إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

الناقد البشير الجلجلي لـ"الصباح": الحراك الأدبيّ خلق تنافسا ولم يخلق أدبا

هو أحد أساطين النقد الأدبي والفكري في تونس برز ببحوثه الخاصة بالكتابة السردية يكتب المقال النّقدي الأقصوصة ووقصّة الطّفل وهو مترجم مختصّ وعضو لجنة الاختيار بمعهد تونس للتّرجمة( 2017-2019).

انه البشير الجلجلي الناقد والباحث المختصّ بمختبر السّرديات والدّراسات البينيّة بكليّة الآداب والفنون والإنسانيّات بمنوبة والمشرف على سلاسل أدبيّة في دور نشر تونسيّة وعربيّة الى جانب عضويته بعديد النوادي الأدبيّة في تونس والوطن العربيّ وقد اشرف لسنوات على المهرجان العربيّ البشير التلموديّ للشعر كما قام بكتابة مقدمات  لعديد الكتب الأدبيّة قصّة ورواية وشعرا باللّغتين العربيّة والفرنسيّة وساهم في توضيبها وهو حاليا من الأعضاء الفاعلين في نادي القصة العريق.

ومعه كان لنا الحوار التالي..

*للطفولة وشم خاصّ، هل لنا القبض على بعض المحطات العالقة في ذهنك إلى الآن؟

الطفل هو أبو الرّجل. يأخذ تاريخه ويرسم رياح ماضيه. فلا حياة لإنسان دون طفولة متعددة، فما بالك بالكاتب والنّاقد الذي يجد نفسه في كل مغامرة كتابة يلعب كالطفل ويغامر كالمراهق ويتحدى كالشّاب. طفولتي وشم بربريّ لا يمّحي. فقد عشت مع اليد الكبيرة الرابح أبي –رحمه الله- التّاجر العارف بأسواق تونس والعسكريّ في آن واحد، فعرفت الانضباط والواقع وعشت مع أمّي  خُميسة -رحمها الله- وهي التي علمتنا الكِتاب وهي تحمله مع «قفّة» الخضر والغلال وتربيت مع إخوتي الثمانيّة نتنافس لتّرقي درجات العلم. فلا أقلّ من مرتبة عسكريّ أو موظّف أو أستاذ أو دكتور وهي رهانات أمّي وهي تحثّني أنْ أرسم خطوط طولي بين غِواية الكتابة وعُري الوجود وبين استحالة الحياة ومقامرة الدّهر.

*بماذا تحتفظ ذاكرتك مع أول نص كتبته؟

كانت مغامرة القراءة لعبة اكتشاف وتحدّ مع أمينة المكتبة وهي تحاول أنْ تجاريني في التهام الكتب، فإذا بسنبلة الكتابة تنبش أرض مطالعاتي لتنبثق في كتاباتي للأطفال ونشرها وأنا طفل عبر قصة حبّ. فلا تستقيم الحياة دون قصّة حب، فهو محرّك الحياة، فالفلاّح وهو يفلح أرضه لا يُنبتها إلاّ متى أحبّها أو أرضه تبور، والتّاجر والمعلّم والنّائب في البرلمان والرّئيس في البيت أو القصر، محرك هؤلاء هو الحبّ للتّواصل، فما بالك بالكاتب الذي يواجه ورقة بيضاء تسع العالم في قيمتها ورسالتها. فأن تكتب هو أن تكتب الحبّ. والكاتب الحاقد العدواني لا ينتمي إلى زمرة الكتّاب وأنا لا أجانب الحقيقة إنْ قلت إنّ الكاتب هو نبيّ بشري ينتشر في أحشاء الحياة يبثّ رسائله إلى أعماق الكون.

وهو ديدني مذ أمسكت كتابي الأول للأطفال منذ ثلاثين سنة «الهاتف المجنون». حينها رأيت ولادتي من جديد وفهمت قول أمّي خُميسة –رحمها الله- وهي تذكّر إخوتي الثمانيّة بأنّ ولادة طفل تعادل ولادة العالم. كذا –أمّي- ولادة كتاب من رحم أفكار الكاتب تعادل ولادة الكون وتشكّله. فالكاتب يخزّن أفكاره في رحم ذهنه ويظل يرعاها حتّى يشتدّ عودها، وعندما يحين حينها تولد بدمها ومخاضها فيشب الكتاب بين النّاس وتتعالى التباريك. ألم تقم الاحتفالات وتُذبح الذبائح عند ولادة شاعر في الجاهليّة.

*وجهت اهتمامك الأدبي بدرجة أولى إلى النقد، فهل في ذلك بحث عن خصوصية تسعى إلى التفرد بها في فضاء تتزاحم فيه الكتابات بمختلف أنواعها؟ وقد اخترت في مصنفك الأخير البحث في العجائبي أو التعجيب في نصوص إبراهيم الكوني وأنت المطلع على الرواية في تونس كيف تقيم ما بلغته عموما؟

الكتاب بعنوان «العجائبي في أعمال إبراهيم الكوني الرّوائيّة (بحث في سرديّة التعجيب) «وهو صادر عن منشورات سوتيميديا. العنوان إشكالية اهتمامنا بها في سياق التمحيص في مدى إعلان الرّواية العربيّة جدّتها من خلال العجائبيّ الذي رأيناه عنصرا بؤرويا تكوينيا أساسيا هيمن على مجمل المدونة. وهذا الشاغل العام لهذا الكتاب يتطابق إلى حدّ كبير مع سياق النظر في تطور الرواية العربيّة الحديثة .

وكتابي «العجائبي...» اتّخذ في المدخل نماذج من الرّواية التّونسية ذات المنزع العجائبي وحللها لنفهم مشاريعها ومكانتها، كـ»النّخاس» لصلاح الدين بوجاه، و»التّبيان في وقائع الغربة والأشجان» لـ»فرج الحوار» و»المعجزة» لـ»محمود طرشونة و»تماس» لـ»عروسية النالوتي» و»دار الباشا «لـ»حسن نصر» وغيرها، ذلك أن الرّواية في تونس لهثت وراء التجريب فضاعت خيوطها في الأشواك وعلقت هناك. فلاهي تقدّمت نحو النجاة ولا الأشواك حرّفت مسيرتها، فبقيت في منزلة بين المنزلتين على رأي المعتزلة.  والرأي عندي أنّ الرّواية التّونسية بقيت حبيسة الأشكال والتقليد إلى بداية الألفية الثالثة. فمنذ بدايتها سلك اتجاه مذهب المسعدي في «حدّث أبو هريرة قال» لغة وأسلوبا استفادة من التّراث حتى حوّلوه إلى وُراث. واتجه الثاني إلى الواقعية بعد البشير خريف و»الدقلة في عراجينها». فجلسوا فوق الواقع حتى كتموا أنفاسه. ألم يحذّر جبران في «دمعة وابتسامة» الكائن الرومنطيقيّ من الواقع وينصحه بالحلم بقوله» قلْ ومن لا يصرف الأيّام على مسرح الأحلام كان عبد الأيام». وألم  يحذّر «سيمغموند فرويد « كذلك في كتابه «الحلم وتأويله» من أحلام النّوم وانصراف حلم البشريّة لتأويلها بقوله «ما كان للبشريّة أن تحمّل نفسها مشقّة تأويل أحلامها في العصر القابل للوصف بأنّه عصر ما قبل العلم» ودعا إلى حلم الواقع النّابض من اللاّوعي، حلم اليقظة. ولكن رواية التّسعينيات وبداية الألفية إلى اليوم شهدت قفزة نوعيّة بعدما انفتح كتّابها على مدارس أخرى غير المدرسة الفرنسية والروسية، فبانت  رواية أمريكا اللاتينية بواقعيتها السّحرية وعالمها المهوّش والرّواية التركية واليابانيّة والآسيوية عامة والرّواية الجديدة والجديدة الجديدة في الغرب في جديلة جديدة ترسم الواقع بقلم الرّصاص ليمحوه الخيال لحظة اصطدامهما. فنالت الرّواية التّونسية التقدير العربي والجوائز وتُرجمت إلى لغات أجنبية زادت في بريقها. ونأمل أن تخطوَ الرّواية التّونسية خطوات أخرى بمقتضاها نتصدّر السّاحة العربيّة. وهو طموحنا الذي من أجله أسستُ وشركائي «ملتقى الرواية التونسية» وزرعته في الجامعة التّونسية (مخبر السرديات والدراسات البينية بـكليّة الآداب والفنون والإنسانيات بمنوبة) منذ 2019 في دورتها الأولى تكريما للروائي (أبو بكر العيادي)، لنقفز خطوات عملاقة إلى الأمام لا نكوص بعدها، ثم في الدورة الثانية 2020 تكريما للروائية حياة الرايس.

*هل لديك مفهوم خاص بك للنقد وكيفية ممارسته؟

الرّأي عندي أنّ باب النّقد لا يشرع على نافذة الأدب ونحن نستنسخ النّظريّات الغربيّة دون دراية. وهو في اعتقادي إقصاء للذّات (النّص) وحجب ما يجعلنا نُسهم  في التّمايز الثقافي على عبارة محمد لطفي اليوسفي. ولكن النقد العربي ناقل للمنجز الغربي لا يني. لذلك أهدف ناقدا أو باحثا إلى استنطاق النّصوص بوسائلها لا بعكّاز غيرها وهو ما أكده الناقد الإيطالي أمبرتو إيكو بقوله في كتابه «حدود الـتّأويل»، «لا بدّ أن يٌنظر إلى كلّ نصّ أدبيّ بوصفه مقياسا لتآويله الخاصّة». والغالب في تونس والوطن العربي أنّ الناقد هو القاضي أو هو رضوان وزفر جنّة المعرّي. فمن حكموا عليه بالبراءة عاش في الجنّة ومن أغلقوا عليه الباب رُمي إلى الجحيم. والواقع يكذّب ذلك، لأن النّقد ليس فعلا قضائيّا بل هو فعل كشف ولعبة محاورة. فهو فعل إبداعي أيضا.

فمهمته ليس شرح النصوص وإلا وقع في «النّدم الفكري» على عبارة عبد الفتاح كليطو في كتابه الأخير. بل يرنو إلى بناء الفكر. فمادة (نقد) في ( لسان العرب):»النّقدُ تمييزُ الدّراهم ليخرج منها الزّيف» وكذا فعل النّاقد الذي يميّز بين الأقوم من الأدب والفكر والمزيّف منهما. وهي – لعمري – مهمّة شريفة صعبة لا يقدرها إلاّ صاحب علم وخلق. وإلا انتشر الزيف في الأدب كما الزيف في العملة وهو مؤذن بخراب البلاد والعباد.

*ماهي نظرتك لوظيفة النقد الثقافي في الأدب؟

الثقافة ليست كتابة وكتابا أو مسرحا أو سينما أو مهرجانات وغيرها من القطاعات الثقافيّة فحسب، الثقافة هي فعل يمشي بين النّاس. فلو لم يؤثر المثقف في البائع والإنسان البسيط الذي لم يقرأ في حياته إلا كتب المدرسة، عليه أن يراجع  نفسه وثقافته. نحن لا نكتب لأنفسنا، بل نسعى لنكوّن صورة واقعيّة في مجتمعنا. وهذا لا يتمّ إلاّ متى حوّلنا الثقافة إلى فعل. ومتى نسجنا منها صناعة ثقيلة يصبح الكاتب بمقتضاها محترفا كلاعب كرة القدم له مشجعون وعشاق وله من يرفض أسلوبه في اللعب الورقيّ. أليست الكتابة لعبا ومراوغات تفوق مراوغات ميسي ورونالدو وحتى مارادونا. وآن الأوان لتأسيس المجلس الأعلى للثقافة لبناء الاحتراف الحقيقي. أمّا ثقافة الانتظار والتسويف وبؤس المثقّف فلا تلزمني.

يتمّ التركيز في النقد الثقافي على دراسة الأعمال الفنية والأدبية في سياقها الثقافي الواسع، مع التركيز على كيفية تأثير العوامل الثقافية والاجتماعية على هذه الأعمال وكان زعيمها في تونس الصحفي الراحل «محمد بن رجب». وقد انخرط عديد النقاد في هذه الحركة. فتابعتُ المسرح وكتبت مقالات حول الجعايبي وآخرين وآخرها حول أيام قرطاج المسرحية دورة 2024. وتابعنا السينما والفنون التشكيلية وكتبنا فيها. والرأي عندي أنّ وظيفة النقد الثقافي هي تعريفية ربطا للثقافة مع السياق الاجتماعي والحضاري تقريبا للفنون لعموم الشعب.

*لماذا تطفو، حسب رأيك، على السطح اليوم أسماء أقل موهبة في الإبداع على حساب أخرى رغم تميزها؟

سامح الله وسائل التواصل الاجتماعي التي خلقت من أشباه المثقفين نجوما في الثقافة والإعلام، فأصبح صانع المحتوى أديبا وأصبح الكاتب الحقيقي غير معروف لأنّه لا يلهث وراء الشهرة بل هدفه الكلمة والثقافة التي تبقى في التاريخ. فـ»الجمجمات» في «الفايسبوك» أصبحت مقياس جودة. زد على ذلك صعوبات النشر التي أجبرت الأديب ألاّ يغامر بأمواله لينشر لقارئ غير موجود همه  جمع «الجمجمات».

*قلت في أحد حواراتك «إن الكاتب اليوم يعمل أجيرا عند الناقد»، هل يعني ذلك أن ّالعلاقة بينهما تغلب عليها المصلحة الذاتية؟

لم أقل هذا بالضبط بل قلت «إن الكاتب اليوم يعمل أجيرا عند الناقد إنْ لم يحرر نفسه وأدبه من سلطة الناقد». فالأدب أولا ثم يأتي الناقد ليبني النظرية. فقد بدأ الشعر الجاهلي على خطوات الخيل وغناء الحُداء ثم جاء العروض منظما لإيقاع القصيدة عن طريق الفراهيدي. وكذا أعمال بروست الروائية التي استقى منها وغيرها جيرار جونات نظرياته السردية في العلاقات بين النقد والأدب.

لذلك أرى أن الأدب عليه أن يتحرر من سلطة الناقد لا أن يطبّق النظريات في أعماله، علما أن الأديب عليه أن يكون واعيا بهذه النظريات ليكتب أدبا تجاوزيا لا تكراريا. وهو ما دفعنا إليه الأكاديمي اللبناني الراحل أمين الديب والروائية التونسية فتحية الهاشمي والبشير الجلجلي لنؤسس في تونس «الأدب الوجيز « في ملتقى الأدب الوجيز التونسي اللبناني سنة 2019». أدب تجاوزي حررنا في ختامه قوانينه ونواميسه..

*ماهي قراءتك كناقد ومتابع للإبداع الأدبي ككل لظاهرة النشر الالكتروني، وهل بإمكان هذه الكتابات أن تصنع لنا مبدعا جيدا؟

في عصر الذكاء الاصطناعي والإنسان ما بعد الحداثة لا مجال للنكوص إلى الوراء. لذاك أقرأ كل ما هو جديد مهما كان محمله ورقيا أو إلكترونيا. لكن الإشكال في بناء المهارة بالتكنولوجيا والتّعرف إلى خباياها. فكما يمكن أن تكون نعمة يمكن أن تتحوّل إلى نقمة. فالسلاح في يد الغرّ هو جريمة أكيدة، بينما إن دربته على السلاح أصبح مدافعا عن نفسه والوطن. لذلك علينا أن نحميَ الشباب اليوم من آفة التكنولوجيا الضارة وندعوهم إلى الإبداع الرقمي من خلال إدخال الكتاب المدرسي الرقمي ليتعوّد على ممارسة العلم الرقمي ليمارس الإبداع الرقمي بوعي.

*برز جيل جديد في كتاب الرواية في تونس، كناقد هل تحمل هذه الكتابات بوادر التجديد؟

في العشرين سنة الأخيرة، تضاعف الإنتاج الأدبي في تونس قصّة ورواية وشعرا ونقدا. وتقارب المستوى وأصبح التّناص الأدبي يضمن رحلة النّصوص وتجاوزها للحدود، بحكم ترحال الكتاب بين الأقطار العربيّة في المعارض المزروعة في تونس والقاهرة ودبي وبغداد ولبنان والجزائر والمغرب، زد على ذلك ترحال النّصوص عبر وسائل التواصل الاجتماعي وفي الجوائز العربيّة التي خصصت لهذه  الأجناس. هذا الحراك الأدبيّ خلق تنافسا ولم يخلق أدبا حقا لأن الشاغل الغالب هو المعارض والجوائز لا الأدب فغرّد الأدب خارج السّرب وضاعت الأدبيّة. فأين الأدب اليوم من أدبيّة وشعريّة أبي القاسم الشّابي ومحمود درويش وطه حسين ونجيب محفوظ ومحمود المسعدي والطّيب صالح والبشير خريف ونزار قباني وعلي الدوعاجي وجبرا إبراهيم جبرا وغيرهم؟ وأين النقد اليوم من نقد الرافعي والعقّاد وجابر عصفور ومحمد القاضي وتوفيق بكّار ومنجي الشّملي وغيرهم؟ يمارس الأدب اليوم لعبة الشهرة فيمارس النقد معه مقامرة المجاملة أو الإقصاء لصالح سلع دفعت أكثر، وإلا كيف نحكم على جوائز كبرى نعرف الفائز فيها قبل إعلانها بأشهر؟ فغدا النقد في خطر بعبارة الناقد البلغاري تزيفيتان تودوروف(TZ.TODOROV )  رغم ظهور بعض الأدباء المهمين في الوطن العربي الذين ثاروا على القديم ومارسوا الأدب وهو يمشي في المجتمع مثل عز الدين المدني وزكريا تامر وزياد خدّاش وعبد اللّه المتّفي وفتحي النّصري ورضا بن صالح وغيرهم من الشباب المبدع اليوم مثل أحمد مجدي همّام وزهراء طالب وأدباء أشرفت شخصيا على مسابقات شاركوا فيها مثل عيسى الجابلي ومحمد الفطومي ونزار الحميدي ورانيّة عفّاس ومحمد العربي ونوران ملكلوي وغيرهم، ممّا خلق أدبا جديدا ونقدا حديثا يرنو إلى النص ويفتحه على العالم مع وحدات سرديّة ونقدية ومختبرات بحث في جامعات هامة مثل مخبر السّرديات والدّراسات البينيّة بكليّة الآداب والفنون والإنسانيّات بمنوبة/تونس.

*نادي القصة تلك المنارة العريقة أنتم الآن مع – عدد من الكتاب الشباب – تشرفون على النادي وتخلقون أفق انتظار كبير لدى عموم الكتاب وخاصة أهل القصّ وأحباء النادي، ما الجديد المرتقب في خطتكم القادمة، خاصة من جهة تطوير النادي والمراكمة على جهود السابقين؟

يقول جبران في عواصفه «ليس من يكتب بالحبر كمن يكتب بدم القلب». فالإنسان مجبول على الشوق إلى المعارف والعلوم، قصد الانتهاء إلى غاية كماله وهي «سعادته التّامة» على قول ابن مسكويه، فكما يشتاق الإنسان أوّل ما يشتاق إلى الغذاء في حليب أمّه علّة وجوده، يشتاق فيما يشتاق إليه ذلك إلى المعارف. فيغذّي النفس بالعلوم والآداب فينتهي إلى الفضائل في تحصيلها. وهو ديدني مذ تعرّفت إلى «عنز قيسون» للعبقري محمد العروسي المطوي مؤسس نادي القصّة.  فكانت مغامرة القراءة لعبة اكتشاف  وتحدّ مع أمينة المكتبة وهي تحاول أنْ تجاريني في التهام الكتب. فإذا بسنبلة الكتابة تنبش أرض مطالعاتي لتنبثق في كتاباتي للأطفال ونشرها و أنا طفل. فكيف لي وأنا كهل أن أعبث بممتلكات المجموعة الوطنية وارثها، كما ادّعى بعضهم على سكّان نادي القصّة الجدد. لم ننم بعد انتخابنا بالإجماع على رأس نادي القصّة حتى جيّبنا قميصا جديدا لنادي القصّة يليق بسكاّنه ويصلُح مقاما خياليا لروّاده. فضبطنا البرنامج السّنويّ في مستوى الورشات الأسبوعية واللّقاءات الدورية الأسبوعية بإدخال عنصر الشبات ليقرأ إنتاجه ويستفيد من خبراتنا. وضبطنا قائمة ضيوف نادي مطارحات لكل موسم. وتحدثنا في الخطوط العريضة للملتقيات السنويّة وضيوف الشّرف المكرّمين وتجادلنا في قيمة الجائزة وشكلها بما يليق بنادي القصّة العريق. فبعثنا «جائزة محمد العروسي المطوي لفنون القص ونقده» في أقسام الأقصوصة والرواية والنقد والتي فاقت قيمتها 25 ألف دينار، ثم أنجزنا أربعة ملتقيات في الجهات، في قابس تكريما للروائي الأكاديمي محمد الباردي وفي جندوبة وعين دراهم تكريما لابن الجهة الروائي(أبو بكر العيادي) حيث التقى الكاتب مع التلاميذ والإطار التربوي، وفي القصرين تكريما للأديب الأكاديمي محمد رشاد الحمزاوي وفي الحمامات تكريما للمسرحي عز الدين المدني، وبالمناسبة أخرجنا أعداد مجلة قصص مهداة إلى هؤلاء الأعلام، زد على ذلك فقد كرمنا في ندوة التحقيب في الأدب التونسي الأديب عبد القادر بلحاج نصر شراكة مع مخبر السّرديات والدّراسات البينيّة. وكرمنا في 23 نوفمبر2024 الأديب الفذ أحمد ممو وخصصنا العدد الأخير(عدد199) من مجلة «قصص» للمكرم. فـ»مجلة القصص» رغم مرور ستين سنة على صدورها لم تبتن لنفسها شكل المجلة الذي يُروّج في الداخل والخارج. وآن الأوان أن تتطوّر شكلا ومضمونا بجعل قسم المحاضرات محكّما وقد اخترنا أكاديميين مرموقين للإشراف عليه من تونس والمغرب والأردن والجزائر، أما القسم الإبداعي والترجمة والمختارات فأوكل لهيئة التحرير. وهي خطوط عريضة تحدثنا عنها في جلسات منتدى مطارحات الذي أشرف عليه تقديما للكتب أو للقراءات القصصية. والهيئة منفتحة على كل المقترحات وترحب بالجميع لنساهم معا في إعادة بناء الصرح الثقافي الذي ندين له بالكثير. ونزمع إنجاز انتخابات الهيئة المديرة في الأسابيع القادمة تأسيسا لنادي القصة الديمقراطي ومواصلة لما بذله الروّاد.

حوار: محسن بن أحمد

الناقد البشير الجلجلي لـ"الصباح": الحراك الأدبيّ خلق تنافسا ولم يخلق أدبا

هو أحد أساطين النقد الأدبي والفكري في تونس برز ببحوثه الخاصة بالكتابة السردية يكتب المقال النّقدي الأقصوصة ووقصّة الطّفل وهو مترجم مختصّ وعضو لجنة الاختيار بمعهد تونس للتّرجمة( 2017-2019).

انه البشير الجلجلي الناقد والباحث المختصّ بمختبر السّرديات والدّراسات البينيّة بكليّة الآداب والفنون والإنسانيّات بمنوبة والمشرف على سلاسل أدبيّة في دور نشر تونسيّة وعربيّة الى جانب عضويته بعديد النوادي الأدبيّة في تونس والوطن العربيّ وقد اشرف لسنوات على المهرجان العربيّ البشير التلموديّ للشعر كما قام بكتابة مقدمات  لعديد الكتب الأدبيّة قصّة ورواية وشعرا باللّغتين العربيّة والفرنسيّة وساهم في توضيبها وهو حاليا من الأعضاء الفاعلين في نادي القصة العريق.

ومعه كان لنا الحوار التالي..

*للطفولة وشم خاصّ، هل لنا القبض على بعض المحطات العالقة في ذهنك إلى الآن؟

الطفل هو أبو الرّجل. يأخذ تاريخه ويرسم رياح ماضيه. فلا حياة لإنسان دون طفولة متعددة، فما بالك بالكاتب والنّاقد الذي يجد نفسه في كل مغامرة كتابة يلعب كالطفل ويغامر كالمراهق ويتحدى كالشّاب. طفولتي وشم بربريّ لا يمّحي. فقد عشت مع اليد الكبيرة الرابح أبي –رحمه الله- التّاجر العارف بأسواق تونس والعسكريّ في آن واحد، فعرفت الانضباط والواقع وعشت مع أمّي  خُميسة -رحمها الله- وهي التي علمتنا الكِتاب وهي تحمله مع «قفّة» الخضر والغلال وتربيت مع إخوتي الثمانيّة نتنافس لتّرقي درجات العلم. فلا أقلّ من مرتبة عسكريّ أو موظّف أو أستاذ أو دكتور وهي رهانات أمّي وهي تحثّني أنْ أرسم خطوط طولي بين غِواية الكتابة وعُري الوجود وبين استحالة الحياة ومقامرة الدّهر.

*بماذا تحتفظ ذاكرتك مع أول نص كتبته؟

كانت مغامرة القراءة لعبة اكتشاف وتحدّ مع أمينة المكتبة وهي تحاول أنْ تجاريني في التهام الكتب، فإذا بسنبلة الكتابة تنبش أرض مطالعاتي لتنبثق في كتاباتي للأطفال ونشرها وأنا طفل عبر قصة حبّ. فلا تستقيم الحياة دون قصّة حب، فهو محرّك الحياة، فالفلاّح وهو يفلح أرضه لا يُنبتها إلاّ متى أحبّها أو أرضه تبور، والتّاجر والمعلّم والنّائب في البرلمان والرّئيس في البيت أو القصر، محرك هؤلاء هو الحبّ للتّواصل، فما بالك بالكاتب الذي يواجه ورقة بيضاء تسع العالم في قيمتها ورسالتها. فأن تكتب هو أن تكتب الحبّ. والكاتب الحاقد العدواني لا ينتمي إلى زمرة الكتّاب وأنا لا أجانب الحقيقة إنْ قلت إنّ الكاتب هو نبيّ بشري ينتشر في أحشاء الحياة يبثّ رسائله إلى أعماق الكون.

وهو ديدني مذ أمسكت كتابي الأول للأطفال منذ ثلاثين سنة «الهاتف المجنون». حينها رأيت ولادتي من جديد وفهمت قول أمّي خُميسة –رحمها الله- وهي تذكّر إخوتي الثمانيّة بأنّ ولادة طفل تعادل ولادة العالم. كذا –أمّي- ولادة كتاب من رحم أفكار الكاتب تعادل ولادة الكون وتشكّله. فالكاتب يخزّن أفكاره في رحم ذهنه ويظل يرعاها حتّى يشتدّ عودها، وعندما يحين حينها تولد بدمها ومخاضها فيشب الكتاب بين النّاس وتتعالى التباريك. ألم تقم الاحتفالات وتُذبح الذبائح عند ولادة شاعر في الجاهليّة.

*وجهت اهتمامك الأدبي بدرجة أولى إلى النقد، فهل في ذلك بحث عن خصوصية تسعى إلى التفرد بها في فضاء تتزاحم فيه الكتابات بمختلف أنواعها؟ وقد اخترت في مصنفك الأخير البحث في العجائبي أو التعجيب في نصوص إبراهيم الكوني وأنت المطلع على الرواية في تونس كيف تقيم ما بلغته عموما؟

الكتاب بعنوان «العجائبي في أعمال إبراهيم الكوني الرّوائيّة (بحث في سرديّة التعجيب) «وهو صادر عن منشورات سوتيميديا. العنوان إشكالية اهتمامنا بها في سياق التمحيص في مدى إعلان الرّواية العربيّة جدّتها من خلال العجائبيّ الذي رأيناه عنصرا بؤرويا تكوينيا أساسيا هيمن على مجمل المدونة. وهذا الشاغل العام لهذا الكتاب يتطابق إلى حدّ كبير مع سياق النظر في تطور الرواية العربيّة الحديثة .

وكتابي «العجائبي...» اتّخذ في المدخل نماذج من الرّواية التّونسية ذات المنزع العجائبي وحللها لنفهم مشاريعها ومكانتها، كـ»النّخاس» لصلاح الدين بوجاه، و»التّبيان في وقائع الغربة والأشجان» لـ»فرج الحوار» و»المعجزة» لـ»محمود طرشونة و»تماس» لـ»عروسية النالوتي» و»دار الباشا «لـ»حسن نصر» وغيرها، ذلك أن الرّواية في تونس لهثت وراء التجريب فضاعت خيوطها في الأشواك وعلقت هناك. فلاهي تقدّمت نحو النجاة ولا الأشواك حرّفت مسيرتها، فبقيت في منزلة بين المنزلتين على رأي المعتزلة.  والرأي عندي أنّ الرّواية التّونسية بقيت حبيسة الأشكال والتقليد إلى بداية الألفية الثالثة. فمنذ بدايتها سلك اتجاه مذهب المسعدي في «حدّث أبو هريرة قال» لغة وأسلوبا استفادة من التّراث حتى حوّلوه إلى وُراث. واتجه الثاني إلى الواقعية بعد البشير خريف و»الدقلة في عراجينها». فجلسوا فوق الواقع حتى كتموا أنفاسه. ألم يحذّر جبران في «دمعة وابتسامة» الكائن الرومنطيقيّ من الواقع وينصحه بالحلم بقوله» قلْ ومن لا يصرف الأيّام على مسرح الأحلام كان عبد الأيام». وألم  يحذّر «سيمغموند فرويد « كذلك في كتابه «الحلم وتأويله» من أحلام النّوم وانصراف حلم البشريّة لتأويلها بقوله «ما كان للبشريّة أن تحمّل نفسها مشقّة تأويل أحلامها في العصر القابل للوصف بأنّه عصر ما قبل العلم» ودعا إلى حلم الواقع النّابض من اللاّوعي، حلم اليقظة. ولكن رواية التّسعينيات وبداية الألفية إلى اليوم شهدت قفزة نوعيّة بعدما انفتح كتّابها على مدارس أخرى غير المدرسة الفرنسية والروسية، فبانت  رواية أمريكا اللاتينية بواقعيتها السّحرية وعالمها المهوّش والرّواية التركية واليابانيّة والآسيوية عامة والرّواية الجديدة والجديدة الجديدة في الغرب في جديلة جديدة ترسم الواقع بقلم الرّصاص ليمحوه الخيال لحظة اصطدامهما. فنالت الرّواية التّونسية التقدير العربي والجوائز وتُرجمت إلى لغات أجنبية زادت في بريقها. ونأمل أن تخطوَ الرّواية التّونسية خطوات أخرى بمقتضاها نتصدّر السّاحة العربيّة. وهو طموحنا الذي من أجله أسستُ وشركائي «ملتقى الرواية التونسية» وزرعته في الجامعة التّونسية (مخبر السرديات والدراسات البينية بـكليّة الآداب والفنون والإنسانيات بمنوبة) منذ 2019 في دورتها الأولى تكريما للروائي (أبو بكر العيادي)، لنقفز خطوات عملاقة إلى الأمام لا نكوص بعدها، ثم في الدورة الثانية 2020 تكريما للروائية حياة الرايس.

*هل لديك مفهوم خاص بك للنقد وكيفية ممارسته؟

الرّأي عندي أنّ باب النّقد لا يشرع على نافذة الأدب ونحن نستنسخ النّظريّات الغربيّة دون دراية. وهو في اعتقادي إقصاء للذّات (النّص) وحجب ما يجعلنا نُسهم  في التّمايز الثقافي على عبارة محمد لطفي اليوسفي. ولكن النقد العربي ناقل للمنجز الغربي لا يني. لذلك أهدف ناقدا أو باحثا إلى استنطاق النّصوص بوسائلها لا بعكّاز غيرها وهو ما أكده الناقد الإيطالي أمبرتو إيكو بقوله في كتابه «حدود الـتّأويل»، «لا بدّ أن يٌنظر إلى كلّ نصّ أدبيّ بوصفه مقياسا لتآويله الخاصّة». والغالب في تونس والوطن العربي أنّ الناقد هو القاضي أو هو رضوان وزفر جنّة المعرّي. فمن حكموا عليه بالبراءة عاش في الجنّة ومن أغلقوا عليه الباب رُمي إلى الجحيم. والواقع يكذّب ذلك، لأن النّقد ليس فعلا قضائيّا بل هو فعل كشف ولعبة محاورة. فهو فعل إبداعي أيضا.

فمهمته ليس شرح النصوص وإلا وقع في «النّدم الفكري» على عبارة عبد الفتاح كليطو في كتابه الأخير. بل يرنو إلى بناء الفكر. فمادة (نقد) في ( لسان العرب):»النّقدُ تمييزُ الدّراهم ليخرج منها الزّيف» وكذا فعل النّاقد الذي يميّز بين الأقوم من الأدب والفكر والمزيّف منهما. وهي – لعمري – مهمّة شريفة صعبة لا يقدرها إلاّ صاحب علم وخلق. وإلا انتشر الزيف في الأدب كما الزيف في العملة وهو مؤذن بخراب البلاد والعباد.

*ماهي نظرتك لوظيفة النقد الثقافي في الأدب؟

الثقافة ليست كتابة وكتابا أو مسرحا أو سينما أو مهرجانات وغيرها من القطاعات الثقافيّة فحسب، الثقافة هي فعل يمشي بين النّاس. فلو لم يؤثر المثقف في البائع والإنسان البسيط الذي لم يقرأ في حياته إلا كتب المدرسة، عليه أن يراجع  نفسه وثقافته. نحن لا نكتب لأنفسنا، بل نسعى لنكوّن صورة واقعيّة في مجتمعنا. وهذا لا يتمّ إلاّ متى حوّلنا الثقافة إلى فعل. ومتى نسجنا منها صناعة ثقيلة يصبح الكاتب بمقتضاها محترفا كلاعب كرة القدم له مشجعون وعشاق وله من يرفض أسلوبه في اللعب الورقيّ. أليست الكتابة لعبا ومراوغات تفوق مراوغات ميسي ورونالدو وحتى مارادونا. وآن الأوان لتأسيس المجلس الأعلى للثقافة لبناء الاحتراف الحقيقي. أمّا ثقافة الانتظار والتسويف وبؤس المثقّف فلا تلزمني.

يتمّ التركيز في النقد الثقافي على دراسة الأعمال الفنية والأدبية في سياقها الثقافي الواسع، مع التركيز على كيفية تأثير العوامل الثقافية والاجتماعية على هذه الأعمال وكان زعيمها في تونس الصحفي الراحل «محمد بن رجب». وقد انخرط عديد النقاد في هذه الحركة. فتابعتُ المسرح وكتبت مقالات حول الجعايبي وآخرين وآخرها حول أيام قرطاج المسرحية دورة 2024. وتابعنا السينما والفنون التشكيلية وكتبنا فيها. والرأي عندي أنّ وظيفة النقد الثقافي هي تعريفية ربطا للثقافة مع السياق الاجتماعي والحضاري تقريبا للفنون لعموم الشعب.

*لماذا تطفو، حسب رأيك، على السطح اليوم أسماء أقل موهبة في الإبداع على حساب أخرى رغم تميزها؟

سامح الله وسائل التواصل الاجتماعي التي خلقت من أشباه المثقفين نجوما في الثقافة والإعلام، فأصبح صانع المحتوى أديبا وأصبح الكاتب الحقيقي غير معروف لأنّه لا يلهث وراء الشهرة بل هدفه الكلمة والثقافة التي تبقى في التاريخ. فـ»الجمجمات» في «الفايسبوك» أصبحت مقياس جودة. زد على ذلك صعوبات النشر التي أجبرت الأديب ألاّ يغامر بأمواله لينشر لقارئ غير موجود همه  جمع «الجمجمات».

*قلت في أحد حواراتك «إن الكاتب اليوم يعمل أجيرا عند الناقد»، هل يعني ذلك أن ّالعلاقة بينهما تغلب عليها المصلحة الذاتية؟

لم أقل هذا بالضبط بل قلت «إن الكاتب اليوم يعمل أجيرا عند الناقد إنْ لم يحرر نفسه وأدبه من سلطة الناقد». فالأدب أولا ثم يأتي الناقد ليبني النظرية. فقد بدأ الشعر الجاهلي على خطوات الخيل وغناء الحُداء ثم جاء العروض منظما لإيقاع القصيدة عن طريق الفراهيدي. وكذا أعمال بروست الروائية التي استقى منها وغيرها جيرار جونات نظرياته السردية في العلاقات بين النقد والأدب.

لذلك أرى أن الأدب عليه أن يتحرر من سلطة الناقد لا أن يطبّق النظريات في أعماله، علما أن الأديب عليه أن يكون واعيا بهذه النظريات ليكتب أدبا تجاوزيا لا تكراريا. وهو ما دفعنا إليه الأكاديمي اللبناني الراحل أمين الديب والروائية التونسية فتحية الهاشمي والبشير الجلجلي لنؤسس في تونس «الأدب الوجيز « في ملتقى الأدب الوجيز التونسي اللبناني سنة 2019». أدب تجاوزي حررنا في ختامه قوانينه ونواميسه..

*ماهي قراءتك كناقد ومتابع للإبداع الأدبي ككل لظاهرة النشر الالكتروني، وهل بإمكان هذه الكتابات أن تصنع لنا مبدعا جيدا؟

في عصر الذكاء الاصطناعي والإنسان ما بعد الحداثة لا مجال للنكوص إلى الوراء. لذاك أقرأ كل ما هو جديد مهما كان محمله ورقيا أو إلكترونيا. لكن الإشكال في بناء المهارة بالتكنولوجيا والتّعرف إلى خباياها. فكما يمكن أن تكون نعمة يمكن أن تتحوّل إلى نقمة. فالسلاح في يد الغرّ هو جريمة أكيدة، بينما إن دربته على السلاح أصبح مدافعا عن نفسه والوطن. لذلك علينا أن نحميَ الشباب اليوم من آفة التكنولوجيا الضارة وندعوهم إلى الإبداع الرقمي من خلال إدخال الكتاب المدرسي الرقمي ليتعوّد على ممارسة العلم الرقمي ليمارس الإبداع الرقمي بوعي.

*برز جيل جديد في كتاب الرواية في تونس، كناقد هل تحمل هذه الكتابات بوادر التجديد؟

في العشرين سنة الأخيرة، تضاعف الإنتاج الأدبي في تونس قصّة ورواية وشعرا ونقدا. وتقارب المستوى وأصبح التّناص الأدبي يضمن رحلة النّصوص وتجاوزها للحدود، بحكم ترحال الكتاب بين الأقطار العربيّة في المعارض المزروعة في تونس والقاهرة ودبي وبغداد ولبنان والجزائر والمغرب، زد على ذلك ترحال النّصوص عبر وسائل التواصل الاجتماعي وفي الجوائز العربيّة التي خصصت لهذه  الأجناس. هذا الحراك الأدبيّ خلق تنافسا ولم يخلق أدبا حقا لأن الشاغل الغالب هو المعارض والجوائز لا الأدب فغرّد الأدب خارج السّرب وضاعت الأدبيّة. فأين الأدب اليوم من أدبيّة وشعريّة أبي القاسم الشّابي ومحمود درويش وطه حسين ونجيب محفوظ ومحمود المسعدي والطّيب صالح والبشير خريف ونزار قباني وعلي الدوعاجي وجبرا إبراهيم جبرا وغيرهم؟ وأين النقد اليوم من نقد الرافعي والعقّاد وجابر عصفور ومحمد القاضي وتوفيق بكّار ومنجي الشّملي وغيرهم؟ يمارس الأدب اليوم لعبة الشهرة فيمارس النقد معه مقامرة المجاملة أو الإقصاء لصالح سلع دفعت أكثر، وإلا كيف نحكم على جوائز كبرى نعرف الفائز فيها قبل إعلانها بأشهر؟ فغدا النقد في خطر بعبارة الناقد البلغاري تزيفيتان تودوروف(TZ.TODOROV )  رغم ظهور بعض الأدباء المهمين في الوطن العربي الذين ثاروا على القديم ومارسوا الأدب وهو يمشي في المجتمع مثل عز الدين المدني وزكريا تامر وزياد خدّاش وعبد اللّه المتّفي وفتحي النّصري ورضا بن صالح وغيرهم من الشباب المبدع اليوم مثل أحمد مجدي همّام وزهراء طالب وأدباء أشرفت شخصيا على مسابقات شاركوا فيها مثل عيسى الجابلي ومحمد الفطومي ونزار الحميدي ورانيّة عفّاس ومحمد العربي ونوران ملكلوي وغيرهم، ممّا خلق أدبا جديدا ونقدا حديثا يرنو إلى النص ويفتحه على العالم مع وحدات سرديّة ونقدية ومختبرات بحث في جامعات هامة مثل مخبر السّرديات والدّراسات البينيّة بكليّة الآداب والفنون والإنسانيّات بمنوبة/تونس.

*نادي القصة تلك المنارة العريقة أنتم الآن مع – عدد من الكتاب الشباب – تشرفون على النادي وتخلقون أفق انتظار كبير لدى عموم الكتاب وخاصة أهل القصّ وأحباء النادي، ما الجديد المرتقب في خطتكم القادمة، خاصة من جهة تطوير النادي والمراكمة على جهود السابقين؟

يقول جبران في عواصفه «ليس من يكتب بالحبر كمن يكتب بدم القلب». فالإنسان مجبول على الشوق إلى المعارف والعلوم، قصد الانتهاء إلى غاية كماله وهي «سعادته التّامة» على قول ابن مسكويه، فكما يشتاق الإنسان أوّل ما يشتاق إلى الغذاء في حليب أمّه علّة وجوده، يشتاق فيما يشتاق إليه ذلك إلى المعارف. فيغذّي النفس بالعلوم والآداب فينتهي إلى الفضائل في تحصيلها. وهو ديدني مذ تعرّفت إلى «عنز قيسون» للعبقري محمد العروسي المطوي مؤسس نادي القصّة.  فكانت مغامرة القراءة لعبة اكتشاف  وتحدّ مع أمينة المكتبة وهي تحاول أنْ تجاريني في التهام الكتب. فإذا بسنبلة الكتابة تنبش أرض مطالعاتي لتنبثق في كتاباتي للأطفال ونشرها و أنا طفل. فكيف لي وأنا كهل أن أعبث بممتلكات المجموعة الوطنية وارثها، كما ادّعى بعضهم على سكّان نادي القصّة الجدد. لم ننم بعد انتخابنا بالإجماع على رأس نادي القصّة حتى جيّبنا قميصا جديدا لنادي القصّة يليق بسكاّنه ويصلُح مقاما خياليا لروّاده. فضبطنا البرنامج السّنويّ في مستوى الورشات الأسبوعية واللّقاءات الدورية الأسبوعية بإدخال عنصر الشبات ليقرأ إنتاجه ويستفيد من خبراتنا. وضبطنا قائمة ضيوف نادي مطارحات لكل موسم. وتحدثنا في الخطوط العريضة للملتقيات السنويّة وضيوف الشّرف المكرّمين وتجادلنا في قيمة الجائزة وشكلها بما يليق بنادي القصّة العريق. فبعثنا «جائزة محمد العروسي المطوي لفنون القص ونقده» في أقسام الأقصوصة والرواية والنقد والتي فاقت قيمتها 25 ألف دينار، ثم أنجزنا أربعة ملتقيات في الجهات، في قابس تكريما للروائي الأكاديمي محمد الباردي وفي جندوبة وعين دراهم تكريما لابن الجهة الروائي(أبو بكر العيادي) حيث التقى الكاتب مع التلاميذ والإطار التربوي، وفي القصرين تكريما للأديب الأكاديمي محمد رشاد الحمزاوي وفي الحمامات تكريما للمسرحي عز الدين المدني، وبالمناسبة أخرجنا أعداد مجلة قصص مهداة إلى هؤلاء الأعلام، زد على ذلك فقد كرمنا في ندوة التحقيب في الأدب التونسي الأديب عبد القادر بلحاج نصر شراكة مع مخبر السّرديات والدّراسات البينيّة. وكرمنا في 23 نوفمبر2024 الأديب الفذ أحمد ممو وخصصنا العدد الأخير(عدد199) من مجلة «قصص» للمكرم. فـ»مجلة القصص» رغم مرور ستين سنة على صدورها لم تبتن لنفسها شكل المجلة الذي يُروّج في الداخل والخارج. وآن الأوان أن تتطوّر شكلا ومضمونا بجعل قسم المحاضرات محكّما وقد اخترنا أكاديميين مرموقين للإشراف عليه من تونس والمغرب والأردن والجزائر، أما القسم الإبداعي والترجمة والمختارات فأوكل لهيئة التحرير. وهي خطوط عريضة تحدثنا عنها في جلسات منتدى مطارحات الذي أشرف عليه تقديما للكتب أو للقراءات القصصية. والهيئة منفتحة على كل المقترحات وترحب بالجميع لنساهم معا في إعادة بناء الصرح الثقافي الذي ندين له بالكثير. ونزمع إنجاز انتخابات الهيئة المديرة في الأسابيع القادمة تأسيسا لنادي القصة الديمقراطي ومواصلة لما بذله الروّاد.

حوار: محسن بن أحمد

  Conception & Réalisation  Alpha Studios Copyright © 2023  assabahnews