اختارت أن تجمع في إبداعها الشعري بين اللغتين العربية الفصحى والفرنسية، وقد كسبت الرهان في أن تكون صوتًا شعريًا استثنائيًا من خلال قصائدها التي تكتب الإنسانية بكل تفاصيلها وأسرارها وغموضها، وهذا التوق الكبير لعالم حالم جميل معتق باريج الحب والنقاء وجمال الروح وجمال الوجود. هي الشاعرة نجاة الورغي، الشغوفة بكل جديد في عالم الكتابة الشعرية، تحدوها عزيمة في أن تمتطي زورق المغامرة الإبداعية بكل ثقة، فطرقت عديد اللغات لتعلن أن «لا مكان في الحياة لمن لا يتسلح بالطموح والعزيمة» لبناء مستقبله الشعري كما يريده هو. ولا غرابة أن تؤسس نجاة الورغي محرابها الشعري الخاص بها، الذي لا يلجُه إلا من يعمل بمقولة الشاعر الفرنسي الكبير فيكتور هوغو: «أنت الذي هو... أنا». حصلت نجاة الورغي على امتداد مسيرتها الشعرية على العديد من التتويجات، منها على سبيل الذكر لا الحصر جائزة الفرنكوفونية سنة 1996، وفي سنة 1997 تحصلت مجموعتها الشعرية «أنا لست شاعرة» على جائزة «زبيدة بشير للكتابات النسائية»، وهي الجائزة التي أسسها مركز البحوث والدراسات والتوثيق والإعلام حول المرأة «الكريديف» بالتعاون مع النادي الثقافي الطاهر الحداد منذ سنة 1995 والخاصة بالكتابات النسائية التونسية باللغتين العربية والفرنسية.
نجاة الورغي تحدثت بقلب مفتوح لـ»الصباح» وهذه الحصيلة.
`
*أي دوافع كانت وراء اقتحامك عالم الكتابة الإبداعية؟
-الدوافع كثيرة، منها ما أنساه عبر السنين ومنها ما يقبع في اللاوعي ولم يطفُ بعد. ما أستطيع قوله هو أن أذني أحبَّت «أنغام» الكلام ومعانيه... معاني تختلف باختلاف النبرات. ثم، وعند التحاقي بالمدرسة الابتدائية واكتشافي الكتابة وما تحتويه من حروف كانت تبدو سحرية حين تركب منها الكلمات التي تصبح جملًا، أعجبتني تلك «اللعبة» الجديدة، فكنت أرتب كلامًا أترنم به هنا وهناك في أوقات فراغي.
*كيف تنظرين إلى ذكرياتك القديمة مع أول نص إبداعي لك؟
-كان ذلك في السنوات الأولى من التعليم الثانوي. كتبت قصيدة عن موضوع الصداقة وميزاته. موضوع، أرى الآن أن في ذلك النص شيء من الرجاحة والحصافة... والكثير من المثالية التي لم يعد لها وزن في هذه الأزمنة.
*أي دور للقصيد في وجدان الشاعر أو الشاعرة من وجهة نظرك؟ هل هي قلعة للإحتماء أم نافذة يطل منها على عوالمه السرية والحميمية؟
-قد يكون القصيد حيزًا يلجه كل شاعر بطريقته الخاصة ليبوح و/أو ليكشف عما يتأجج في أعماقه من أحاسيس مرهفة... قد يكون القصيد أيضًا بابًا أو نافذة يفتحها الشاعر ليضيء بعضًا من الآفاق أو ليعبر عن أفكار جديدة أو طريفة عما يراه ويشعر به من أمور يراها من زوايا تختلف عن الزوايا المعهودة.
*ما هي تقنياتك الشعرية؟
- درست فنون العروض في الثانوية وتشبعت بها. لذلك أجد أحيانًا أثرًا لها هنا أو هناك في بعض قصائدي... لكنني أعتمد عمومًا في قصائدي على موسيقى وإيقاعات تفرض نفسها من أعماقي، يفرضها الغرض المتناول حين يكون القصيد في طور «الانبعاث».
*لمن تتوجهين بأشعارك؟
-أهب أشعاري لكل من يستهويها، لكل من يريد قراءتها أو سماعها، لمن يريد الإطلاع عليها. أهب أشعاري لـ(المتلقي)، للآخر... ذلك الذي يقول عنه فكتور هوغو: «أنت الذي هو أنا».
*ما هي القضايا التي تنشغلين بها في كتاباتك الشعرية؟
-عمومًا هي قضايا إنسانية تختلف باختلاف الفصول والمزاح والتأملات. قضايا قد تبدو مثالية، ولكنها في متناولنا، وهي كفيلة بمنح التوازن والرضا بطرق متفاوتة. قصائدي أناشيد تنبع من مشاعر فياضة تبحث عن كل ما من شأنه أن يسعد الإنسان ويرتقي به، حتى وإن كان مشهدًا غير مألوف أو موسيقى مدهشة تنبعث من الكلمات.
*لست من الحريصات على نشر أشعارك في كتب مستقلة بشكل لافت على رأي العديد من المتابعين لمسيرتك الإبداعية، ما هو تعليقك؟
-بالعكس. كل كتبي الشعرية باللغة العربية وباللغة الفرنسية نشرت مستقلة، وجل الكتب المترجمة (ترجمة ونقل) كذلك... ما عدا بعض التراجم الشعرية التي نشرت في كتابين مع نصوص لمحاضرات قدمها أساتذة نقاد تتمثل في دراسات حول أعمال أدبية لبعض الشعراء التونسيين، قمت بترجمة بعض قصائدهم إلى الفرنسية وأدرجت في الكتابين المذكورين. وقد قدمت هذه الأعمال خلال لقاءات أدبية بإشراف المرحوم الدكتور محمد الصالح بن عمر.
*تكتبين الشعر باللغة الفرنسية... فما هو المحدد لهذا التوجه؟
-ليس هناك ما يحدد كتاباتي باللغة الفرنسية سوى غرامي بالآداب الفرنسية ودراستي المعمقة لهذه اللغة. وهي دراسة أملتها علينا الظروف وندرسها منذ التعليم الابتدائي في بلادنا. والفرنسية، كما هو معلوم، لغة تتفق والشعر والشاعرية إلى حد بعيد، خاصة حين يكون الشاعر ملمًّا بكل أو بمعظم خفاياها وجزئياتها، إلى جانب شاعريته...
*ما مدى مساهمة الشعر في تشكيل رؤيتنا للحياة بجوانبها المتعددة؟
-قديمًا كان الشاعر فارس القبيلة ولسانها. حين يكون للشاعر آفاق واسعة وآراء سديدة، إلى جانب ما يتمتع به من موهبة التأثير على المتلقي، يمكنه أن يكون قادرًا على تغيير بعض العقليات، غير أننا في زمن يقتصر فيه تأثير الشاعر على براعته في صياغة كلام له وقع لا يتعدى كثيرًا برهة زمن قراءة القصيد، إلا لدى النزر القليل من أحبائه ووهَّاته.
*هل كان بالإمكان أن تكوني كاتبة قصصية أو روائية؟
-أنا مولعة بكل أنواع الكتابات الأدبية، لكنني مقلة في كتابة النثر لأنني لم أجد الوقت الكافي للقيام بذلك كما أريد بسبب تعدد مشاغلي... لكنني تحصلت منذ بضع سنوات على جائزة «منتدى امرأة المتوسط» الفرنسية (Forum Femme Méditerranée) عن قصة بعنوان «سطوح» (Terrasses)، وقد دعيت إلى مدينة مرسيليا بفرنسا للتكريم والحصول على تلك الجائزة مع استضافة دامت بضعة أيام. من جهة أخرى، لدي نصوص باللغة العربية يمتزج فيها النثر بالسجع والشعر، نشر البعض منها بإحدى المجلات التونسية تحت عنوان «أغاريد جذلى».
*إلى أي حد من وجهة نظرك يمكن اعتبار الفضاءات الافتراضية أسلوبًا جديدًا في الإبداع؟
-نرى عمومًا عبر الفضاءات الافتراضية سيلًا من الإبداعات بمختلف أنواعها ينشرها البعض من العابثين أو الباحثين عن ألقاب رنانة دون كفاءة تذكر، مما لا يسمح بالقراءة المتملية ولا المتمهلة لما يُنشر أحيانًا بكثافة عجيبة وبصلف غير مبرر أحيانًا. هو أسلوب جديد من بين أساليب أخرى قد تكون أفضل منه، سوف يبين المستقبل نجاعته أو عدمه.
*المهرجانات الشعرية الوطنية والدولية هل يمكن أن تقدم لنا شاعرا جيدًا؟
-نظريًا هذا ممكن، وفي الواقع لست أدري إن كان المشرفون على برامج المهرجانات لديهم ما يجب من الإمكانيات لتقديم شاعر جيد جديد، لكنها تقدم عمومًا ثلة من الشعراء البارزين بطريقة أو بأخرى، وهذا في حد ذاته أمر لا يُستهان به...
*ما هي معايير القصيد الجديد بالنسبة لك؟
بقطع النظر عن النظريات والأنماط و»القوالب» التي تتناول في هذا المجال، والتي أحترمها كلها وأتقبلها بشرط أن يكون في القصيد ذلك «السحر» الذي يجعل المتلقي ينبهر أو ينتشي أو يطرب أو كل ذلك معًا، أي أن تحرك فيه أحاسيس وأفكارًا قد تغير نظرته تجاه أمور شتى…
*حصل ديوانك «أنا لست شاعرة...!» على جائزة زبيدة بشير، أي تأثير لهذه الجوائز وطنية كانت أو عربية في إثراء تجربة الشاعر وحضوره في المشهد الأدبي وطنيا وعربيا؟
-الجوائز بمختلف أنواعها تشجع المتحصل عليها على المثابرة وعلى السعي لتقديم إنجازات أفضل مستقبلاً، وهي أيضًا تمنح بعض الثقة في النفس كما تشحذ العزم على الحفاظ على المستوى الذي سمح له بالحصول على تلك الجائزة، وقد يرنو للحصول على غيرها...
*من وجهة نظرك هل أن شهرة الشاعر مقياس لجودته؟
-تكون الأمور كذلك أحيانًا، إنما الكل يعلم أن الأذواق تختلف وأن كل شهرة نسبية. هناك أيضًا «آليات» وظروف وأمور عديدة قد تضع شاعرًا أو روائيًا أو فنانًا في الصدارة دون أن يكون جديرًا بذلك. في الواقع هي أمور عادية توجد في كل زمان ومكان...
*هل صحيح أن غياب النقد كرَّس الرداءة في الإنتاج الأدبي بصفة عامة؟
-ليس النقد غائبًا، إنما هو مغمور في خضم تهافت جحافل من الدخلاء الذين يلهثون وراء لقب «ناقد» أو «ناقدة» دون كفاءة تذكر ولغايات غير سامية، ولهم القدرة على السيطرة ورمي الغبار على العيون، كما لهم حلفاء وأتباع في غياب ما يُعبر عنه بـ»نقد النقد». وهي أمور لا تغيب في المجالات الأدبية والفنية وغيرها. هذا ولا تخلو الساحة الأدبية من نقاد أكفاء أجلاء نزهاء ممن لهم أعمال نقدية ودراسات علمية قيمة، وهم معروفون في بلادنا وغيرها من البلدان الشقيقة والصديقة.
*ماذا تقولين عن تجربتك مع الترجمة وعن قصائدك باللغة الروسية؟
-بدأت تجربتي في الترجمة منذ عقود مع القصاصة التونسية العراقية «سمر سمير المزغني» حين بدأت مسيرتها الأدبية كطفلة دخلت كتاب غينيس كأصغر قصاصة في العالم... ترجمت البعض من قصصها إلى الفرنسية، وقمت بعد ذلك بتعريب قصيدة مطولة لشاعر فرنسي معاصر (بطلب منه)، ونشرت القصيد ضمن كتيب. بعد ذلك، ترجمت من العربية إلى الفرنسية قصائد لبعض الشعراء التونسيين نشرت في كتاب مع محاضرات كتبت وقدمت خلال لقاءات أدبية من طرف أساتذة ونقاد بإشراف المرحوم الأستاذ والناقد محمد الصالح بن عمر. آخر ما ترجمت من العربية إلى الفرنسية كتاب شعر من صنف الهايكو بعنوان «الفجر ومياسم الزهر» للشاعر العراقي المقيم بالولايات المتحدة، المصيفي الركابي. أما كتاباتي الشعرية باللغة الروسية فقد قدمت ضمن أمسيات شعرية خاصة بي بالمركز الثقافي الروسي بالعاصمة تونس، كما أنني قدمت حينها قراءات لبعض قصائدي باللغتين العربية والفرنسية، رافقتها معزوفات موسيقية. وقد حضر تلك الأمسيات ثلة من الروس المقيمين بتونس وبعض الأدباء التونسيين إلى جانب بعض المثقفين من مختلف الجنسيات.
*أي سر وراء الشغف باللغة الروسية؟
-اللغة والآداب والفنون الروسية بمختلف أنواعها عالم ساحر ومبهر أخاذ... باختصار شديد، بدأ شغفي باللغة الروسية حين قرأت صدفة قصيدة للشاعر العظيم بوشكين (Pouchkine). كانت قصيدة مترجمة إلى الفرنسية، وكنت حينها لم أتجاوز بعد سن الثانية عشرة، وكنت أتساءل كيف تكون تلك القصيدة في اللغة الأم. أرادت الأقدار أن أكون تلميذة بمعهد مونفلوري، حيث كان بإمكان التلاميذ اختيار دراسة اللغة الثالثة (بعد العربية والفرنسية) بين الإنجليزية أو الإيطالية أو الروسية. اخترت دراسة اللغة الروسية، مما مكنني من قراءة أشعار بوشكين وغيره من الشعراء الروس وحفظ البعض منها. واصلت تعليمي باللغة الروسية في التعليم العالي قبل أن أتفرغ لدراسة اللغة والآداب الفرنسية.
*هل من الممكن أن تعطي الترجمة روحًا جديدة للنص الأصلي؟
-يتوقف ذلك على براعة المترجم وعلى اكتسابه لمعجم عميق ودقيق للغة الأصل وللغة الترجمة، إلى جانب ثقافة شاملة. لدينا مثال عن تلك البراعة في بلادنا نراها في مسرحية «الماريشال» التي هي ترجمة لمسرحية Le bourgeois gentilhomme للكاتب المسرحي الفرنسي موليار (Molière). ترجمت هذه المسرحية إلى اللهجة التونسية بروح تونسية، أعجبت وأبهرت كل من رآها واستمع إليها، بينما كتبت بالفرنسية بروح فرنسية في زمن بعيد.
*ما هي التحديات التي يواجهها المترجم اليوم من وجهة نظرك؟
-تختلف التحديات من شخص إلى آخر، ما أستطيع قوله هو أنه يجب على كل مترجم أن يكون ملمًّا باللغة المستهدفة كما باللغة الأصل. أن يفهم جيدًا سياقات النص، وأن تكون ترجمته واضحة تخلو من عبارات معقدة، وألا يلجأ إلى الترجمة «الآلية» أو تلك التي تقترحها وسائل الإنترنت.
*ما هو المحدد لاختيارك إبداعًا على حساب آخر لترجمته؟ وما هي تقنيتك المعتمدة لذلك؟
-عمومًا اختياري إبداعًا لترجمته يخضع لميولاتي الأدبية ولما يعجبني ذوقيًا من الإبداعات. ليس لدي من تقنيات محددة أعتمدها للترجمة سوى الغوص في النص لإدراك كنهه كي أتمكن من ترجمته بأقرب ما يكون للنص الأصلي. في نظري، تعتمد ترجمة الشعر على الإحساس قبل كل شيء ثم على اللغة المنتقاة لتتماشى وروح النص.
*إلى أي حد يمكن القول إن الترجمة شكلت عامل إثراء لتجربتك الإبداعية؟
-إن كان هناك عامل إثراء لتجربتي الإبداعية من خلال الترجمة، فهو يتمثل فيما يغمرني من إعجاب ومشاعر كامنة تطفو فجأة وأفكار قيمة بنص إبداعي ما، مما يجعلني أعيد قراءته مرارًا وأعود إليه كلما أحن إليه. وقد يكمن ذلك الإثراء في متعة فكرية وروحية أو في طرب يداعب الكيان مما يدفعني لـ»تقمص» ذلك النص بالغوص في مكامنه، ليكون لي معه علاقة وطيدة تغريني بكتابته بلغة أخرى ليصبح لي هكذا نصيبا منه أو أثرًا لا يمحى أتقاسمه مع قراء آخرين وأساهم في انتشاره.
حوار: محسن بن أحمد
اختارت أن تجمع في إبداعها الشعري بين اللغتين العربية الفصحى والفرنسية، وقد كسبت الرهان في أن تكون صوتًا شعريًا استثنائيًا من خلال قصائدها التي تكتب الإنسانية بكل تفاصيلها وأسرارها وغموضها، وهذا التوق الكبير لعالم حالم جميل معتق باريج الحب والنقاء وجمال الروح وجمال الوجود. هي الشاعرة نجاة الورغي، الشغوفة بكل جديد في عالم الكتابة الشعرية، تحدوها عزيمة في أن تمتطي زورق المغامرة الإبداعية بكل ثقة، فطرقت عديد اللغات لتعلن أن «لا مكان في الحياة لمن لا يتسلح بالطموح والعزيمة» لبناء مستقبله الشعري كما يريده هو. ولا غرابة أن تؤسس نجاة الورغي محرابها الشعري الخاص بها، الذي لا يلجُه إلا من يعمل بمقولة الشاعر الفرنسي الكبير فيكتور هوغو: «أنت الذي هو... أنا». حصلت نجاة الورغي على امتداد مسيرتها الشعرية على العديد من التتويجات، منها على سبيل الذكر لا الحصر جائزة الفرنكوفونية سنة 1996، وفي سنة 1997 تحصلت مجموعتها الشعرية «أنا لست شاعرة» على جائزة «زبيدة بشير للكتابات النسائية»، وهي الجائزة التي أسسها مركز البحوث والدراسات والتوثيق والإعلام حول المرأة «الكريديف» بالتعاون مع النادي الثقافي الطاهر الحداد منذ سنة 1995 والخاصة بالكتابات النسائية التونسية باللغتين العربية والفرنسية.
نجاة الورغي تحدثت بقلب مفتوح لـ»الصباح» وهذه الحصيلة.
`
*أي دوافع كانت وراء اقتحامك عالم الكتابة الإبداعية؟
-الدوافع كثيرة، منها ما أنساه عبر السنين ومنها ما يقبع في اللاوعي ولم يطفُ بعد. ما أستطيع قوله هو أن أذني أحبَّت «أنغام» الكلام ومعانيه... معاني تختلف باختلاف النبرات. ثم، وعند التحاقي بالمدرسة الابتدائية واكتشافي الكتابة وما تحتويه من حروف كانت تبدو سحرية حين تركب منها الكلمات التي تصبح جملًا، أعجبتني تلك «اللعبة» الجديدة، فكنت أرتب كلامًا أترنم به هنا وهناك في أوقات فراغي.
*كيف تنظرين إلى ذكرياتك القديمة مع أول نص إبداعي لك؟
-كان ذلك في السنوات الأولى من التعليم الثانوي. كتبت قصيدة عن موضوع الصداقة وميزاته. موضوع، أرى الآن أن في ذلك النص شيء من الرجاحة والحصافة... والكثير من المثالية التي لم يعد لها وزن في هذه الأزمنة.
*أي دور للقصيد في وجدان الشاعر أو الشاعرة من وجهة نظرك؟ هل هي قلعة للإحتماء أم نافذة يطل منها على عوالمه السرية والحميمية؟
-قد يكون القصيد حيزًا يلجه كل شاعر بطريقته الخاصة ليبوح و/أو ليكشف عما يتأجج في أعماقه من أحاسيس مرهفة... قد يكون القصيد أيضًا بابًا أو نافذة يفتحها الشاعر ليضيء بعضًا من الآفاق أو ليعبر عن أفكار جديدة أو طريفة عما يراه ويشعر به من أمور يراها من زوايا تختلف عن الزوايا المعهودة.
*ما هي تقنياتك الشعرية؟
- درست فنون العروض في الثانوية وتشبعت بها. لذلك أجد أحيانًا أثرًا لها هنا أو هناك في بعض قصائدي... لكنني أعتمد عمومًا في قصائدي على موسيقى وإيقاعات تفرض نفسها من أعماقي، يفرضها الغرض المتناول حين يكون القصيد في طور «الانبعاث».
*لمن تتوجهين بأشعارك؟
-أهب أشعاري لكل من يستهويها، لكل من يريد قراءتها أو سماعها، لمن يريد الإطلاع عليها. أهب أشعاري لـ(المتلقي)، للآخر... ذلك الذي يقول عنه فكتور هوغو: «أنت الذي هو أنا».
*ما هي القضايا التي تنشغلين بها في كتاباتك الشعرية؟
-عمومًا هي قضايا إنسانية تختلف باختلاف الفصول والمزاح والتأملات. قضايا قد تبدو مثالية، ولكنها في متناولنا، وهي كفيلة بمنح التوازن والرضا بطرق متفاوتة. قصائدي أناشيد تنبع من مشاعر فياضة تبحث عن كل ما من شأنه أن يسعد الإنسان ويرتقي به، حتى وإن كان مشهدًا غير مألوف أو موسيقى مدهشة تنبعث من الكلمات.
*لست من الحريصات على نشر أشعارك في كتب مستقلة بشكل لافت على رأي العديد من المتابعين لمسيرتك الإبداعية، ما هو تعليقك؟
-بالعكس. كل كتبي الشعرية باللغة العربية وباللغة الفرنسية نشرت مستقلة، وجل الكتب المترجمة (ترجمة ونقل) كذلك... ما عدا بعض التراجم الشعرية التي نشرت في كتابين مع نصوص لمحاضرات قدمها أساتذة نقاد تتمثل في دراسات حول أعمال أدبية لبعض الشعراء التونسيين، قمت بترجمة بعض قصائدهم إلى الفرنسية وأدرجت في الكتابين المذكورين. وقد قدمت هذه الأعمال خلال لقاءات أدبية بإشراف المرحوم الدكتور محمد الصالح بن عمر.
*تكتبين الشعر باللغة الفرنسية... فما هو المحدد لهذا التوجه؟
-ليس هناك ما يحدد كتاباتي باللغة الفرنسية سوى غرامي بالآداب الفرنسية ودراستي المعمقة لهذه اللغة. وهي دراسة أملتها علينا الظروف وندرسها منذ التعليم الابتدائي في بلادنا. والفرنسية، كما هو معلوم، لغة تتفق والشعر والشاعرية إلى حد بعيد، خاصة حين يكون الشاعر ملمًّا بكل أو بمعظم خفاياها وجزئياتها، إلى جانب شاعريته...
*ما مدى مساهمة الشعر في تشكيل رؤيتنا للحياة بجوانبها المتعددة؟
-قديمًا كان الشاعر فارس القبيلة ولسانها. حين يكون للشاعر آفاق واسعة وآراء سديدة، إلى جانب ما يتمتع به من موهبة التأثير على المتلقي، يمكنه أن يكون قادرًا على تغيير بعض العقليات، غير أننا في زمن يقتصر فيه تأثير الشاعر على براعته في صياغة كلام له وقع لا يتعدى كثيرًا برهة زمن قراءة القصيد، إلا لدى النزر القليل من أحبائه ووهَّاته.
*هل كان بالإمكان أن تكوني كاتبة قصصية أو روائية؟
-أنا مولعة بكل أنواع الكتابات الأدبية، لكنني مقلة في كتابة النثر لأنني لم أجد الوقت الكافي للقيام بذلك كما أريد بسبب تعدد مشاغلي... لكنني تحصلت منذ بضع سنوات على جائزة «منتدى امرأة المتوسط» الفرنسية (Forum Femme Méditerranée) عن قصة بعنوان «سطوح» (Terrasses)، وقد دعيت إلى مدينة مرسيليا بفرنسا للتكريم والحصول على تلك الجائزة مع استضافة دامت بضعة أيام. من جهة أخرى، لدي نصوص باللغة العربية يمتزج فيها النثر بالسجع والشعر، نشر البعض منها بإحدى المجلات التونسية تحت عنوان «أغاريد جذلى».
*إلى أي حد من وجهة نظرك يمكن اعتبار الفضاءات الافتراضية أسلوبًا جديدًا في الإبداع؟
-نرى عمومًا عبر الفضاءات الافتراضية سيلًا من الإبداعات بمختلف أنواعها ينشرها البعض من العابثين أو الباحثين عن ألقاب رنانة دون كفاءة تذكر، مما لا يسمح بالقراءة المتملية ولا المتمهلة لما يُنشر أحيانًا بكثافة عجيبة وبصلف غير مبرر أحيانًا. هو أسلوب جديد من بين أساليب أخرى قد تكون أفضل منه، سوف يبين المستقبل نجاعته أو عدمه.
*المهرجانات الشعرية الوطنية والدولية هل يمكن أن تقدم لنا شاعرا جيدًا؟
-نظريًا هذا ممكن، وفي الواقع لست أدري إن كان المشرفون على برامج المهرجانات لديهم ما يجب من الإمكانيات لتقديم شاعر جيد جديد، لكنها تقدم عمومًا ثلة من الشعراء البارزين بطريقة أو بأخرى، وهذا في حد ذاته أمر لا يُستهان به...
*ما هي معايير القصيد الجديد بالنسبة لك؟
بقطع النظر عن النظريات والأنماط و»القوالب» التي تتناول في هذا المجال، والتي أحترمها كلها وأتقبلها بشرط أن يكون في القصيد ذلك «السحر» الذي يجعل المتلقي ينبهر أو ينتشي أو يطرب أو كل ذلك معًا، أي أن تحرك فيه أحاسيس وأفكارًا قد تغير نظرته تجاه أمور شتى…
*حصل ديوانك «أنا لست شاعرة...!» على جائزة زبيدة بشير، أي تأثير لهذه الجوائز وطنية كانت أو عربية في إثراء تجربة الشاعر وحضوره في المشهد الأدبي وطنيا وعربيا؟
-الجوائز بمختلف أنواعها تشجع المتحصل عليها على المثابرة وعلى السعي لتقديم إنجازات أفضل مستقبلاً، وهي أيضًا تمنح بعض الثقة في النفس كما تشحذ العزم على الحفاظ على المستوى الذي سمح له بالحصول على تلك الجائزة، وقد يرنو للحصول على غيرها...
*من وجهة نظرك هل أن شهرة الشاعر مقياس لجودته؟
-تكون الأمور كذلك أحيانًا، إنما الكل يعلم أن الأذواق تختلف وأن كل شهرة نسبية. هناك أيضًا «آليات» وظروف وأمور عديدة قد تضع شاعرًا أو روائيًا أو فنانًا في الصدارة دون أن يكون جديرًا بذلك. في الواقع هي أمور عادية توجد في كل زمان ومكان...
*هل صحيح أن غياب النقد كرَّس الرداءة في الإنتاج الأدبي بصفة عامة؟
-ليس النقد غائبًا، إنما هو مغمور في خضم تهافت جحافل من الدخلاء الذين يلهثون وراء لقب «ناقد» أو «ناقدة» دون كفاءة تذكر ولغايات غير سامية، ولهم القدرة على السيطرة ورمي الغبار على العيون، كما لهم حلفاء وأتباع في غياب ما يُعبر عنه بـ»نقد النقد». وهي أمور لا تغيب في المجالات الأدبية والفنية وغيرها. هذا ولا تخلو الساحة الأدبية من نقاد أكفاء أجلاء نزهاء ممن لهم أعمال نقدية ودراسات علمية قيمة، وهم معروفون في بلادنا وغيرها من البلدان الشقيقة والصديقة.
*ماذا تقولين عن تجربتك مع الترجمة وعن قصائدك باللغة الروسية؟
-بدأت تجربتي في الترجمة منذ عقود مع القصاصة التونسية العراقية «سمر سمير المزغني» حين بدأت مسيرتها الأدبية كطفلة دخلت كتاب غينيس كأصغر قصاصة في العالم... ترجمت البعض من قصصها إلى الفرنسية، وقمت بعد ذلك بتعريب قصيدة مطولة لشاعر فرنسي معاصر (بطلب منه)، ونشرت القصيد ضمن كتيب. بعد ذلك، ترجمت من العربية إلى الفرنسية قصائد لبعض الشعراء التونسيين نشرت في كتاب مع محاضرات كتبت وقدمت خلال لقاءات أدبية من طرف أساتذة ونقاد بإشراف المرحوم الأستاذ والناقد محمد الصالح بن عمر. آخر ما ترجمت من العربية إلى الفرنسية كتاب شعر من صنف الهايكو بعنوان «الفجر ومياسم الزهر» للشاعر العراقي المقيم بالولايات المتحدة، المصيفي الركابي. أما كتاباتي الشعرية باللغة الروسية فقد قدمت ضمن أمسيات شعرية خاصة بي بالمركز الثقافي الروسي بالعاصمة تونس، كما أنني قدمت حينها قراءات لبعض قصائدي باللغتين العربية والفرنسية، رافقتها معزوفات موسيقية. وقد حضر تلك الأمسيات ثلة من الروس المقيمين بتونس وبعض الأدباء التونسيين إلى جانب بعض المثقفين من مختلف الجنسيات.
*أي سر وراء الشغف باللغة الروسية؟
-اللغة والآداب والفنون الروسية بمختلف أنواعها عالم ساحر ومبهر أخاذ... باختصار شديد، بدأ شغفي باللغة الروسية حين قرأت صدفة قصيدة للشاعر العظيم بوشكين (Pouchkine). كانت قصيدة مترجمة إلى الفرنسية، وكنت حينها لم أتجاوز بعد سن الثانية عشرة، وكنت أتساءل كيف تكون تلك القصيدة في اللغة الأم. أرادت الأقدار أن أكون تلميذة بمعهد مونفلوري، حيث كان بإمكان التلاميذ اختيار دراسة اللغة الثالثة (بعد العربية والفرنسية) بين الإنجليزية أو الإيطالية أو الروسية. اخترت دراسة اللغة الروسية، مما مكنني من قراءة أشعار بوشكين وغيره من الشعراء الروس وحفظ البعض منها. واصلت تعليمي باللغة الروسية في التعليم العالي قبل أن أتفرغ لدراسة اللغة والآداب الفرنسية.
*هل من الممكن أن تعطي الترجمة روحًا جديدة للنص الأصلي؟
-يتوقف ذلك على براعة المترجم وعلى اكتسابه لمعجم عميق ودقيق للغة الأصل وللغة الترجمة، إلى جانب ثقافة شاملة. لدينا مثال عن تلك البراعة في بلادنا نراها في مسرحية «الماريشال» التي هي ترجمة لمسرحية Le bourgeois gentilhomme للكاتب المسرحي الفرنسي موليار (Molière). ترجمت هذه المسرحية إلى اللهجة التونسية بروح تونسية، أعجبت وأبهرت كل من رآها واستمع إليها، بينما كتبت بالفرنسية بروح فرنسية في زمن بعيد.
*ما هي التحديات التي يواجهها المترجم اليوم من وجهة نظرك؟
-تختلف التحديات من شخص إلى آخر، ما أستطيع قوله هو أنه يجب على كل مترجم أن يكون ملمًّا باللغة المستهدفة كما باللغة الأصل. أن يفهم جيدًا سياقات النص، وأن تكون ترجمته واضحة تخلو من عبارات معقدة، وألا يلجأ إلى الترجمة «الآلية» أو تلك التي تقترحها وسائل الإنترنت.
*ما هو المحدد لاختيارك إبداعًا على حساب آخر لترجمته؟ وما هي تقنيتك المعتمدة لذلك؟
-عمومًا اختياري إبداعًا لترجمته يخضع لميولاتي الأدبية ولما يعجبني ذوقيًا من الإبداعات. ليس لدي من تقنيات محددة أعتمدها للترجمة سوى الغوص في النص لإدراك كنهه كي أتمكن من ترجمته بأقرب ما يكون للنص الأصلي. في نظري، تعتمد ترجمة الشعر على الإحساس قبل كل شيء ثم على اللغة المنتقاة لتتماشى وروح النص.
*إلى أي حد يمكن القول إن الترجمة شكلت عامل إثراء لتجربتك الإبداعية؟
-إن كان هناك عامل إثراء لتجربتي الإبداعية من خلال الترجمة، فهو يتمثل فيما يغمرني من إعجاب ومشاعر كامنة تطفو فجأة وأفكار قيمة بنص إبداعي ما، مما يجعلني أعيد قراءته مرارًا وأعود إليه كلما أحن إليه. وقد يكمن ذلك الإثراء في متعة فكرية وروحية أو في طرب يداعب الكيان مما يدفعني لـ»تقمص» ذلك النص بالغوص في مكامنه، ليكون لي معه علاقة وطيدة تغريني بكتابته بلغة أخرى ليصبح لي هكذا نصيبا منه أو أثرًا لا يمحى أتقاسمه مع قراء آخرين وأساهم في انتشاره.