في 24 جانفي الماضي تحدث الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى الحاضرين في منتدى دافوس الاقتصادي السنوي، وطلب من المملكة العربية السعودية، إلى جانب زيادة حزمة الاستثمارات المزمعة في الولايات المتحدة إلى تريليون دولار من 600 مليار، خفض أسعار النفط والذي تعتبر المملكة أكبر مصدريه إلى العالم في إطار منظمة الدول المصدرة للنفط «أوبك».
ترامب أراد من خلال هذا الطلب أن يضرب عمود الاقتصاد الروسي، الذي يعتمد على تصدير النفط والغاز لتمويل الحرب في أوكرانيا، ويذهب في إستراتيجية تجفيف منابع تمويل آلة الحرب الروسية.
ولكن كلام ترامب حول خفض سعر المحروقات، من خلال زيادة الإنتاج، لم يكن ليمر مرور الكرام بالنسبة للقيادة السعودية التي بدأت منذ سنة 2016 في إستراتيجية تنموية كبيرة لخصها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان في رؤية السعودية 2030، والتي وصلت قيمة الاستثمارات فيها حتى السنة الماضية إلى 1.3 تريليون دولار.
هذه الرؤية تهدف من خلالها المملكة إلى تطوير اقتصادها وتجعل منها منطقة جذب استثماري دولي وإقليمي، من خلال إنشاء مدن ومناطق اقتصادية جاذبة للمشاريع، مثل مدينة «نيوم» على ساحل البحر الأحمر، والتي استحوذت على أكبر قدر من أموال الاستثمارات.
ثم إن الذهاب نحو تحقيق تقدم في هذه الإستراتيجية يتطلب قدرا من الاستقرار على مستوى الميزانية المرصودة وهي متأتية في مجملها من عائدات بيع النفط، والتي تتطلب الحفاظ على أسعاره بعيدا عن تذبذبات السوق، والعمل على حمايتها من العوامل الجيوسياسية التي تطيح بأثمانها.
دوافع سعودية لصفقة كبرى
ولعل هذا من بين الأسباب التي جرّت الرياض إلى إعادة رسم معالم علاقاتها مع عدة دول منتجة للنفط، وأولها مد جسور التواصل مع موسكو، والتي تعتبر من أكبر منتجي النفط على مستوى العالم خارج منطومة أوبك، وذهبا لتأسيس آلية «أوبك +»، والتي تعتبر آلية مجمعة للتنسيق بين كل الدول المنتجة للنفط والتي تحدد حصص الإنتاج والتصدير لكل دولة من هذه الدول، مما حافظ على استقرار السوق الدولية من هذه المادة الإستراتيجية.
تلك الخطوة بالرغم من أنها أخذت أهميتها بالنسبة للرياض من وجهة نظر اقتصادية بحتة، إلا أنها كانت لها دوافع سياسية أبرزها الرد على تصريحات الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن، والذي توعد خلالها المملكة بعقوبات عل خلفية مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي.
ولعل ما ذهبت إليه المملكة مكن سوق المحروقات الدولية من الحفاظ على بعض من الاستقرار، خصوصا بعد الانتكاسات التي عرفها بعد جائحة كوفيد 19، والتي دفعت فيما بعد الطلب عليها إلى مستويات قياسية بداية من 2022، وانتقال أسعارها إلى مستويات تتراوح بين 75 دولارا و100 دولار، وهو مستوى يحقق تطلعات المملكة وروسيا في استراتجياتهما الاقتصادية والجيوسياسية، بالرغم من العقوبات غير المسبوقة التي عرفتها روسيا بسبب الحرب الأوكرانية، وذهاب أوروبا بعيدا عن الحنفية الروسية للطاقة، ليعوضه الطلب العالي للطاقة الأحفورية من جانب الصين والهند.
ولعل استماتة الرياض في الحفاظ على أسعار النفط عند هذه المستويات، كان محل صراع سياسي بين المملكة والإدارة الأمريكية السابقة.
فبالرغم من طلب الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن من الرياض خفض أسعار البترول سنة2022، وتهديده إياها، إلا أن المملكة ذهبت للحفاظ على نفس مستوى الإنتاج وعدم خفضه، في تحد للولايات المتحدة.
مفاوضات الصفقة الأمنية
هذا التحدي كان أكبر رهان بالنسبة لولي العهد السعودي لواشنطن، والتي ذهبت إلى إعادة التفاوض حول «صفقة أمنية» مع المملكة، تحافظ فيها المملكة على مظلة أمنية ضد التهديدات الأمنية في المنطقة والتي يشكل الحوثيون وإيران أبرزها، وبرزت بشكل واضح عند الهجوم الذي شنه متمردو اليمن على شركة آرامكو ومحطات تصفية النفط في مارس سنة 2022.
ولكن هذه المفاوضات بقيت تراوح مكانها، خصوصا مع محاولة أمريكية لإضافة شرط التطبيع مع الكيان الصهيوني للائحة الشروط الأمريكية، وهو ما ردت عليه الرياض برد صريح خلاصته «لا تطبيع دون إقامة دولة فلسطينية».
ثم إن تلك الخلافات حول الصفقة الأمنية، والتي لم تجد طريقها للحل، تعقدت أكثر مع عملية طوفان الأقصى يوم 7 أكتوبر 2023، حيث بدأت حرب كبيرة أثرت على مسار العلاقات الدولية على مستوى العالم، وزادت في تعقيدات الوضع الاقتصادي مع توسعها لتشمل مناطق إستراتيجية في العالم وخصوصا مضيق باب المندب الذي أضحى منطقة عمليات عسكرية مع استهداف الحوثيين في اليمن لأي سفينة شحن متجهة لقناة السويس وهو ما زاد المخاطر، ودفع سوق البترول في العالم إلى ارتفاع أسعار النفط.
ذلك الارتفاع الذي كانت له تداعياته على الاقتصاد العالمي، وخصوصا على المواطن الأمريكي، بعد زيادة نسبة التضخم وغلاء المعيشة، وهو من العوامل الرئيسية التي ساهمت في الفوز الكبير للرئيس الأمريكي الحالي في الانتخابات الرئاسية، بعد وعوده بخفض الضرائب والتضخم وزيادة الاستثمارات وفرض رسوم جمركية ضمن حرب تجارية شاملة، وخصوصا بزيادة الاستثمارات في الولايات المتحدة، وهو ما طلبه مباشرة من السعودية.
الرياض التي استقبلت فوز ترامب بابتهاج كبير، بعد سنوات النكبة في العلاقات في ولاية بايدن، التقطت هذه اللحظة وقررت استثمار 600 مليار دولار في الداخل الأمريكي، وهو ما استقبله ترامب بطلب زيادتها إلى تريليون دولار، وطلب آخر يبدو أنه لم يرق للمملكة وهو خفض أسعار الطاقة.
لقد قادت كل هذه الطلبات واتجاهات سوق البترول، إلى زيادة الضغوطات السياسية والاقتصادية على الرياض، خصوصا مع إعلان ترامب خطة تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة وتملكه، وهو ما قد يقلب جيوسياسة الشرق الأوسط رأسا على عقب، وتكون له عواقب أمنية كبيرة على المنطقة، وخاصة على استقرار إستراتيجيتها التنموية التي حددتها بمشروع «رؤية السعودية 2023».
إن هذا الاستقرار على مستوى المنطقة هو الذي يقود الدبلوماسية السعودية، فشروط ترامب لخفض أسعار البترول لا تخدم الإستراتيجية السعودية ولا حتى الروسية، كما أن مخطط تهجير الفلسطينيين من غزة، لا يخدم الحفاظ على الاستقرار في المنطقة خصوصا بعد أن أصبحت الحدود الشمالية للملكة أكثر توازنا بعد إسقاط نظام بشار الأسد في سوريا، ومد الرياض يديها للقيادة السورية الجديدة، والقضاء على خطر الاحتواء الإيراني لها، في وقت يمثل فيه تغيير الخارطة الديموغرافية للشرق الأوسط وتهجير الفلسطينيين من غزة خطرا على استقرار حدودها الشمالية وقد يتسبب في أزمات أمنية أخرى تدخل الأردن ومصر في دوامة جديدة من الصراع، مما لا يساعد على خلق استقرار يحتاجه اقتصاد المملكة واستراتيجياتها القادمة.
أهداف روسيا
يطرح موقف الإدارة الأمريكية من الحرب في أوكرانيا، والذي قدمه وزير الدفاع الأمريكي بيت هيغسيث في اجتماع لوزراء دفاع حلف الشمال الأطلسي الأسبوع الماضي، وشدد عليه ترامب ونائبه خلال مؤتمر ميونخ للأمن، بأن عودة أوكرانيا لحدود ما قبل سنة 2014، هو مطلب غير واقعي وأن انضمامها لحلف الناتو مستبعد، يعتبر أبرز ما تهدف إليه روسيا من حربها في أوكرانيا، وخصوصا في ما يتمثل في هدف انضمام كييف لحلف الشمال الأطلسي، ويمثل إعلانا للتخلي الأمريكي عن إستراتيجية احتواء روسيا ضمن الربع البارد من الأرض، وهو ما مثل فرصة بالنسبة للرياض لتقريب وجهات النظر بين واشنطن وموسكو بعقد لقاء بين الرئيسين فلادمير بوتين ودونالد ترامب في المملكة العربية السعودية، وإعلان بداية التفاوض على إنهاء حرب أوكرانيا، ووضع حد للحرب في غزة.
أما واشنطن فهي تطمح إلى عملية سريعة لإنهاء هذه الحروب في الشرق الأوسط، وشرق أوروبا، والتوجه إلى احتواء الخطر الصيني، والذي يرى فيه ترامب الخطر القادم الجديد القادم من الشرق، خصوصا مع زيادة النفوذ الصيني ليشمل «الحديقة الخلفية» لأمريكا، وهو ما عبر عنه ترامب في مطالبه في إعادة قناة بنما للنفوذ الأمريكي وقبلته بنما بانسحابها من مبادرة الحزام والطريق الصينية، وإصراره على تملك جزيرة غرينلاند والسيطرة عليها، خصوصا مع تحركات صينية لزيادة نفوذها في القطب الشمالي، الذي أصبح منطقة إستراتيجية كبيرة للحركة التجارية والاقتصادية مع ذوبان الجليد بفعل احترار الأرض وتوضح الممرات المائية، ومن أهمها ممر الطريق البحري الشمالي، ومضيقا فرام وبيرينغ.
ولعل التوجه نحو تقريب وجهات النظر بين الإدارة الأمريكية الحالية، التي تتحرك وفق أجندة تعتمد على «الصدمة والرعب» وعقد الصفقات التجارية والمالية على حساب السياسية، قاد المملكة إلى محاولة استمالة ترامب إلى صفقة أكبر تجمع بين ملفي غزة وأوكرانيا، وتقديمها ضمن باقة واحدة، لإنهاء الحرب في أوكرانيا، ووضع حد للحرب في قطاع غزة يقضي بإعادة إعمارها دون تهجير لأهلها.
توجهات الصفقة الكبرى
ولعل ملامح الصفقتين يمكن تلخيصهما في 3 نقاط أساسية تتمثل خصوصا:
*في استثمار سعودي ضخم للولايات المتحدة، وتمويل إعادة إعمار قطاع غزة، مع إمكانية دعم مسار التطبيع بين الرياض وتل أبيب، وإيجاد بديل لحماس ليحكم في غزة، قد يكون من خلال لجنة مشتركة من الفصائل أو إعادة السلطة الفلسطينية فرض سيطرتها عليها.
*إيقاف الحرب الأوكرانية وإعادة إعمارها من خلال جهد أوروبي وعربي وأمريكي وبضمانات أمنية قد تكون من خلال قوات أممية أو أوروبية على الحدود التي رسمتها الحرب منذ سنة 2014 وضمانات أمنية قد تقدمها واشنطن والاتحاد الأوروبي لكييف، مقابل تمكين الولايات المتحدة من استغلال مناجم المعادن الثمينة التي تطالب بها إدارة ترامب، وتمكين روسيا من شبه جزيرة القرم والأرضاي التي سيطرت عليها في شرق وجنوب أوكرانيا.
*عودة الحركة الاقتصادية والتجارية الدولية لما كانت عليه قبل الحرب في أوكرانيا وغزة، بما يضمن استقرار أسعار الطاقة وانخفاضها لمستويات تسمح بالوصول إلى مستويات ينخفض من خلالها نسب التضخم، انهيار نسب الفائدة التي يقود ارتفاعها إلى انكماش على مستوى نمو الاقتصاد الدولي، وخصوصا الاقتصاديات الناشئة.
خارطة جيوسياسية جديدة
ولعل مثل هذه الصفقة الكبرى، قد تساهم في إعادة رسم خارطة النفوذ الدولي والإقليمي من جديد:
*فبالنسبة للملكة العربية السعودية فإن نجاح الصفقة الكبرى قد يجعلها القطب الأكبر في الشرق الأوسط، ويخلق لها زعامة أمنية وإستراتيجية، وهذا ما يقلق تل أبيب وما يفسر الهجوم الأخير لرئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو للمملكة في مقابلة مع القناة 14 الإسرائيلية وقوله إن «لدى السعودية ما يكفي من الأراضي لتوفير دولة للفلسطينيين»، فالملاحظ أن تل أبيب تسعى لأن تكون القطب الأكبر في المنطقة وترى أن زيادة النفوذ السعودي يقلقها في سبيل حلمها بـ»إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط»، وهو ما أكده نتنياهو في نفس المقابلة بقوله -لدى سؤاله عن إقامة دولة فلسطينية كشرط للتطبيع مع السعودية- «لن أبرم اتفاقا من شأنه أن يعرض إسرائيل للخطر».
*أما بالنسبة لروسيا فإن اتفاقا يضمن لها الحد الأدنى من أهدافها في أوكرانيا، سيسمح لها بأن تكون لها واجهة ساحلية أكبر على البحر الأسود، وزيادة نفوذها الجيواستراتيجي في منطقة القوقاز وآسيا الوسطى، وسلاسة وصولها للمياه الدافئة، ودمج بحر قزوين –الذي تسيطر على معظم سواحله- لبحر مفتوح إذا ما أقرت تنفيذ قناة الوصل بين نهر الفولغا وبحر أزوف ومنه للبحر الأسود، وتطبيق إستراتيجية الإشعاع الأوراسي التي تقود العقل السياسي في موسكو منذ بداية حكم الرئيس الروسي فلادمير بوتين سنة 2000.
*أما بالنسبة للولايات المتحدة، فإن الوصول إلى صفقة كبرى تضمن الاستقرار وأهدافها الإستراتيجية في الشرق الأوسط وشرق أوروبا، سيسمح لها بأن تواصل جهود احتوائها لنفوذ الصين الاقتصادي، انطلاقا من «حديقتها الخلفية» في أمريكا، وضمن الفضاء الحيوي الذي خلقته بعد الحربين العالمية الثانية والحرب الكورية، مع زيادة دعمها للهند وإستراتيجيتها في خلق ممر اقتصادي يشق بحر العرب، شبه الجزيرة العربية نحو الأردن وميناء حيفا، وكل هذا يطلب تفاهمات عديدة مع دول المنطقة والتوصل الى حل نهائي للصراع في الشرق الأوسط، وهو ما تطرحه إدارة ترامب ضمن ما سمي بـ»الاتفاقات الابراهمية» لتطبيع الدول العربية والكيان الصهيوني.
بقلم: نزار مقني
في 24 جانفي الماضي تحدث الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى الحاضرين في منتدى دافوس الاقتصادي السنوي، وطلب من المملكة العربية السعودية، إلى جانب زيادة حزمة الاستثمارات المزمعة في الولايات المتحدة إلى تريليون دولار من 600 مليار، خفض أسعار النفط والذي تعتبر المملكة أكبر مصدريه إلى العالم في إطار منظمة الدول المصدرة للنفط «أوبك».
ترامب أراد من خلال هذا الطلب أن يضرب عمود الاقتصاد الروسي، الذي يعتمد على تصدير النفط والغاز لتمويل الحرب في أوكرانيا، ويذهب في إستراتيجية تجفيف منابع تمويل آلة الحرب الروسية.
ولكن كلام ترامب حول خفض سعر المحروقات، من خلال زيادة الإنتاج، لم يكن ليمر مرور الكرام بالنسبة للقيادة السعودية التي بدأت منذ سنة 2016 في إستراتيجية تنموية كبيرة لخصها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان في رؤية السعودية 2030، والتي وصلت قيمة الاستثمارات فيها حتى السنة الماضية إلى 1.3 تريليون دولار.
هذه الرؤية تهدف من خلالها المملكة إلى تطوير اقتصادها وتجعل منها منطقة جذب استثماري دولي وإقليمي، من خلال إنشاء مدن ومناطق اقتصادية جاذبة للمشاريع، مثل مدينة «نيوم» على ساحل البحر الأحمر، والتي استحوذت على أكبر قدر من أموال الاستثمارات.
ثم إن الذهاب نحو تحقيق تقدم في هذه الإستراتيجية يتطلب قدرا من الاستقرار على مستوى الميزانية المرصودة وهي متأتية في مجملها من عائدات بيع النفط، والتي تتطلب الحفاظ على أسعاره بعيدا عن تذبذبات السوق، والعمل على حمايتها من العوامل الجيوسياسية التي تطيح بأثمانها.
دوافع سعودية لصفقة كبرى
ولعل هذا من بين الأسباب التي جرّت الرياض إلى إعادة رسم معالم علاقاتها مع عدة دول منتجة للنفط، وأولها مد جسور التواصل مع موسكو، والتي تعتبر من أكبر منتجي النفط على مستوى العالم خارج منطومة أوبك، وذهبا لتأسيس آلية «أوبك +»، والتي تعتبر آلية مجمعة للتنسيق بين كل الدول المنتجة للنفط والتي تحدد حصص الإنتاج والتصدير لكل دولة من هذه الدول، مما حافظ على استقرار السوق الدولية من هذه المادة الإستراتيجية.
تلك الخطوة بالرغم من أنها أخذت أهميتها بالنسبة للرياض من وجهة نظر اقتصادية بحتة، إلا أنها كانت لها دوافع سياسية أبرزها الرد على تصريحات الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن، والذي توعد خلالها المملكة بعقوبات عل خلفية مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي.
ولعل ما ذهبت إليه المملكة مكن سوق المحروقات الدولية من الحفاظ على بعض من الاستقرار، خصوصا بعد الانتكاسات التي عرفها بعد جائحة كوفيد 19، والتي دفعت فيما بعد الطلب عليها إلى مستويات قياسية بداية من 2022، وانتقال أسعارها إلى مستويات تتراوح بين 75 دولارا و100 دولار، وهو مستوى يحقق تطلعات المملكة وروسيا في استراتجياتهما الاقتصادية والجيوسياسية، بالرغم من العقوبات غير المسبوقة التي عرفتها روسيا بسبب الحرب الأوكرانية، وذهاب أوروبا بعيدا عن الحنفية الروسية للطاقة، ليعوضه الطلب العالي للطاقة الأحفورية من جانب الصين والهند.
ولعل استماتة الرياض في الحفاظ على أسعار النفط عند هذه المستويات، كان محل صراع سياسي بين المملكة والإدارة الأمريكية السابقة.
فبالرغم من طلب الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن من الرياض خفض أسعار البترول سنة2022، وتهديده إياها، إلا أن المملكة ذهبت للحفاظ على نفس مستوى الإنتاج وعدم خفضه، في تحد للولايات المتحدة.
مفاوضات الصفقة الأمنية
هذا التحدي كان أكبر رهان بالنسبة لولي العهد السعودي لواشنطن، والتي ذهبت إلى إعادة التفاوض حول «صفقة أمنية» مع المملكة، تحافظ فيها المملكة على مظلة أمنية ضد التهديدات الأمنية في المنطقة والتي يشكل الحوثيون وإيران أبرزها، وبرزت بشكل واضح عند الهجوم الذي شنه متمردو اليمن على شركة آرامكو ومحطات تصفية النفط في مارس سنة 2022.
ولكن هذه المفاوضات بقيت تراوح مكانها، خصوصا مع محاولة أمريكية لإضافة شرط التطبيع مع الكيان الصهيوني للائحة الشروط الأمريكية، وهو ما ردت عليه الرياض برد صريح خلاصته «لا تطبيع دون إقامة دولة فلسطينية».
ثم إن تلك الخلافات حول الصفقة الأمنية، والتي لم تجد طريقها للحل، تعقدت أكثر مع عملية طوفان الأقصى يوم 7 أكتوبر 2023، حيث بدأت حرب كبيرة أثرت على مسار العلاقات الدولية على مستوى العالم، وزادت في تعقيدات الوضع الاقتصادي مع توسعها لتشمل مناطق إستراتيجية في العالم وخصوصا مضيق باب المندب الذي أضحى منطقة عمليات عسكرية مع استهداف الحوثيين في اليمن لأي سفينة شحن متجهة لقناة السويس وهو ما زاد المخاطر، ودفع سوق البترول في العالم إلى ارتفاع أسعار النفط.
ذلك الارتفاع الذي كانت له تداعياته على الاقتصاد العالمي، وخصوصا على المواطن الأمريكي، بعد زيادة نسبة التضخم وغلاء المعيشة، وهو من العوامل الرئيسية التي ساهمت في الفوز الكبير للرئيس الأمريكي الحالي في الانتخابات الرئاسية، بعد وعوده بخفض الضرائب والتضخم وزيادة الاستثمارات وفرض رسوم جمركية ضمن حرب تجارية شاملة، وخصوصا بزيادة الاستثمارات في الولايات المتحدة، وهو ما طلبه مباشرة من السعودية.
الرياض التي استقبلت فوز ترامب بابتهاج كبير، بعد سنوات النكبة في العلاقات في ولاية بايدن، التقطت هذه اللحظة وقررت استثمار 600 مليار دولار في الداخل الأمريكي، وهو ما استقبله ترامب بطلب زيادتها إلى تريليون دولار، وطلب آخر يبدو أنه لم يرق للمملكة وهو خفض أسعار الطاقة.
لقد قادت كل هذه الطلبات واتجاهات سوق البترول، إلى زيادة الضغوطات السياسية والاقتصادية على الرياض، خصوصا مع إعلان ترامب خطة تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة وتملكه، وهو ما قد يقلب جيوسياسة الشرق الأوسط رأسا على عقب، وتكون له عواقب أمنية كبيرة على المنطقة، وخاصة على استقرار إستراتيجيتها التنموية التي حددتها بمشروع «رؤية السعودية 2023».
إن هذا الاستقرار على مستوى المنطقة هو الذي يقود الدبلوماسية السعودية، فشروط ترامب لخفض أسعار البترول لا تخدم الإستراتيجية السعودية ولا حتى الروسية، كما أن مخطط تهجير الفلسطينيين من غزة، لا يخدم الحفاظ على الاستقرار في المنطقة خصوصا بعد أن أصبحت الحدود الشمالية للملكة أكثر توازنا بعد إسقاط نظام بشار الأسد في سوريا، ومد الرياض يديها للقيادة السورية الجديدة، والقضاء على خطر الاحتواء الإيراني لها، في وقت يمثل فيه تغيير الخارطة الديموغرافية للشرق الأوسط وتهجير الفلسطينيين من غزة خطرا على استقرار حدودها الشمالية وقد يتسبب في أزمات أمنية أخرى تدخل الأردن ومصر في دوامة جديدة من الصراع، مما لا يساعد على خلق استقرار يحتاجه اقتصاد المملكة واستراتيجياتها القادمة.
أهداف روسيا
يطرح موقف الإدارة الأمريكية من الحرب في أوكرانيا، والذي قدمه وزير الدفاع الأمريكي بيت هيغسيث في اجتماع لوزراء دفاع حلف الشمال الأطلسي الأسبوع الماضي، وشدد عليه ترامب ونائبه خلال مؤتمر ميونخ للأمن، بأن عودة أوكرانيا لحدود ما قبل سنة 2014، هو مطلب غير واقعي وأن انضمامها لحلف الناتو مستبعد، يعتبر أبرز ما تهدف إليه روسيا من حربها في أوكرانيا، وخصوصا في ما يتمثل في هدف انضمام كييف لحلف الشمال الأطلسي، ويمثل إعلانا للتخلي الأمريكي عن إستراتيجية احتواء روسيا ضمن الربع البارد من الأرض، وهو ما مثل فرصة بالنسبة للرياض لتقريب وجهات النظر بين واشنطن وموسكو بعقد لقاء بين الرئيسين فلادمير بوتين ودونالد ترامب في المملكة العربية السعودية، وإعلان بداية التفاوض على إنهاء حرب أوكرانيا، ووضع حد للحرب في غزة.
أما واشنطن فهي تطمح إلى عملية سريعة لإنهاء هذه الحروب في الشرق الأوسط، وشرق أوروبا، والتوجه إلى احتواء الخطر الصيني، والذي يرى فيه ترامب الخطر القادم الجديد القادم من الشرق، خصوصا مع زيادة النفوذ الصيني ليشمل «الحديقة الخلفية» لأمريكا، وهو ما عبر عنه ترامب في مطالبه في إعادة قناة بنما للنفوذ الأمريكي وقبلته بنما بانسحابها من مبادرة الحزام والطريق الصينية، وإصراره على تملك جزيرة غرينلاند والسيطرة عليها، خصوصا مع تحركات صينية لزيادة نفوذها في القطب الشمالي، الذي أصبح منطقة إستراتيجية كبيرة للحركة التجارية والاقتصادية مع ذوبان الجليد بفعل احترار الأرض وتوضح الممرات المائية، ومن أهمها ممر الطريق البحري الشمالي، ومضيقا فرام وبيرينغ.
ولعل التوجه نحو تقريب وجهات النظر بين الإدارة الأمريكية الحالية، التي تتحرك وفق أجندة تعتمد على «الصدمة والرعب» وعقد الصفقات التجارية والمالية على حساب السياسية، قاد المملكة إلى محاولة استمالة ترامب إلى صفقة أكبر تجمع بين ملفي غزة وأوكرانيا، وتقديمها ضمن باقة واحدة، لإنهاء الحرب في أوكرانيا، ووضع حد للحرب في قطاع غزة يقضي بإعادة إعمارها دون تهجير لأهلها.
توجهات الصفقة الكبرى
ولعل ملامح الصفقتين يمكن تلخيصهما في 3 نقاط أساسية تتمثل خصوصا:
*في استثمار سعودي ضخم للولايات المتحدة، وتمويل إعادة إعمار قطاع غزة، مع إمكانية دعم مسار التطبيع بين الرياض وتل أبيب، وإيجاد بديل لحماس ليحكم في غزة، قد يكون من خلال لجنة مشتركة من الفصائل أو إعادة السلطة الفلسطينية فرض سيطرتها عليها.
*إيقاف الحرب الأوكرانية وإعادة إعمارها من خلال جهد أوروبي وعربي وأمريكي وبضمانات أمنية قد تكون من خلال قوات أممية أو أوروبية على الحدود التي رسمتها الحرب منذ سنة 2014 وضمانات أمنية قد تقدمها واشنطن والاتحاد الأوروبي لكييف، مقابل تمكين الولايات المتحدة من استغلال مناجم المعادن الثمينة التي تطالب بها إدارة ترامب، وتمكين روسيا من شبه جزيرة القرم والأرضاي التي سيطرت عليها في شرق وجنوب أوكرانيا.
*عودة الحركة الاقتصادية والتجارية الدولية لما كانت عليه قبل الحرب في أوكرانيا وغزة، بما يضمن استقرار أسعار الطاقة وانخفاضها لمستويات تسمح بالوصول إلى مستويات ينخفض من خلالها نسب التضخم، انهيار نسب الفائدة التي يقود ارتفاعها إلى انكماش على مستوى نمو الاقتصاد الدولي، وخصوصا الاقتصاديات الناشئة.
خارطة جيوسياسية جديدة
ولعل مثل هذه الصفقة الكبرى، قد تساهم في إعادة رسم خارطة النفوذ الدولي والإقليمي من جديد:
*فبالنسبة للملكة العربية السعودية فإن نجاح الصفقة الكبرى قد يجعلها القطب الأكبر في الشرق الأوسط، ويخلق لها زعامة أمنية وإستراتيجية، وهذا ما يقلق تل أبيب وما يفسر الهجوم الأخير لرئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو للمملكة في مقابلة مع القناة 14 الإسرائيلية وقوله إن «لدى السعودية ما يكفي من الأراضي لتوفير دولة للفلسطينيين»، فالملاحظ أن تل أبيب تسعى لأن تكون القطب الأكبر في المنطقة وترى أن زيادة النفوذ السعودي يقلقها في سبيل حلمها بـ»إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط»، وهو ما أكده نتنياهو في نفس المقابلة بقوله -لدى سؤاله عن إقامة دولة فلسطينية كشرط للتطبيع مع السعودية- «لن أبرم اتفاقا من شأنه أن يعرض إسرائيل للخطر».
*أما بالنسبة لروسيا فإن اتفاقا يضمن لها الحد الأدنى من أهدافها في أوكرانيا، سيسمح لها بأن تكون لها واجهة ساحلية أكبر على البحر الأسود، وزيادة نفوذها الجيواستراتيجي في منطقة القوقاز وآسيا الوسطى، وسلاسة وصولها للمياه الدافئة، ودمج بحر قزوين –الذي تسيطر على معظم سواحله- لبحر مفتوح إذا ما أقرت تنفيذ قناة الوصل بين نهر الفولغا وبحر أزوف ومنه للبحر الأسود، وتطبيق إستراتيجية الإشعاع الأوراسي التي تقود العقل السياسي في موسكو منذ بداية حكم الرئيس الروسي فلادمير بوتين سنة 2000.
*أما بالنسبة للولايات المتحدة، فإن الوصول إلى صفقة كبرى تضمن الاستقرار وأهدافها الإستراتيجية في الشرق الأوسط وشرق أوروبا، سيسمح لها بأن تواصل جهود احتوائها لنفوذ الصين الاقتصادي، انطلاقا من «حديقتها الخلفية» في أمريكا، وضمن الفضاء الحيوي الذي خلقته بعد الحربين العالمية الثانية والحرب الكورية، مع زيادة دعمها للهند وإستراتيجيتها في خلق ممر اقتصادي يشق بحر العرب، شبه الجزيرة العربية نحو الأردن وميناء حيفا، وكل هذا يطلب تفاهمات عديدة مع دول المنطقة والتوصل الى حل نهائي للصراع في الشرق الأوسط، وهو ما تطرحه إدارة ترامب ضمن ما سمي بـ»الاتفاقات الابراهمية» لتطبيع الدول العربية والكيان الصهيوني.