إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

محمد عيسى المؤدب لـ"الصباح": الرّوائي جندي سردي يُقاتل من أجل هُويّة وقضايا مصيريّة ساخنة لا حياد فيها

ما يشدك في أعمال الروائي محمد عيسى المؤدب هو الانتصار دون هوادة للإنسانية، من خلال الاعتماد على مشروع روائي متكامل، ركيزته الأساسية مواكبة المُتغيرات المُتسارعة في الرواية الحديثة. فكان أن اختار الاشتغال على الهوية التونسية والدفاع المستميت عنها من خلال كتابات سردية عميقة أكد من خلالها أنه لا مكان في تونس للفكر المتحجر، عدو الحياة الجميلة في أبهى وأجمل مظاهرها.

جاءت رواياته ناصعة، واضحة، عميقة في مضامينها الإنسانية النبيلة، بلغة سلسة مشوقة ومعبرة عن توق الإنسان في تونس وفي الوطن العربي بصفة عامة إلى فكر حر يعانق الحرية ويقدس الوطن ويؤمن بحق الاختلاف في الرأي دون تزمت أو تحقير.

محمد عيسى المؤدب، كانت لنا معه هذه الرحلة في أعماق فكره السردي، بما يتضمنه من خيال ودهشة... فكر سردي متوهج جعل منه أحد الروائيين الحداثيين الذين يكتبون الواقع بكل تفاصيله وأحلامه ونتوءاته وتضاريسه بشجاعة إبداعية نادرة.

*ماذا بقي في الذاكرة عن البدايات في مشروع الكتابة؟

-البدايات كانت مع القصة القصيرة، نشرتُ المجموعة الأولى وعنوانها «عرس النار» ، وهي حائزة على الجائزة الوطنية لأدب الشباب في القصة سنة 1995. ثمّ مجموعة «أيّة امرأة أكون؟» سنة 1999. لابدّ من الحديث في هذه المرحلة عن الصحافة الأدبية التي كانت تعنى بأدب الشباب وتُحيط بالكتّاب الشباب نصحًا ونشرًا ودعمًا. وأذكر بشكل خاصّ جرائد الصباح والصدى والصحافة والشروق، ومجلة الحياة الثقافية. وحريّ بي أن أُذكّر بما كان يقوم به السادة محمد بن رجب ورضا الكافي وأحمد عامر ومحسن بن أحمد وحسن بن عثمان ويوسف رزوقة من مجهودات لتقديم الأقلام الجديدة في تلك المنابر الأدبية الجادة. لا أنسى أيضًا مهرجان الأدباء الناشئين بحي الزهور ومهرجان الأدباء الشباب بقليبية، فأغلب الشعراء والكتّاب في تونس مرّوا بهما، وأنا فخور بانتمائي لجيل التسعينات الذي استفاد من تلك الحركة الأدبية الحية والزاخرة بالتجارب، تنوعًا واختلافًا وصراعًا خلّاقًا من أجل نص إبداعي جديد بعيدًا عن التناحر والفوضى والتفاهة التي تطغى اليوم.

*أيّ تأثير للطفولة في تحديد مسارك مع الكتابة الإبداعية؟

-في الواقع، اكتشفت الكتاب متأخّرًا بحكم غيابه في منطقتنا الريفية بصاحب الجبل. وبعد أن اكتشفت الشعر والقصة والرواية في المكتبة العمومية بالهوارية، كتبت الشعر في الثالثة ثانوي (التاسعة أساسي حاليًا)، عندما درسنا العروض بمعهد الهوارية. وفي معهد قليبية انطلقت تجربتي في كتابة القصة القصيرة ونشرها بالجرائد التونسية.

*اخترت الرواية كمنهج لمسيرتك الإبداعية. من هو المحدّد في ذلك؟

-في الحقيقة، لم أفكر في كتابة الرواية، كان اهتمامي مقتصرًا على القصة القصيرة. وحدث أن انقطعتُ عن الكتابة لمدة 11 سنة بعد ذلك. وعندما استأنفت الكتابة، كان في نيتي إعادة كتابة مجموعة قصصية تعرضت إلى مضايقات في النشر سنة 2000، فوجدتُ نفسي أكتبُ روايتي الأولى بعنوان «في المعتقل». هذه التجربة ورّطتني حقًا في عوالم الرواية ففكرتُ في إنجاز مشروع كامل، أطوّر فيه تجربتي الأولى، سواء في القصة القصيرة أو الرواية. عمّقت الرواية شغفي بالبحث والتجريب والمغامرة، وتناولت مواضيع مسكوت عنها في المدونة السردية، ومنها موضوع الأقليات والأديان والقضايا الحارقة التي تهمّ الهوية التونسية والعربية بشكل عام، كالعنف والتطرف والإرهاب. نتذكر ما حدث في الجزائر خلال «عشريّتها السوداء»، وما حدث في السودان ثم ليبيا ومصر وسوريا والعراق. هناك كراهية غريبة لمفاهيم الحرية والإنسانية وجنوح إلى تعميم الفوضى والخراب. نحن أمام خطر حقيقي، خطر تدمير الهوية والمصير، وإن كنا نتذكر نكبة 48 بكثير من الألم فإنّ نكبتنا في هذا العصر هي التطرف. وقد أتاحت لي الرواية معالجة هذه القضايا الهامة والمصيرية.

*هل كان بالإمكان أن تكون شاعرًا؟

-كتبت الشعر فعلًا، لكنّ إحساسي كان يقول لي إنّي شاعر فاشل، لذلك لم أحرص على إثراء التجربة ومواصلة كتابة الشعر.

*ماهي تقنياتك التي تختص بها في كتاباتك السردية؟

أشتغل كثيرًا على تقنية تعدد الأصوات، وهي شاقة وصعبة لا محالة في الكتابة الروائية. تُعرف هذه التقنية بالجوقة البوليفونية وتثيرني بتعدد الزوايا ونقل حرارة الحياة. الإشكال الكبير هو صعوبة التمييز بين الأصوات في اللغة والإيقاع وروح التسريد. صعب جدًا أن ينقل الكاتب عوالم شخصيات متعددة بثقافتها وتناقضاتها وملامحها النفسية بشكل خاص. العملية شبيهة بالخلق، الذي يستدعي استنفار كل الحواسّ والرصيد المعرفي والإنساني.

*أي الأسئلة التي تحركك والهواجس التي تسكنك وتحفزك على الكتابة الإبداعية؟

-الكتابة الروائية الحديثة قطعتْ مع الكتابة العفوية والهلامية لتنشأ من رحم البحث والمعايشة والمُحاججة. فمثلاً في روايتي «حذاء إسباني»، كان من الطبيعي وأنا أسرد وقائع من الحرب الأهلية الإسبانية والحركة الوطنية التونسية أن أُجري بحثًا. غير أنّ الرواية لا تكتفي بالتوثيق ونقل الوقائع كما حدثت، بل تمتلك من خلال البحث والتخييل قدرةً على كتابة التاريخ وخلق حياة بديلة وحية بأسلوب مشوّق وحجاجي. مسألة أخرى تتعلق بالقراءة. برأيي، الروائي المتطور من عمل إلى آخر هو الذي يقرأ أكثر. ولا أعني بالقراءة الرواية أو الأدب بشكل عام فقط، بل القراءة تعني الفلسفة والأديان والحضارة والآداب والفنون، بقديمها وحديثها. الروائي أيضًا هو باحث جيد ومعايش ومجرب ومطلع. لم يعد زمن الكتابة عفويًا، لقد صار زمن الحجاج والاقتحام والتشظي بكل ما تعنيه الكلمة من معانٍ. فالكتابة الجديدة تحتاج اليوم إلى رصيد معرفي وبحثي غزير حتى ننطلق في هندسة أي عمل جديد باعتباره مغامرة مضنية. أسئلة المقاومة بكل معانيها الفنية والمضمونية تلحّ عليّ كثيرًا، بل هي جوهر الكتابة. وأعني أنّ الروائي اليوم هو جندي سردي يُقاتل من أجل هويّة وقضايا مصيريّة ساخنة ليس بوسعه أن يبقى محايدًا أو بعيدًا عنها. فالرواية، كما أفهمها، هي حتميّة المغامرة والاقتحام والانتصار للإنسان.

الروائي يختار مشروعه وفق خزّان ثقافته وقراءاته وتجاربه، وانطلاقًا من الأسئلة المتفجّرة في تجربة الكتابة. فليست الكتابة، باعتقادي، إلا تفجير أسئلة كبرى. صحيح أنّ المشروع لا يولد مكتملًا، وهذا طبيعي، فتشكّله الفني بالأساس يظل مفتوحًا ومتطورًا طوال مدة كتابة المشروع. بأكثر دقة، أتحدث عن مشروعي الأدبي «الهوية»، فقد كنتُ أعرف أنّي سأنشغل بثلاثة أديان سماوية عرفتها تونس، وهي الإسلام واليهودية والمسيحية. ولكنني في المقابل كنت أجهل التفاصيل في مستويات الهندسة الفنية والشخصيات والأمكنة والأزمنة وكل مستلزمات الكتابة الروائية الحديثة التي حافظت على تنوّعها وتغيّرها من رواية إلى أخرى. فبين «جهاد ناعم» (2017) و»حمّام الذهب» (2019) و»حذاء إسباني» (2020) و»بلاص ديسكا» (2023)، اختلافات كبرى يلاحظها القارئ بيسر، وهذا مهم.

*من وجهة نظرك، هل من الضروري الاستنجاد بالماضي لكتابة الحاضر؟

-ليس من الضروري بطبيعة الحال أن نكتب الحاضر تحت وصاية الماضي، ولكلّ عصر انتكاساته وانتصاراته. أمّا إذا تعلّق الأمر بفهم الحاضر بقضاياه الملغزة، فإنّنا نستدعي الماضي وفق رؤية حجاجية. ذلك أنّ الرواية التاريخية، أو ما تسمى اليوم برواية التخيّل التاريخي، تجاوزت رهان الإمتاع السردي أو مجرد الحكي العفوي لتكون هاجسة بقضايا الحاضر. وهذا ما عالجته مثلًا في رواية «حذاء إسباني»، فعندما سردت تفاصيل من الحرب الأهلية الإسبانية وحيثيات هروب البحارة الإسبان إلى تونس، كان يعنيني من خلال ذلك أيضًا هوية تونس ما قبل الحرب العالمية الثانية وما بعدها، وما قدمته من ضحايا الحروب والفارين من جحيم الدكتاتورية والباحثين عن الحرية والكرامة والسلام. فتكون تونس أرض الحرية والسلام والحبّ. لا يمكن اليوم أن نكتب الرواية بمنطق جورجي زيدان بما تنطوي عليه من عفوية وسذاجة سردية ونزعة تعليمية. يعجبني أمين معلوف في استنطاق التاريخ وتفجير أسئلة الراهن، لذلك أكتب رواية التخيّل التاريخي من تلك القناعة أو الرؤية.

*لمن تتوجّه بكتاباتك الروائية؟

-الرواية الحديثة عالم حيّ، أو هي مدينة سردية، هكذا أفهم الرواية. ومن هذا المنطلق، لا أتوجّه إلى قارئ محدّد أو جهة معيّنة. هي مفتوحة للجميع كمتجر سردي افتراضي يوفّر المعرفة والمتعة.

*من وجهة نظرك، من يكتب الرواية، الكاتب أم الأبطال؟

-الأبطال يكتبون الرواية بلا شكّ، بمعنى أنّهم يخوضون تجاربهم ومغامراتهم بلا وصاية أو تدخّل من الكاتب. فهم يحضرون بملامحهم وقناعاتهم ومواقفهم، كما يمكن أن يحضروا في الواقع. أمّا إذا حرّكهم الكاتب أو السارد كدمى أو وفق توجيه ما، إيديولوجي أو سياسي أو اجتماعي، فإنّ العمل يكون فاشلًا. بمعنى، لا يلقى الترحيب أو التلقي الإيجابي من قارئ صعب وشرس. وقارئ هذا العصر مطّلع وله مصادر معرفة متعددة، وأغلبها سهلة، مثل وسائل التواصل الاجتماعي والكتاب الرقمي وغيرها. لذلك من الضروري تحقيق أعلى درجات الجودة الفنية لإقناعه بالعمل الروائي.

*كيف تحدّد علاقة المبدع بشخصيات الأثر الإبداعي؟

-يمكن أن أعتبرها علاقة تعايش مثلما يجري الأمر في الواقع تمامًا. صحيح أنّ الشخصيات تجسّم أفكارًا، لكنّها داخل النسيج الروائي تحضر كشخصيات حقيقية، تمتلك مواقف وأفكارًا مستقلة ومختلفة عن الكاتب. وعلى الكاتب أن يحترم هذا الاختلاف، ويتعايش معها، لا أن يحاول كبتها أو قمعها.

*هناك ظاهرة انتشرت بشكل كبير تتمثل في «هجرة» الشعراء إلى الرواية والقصة بمختلف أنواعها. ألا تنتظر «هجرة» معاكسة من الروائيين إلى الشعر؟

-أولًا، لا أرى مشكلة في هجرة الشعراء إلى الرواية. فالأجناس الأدبية متحوّلة ومتطوّرة دومًا، وهذا التحوّل ما فتئ يقرّب بين الأجناس والنصوص وحتى الفنون ببعضها البعض. يعني أنّ الرواية تستفيد اليوم بشكل كبير من الشعر والمسرح والسيرة أو الترجمة الذاتية ومختلف الفنون. لذلك ليس غريبًا أن تحدث هجرة معاكسة من قبل الروائيين نحو الشعر، ولو أنّها ستكون هجرة صامتة، لا تثير ضجّة أو اهتمامًا كبيرًا.

*كيف تبدو لك علاقة النقد بالكتابة السردية في المشهد الثقافي التونسي اليوم؟

-في الحقيقة لا أعترف بوجود أزمة نقدية، وهذه الشكوى تتكرّر منذ زمن طويل، لعلّه منذ القرن العشرين. وهذه الأزمة المفتعلة يتّكئ عليها الكثيرون في المغرب والمشرق. قناعتي أن الإبداع مُتقدّم عن النقد، ومتى وُجد إبداع حقيقي فإنّ سهام النقد تتوجه إليه. الناقد فطن هو أيضًا ودقيق في اختياراته، وأرى أنّه من الغباء أن يُهمل نصوصًا مرجعية مهمّة يمكن أن تتقدّم به وتطوّر مناهجه في القراءة والنقد العلمي الرصين بعيدًا عن بالونات النفخ والمجاملات والإخوانيّات التي تفشّت كثيرًا في وسائل التواصل الاجتماعي ولا فائدة تُرجى من الخوض فيها لأنها مدمرة للأعصاب ومضيعة للوقت.

*ماهي قراءتك اليوم للمدونة السردية التونسية بعد 2011؟

-هناك حراك حقيقي في السرد التونسي طيلة السنوات الأخيرة في القصة القصيرة وفي الرواية. بالنسبة للرواية، التجارب مختلفة ومتنوعة، فيها تجريب وحفر ومغامرة وحرفية في التعاطي مع هذا الجنس الصعب والمتحول. في الحقيقة، العديد من العوامل ساهمت في ذلك، منها تجاوز هواجس «التابوهات»، تلك الممنوعات ماتت في العالم منذ سنوات طويلة، ولم يتجاوزها الكثير من الروائيين في تونس إلا مؤخرًا، بالإضافة إلى الاشتغال على مشاريع روائية جادة والنشر في دور نشر عربية. ولا أنسى أيضًا التطور النوعي الذي عرفته الكثير من دور النشر التونسية في السنوات الأخيرة، ومنها منشورات ميسكلياني والتنوير وسيراس ومحمد علي وخريف وزينب.

*لماذا لا نعيش هذه الأيام حراكًا ثقافيًا وفكريًا عربيًا مزلزلًا تفاعلًا مع ما يعيشه قطاع غزّة من دمار وتدمير صهيوني غاشم؟

-صحيح أنّه على الميدان لا وجود لحراك ثقافي مهمّ يتفاعل مع ما جرى ويجري في غزّة ومع ضحاياها الأبرياء ويندد بماكينة القتل والخراب. وأعتقد أنّ الافتراضي تجاوز هذا النقص باعتبار أنّ الافتراضي اليوم سهل الانتشار بمحتواه ورسائله الدقيقة والمزلزلة.

*صاحب الجبل مدينة مهد الصّبا والنشأة، ماذا تقول عنها، وأي إضافات منحتها لك ككاتب؟

-صاحب الجبل لها موقع استراتيجي جميل ومتفرّد، يجمع بين الجبل والبحر والغابة. وأعتقد أنّ أهمّ إضافة قدّمته لي هي خزّان الخيال.

حوار: محسن بن أحمد

 محمد عيسى المؤدب لـ"الصباح":  الرّوائي جندي سردي يُقاتل من أجل هُويّة وقضايا مصيريّة ساخنة لا حياد فيها

ما يشدك في أعمال الروائي محمد عيسى المؤدب هو الانتصار دون هوادة للإنسانية، من خلال الاعتماد على مشروع روائي متكامل، ركيزته الأساسية مواكبة المُتغيرات المُتسارعة في الرواية الحديثة. فكان أن اختار الاشتغال على الهوية التونسية والدفاع المستميت عنها من خلال كتابات سردية عميقة أكد من خلالها أنه لا مكان في تونس للفكر المتحجر، عدو الحياة الجميلة في أبهى وأجمل مظاهرها.

جاءت رواياته ناصعة، واضحة، عميقة في مضامينها الإنسانية النبيلة، بلغة سلسة مشوقة ومعبرة عن توق الإنسان في تونس وفي الوطن العربي بصفة عامة إلى فكر حر يعانق الحرية ويقدس الوطن ويؤمن بحق الاختلاف في الرأي دون تزمت أو تحقير.

محمد عيسى المؤدب، كانت لنا معه هذه الرحلة في أعماق فكره السردي، بما يتضمنه من خيال ودهشة... فكر سردي متوهج جعل منه أحد الروائيين الحداثيين الذين يكتبون الواقع بكل تفاصيله وأحلامه ونتوءاته وتضاريسه بشجاعة إبداعية نادرة.

*ماذا بقي في الذاكرة عن البدايات في مشروع الكتابة؟

-البدايات كانت مع القصة القصيرة، نشرتُ المجموعة الأولى وعنوانها «عرس النار» ، وهي حائزة على الجائزة الوطنية لأدب الشباب في القصة سنة 1995. ثمّ مجموعة «أيّة امرأة أكون؟» سنة 1999. لابدّ من الحديث في هذه المرحلة عن الصحافة الأدبية التي كانت تعنى بأدب الشباب وتُحيط بالكتّاب الشباب نصحًا ونشرًا ودعمًا. وأذكر بشكل خاصّ جرائد الصباح والصدى والصحافة والشروق، ومجلة الحياة الثقافية. وحريّ بي أن أُذكّر بما كان يقوم به السادة محمد بن رجب ورضا الكافي وأحمد عامر ومحسن بن أحمد وحسن بن عثمان ويوسف رزوقة من مجهودات لتقديم الأقلام الجديدة في تلك المنابر الأدبية الجادة. لا أنسى أيضًا مهرجان الأدباء الناشئين بحي الزهور ومهرجان الأدباء الشباب بقليبية، فأغلب الشعراء والكتّاب في تونس مرّوا بهما، وأنا فخور بانتمائي لجيل التسعينات الذي استفاد من تلك الحركة الأدبية الحية والزاخرة بالتجارب، تنوعًا واختلافًا وصراعًا خلّاقًا من أجل نص إبداعي جديد بعيدًا عن التناحر والفوضى والتفاهة التي تطغى اليوم.

*أيّ تأثير للطفولة في تحديد مسارك مع الكتابة الإبداعية؟

-في الواقع، اكتشفت الكتاب متأخّرًا بحكم غيابه في منطقتنا الريفية بصاحب الجبل. وبعد أن اكتشفت الشعر والقصة والرواية في المكتبة العمومية بالهوارية، كتبت الشعر في الثالثة ثانوي (التاسعة أساسي حاليًا)، عندما درسنا العروض بمعهد الهوارية. وفي معهد قليبية انطلقت تجربتي في كتابة القصة القصيرة ونشرها بالجرائد التونسية.

*اخترت الرواية كمنهج لمسيرتك الإبداعية. من هو المحدّد في ذلك؟

-في الحقيقة، لم أفكر في كتابة الرواية، كان اهتمامي مقتصرًا على القصة القصيرة. وحدث أن انقطعتُ عن الكتابة لمدة 11 سنة بعد ذلك. وعندما استأنفت الكتابة، كان في نيتي إعادة كتابة مجموعة قصصية تعرضت إلى مضايقات في النشر سنة 2000، فوجدتُ نفسي أكتبُ روايتي الأولى بعنوان «في المعتقل». هذه التجربة ورّطتني حقًا في عوالم الرواية ففكرتُ في إنجاز مشروع كامل، أطوّر فيه تجربتي الأولى، سواء في القصة القصيرة أو الرواية. عمّقت الرواية شغفي بالبحث والتجريب والمغامرة، وتناولت مواضيع مسكوت عنها في المدونة السردية، ومنها موضوع الأقليات والأديان والقضايا الحارقة التي تهمّ الهوية التونسية والعربية بشكل عام، كالعنف والتطرف والإرهاب. نتذكر ما حدث في الجزائر خلال «عشريّتها السوداء»، وما حدث في السودان ثم ليبيا ومصر وسوريا والعراق. هناك كراهية غريبة لمفاهيم الحرية والإنسانية وجنوح إلى تعميم الفوضى والخراب. نحن أمام خطر حقيقي، خطر تدمير الهوية والمصير، وإن كنا نتذكر نكبة 48 بكثير من الألم فإنّ نكبتنا في هذا العصر هي التطرف. وقد أتاحت لي الرواية معالجة هذه القضايا الهامة والمصيرية.

*هل كان بالإمكان أن تكون شاعرًا؟

-كتبت الشعر فعلًا، لكنّ إحساسي كان يقول لي إنّي شاعر فاشل، لذلك لم أحرص على إثراء التجربة ومواصلة كتابة الشعر.

*ماهي تقنياتك التي تختص بها في كتاباتك السردية؟

أشتغل كثيرًا على تقنية تعدد الأصوات، وهي شاقة وصعبة لا محالة في الكتابة الروائية. تُعرف هذه التقنية بالجوقة البوليفونية وتثيرني بتعدد الزوايا ونقل حرارة الحياة. الإشكال الكبير هو صعوبة التمييز بين الأصوات في اللغة والإيقاع وروح التسريد. صعب جدًا أن ينقل الكاتب عوالم شخصيات متعددة بثقافتها وتناقضاتها وملامحها النفسية بشكل خاص. العملية شبيهة بالخلق، الذي يستدعي استنفار كل الحواسّ والرصيد المعرفي والإنساني.

*أي الأسئلة التي تحركك والهواجس التي تسكنك وتحفزك على الكتابة الإبداعية؟

-الكتابة الروائية الحديثة قطعتْ مع الكتابة العفوية والهلامية لتنشأ من رحم البحث والمعايشة والمُحاججة. فمثلاً في روايتي «حذاء إسباني»، كان من الطبيعي وأنا أسرد وقائع من الحرب الأهلية الإسبانية والحركة الوطنية التونسية أن أُجري بحثًا. غير أنّ الرواية لا تكتفي بالتوثيق ونقل الوقائع كما حدثت، بل تمتلك من خلال البحث والتخييل قدرةً على كتابة التاريخ وخلق حياة بديلة وحية بأسلوب مشوّق وحجاجي. مسألة أخرى تتعلق بالقراءة. برأيي، الروائي المتطور من عمل إلى آخر هو الذي يقرأ أكثر. ولا أعني بالقراءة الرواية أو الأدب بشكل عام فقط، بل القراءة تعني الفلسفة والأديان والحضارة والآداب والفنون، بقديمها وحديثها. الروائي أيضًا هو باحث جيد ومعايش ومجرب ومطلع. لم يعد زمن الكتابة عفويًا، لقد صار زمن الحجاج والاقتحام والتشظي بكل ما تعنيه الكلمة من معانٍ. فالكتابة الجديدة تحتاج اليوم إلى رصيد معرفي وبحثي غزير حتى ننطلق في هندسة أي عمل جديد باعتباره مغامرة مضنية. أسئلة المقاومة بكل معانيها الفنية والمضمونية تلحّ عليّ كثيرًا، بل هي جوهر الكتابة. وأعني أنّ الروائي اليوم هو جندي سردي يُقاتل من أجل هويّة وقضايا مصيريّة ساخنة ليس بوسعه أن يبقى محايدًا أو بعيدًا عنها. فالرواية، كما أفهمها، هي حتميّة المغامرة والاقتحام والانتصار للإنسان.

الروائي يختار مشروعه وفق خزّان ثقافته وقراءاته وتجاربه، وانطلاقًا من الأسئلة المتفجّرة في تجربة الكتابة. فليست الكتابة، باعتقادي، إلا تفجير أسئلة كبرى. صحيح أنّ المشروع لا يولد مكتملًا، وهذا طبيعي، فتشكّله الفني بالأساس يظل مفتوحًا ومتطورًا طوال مدة كتابة المشروع. بأكثر دقة، أتحدث عن مشروعي الأدبي «الهوية»، فقد كنتُ أعرف أنّي سأنشغل بثلاثة أديان سماوية عرفتها تونس، وهي الإسلام واليهودية والمسيحية. ولكنني في المقابل كنت أجهل التفاصيل في مستويات الهندسة الفنية والشخصيات والأمكنة والأزمنة وكل مستلزمات الكتابة الروائية الحديثة التي حافظت على تنوّعها وتغيّرها من رواية إلى أخرى. فبين «جهاد ناعم» (2017) و»حمّام الذهب» (2019) و»حذاء إسباني» (2020) و»بلاص ديسكا» (2023)، اختلافات كبرى يلاحظها القارئ بيسر، وهذا مهم.

*من وجهة نظرك، هل من الضروري الاستنجاد بالماضي لكتابة الحاضر؟

-ليس من الضروري بطبيعة الحال أن نكتب الحاضر تحت وصاية الماضي، ولكلّ عصر انتكاساته وانتصاراته. أمّا إذا تعلّق الأمر بفهم الحاضر بقضاياه الملغزة، فإنّنا نستدعي الماضي وفق رؤية حجاجية. ذلك أنّ الرواية التاريخية، أو ما تسمى اليوم برواية التخيّل التاريخي، تجاوزت رهان الإمتاع السردي أو مجرد الحكي العفوي لتكون هاجسة بقضايا الحاضر. وهذا ما عالجته مثلًا في رواية «حذاء إسباني»، فعندما سردت تفاصيل من الحرب الأهلية الإسبانية وحيثيات هروب البحارة الإسبان إلى تونس، كان يعنيني من خلال ذلك أيضًا هوية تونس ما قبل الحرب العالمية الثانية وما بعدها، وما قدمته من ضحايا الحروب والفارين من جحيم الدكتاتورية والباحثين عن الحرية والكرامة والسلام. فتكون تونس أرض الحرية والسلام والحبّ. لا يمكن اليوم أن نكتب الرواية بمنطق جورجي زيدان بما تنطوي عليه من عفوية وسذاجة سردية ونزعة تعليمية. يعجبني أمين معلوف في استنطاق التاريخ وتفجير أسئلة الراهن، لذلك أكتب رواية التخيّل التاريخي من تلك القناعة أو الرؤية.

*لمن تتوجّه بكتاباتك الروائية؟

-الرواية الحديثة عالم حيّ، أو هي مدينة سردية، هكذا أفهم الرواية. ومن هذا المنطلق، لا أتوجّه إلى قارئ محدّد أو جهة معيّنة. هي مفتوحة للجميع كمتجر سردي افتراضي يوفّر المعرفة والمتعة.

*من وجهة نظرك، من يكتب الرواية، الكاتب أم الأبطال؟

-الأبطال يكتبون الرواية بلا شكّ، بمعنى أنّهم يخوضون تجاربهم ومغامراتهم بلا وصاية أو تدخّل من الكاتب. فهم يحضرون بملامحهم وقناعاتهم ومواقفهم، كما يمكن أن يحضروا في الواقع. أمّا إذا حرّكهم الكاتب أو السارد كدمى أو وفق توجيه ما، إيديولوجي أو سياسي أو اجتماعي، فإنّ العمل يكون فاشلًا. بمعنى، لا يلقى الترحيب أو التلقي الإيجابي من قارئ صعب وشرس. وقارئ هذا العصر مطّلع وله مصادر معرفة متعددة، وأغلبها سهلة، مثل وسائل التواصل الاجتماعي والكتاب الرقمي وغيرها. لذلك من الضروري تحقيق أعلى درجات الجودة الفنية لإقناعه بالعمل الروائي.

*كيف تحدّد علاقة المبدع بشخصيات الأثر الإبداعي؟

-يمكن أن أعتبرها علاقة تعايش مثلما يجري الأمر في الواقع تمامًا. صحيح أنّ الشخصيات تجسّم أفكارًا، لكنّها داخل النسيج الروائي تحضر كشخصيات حقيقية، تمتلك مواقف وأفكارًا مستقلة ومختلفة عن الكاتب. وعلى الكاتب أن يحترم هذا الاختلاف، ويتعايش معها، لا أن يحاول كبتها أو قمعها.

*هناك ظاهرة انتشرت بشكل كبير تتمثل في «هجرة» الشعراء إلى الرواية والقصة بمختلف أنواعها. ألا تنتظر «هجرة» معاكسة من الروائيين إلى الشعر؟

-أولًا، لا أرى مشكلة في هجرة الشعراء إلى الرواية. فالأجناس الأدبية متحوّلة ومتطوّرة دومًا، وهذا التحوّل ما فتئ يقرّب بين الأجناس والنصوص وحتى الفنون ببعضها البعض. يعني أنّ الرواية تستفيد اليوم بشكل كبير من الشعر والمسرح والسيرة أو الترجمة الذاتية ومختلف الفنون. لذلك ليس غريبًا أن تحدث هجرة معاكسة من قبل الروائيين نحو الشعر، ولو أنّها ستكون هجرة صامتة، لا تثير ضجّة أو اهتمامًا كبيرًا.

*كيف تبدو لك علاقة النقد بالكتابة السردية في المشهد الثقافي التونسي اليوم؟

-في الحقيقة لا أعترف بوجود أزمة نقدية، وهذه الشكوى تتكرّر منذ زمن طويل، لعلّه منذ القرن العشرين. وهذه الأزمة المفتعلة يتّكئ عليها الكثيرون في المغرب والمشرق. قناعتي أن الإبداع مُتقدّم عن النقد، ومتى وُجد إبداع حقيقي فإنّ سهام النقد تتوجه إليه. الناقد فطن هو أيضًا ودقيق في اختياراته، وأرى أنّه من الغباء أن يُهمل نصوصًا مرجعية مهمّة يمكن أن تتقدّم به وتطوّر مناهجه في القراءة والنقد العلمي الرصين بعيدًا عن بالونات النفخ والمجاملات والإخوانيّات التي تفشّت كثيرًا في وسائل التواصل الاجتماعي ولا فائدة تُرجى من الخوض فيها لأنها مدمرة للأعصاب ومضيعة للوقت.

*ماهي قراءتك اليوم للمدونة السردية التونسية بعد 2011؟

-هناك حراك حقيقي في السرد التونسي طيلة السنوات الأخيرة في القصة القصيرة وفي الرواية. بالنسبة للرواية، التجارب مختلفة ومتنوعة، فيها تجريب وحفر ومغامرة وحرفية في التعاطي مع هذا الجنس الصعب والمتحول. في الحقيقة، العديد من العوامل ساهمت في ذلك، منها تجاوز هواجس «التابوهات»، تلك الممنوعات ماتت في العالم منذ سنوات طويلة، ولم يتجاوزها الكثير من الروائيين في تونس إلا مؤخرًا، بالإضافة إلى الاشتغال على مشاريع روائية جادة والنشر في دور نشر عربية. ولا أنسى أيضًا التطور النوعي الذي عرفته الكثير من دور النشر التونسية في السنوات الأخيرة، ومنها منشورات ميسكلياني والتنوير وسيراس ومحمد علي وخريف وزينب.

*لماذا لا نعيش هذه الأيام حراكًا ثقافيًا وفكريًا عربيًا مزلزلًا تفاعلًا مع ما يعيشه قطاع غزّة من دمار وتدمير صهيوني غاشم؟

-صحيح أنّه على الميدان لا وجود لحراك ثقافي مهمّ يتفاعل مع ما جرى ويجري في غزّة ومع ضحاياها الأبرياء ويندد بماكينة القتل والخراب. وأعتقد أنّ الافتراضي تجاوز هذا النقص باعتبار أنّ الافتراضي اليوم سهل الانتشار بمحتواه ورسائله الدقيقة والمزلزلة.

*صاحب الجبل مدينة مهد الصّبا والنشأة، ماذا تقول عنها، وأي إضافات منحتها لك ككاتب؟

-صاحب الجبل لها موقع استراتيجي جميل ومتفرّد، يجمع بين الجبل والبحر والغابة. وأعتقد أنّ أهمّ إضافة قدّمته لي هي خزّان الخيال.

حوار: محسن بن أحمد

  Conception & Réalisation  Alpha Studios Copyright © 2023  assabahnews