيين والمثقفين يبررون الإنفراد بالحكم واستمرار قواعد الفترة الاستثنائية التي أتى بها قرار25 جويلية 2021 . وهناك صنف ثان من الجامعيين والمثقفين الذين يهيمن عليهم التذبذب وفقدان التشخيص الصادق للمربع الأول للأزمة الحالية في تونس. ومنه، فقد هؤلاء رأيَ الشجعان. ألم يقل المتنبي: الرأي قبل شجاعة الشجعان هو الأول وهي المحل الثاني؟ فهؤلاء يباركون مواقف الرئيس لكنهم يرفضون أن يُعاملوا كرعايا من طرف رئيس الدولة. وهو موقف متناقض للغاية. يرى علم النفس أنه سلوك يكلّف النفس البشرية ما لا طاقة لها به، أي أنها لا بد أن تبحث عن مخرج من ذلك التناقض الذي تعيشه شخصياتُ هؤلاء الجامعيين والمثقفين. يتمثل الحل في إضعاف أو إلغاء معالم ذلك التناقض النفسي في بؤرة منظومة الشخصية البشرية. فيكون ذلك إما بالاصطفاف إلى جانب الرئيس والتخلي عن مبادئ النظام الديمقراطي الصحيح أو تبني الاتجاه المعاكس، أي ترك خطة الرئيس جانبا و احتضان ميثاق وبنود مشروع الحكم الديمقراطي الذي تكون فيه الشورى في المجتمع قيمة سامية نبيلة. يتزايد اليوم عدد الذين ينسحبون من قبضة الولاء للرئيس ويُولُّون وجوههم نحو اعتناق مبادئ النظام الديمقراطي أو يفضلون الاستقلالية من عالم السياسة. تُحقِّق المخارجُ الثلاثة حلولا لذلك التناقض النفسي الذي يُحدثه عنصران متعارضان في التركيبة النفسية للشخصية الإنسانية. تفيد الملاحظات الميدانية أن عددا لا بأس به من هؤلاء لا يزال سجينا للمتاعب النفسية المرهقة والمفسدة لطمأنينة الشخصية البشرية. فتلك المواقف للنخب لا تمنحها مشروعية لكي تكون قادرة على قيادة جماعية متينة لإخراج البلاد من الوضع الخانق الذي يتحدث عنه الغربيون منذ زمن ويُفصح عنه اليوم حتى أقرب الجيران العرب ناهيك عن المنظمات والشخصيات الوطنية وفي طليعتها الاتحاد العام للشغل.