إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

الشاعر عبد الرؤوف بوفتح لـ"الصباح": حان الوقت للتحوّل من "سياسة ثقافية" من مشمولات الدولة إلى "صناعة ثقافية" تحت طائلة الاستثمار الثقافي

 

- جيل الثمانينات الشعري الأخصب والأروع والأبقى والأكثر تجذرًا ودهشة وخصوصية

- أغلب الملتقيات والمهرجانات الوطنية الأدبية فقدت اليوم بريقها وتجذرها وخصوصيتها وعراقتها بسبب الارتجال وتسييس الفعل الثقافي

- نلازم عصرًا طغى فيه المبنى على المعنى و«بدعة» الذكاء الاصطناعي قد تحيل أهل الإبداع إلى البطالة في المستقبل

- الشعر حالة.. ولحظة برق لا بد من التقاطها في لحظتها وفي انفعال دهشة حرائقها

ينتمي إلى جيل الثمانينات الشعري بعمقه الإنساني، وهذا الانصهار الكلي في قضايا الإنسان وأحلامه وآماله وطموحاته. هو الشاعر عبد الرؤوف بوفتح الذي يظل، رغم المسافة التي اتخذها من الساحة الثقافية منذ سنوات، متدثرًا بمعطفه الإبداعي في محرابه الخاص، متابعًا عن كثب ما تعيشه الساحة الأدبية والإبداعية في تونس على وجه الخصوص من إرهاصات ونتوءات وتضاريس. الشعر عند عبد الرؤوف بوفتح لحظة بارقة في توقيت غير متوقع وغير محدد وغير منتظر. هو حالة استثنائية تلامس الواقع في لحظة ما، فتكتبه بصفاء وصدق، ليتحول القصيد إلى وثيقة يحتفظ بها التاريخ.

*لوتفتح معك دفتر الذكريات، ماذا نقرأ فيه حول بداية العلاقة مع الشعر؟

- كان جدّي (للأب) من مريدي الزعيم الراحل «الحبيب بورقيبة» ومن المعجبين جدًا بمسيرته النضالية وكفاحه الكبير ضد المستعمر الفرنسي، رفقة لفيف أصيل من الشرفاء وأحرار تونس (يرحمهم الله جميعًا). وما زلت أذكر أنه في صيف منتصف الستينات من القرن الماضي، لا أدري كيف حصل جدي على كتاب بعنوان «المسيرة الكبرى» لمؤلفه «عبد الدايم باباي» -يرحمه الله- يسرد فيه الكاتب تفاصيل رحلة بورقيبة إلى الشرق، عبر جزيرة قرقنة وليبيا، وما تجشمه من عذاب ومكابدة ومعاناة في سبيل التعريف بالقضية التونسية. وما زلت أذكر في فرح الطفل كيف كان يجلس جدي كل صباحات الصيف المنعشة رفقة شقيقه «أحمد» تحت شجرة زيتون وارفة، ثم يناديني دون غيري لأقرأ له بهدوء وتلعثم أحيانًا بعض فصول ذلك الكتاب.

من هنا، كان لجدي - من حيث لا يدري ربما - الفضل في نشأة ملكة حب القراءة والمطالعة وولعي منذ صباي الباكر - وأنا لم أصل بعد إلى السنة السادسة ابتدائي - باللغة العربية تحديدًا، واستنهاض موهبة الكتابة في وجداني وذاكرتي. ولما التحقت بالمعهد الثانوي، ازداد شغفي، وسكنتني قادحة المعرفة حتى صرت أسارع إلى بعض المكتبات المتواضعة هناك لشراء من مصروف الجيب المتواضع جدًا، وبعد شهور، ما تيسر من عناوين أدبية، مضحكة أحيانًا، بل كانت تبدو لي مبهرة وذات قيمة.

*يقولون من يريد أن يصبح كاتبًا أو شاعرًا عليه أن يقرأ الكثير من الكتب حتى يصقل موهبته. لمن قرأت؟ وأي تأثير لهذه القراءات على مسيرتك الشعرية؟

- فعلاً، ما زالت لي في ذاكرتي قائمة لأدباء أحتفظ لهم بالمحبة والعرفان بالجميل، على غرار: - علي الدوعاجي، محمد العروسي المطوي، «البشروش»، «المنفلوطي»، «إحسان عبد القدوس»، «جرجي زيدان»، «جبران» مع لفيف من الشعراء أمثال: عظيمنا «أبو القاسم الشابي»، «أحمد اللغماني»، «الهادي نعمان» وغيرهم كثير. وبمرور الأعوام، وتدرجي في أروقة الدراسة، اتسعت دائرة معارفي وتنوعت ميولاتي بحكم المنهج الدراسي، بل تحددت وتعمقت اختياراتي حتى وجدت نفسي أكثر ميلًا واجتذابًا إلى اقتناء ومتابعة دواوين الشعر قديمها وحديثها، بدءًا بالشعر الجاهلي وصدر الإسلام، مرورًا بالشعر الأموي والعباسي، ثم الأندلسي وصولًا إلى شعراء النهضة. وهكذا ازدادت رغبتي الجامحة في المطالعة وحب المعرفة عندي. وصرت أتدرج بالترتيب الزمني محليًا ثم عربيًا، وصولًا إلى «أبي القاسم الشابي»، ومنور صمادح، أحمد اللغماني، الهادي نعمان وغيرهم. و»الرصافي»، «السياب»، «نازك الملائكة»، الجواهري، ثم عبد الوهاب البياتي، «حسب الشيخ جعفر»، «أحمد شوقي»، «حافظ إبراهيم»، ثم اتسعت دائرة رغبتي في الاطلاع على تجارب إبداعية حداثوية، بدءًا ب «عبد الوهاب البياتي»، «أمل دنقل»، «صلاح عبد الصبور»، «أحمد عبد المعطي حجازي»، «محمد الفيتوري»، و»أدونيس». والقائمة تطول، مع لفيف لا بأس به من شعراء المهجر والشعراء والمبدعين الفرنسيين ما قبل الثورة الفرنسية وحتى زمننا هذا، وكذلك الشعراء الإنجليز، والقائمة تطول. ومع ذلك يصعب الاحتفاظ بالبيضة كما هي.

*كيف تنظر اليوم إلى أول قصيد لك؟

- ما زلت أنتفض فرحًا كلما تذكرت أول ومضة شعرية نشرت لي ببريد قراء «مجلة الفكر» الرائدة بعد أكثر من عشر مراسلات. وبعد أن اقترضت بسببها أكثر من دينار في ذلك الوقت من زميل دراسة لي ميسور الحال، ثمن «طوابع بريدية» لرسائل كنت أكتبها باستمرار أضمنها بدايات محاولاتي الشعرية وأرسل بها إلى بعض الصحف والمجلات بالعاصمة. وهو مقطع لا يزال راسخًا في ذاكرتي إلى اليوم. كتبت فيه فورة مراهقتي، وهو: «فستانها الأزرق، أنشودة تغسق في قلبي المرهق، والحب أوه... كم يحرق». ما زلت أتذكر جيدًا صبيحة ذاك اليوم الربيعي لما اشتريت مجلة «الفكر» من إحدى مكتبات باب الجلادين بمدينة القيروان، حيث كنت أزاول دراستي في المرحلة الثانية، وبعد أن وجدت اسمي بركن «بريد القراء»... كيف كاد يغمى عليّ من هول فرحتي. ولم أكن أعلم وقتها أن إدمان الكتابة هو وجع مزمن ولا علاج لكل ضحاياه طوال العمر، غير أنه وجع لذيذ يشفي من أمراض كثيرة أخرى.

*ما هو شكل عباءتك الشعرية التي اخترتها لنحت مشروعك الإبداعي؟

- أعتقد أن أي مبدع مهما كانت ميولاته واتجاهاته أو جنسه الأدبي، لا يستطيع حياكة نسيجه أو عباءته الإبداعية من فراغ. إذ الموهبة وحدها تظل مبتورة، غائمة الملامح. فحتى شعراء الجاهلية لم ينحتوا روائع معلقاتهم وبصمتهم المتميزة دون منهل أو نبع أو قادحة، ولا يتمثل المنهل أو الرافد بالضرورة في ثنايا الكتب والمراجع وما ترك السلف في الرفوف من تراث مدوّن متعدد ومتنوع، بل يكون غزيرًا في البيئة الحاضنة بالسماع والقياس، والظلال الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وكل الهواجس الذاتية الملتصقة بالعشيرة والقبيلة. وما تراكم من آثار مخالب الاستفزاز على اختلاف مجراه، والذي يبقى سيد الإبداع. فالتأثر لا بد أن يكون الواحة التي يؤسس التأثير مجراه. وما المُتون والكتب المقروءة وما تكدس في الذاكرة، إلا عناصر صقل تزيد النص الإبداعي بريقًا وديمومة وتوهجًا وخضرة.

* أي مفهوم لديك للشعر؟

- الشعر بالأساس ليس نظمًا على إيقاع وخَبَب بحور الخليل أو على شاكلة «ألفية ابن مالك». الشعر حالة. إنه لحظة برق لا بد من التقاطها في لحظتها وفي انفعال دهشة حرائقها. فالسائد أو المتداول الشعري القديم والراهن، أراه مثل محراث جدي يجب الاحتفاظ به لأنه الأصل وبداية الفلح وشق الأرض وتأثيث الحياة. وها إنّ كل تلك المحاريث إنتاج في مهرجان الحصاد!

* أخذ مسافة من الساحة الشعرية والاكتفاء بالنشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي، هل كان ذلك اختيارًا منك؟

- لست من الشعراء الذين يكتبون كثيرًا أو تحت الطلب. ولم أنشر دواوين شعرية وبانتظام منذ سنوات، منذ مجموعة «أعشاب الليل» و»الرياح اللواقح» لعدة أسباب، لعل أبرزها بصفة عامة وباختصار شديد: رداءة المشهد واختلاط الحابل بالنابل، وتحول الرواق الثقافي كما هو الحال لبقية المجالات والقطاعات الأخرى ببلادنا إلى مشهد قاحل كئيب وحزن رخيص معاد، تسيطر عليه العلاقات الشخصية، الولاءات والمصالح المتبادلة، والولائم والجهويات والمحاصصة الفلكلورية العبثية المضحكة من الشمال إلى الجنوب. مع غياب عدالة ثقافية تشمل كل الجهات والأقاليم. واستمرار الدولة في صناعة الثقافة. هذا الخطر الجسيم الذي لا بد له أن يصبح من الماضي، لأن إصرار الدولة في صناعة الفعل الثقافي انتهى مع الأنظمة الشمولية، وقت إخضاع المثقفين والمبدعين إلى العزف على إيقاع أوهام شعاراتهم وضجيجهم ومخالب سياساتهم حتى يستأنس القطيع ويتدافع خلفهم. انظروا الآن كم دار «شعب» أو ثقافة، مغلقة الآن أو آيلة للسقوط أو هي مرتع للأغنام والإهمال والتداعي والغبار. فحتى مدينة الثقافة صارت دار ضيافة وسخافة من نصيب الأحباب والأصحاب والمؤتلفة أقلامهم.. بل صارت أروقتها وصالاتها لإقامة بعض المهرجانات. التظاهرات التقليدية العقيمة والعشوائية من باب ملء الروزنامة.

* تنتمي لجيل الثمانينات الشعري. كيف كانت علاقتك به وإلى أي حد أنصف تجربتك شاعراً؟

- لا أبالغ في الوصف حين أدّعي أن جيل الثمانينات - وهو جيلي الشعري - يبقى الأسمى، والأخصب، والأروع، والأبقى، والأكثر تجذراً ودهشة وخصوصية على جميع الواجهات، رغم ما صاحبنا من إرهاصات وخيبات ومضايقات طال حصارها الكثير منا سياسياً بالخصوص. ورغم اختلاف الرؤى والمشارب والاتجاهات الفكرية والأيديولوجية، وكذلك السياسية بطبيعة الحال، لم نجلس إلى بعضنا البعض في المقاهي أو الصالونات، نتحسس مسدساتنا كما فعلها بعض شعراء فرنسا وقت لقاءاتهم مثل «رامبو» و»أبولينار» و»بودلير» وغيرهم، بل كما نضحك ونبكي. نتعانق ثم نتحلق كالعصافير حول نص جديد لأحدنا، باحت به قريحته نتداعى فرحاً وتمجيداً في حضرة مولاه. ونحتفل كالملوك احتفالاً صاخباً ومقدساً حتى يباغتنا فجر اليوم الموال. ثم نفر بعد ذلك إلى زوايا أخرى من حولنا. والبعض يردد: «إن السماء قد لا تحتمل أحياناً أجنحة كل العصافير.» أما بخصوص إنصاف النقاد والباحثين لتجربتي الشعرية المتواضعة، وبالأساس حول ديواني البكر «أعشاب الليل» مع مجموعة «الرياح اللواقح»، أظن أنها نالت التكريم والاستحسان من الباب الكبير. محلياً وعربياً، إعلامياً وأكاديمياً، وتركت في نفسي أثراً مضيئاً لا يزال في صحبتي إلى الآن. وحصدت بعض الدراسات والقراءات المهمة التي زادتني تريثاً قبل صياغة أي نسيج شعري. وحمّلتني مسؤولية خطيرة وأرست بداخلي وفي ذهني سلطة صارمة إلى حد القسوة. كلما ارتعشت أناملي لطقوس الكتابة، فالشعر يظل مثل السحب تماماً. بعضها خادعة تمر فوقنا دون أن تمطر. والشعر كما قال أحد شراح لامية العرب: «ليس عملاً ساذجاً. يا سادتي!»

*ما هي علة المشهد الشعري التونسي اليوم، وكيف تنظر لمسيرة التحديث فيه؟

- لست من فئة المتشائمين التي أتابعها أو أجلس إليها من وقت لآخر، وهي تتحدث بنبرة استهزائية وأحياناً ساخرة ومتهكمة إزاء المشهد الشعري الراهن، وكيف طغت عليه الرداءة والسذاجة والاستسهال إلى درجة كبيرة من السطحية والرتابة والابتذال، وكيف تسلل إلى خيمته ومنابره لفيف لا بأس به من فاقدي الحس الإبداعي والموهبة، وحتى الخلفية الفكرية والمعرفية. ولقد ساعد هؤلاء الذين يحومون بأجنحة واهية مثل فراشات الضوء حول قناديل الشعر، غياب استراتيجية ثقافية في بلادنا واضحة وراسخة المعالم منذ عقود، جعلت من التظاهرات الشعرية عبر مختلف جهات الجمهورية منبراً لكل من هبّ ودبّ، وفضاء غوغاء وتهريج للحابل والنابل ولكل حاملي فزاعات الركاكة والهذيان، وقارعي طبول موائد ولائم التسوّل والمحاباة والعلاقات الشخصية والمحاصصة الفلكلورية العابرة والمضحكة. وقس على ذلك في أغلب الملتقيات والمهرجانات الوطنية التي فقدت بدورها بريقها وتجذرها وخصوصيتها وعراقتها، وحتى إشعاعها وسمعتها محلياً، إقليمياً وعربياً، بسبب الارتجال وتسييس الفعل الثقافي عموماً. ومع كل هذا الانحدار والنشاز والفوضى المتواصلة، فإن القاعدة التي استند إليها دائماً هي: أن الكثرة سوف تصنع لا محالة بعض الجودة، وإن طال مخاضها. وسوف تنتج بالتأكيد.. بل أراها قد أنتجت، وكما أتابع هنا وهناك بعض الأصوات الشعرية الشبابية المتميزة.. وكم استوقفتني مرات وبإعجاب شديد كتابات راقية لشعراء وشاعرات صيغت بأفكار أنيقة وعميقة، وبلغة أقل ضجيجاً وأكثر بريقاً وحداثة، فيها إضافة وتفرد وخصوصية، وتصاحبها هواجس وهموم الذات والوطن، ورياح التجدد واللقاح والاخضرار. لقد واكب المتنبي في عصره ألف شاعر.. غير أنه لم يبق إلا هو مع «أبي فراس الحمداني.»

* كيف تقرأ الرأي الذي يقول إن عهد إشراف الدولة على الشأن الثقافي قد انتهى؟

- نعم، أرى أن وزارة الثقافة لم يعد لها أي معنى في وقتنا الراهن. في عصر التكنولوجيا والمعرفة الرقمية. تبدل المفهوم السائد الذي اكتسبناه للثقافة جذرياً نحن «الجيل الضحية». باختصار، لا بد أن تتحول ثقافتنا من «سياسة ثقافية» هي من مشمولات الدولة فقط إلى «صناعة ثقافية» تحت طائلة الاستثمار الثقافي، يقتحم غمارها رجال الأعمال شأنها شأن القطاع السياحي والفلاحي وغيرها. فعن أي نشر وترويج للكتب اليوم نتحدث، والتونسي لا يقرأ إلا 90 صفحة سنوياً في آخر إحصائية موضوعية اطلعت عليها مؤخراً، بسبب إرهاصاته اليومية وأولويات الجري وراء لقمة العيش وتوفير ضروريات الحياة لأولاده، وإسكات مصائب الخصاصة والجهل والمرض التي تتربص به من كل ناحية وصوب. نحن عموماً أمة لا تقرأ، وليس من تقاليدنا أبداً مسك أو اشتغال العرب بكتاب وقراءته في حافلة، أو قطار، أو باخرة، أو طائرة.. أو عند شاطئ البحر. نحن مشغولون بعقوبة التاريخ، وفي قراءة همومنا، وأوجاعنا، وهزائمنا بالليل، وبالنهار. نحن أمة ما زلنا نتفاخر أن البيضة لا تزال على حالها منذ قرون. لذلك اخترت أن لا ألدغ للمرة الثالثة، وأدفع أموالاً في غنى عنها لمستكرش يلتهم عصارة أعصابي وحشيش قلبي الأخضر واليابس. ورحم الله شاعرنا الكبير «الهادي نعمان» لما حدثنا ذات مرة في مرارة رفقة الشاعر الرائع عبد الله القاسمي والناقد الساخر «أبو زيان السعدي» (رحمهم الله جميعاً).. كيف باع بعض أشجار زيتون ورثها عن والده بجهة الساحل من أجل إصدار مجموعته الشعرية اليتيمة. ومع ذلك ما زلت أردّد دائماً: «لعل الله يبعثها غمامة.» وأغني أحياناً: «أجمل الأحزان، تلك التي نغنيها.»

* أي إبداع يمكن أن تنتجه الحروب في العالم اليوم؟

- إنّ أدب أو شعر الحماسة في الحروب منذ «النابغة الذبياني» و»طرفة بن العبد» و»الأعشى» و»عنترة» وغيرهم يظل قادحة همم وعزائم الشعوب المقهورة والمستضعفة، وموقظ سيوف الفرسان، وحتى صهيل الخيول في ذلك الزمان. حتى وإن تبدلت بدائل ووسائل الحروب في عصرنا وما تنتجه من آلات حديثة وتكنولوجيا متطورة أشد فتكا وقتلاً وتدميراً. بل نجد أغلب جيوش العالم اليوم تستند في عقيدتها عند خوض غمار الحروب بالأساس، تستند إلى أناشيد وملاحم الحماسة والشجاعة والبأس والإقدام التي تؤثر في قلوب ونفوس الجنود بما تتضمنه من معاني الشرف والنبل والشهامة وحب الوطن والذود عن الأرض والعرض، وحرمة ترابه، ومناعته، وقدسيته. ألم يصرخ أبو القاسم الشابي مردداً في «إرادة الحياة»: إذا الشعب يوماً أراد الحياة، فلا بد أن يستجيب القدر. وبعده فعل «سميح القاسم» و»محمود درويش» وغيرهما في كل شبر عربي من المحيط إلى الخليج. وهم يحملون بيارق الجهاد المضيئة في كل ناحية وسماء. وأني لاستحضر البعض من ملحمة للجنود السوفيات وهم يدحرون الجيش النازي دفاعاً عن وطنهم، منشدين: «إذا فقد الجندي ساقيه في الحرب، يستطيع معانقة الأصدقاء، إذا فقد يديه، يستطيع الرقص في الأفراح، وإذا فقد عينيه، يستطيع سماع موسيقى الوطن، وإذا فقد سمعه، الاستلقاء على أرض وطنه، أما إذا فقد أرض وطنه.. فماذا بمقدوره أن يفعل؟!!»

*الذكاء الاصطناعي اليوم إلى أي حد يمكن اعتباره خطراً على العملية الإبداعية في المستقبل؟

-أتخيل ضاحكاً في كثير من الأحيان أن بدعة «الذكاء الاصطناعي» قد تحيل الشعراء وأهل الإبداع عموماً إلى البطالة في السنوات القليلة القادمة، إذ يكفي أن تأمر هاتفك الذكي بنقرات معدودة بصياغة قصيدة مدح، أو هجاء، أو رثاء، أو غزل، أو حتى تسب نفسك، وسوف يوفر لك ما تحتاجه في لمح البصر وأسرع من هدهد سيدنا سليمان، دون مكابدة ودون أن تأكل نفسك حزناً وألماً ومعاناة. أكيد سوف تنال مبتغاك دون روح ودفء ولذة، لكن نحن أصبحنا نلازم عصراً طغى فيه المبنى على المعنى. ومع ذلك، وكما قال أحد شراح «لامية العرب» للشنفرى بعدما أرهقته طويلاً، حين قال: «الشعر ليس عملاً ساذجاً...!»

حوار: محسن بن أحمد

الشاعر عبد الرؤوف بوفتح لـ"الصباح":  حان الوقت للتحوّل من "سياسة ثقافية" من مشمولات الدولة إلى "صناعة ثقافية" تحت طائلة الاستثمار الثقافي

 

- جيل الثمانينات الشعري الأخصب والأروع والأبقى والأكثر تجذرًا ودهشة وخصوصية

- أغلب الملتقيات والمهرجانات الوطنية الأدبية فقدت اليوم بريقها وتجذرها وخصوصيتها وعراقتها بسبب الارتجال وتسييس الفعل الثقافي

- نلازم عصرًا طغى فيه المبنى على المعنى و«بدعة» الذكاء الاصطناعي قد تحيل أهل الإبداع إلى البطالة في المستقبل

- الشعر حالة.. ولحظة برق لا بد من التقاطها في لحظتها وفي انفعال دهشة حرائقها

ينتمي إلى جيل الثمانينات الشعري بعمقه الإنساني، وهذا الانصهار الكلي في قضايا الإنسان وأحلامه وآماله وطموحاته. هو الشاعر عبد الرؤوف بوفتح الذي يظل، رغم المسافة التي اتخذها من الساحة الثقافية منذ سنوات، متدثرًا بمعطفه الإبداعي في محرابه الخاص، متابعًا عن كثب ما تعيشه الساحة الأدبية والإبداعية في تونس على وجه الخصوص من إرهاصات ونتوءات وتضاريس. الشعر عند عبد الرؤوف بوفتح لحظة بارقة في توقيت غير متوقع وغير محدد وغير منتظر. هو حالة استثنائية تلامس الواقع في لحظة ما، فتكتبه بصفاء وصدق، ليتحول القصيد إلى وثيقة يحتفظ بها التاريخ.

*لوتفتح معك دفتر الذكريات، ماذا نقرأ فيه حول بداية العلاقة مع الشعر؟

- كان جدّي (للأب) من مريدي الزعيم الراحل «الحبيب بورقيبة» ومن المعجبين جدًا بمسيرته النضالية وكفاحه الكبير ضد المستعمر الفرنسي، رفقة لفيف أصيل من الشرفاء وأحرار تونس (يرحمهم الله جميعًا). وما زلت أذكر أنه في صيف منتصف الستينات من القرن الماضي، لا أدري كيف حصل جدي على كتاب بعنوان «المسيرة الكبرى» لمؤلفه «عبد الدايم باباي» -يرحمه الله- يسرد فيه الكاتب تفاصيل رحلة بورقيبة إلى الشرق، عبر جزيرة قرقنة وليبيا، وما تجشمه من عذاب ومكابدة ومعاناة في سبيل التعريف بالقضية التونسية. وما زلت أذكر في فرح الطفل كيف كان يجلس جدي كل صباحات الصيف المنعشة رفقة شقيقه «أحمد» تحت شجرة زيتون وارفة، ثم يناديني دون غيري لأقرأ له بهدوء وتلعثم أحيانًا بعض فصول ذلك الكتاب.

من هنا، كان لجدي - من حيث لا يدري ربما - الفضل في نشأة ملكة حب القراءة والمطالعة وولعي منذ صباي الباكر - وأنا لم أصل بعد إلى السنة السادسة ابتدائي - باللغة العربية تحديدًا، واستنهاض موهبة الكتابة في وجداني وذاكرتي. ولما التحقت بالمعهد الثانوي، ازداد شغفي، وسكنتني قادحة المعرفة حتى صرت أسارع إلى بعض المكتبات المتواضعة هناك لشراء من مصروف الجيب المتواضع جدًا، وبعد شهور، ما تيسر من عناوين أدبية، مضحكة أحيانًا، بل كانت تبدو لي مبهرة وذات قيمة.

*يقولون من يريد أن يصبح كاتبًا أو شاعرًا عليه أن يقرأ الكثير من الكتب حتى يصقل موهبته. لمن قرأت؟ وأي تأثير لهذه القراءات على مسيرتك الشعرية؟

- فعلاً، ما زالت لي في ذاكرتي قائمة لأدباء أحتفظ لهم بالمحبة والعرفان بالجميل، على غرار: - علي الدوعاجي، محمد العروسي المطوي، «البشروش»، «المنفلوطي»، «إحسان عبد القدوس»، «جرجي زيدان»، «جبران» مع لفيف من الشعراء أمثال: عظيمنا «أبو القاسم الشابي»، «أحمد اللغماني»، «الهادي نعمان» وغيرهم كثير. وبمرور الأعوام، وتدرجي في أروقة الدراسة، اتسعت دائرة معارفي وتنوعت ميولاتي بحكم المنهج الدراسي، بل تحددت وتعمقت اختياراتي حتى وجدت نفسي أكثر ميلًا واجتذابًا إلى اقتناء ومتابعة دواوين الشعر قديمها وحديثها، بدءًا بالشعر الجاهلي وصدر الإسلام، مرورًا بالشعر الأموي والعباسي، ثم الأندلسي وصولًا إلى شعراء النهضة. وهكذا ازدادت رغبتي الجامحة في المطالعة وحب المعرفة عندي. وصرت أتدرج بالترتيب الزمني محليًا ثم عربيًا، وصولًا إلى «أبي القاسم الشابي»، ومنور صمادح، أحمد اللغماني، الهادي نعمان وغيرهم. و»الرصافي»، «السياب»، «نازك الملائكة»، الجواهري، ثم عبد الوهاب البياتي، «حسب الشيخ جعفر»، «أحمد شوقي»، «حافظ إبراهيم»، ثم اتسعت دائرة رغبتي في الاطلاع على تجارب إبداعية حداثوية، بدءًا ب «عبد الوهاب البياتي»، «أمل دنقل»، «صلاح عبد الصبور»، «أحمد عبد المعطي حجازي»، «محمد الفيتوري»، و»أدونيس». والقائمة تطول، مع لفيف لا بأس به من شعراء المهجر والشعراء والمبدعين الفرنسيين ما قبل الثورة الفرنسية وحتى زمننا هذا، وكذلك الشعراء الإنجليز، والقائمة تطول. ومع ذلك يصعب الاحتفاظ بالبيضة كما هي.

*كيف تنظر اليوم إلى أول قصيد لك؟

- ما زلت أنتفض فرحًا كلما تذكرت أول ومضة شعرية نشرت لي ببريد قراء «مجلة الفكر» الرائدة بعد أكثر من عشر مراسلات. وبعد أن اقترضت بسببها أكثر من دينار في ذلك الوقت من زميل دراسة لي ميسور الحال، ثمن «طوابع بريدية» لرسائل كنت أكتبها باستمرار أضمنها بدايات محاولاتي الشعرية وأرسل بها إلى بعض الصحف والمجلات بالعاصمة. وهو مقطع لا يزال راسخًا في ذاكرتي إلى اليوم. كتبت فيه فورة مراهقتي، وهو: «فستانها الأزرق، أنشودة تغسق في قلبي المرهق، والحب أوه... كم يحرق». ما زلت أتذكر جيدًا صبيحة ذاك اليوم الربيعي لما اشتريت مجلة «الفكر» من إحدى مكتبات باب الجلادين بمدينة القيروان، حيث كنت أزاول دراستي في المرحلة الثانية، وبعد أن وجدت اسمي بركن «بريد القراء»... كيف كاد يغمى عليّ من هول فرحتي. ولم أكن أعلم وقتها أن إدمان الكتابة هو وجع مزمن ولا علاج لكل ضحاياه طوال العمر، غير أنه وجع لذيذ يشفي من أمراض كثيرة أخرى.

*ما هو شكل عباءتك الشعرية التي اخترتها لنحت مشروعك الإبداعي؟

- أعتقد أن أي مبدع مهما كانت ميولاته واتجاهاته أو جنسه الأدبي، لا يستطيع حياكة نسيجه أو عباءته الإبداعية من فراغ. إذ الموهبة وحدها تظل مبتورة، غائمة الملامح. فحتى شعراء الجاهلية لم ينحتوا روائع معلقاتهم وبصمتهم المتميزة دون منهل أو نبع أو قادحة، ولا يتمثل المنهل أو الرافد بالضرورة في ثنايا الكتب والمراجع وما ترك السلف في الرفوف من تراث مدوّن متعدد ومتنوع، بل يكون غزيرًا في البيئة الحاضنة بالسماع والقياس، والظلال الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وكل الهواجس الذاتية الملتصقة بالعشيرة والقبيلة. وما تراكم من آثار مخالب الاستفزاز على اختلاف مجراه، والذي يبقى سيد الإبداع. فالتأثر لا بد أن يكون الواحة التي يؤسس التأثير مجراه. وما المُتون والكتب المقروءة وما تكدس في الذاكرة، إلا عناصر صقل تزيد النص الإبداعي بريقًا وديمومة وتوهجًا وخضرة.

* أي مفهوم لديك للشعر؟

- الشعر بالأساس ليس نظمًا على إيقاع وخَبَب بحور الخليل أو على شاكلة «ألفية ابن مالك». الشعر حالة. إنه لحظة برق لا بد من التقاطها في لحظتها وفي انفعال دهشة حرائقها. فالسائد أو المتداول الشعري القديم والراهن، أراه مثل محراث جدي يجب الاحتفاظ به لأنه الأصل وبداية الفلح وشق الأرض وتأثيث الحياة. وها إنّ كل تلك المحاريث إنتاج في مهرجان الحصاد!

* أخذ مسافة من الساحة الشعرية والاكتفاء بالنشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي، هل كان ذلك اختيارًا منك؟

- لست من الشعراء الذين يكتبون كثيرًا أو تحت الطلب. ولم أنشر دواوين شعرية وبانتظام منذ سنوات، منذ مجموعة «أعشاب الليل» و»الرياح اللواقح» لعدة أسباب، لعل أبرزها بصفة عامة وباختصار شديد: رداءة المشهد واختلاط الحابل بالنابل، وتحول الرواق الثقافي كما هو الحال لبقية المجالات والقطاعات الأخرى ببلادنا إلى مشهد قاحل كئيب وحزن رخيص معاد، تسيطر عليه العلاقات الشخصية، الولاءات والمصالح المتبادلة، والولائم والجهويات والمحاصصة الفلكلورية العبثية المضحكة من الشمال إلى الجنوب. مع غياب عدالة ثقافية تشمل كل الجهات والأقاليم. واستمرار الدولة في صناعة الثقافة. هذا الخطر الجسيم الذي لا بد له أن يصبح من الماضي، لأن إصرار الدولة في صناعة الفعل الثقافي انتهى مع الأنظمة الشمولية، وقت إخضاع المثقفين والمبدعين إلى العزف على إيقاع أوهام شعاراتهم وضجيجهم ومخالب سياساتهم حتى يستأنس القطيع ويتدافع خلفهم. انظروا الآن كم دار «شعب» أو ثقافة، مغلقة الآن أو آيلة للسقوط أو هي مرتع للأغنام والإهمال والتداعي والغبار. فحتى مدينة الثقافة صارت دار ضيافة وسخافة من نصيب الأحباب والأصحاب والمؤتلفة أقلامهم.. بل صارت أروقتها وصالاتها لإقامة بعض المهرجانات. التظاهرات التقليدية العقيمة والعشوائية من باب ملء الروزنامة.

* تنتمي لجيل الثمانينات الشعري. كيف كانت علاقتك به وإلى أي حد أنصف تجربتك شاعراً؟

- لا أبالغ في الوصف حين أدّعي أن جيل الثمانينات - وهو جيلي الشعري - يبقى الأسمى، والأخصب، والأروع، والأبقى، والأكثر تجذراً ودهشة وخصوصية على جميع الواجهات، رغم ما صاحبنا من إرهاصات وخيبات ومضايقات طال حصارها الكثير منا سياسياً بالخصوص. ورغم اختلاف الرؤى والمشارب والاتجاهات الفكرية والأيديولوجية، وكذلك السياسية بطبيعة الحال، لم نجلس إلى بعضنا البعض في المقاهي أو الصالونات، نتحسس مسدساتنا كما فعلها بعض شعراء فرنسا وقت لقاءاتهم مثل «رامبو» و»أبولينار» و»بودلير» وغيرهم، بل كما نضحك ونبكي. نتعانق ثم نتحلق كالعصافير حول نص جديد لأحدنا، باحت به قريحته نتداعى فرحاً وتمجيداً في حضرة مولاه. ونحتفل كالملوك احتفالاً صاخباً ومقدساً حتى يباغتنا فجر اليوم الموال. ثم نفر بعد ذلك إلى زوايا أخرى من حولنا. والبعض يردد: «إن السماء قد لا تحتمل أحياناً أجنحة كل العصافير.» أما بخصوص إنصاف النقاد والباحثين لتجربتي الشعرية المتواضعة، وبالأساس حول ديواني البكر «أعشاب الليل» مع مجموعة «الرياح اللواقح»، أظن أنها نالت التكريم والاستحسان من الباب الكبير. محلياً وعربياً، إعلامياً وأكاديمياً، وتركت في نفسي أثراً مضيئاً لا يزال في صحبتي إلى الآن. وحصدت بعض الدراسات والقراءات المهمة التي زادتني تريثاً قبل صياغة أي نسيج شعري. وحمّلتني مسؤولية خطيرة وأرست بداخلي وفي ذهني سلطة صارمة إلى حد القسوة. كلما ارتعشت أناملي لطقوس الكتابة، فالشعر يظل مثل السحب تماماً. بعضها خادعة تمر فوقنا دون أن تمطر. والشعر كما قال أحد شراح لامية العرب: «ليس عملاً ساذجاً. يا سادتي!»

*ما هي علة المشهد الشعري التونسي اليوم، وكيف تنظر لمسيرة التحديث فيه؟

- لست من فئة المتشائمين التي أتابعها أو أجلس إليها من وقت لآخر، وهي تتحدث بنبرة استهزائية وأحياناً ساخرة ومتهكمة إزاء المشهد الشعري الراهن، وكيف طغت عليه الرداءة والسذاجة والاستسهال إلى درجة كبيرة من السطحية والرتابة والابتذال، وكيف تسلل إلى خيمته ومنابره لفيف لا بأس به من فاقدي الحس الإبداعي والموهبة، وحتى الخلفية الفكرية والمعرفية. ولقد ساعد هؤلاء الذين يحومون بأجنحة واهية مثل فراشات الضوء حول قناديل الشعر، غياب استراتيجية ثقافية في بلادنا واضحة وراسخة المعالم منذ عقود، جعلت من التظاهرات الشعرية عبر مختلف جهات الجمهورية منبراً لكل من هبّ ودبّ، وفضاء غوغاء وتهريج للحابل والنابل ولكل حاملي فزاعات الركاكة والهذيان، وقارعي طبول موائد ولائم التسوّل والمحاباة والعلاقات الشخصية والمحاصصة الفلكلورية العابرة والمضحكة. وقس على ذلك في أغلب الملتقيات والمهرجانات الوطنية التي فقدت بدورها بريقها وتجذرها وخصوصيتها وعراقتها، وحتى إشعاعها وسمعتها محلياً، إقليمياً وعربياً، بسبب الارتجال وتسييس الفعل الثقافي عموماً. ومع كل هذا الانحدار والنشاز والفوضى المتواصلة، فإن القاعدة التي استند إليها دائماً هي: أن الكثرة سوف تصنع لا محالة بعض الجودة، وإن طال مخاضها. وسوف تنتج بالتأكيد.. بل أراها قد أنتجت، وكما أتابع هنا وهناك بعض الأصوات الشعرية الشبابية المتميزة.. وكم استوقفتني مرات وبإعجاب شديد كتابات راقية لشعراء وشاعرات صيغت بأفكار أنيقة وعميقة، وبلغة أقل ضجيجاً وأكثر بريقاً وحداثة، فيها إضافة وتفرد وخصوصية، وتصاحبها هواجس وهموم الذات والوطن، ورياح التجدد واللقاح والاخضرار. لقد واكب المتنبي في عصره ألف شاعر.. غير أنه لم يبق إلا هو مع «أبي فراس الحمداني.»

* كيف تقرأ الرأي الذي يقول إن عهد إشراف الدولة على الشأن الثقافي قد انتهى؟

- نعم، أرى أن وزارة الثقافة لم يعد لها أي معنى في وقتنا الراهن. في عصر التكنولوجيا والمعرفة الرقمية. تبدل المفهوم السائد الذي اكتسبناه للثقافة جذرياً نحن «الجيل الضحية». باختصار، لا بد أن تتحول ثقافتنا من «سياسة ثقافية» هي من مشمولات الدولة فقط إلى «صناعة ثقافية» تحت طائلة الاستثمار الثقافي، يقتحم غمارها رجال الأعمال شأنها شأن القطاع السياحي والفلاحي وغيرها. فعن أي نشر وترويج للكتب اليوم نتحدث، والتونسي لا يقرأ إلا 90 صفحة سنوياً في آخر إحصائية موضوعية اطلعت عليها مؤخراً، بسبب إرهاصاته اليومية وأولويات الجري وراء لقمة العيش وتوفير ضروريات الحياة لأولاده، وإسكات مصائب الخصاصة والجهل والمرض التي تتربص به من كل ناحية وصوب. نحن عموماً أمة لا تقرأ، وليس من تقاليدنا أبداً مسك أو اشتغال العرب بكتاب وقراءته في حافلة، أو قطار، أو باخرة، أو طائرة.. أو عند شاطئ البحر. نحن مشغولون بعقوبة التاريخ، وفي قراءة همومنا، وأوجاعنا، وهزائمنا بالليل، وبالنهار. نحن أمة ما زلنا نتفاخر أن البيضة لا تزال على حالها منذ قرون. لذلك اخترت أن لا ألدغ للمرة الثالثة، وأدفع أموالاً في غنى عنها لمستكرش يلتهم عصارة أعصابي وحشيش قلبي الأخضر واليابس. ورحم الله شاعرنا الكبير «الهادي نعمان» لما حدثنا ذات مرة في مرارة رفقة الشاعر الرائع عبد الله القاسمي والناقد الساخر «أبو زيان السعدي» (رحمهم الله جميعاً).. كيف باع بعض أشجار زيتون ورثها عن والده بجهة الساحل من أجل إصدار مجموعته الشعرية اليتيمة. ومع ذلك ما زلت أردّد دائماً: «لعل الله يبعثها غمامة.» وأغني أحياناً: «أجمل الأحزان، تلك التي نغنيها.»

* أي إبداع يمكن أن تنتجه الحروب في العالم اليوم؟

- إنّ أدب أو شعر الحماسة في الحروب منذ «النابغة الذبياني» و»طرفة بن العبد» و»الأعشى» و»عنترة» وغيرهم يظل قادحة همم وعزائم الشعوب المقهورة والمستضعفة، وموقظ سيوف الفرسان، وحتى صهيل الخيول في ذلك الزمان. حتى وإن تبدلت بدائل ووسائل الحروب في عصرنا وما تنتجه من آلات حديثة وتكنولوجيا متطورة أشد فتكا وقتلاً وتدميراً. بل نجد أغلب جيوش العالم اليوم تستند في عقيدتها عند خوض غمار الحروب بالأساس، تستند إلى أناشيد وملاحم الحماسة والشجاعة والبأس والإقدام التي تؤثر في قلوب ونفوس الجنود بما تتضمنه من معاني الشرف والنبل والشهامة وحب الوطن والذود عن الأرض والعرض، وحرمة ترابه، ومناعته، وقدسيته. ألم يصرخ أبو القاسم الشابي مردداً في «إرادة الحياة»: إذا الشعب يوماً أراد الحياة، فلا بد أن يستجيب القدر. وبعده فعل «سميح القاسم» و»محمود درويش» وغيرهما في كل شبر عربي من المحيط إلى الخليج. وهم يحملون بيارق الجهاد المضيئة في كل ناحية وسماء. وأني لاستحضر البعض من ملحمة للجنود السوفيات وهم يدحرون الجيش النازي دفاعاً عن وطنهم، منشدين: «إذا فقد الجندي ساقيه في الحرب، يستطيع معانقة الأصدقاء، إذا فقد يديه، يستطيع الرقص في الأفراح، وإذا فقد عينيه، يستطيع سماع موسيقى الوطن، وإذا فقد سمعه، الاستلقاء على أرض وطنه، أما إذا فقد أرض وطنه.. فماذا بمقدوره أن يفعل؟!!»

*الذكاء الاصطناعي اليوم إلى أي حد يمكن اعتباره خطراً على العملية الإبداعية في المستقبل؟

-أتخيل ضاحكاً في كثير من الأحيان أن بدعة «الذكاء الاصطناعي» قد تحيل الشعراء وأهل الإبداع عموماً إلى البطالة في السنوات القليلة القادمة، إذ يكفي أن تأمر هاتفك الذكي بنقرات معدودة بصياغة قصيدة مدح، أو هجاء، أو رثاء، أو غزل، أو حتى تسب نفسك، وسوف يوفر لك ما تحتاجه في لمح البصر وأسرع من هدهد سيدنا سليمان، دون مكابدة ودون أن تأكل نفسك حزناً وألماً ومعاناة. أكيد سوف تنال مبتغاك دون روح ودفء ولذة، لكن نحن أصبحنا نلازم عصراً طغى فيه المبنى على المعنى. ومع ذلك، وكما قال أحد شراح «لامية العرب» للشنفرى بعدما أرهقته طويلاً، حين قال: «الشعر ليس عملاً ساذجاً...!»

حوار: محسن بن أحمد

  Conception & Réalisation  Alpha Studios Copyright © 2023  assabahnews