أجمع النقاد والمتابعون للشأن القصصي والروائي في تونس على أنه أحد أنجب تلامذة "جماعة تحت السور" الأدبية، التي كانت ولا تزال بصمتها واضحة وجلية.
ورأى النقاد في كتاباته السردية امتدادًا للكاتب الخالد علي الدّوعاجي، اعتبارًا لكسبه رهان نقل وتوثيق الواقع اليومي في المجتمع التونسي، بلغة إبداعية سلسة، جمع فيها بين الطرافة والشعرية في التقاط تفاصيل الحياة اليومية.
هو كاتب القصة والرواية صالح الدمس، الذي توقف في هذا اللقاء عند الكثير من تفاصيل مسيرته المتفردة في عالم الكتابة السردية بدرجة أولى.
حوار محسن بن أحمد
*ماذا تحفظ الذاكرة من بداية علاقتك بالكتابة؟
-أتذكر أن هزيمة العرب في سنة 1967 كان لها تأثير عميق ليس في نفسي فقط، بل في نفوس جميع مجايليّ. كانت إذاعة "الشرق الأوسط" و"هنا القاهرة" والإذاعة التونسية تبثّ جميعها أخبارًا عن انتصارات وهمية للعرب على إسرائيل، ولكن الفاجعة كشفت السّتار عن خيبة كبيرة كان لها أثر عميق عليّ. أتذكر أنني كتبت أول قصة بقلم الرصاص في أواخر جوان 1967، على ما تبقى من إحدى الكراسات، وكنت حينها في السنة الثانية من التعليم الثانوي، وعنونتها بـ"فلسطين". قبل ذلك بسنة أو أكثر، كنت في الرابعة عشرة، أُقلّد القصائد العمودية، فأنتقي بعض القوافي ذات الرويّ الواحد وحاولت أن أنسج على منوالها ما كنت أسمّيه قصائد، لكن الأمر لم يستهويني، خاصة وأنني لم أدرس العروض بعد.
كان والدي حريصًا جدًا على عدم مغادرتي المنزل للعب مع أترابي أو السباحة في بحيرتنا غير العميقة. ولم يكن لي من شأن آخر أهتم به سوى الذهاب إلى المكتبة البلدية في قريتنا، والتي لا يتجاوز رصيدها مائة كتاب أو أكثر بقليل. فبادرت باستخراج اشتراك، ولم تنقضِ الصائفة حتى أتيت على أغلب الكتب العربية. اكتشفت هناك في ذات المكتبة، التي كان يشرف عليها القائم بالحالة المدنية، رفًا يحتوي على العديد من المجلات، فانثنيت إلى هناك، وهناك اكتشفت مجلّة "الفكر" ومجلّة "قصص"، وهاتان المجلّتان كان لهما تأثير كبير في بداية تعلقي بكتابة القصة القصيرة. من هناك انطلقت.
*أي تأثير للطفولة في نحت شخصية الكاتب المبدع؟
-أنا منحوتة طفولتي، لأنني أعتبر أن أهم فترة في حياتي هي طفولتي، من يوم مولدي إلى حدّ الثامنة عشرة. منذ ذلك التاريخ لم أكبر، لأن تلك الفترة كانت مغايرة لما يراه أصدقائي وجيراني وأهل عشيرتي وكلّ الذين عرفتهم. والذي لا يعرف طفولة صالح الدّمس لا يمكنه ادّعاء معرفتي. كل بناء في تكويني الشخصي انتهى سنة 1969، وبقيت أعيش على تلك الأعمدة الركيزة الأولى، وكل ما أتى بعد ذلك عادي جدًا. لكن ما يختزن في الذاكرة هي تلك السنوات... سنوات الجمر.
*ما هو الباب الذي تفتحه لحظة الكتابة، باب الطفولة أم باب الذكريات؟
-لحظة الكتابة لديّ ليست لحظة مسك القلم، فذلك يأتي بعد تصوّرات وأخيلة للنص الذي أودّ كتابته. كل الأبواب مشرعة أمامي لصياغة قصتي، سواء كانت مسلية أم محزنة. لا أمسك القلم لأخطّ ذلك إلا حين يكتمل النص في مخيلتي، وقد يمتد ذلك إلى أسابيع وأحيانًا إلى أشهر، حتى يحين موعد الخلاص فأمسك لحظتها قلمي وتنساب الكلمات كالسيل على الورق. أتعامل بقسوة وحذر كبيرين في كتابة قصصي ورواياتي أيضًا. وطفولتي كانت دائمًا مشرعة بابها لهذا الجنس السردي من الكتابة. أحاول دائمًا التمويه على القارئ حتى يظنّ أن بطل القصة هو الكاتب نفسه، لأنني غالبًا ما أكتب بضمير المتكلم، لكن الواقع هو أنني أتخفى خلف ذلك البطل وأظلّ أطلّ عليه من خلال الأسطر. عندما سئل غوستاف فلوبير عن "مدام بوفاري" من هي؟ قال: "مدام بوفاري هي أنا". قصصي أيضًا هي أنا.
*كيف تعيش لحظة الكتابة؟
-أعيشها بتوتر ممزوج بالرضى عن النفس. وكما ذكرت، ليس لي وقت أو زمان محدد للكتابة، فالنص القصصي يختمر في ذهني ويأخذ كامل وقته حتى يرضى بقبوله واستعداده ليتحوّل من رؤية إلى كلام. من خصالي تجاه قصصي أنه حين أتمّ إحداها، فإنني أعيد قراءتها، وإذا أعجبتني، ونصوصي كلها أنا راضٍ عنها، أستضيف نفسي في مطعم مهنئًا إياها على هذا الإنجاز.
*ما هي نظرتك لدور الكتاب والكتابة في حياة المبدع؟
-في حوار أجراه معي الإعلامي الحبيب جغام إثر قراءته لإحدى قصصي التي نشرت بجريدة "القنال" الجهوية ونشرت ضمن كتابي "المرايا القديمة"، عنوان هذه القصة هو "الكتب التي أنقذتني من الضياع". أنا عشت طفولة قاسية جدًا، ولولا ضيق المجال لأسهبت في التفاصيل، ولكن من الدروع التي حمتني من الضياع والانحراف والذهاب في مسالك ملغومة هي القراءة. قراءة الكتب هي مضاد حيوي ضد كل أشكال الانحراف ودليل للسير في الطريق السويّ. أنا الآن، منذ زمان بعيد، لا أطالع أقل من سبعين كتابًا في السنة بأحجامها المختلفة، ولولا زوجتي لجعلت حشو وسادتي كتبًا.
*كتبت الرواية ولكن القصّة القصيرة أخذتك إليها بشكل لافت ليكون الارتباط بها وثيقًا. أي سر وراء ذلك؟
-مارست جميع أشكال الكتابة إلا النقد، لأن شأوه ليس من خبرتي. كتبت المقالة، "البورتريه"، الرواية، القصة القصيرة، القصة البرقية، وترجمت خمسة كتب من الفرنسية إلى العربية. ولكن تبقى القصة القصيرة هي الأقرب إلى مزاجي، وهي خيمتي ومظلتي وعصاي التي أتّكئ عليها فوق الورقة البيضاء. القصة القصيرة أصعب وأشد تمنّعًا من الرواية. يمكن ملاحظة تقلص عدد القصاصين مقارنة بالروائيين، ولا أود أن أتحدث عن الشعراء لأن عددهم قد يفوق عدد سكان تونس. الرواية طريق طويل ولكنه منبسط، قد تكون فيه بعض الالتواءات لكنه سالك، وهذا مريح للكاتب لأن فسحته أرحب. أما القصة القصيرة فهي إبراقة مفاجئة تصدمك لبعض الدقائق وتزرع فيك الحيرة والدّهشة. هي رحلة مربكة، القصة القصيرة أشد عسرا من الرواية. هذا رأيي وأنا جرّبت الصنفين.
*يرى الكثير أنك الوريث الشرعي لجماعة "تحت السور" في كتاباتك الإبداعية. ما الذي شدك في هذه الجماعة وهل تعتبر نفسك امتدادًا لها؟
-هذا الأمر انتبه إليه أحد قراء قصصي منذ أواخر السبعينات. بل ثمّة صديق نشر مقالًا في جريدة "الصباح" بعنوان "صالح الدّمس الدّوعاجي الصّغير". كنت صغيرًا حينها، ولكنني لست على منوال الدّوعاجي، الذي كان من جملة كتّاب آخرين أثروا فيّ في نحت طريقتي في الكتابة، مثل علي الدّوعاجي، محمد العريبي، والبشير خريف، خاصة. أما "تهمتي" بأنني الوريث الشرعي لجماعة "تحت السور"، فهي تهمة جميلة وأنا فخور بها، وذلك أن سلوكي في الحياة قريب من سلوك هؤلاء. وإنّي لأتذكّر حين كان الباحث محمد المي يعدّ لندوة حول محمد العريبي، طلب مني أن أقدّم مداخلة حول هذا الكاتب. وحين سألته: "لماذا محمد العريبي بالذات؟"، أجابني بأنه يعتبرني بوهيميًّا مثله. ثم أضفت: "أنا كاتب ساخر، حتى في قصصي الكئيبة الحزينة، لا بدّ من السخرية، حتى وإن كانت سوداء، فبعض الهمّ يضحك". قد تكون هذه السمات المتقاربة بيني وبينهم هي التي جعلت القراء وبعض النقاد يرونني امتدادًا لهم.
*هل يمكن الحديث عن خصوصية يتميز بها صالح الدمس عن جماعة تحت السور؟
-هم يمتازون عني كثيرًا، فهؤلاء أبناء العاصمة وأنا ابن قرية. لم أزر العاصمة إلا وأنا في العشرين من عمري. كان بينهم المغني والراقصة والمذيع والشاعر والملحن، أما أنا فلم يكن لي من هؤلاء سوى ستة إخوة ننام على الحصير فوق قاع بيت غير مجلّز. هم يشربون الخمور بأنواعها، وأنا أشرب من عين جارية غير بعيدة عن منزل أمي. إن كانت صفحة حياتهم بيضاء، فإن صفحة حياتي كانت سوداء. لكن كما قال الدوعاجي في أرجوزته: "ما يسالش أن تبيت على الريش أو الحشيش، فالكلّ سينام". أما ما أتميز به عنهم، فهو أنني أكثرهم إنتاجًا، رغم أنني مثلهم أقل انضباطًا.
*في سنة 2022 فازت مجموعتك القصصية "ما أسهل الحب" بجائزة على البلهوان لبلدية تونس، كما توجت مجموعتك القصصية الأخرى "حكايا الأمير" بجائزة اتحاد الكتاب بالإسكندرية والتي شهدت تنافسًا ما لا يقل عن 42 مجموعة قصصية. فما تأثير الجوائز في إثراء تجربة الكاتب وتطويرها؟
-الجوائز لا تصنع الكاتب وإنما الكاتب هو الذي يصنعها، وهي حافز، لا نكران لذلك. ورغم أنني حظيت بهاتين الجائزتين، إضافة إلى جائزتين وطنيتين أخريين وجائزتين جهويتين، إلا أن هناك كثيرًا من الكتاب في تونس الذين يستحقون مثل هذا الاعتراف والتكريم. وقد قرأت الكثير من الأدب التونسي، حتى لكتّاب غير مشهورين، وتساءلت لماذا لم يفز هؤلاء بمثل هذه الجوائز. وفي كل الأحوال، تبقى هذه الجوائز رافدًا للكاتب للاعتناء بنصوصه والبحث عن الفريد والممتع في كتاباته، كما أنها تدفعه للمزيد من الإنتاج الإبداعي. خاصة وأنها جوائز مالية، والمال كما يقول الكاتب الفرنسي الساخر ألفونس آلّي "يساعد على تحمّل الفقر".
*لماذا جاء قرار كتابة سيرتك الذاتية اليوم بعد مسيرة إبداعية تجاوزت الأربعين عامًا؟
-الحقيقة أن هذه السيرة تسكنني منذ زمان بعيد. بدأت في كتابتها في أواسط التسعينات، وقد كنت قبل ذلك كلما راودتني كتابتها، إلا وتداعى إليّ استخدام اللغة الفرنسية، وذلك لأنني من خلال مطالعتي للسير الذاتية العربية لاحظت أن كتّابها يتسترون على كثير من الأحداث ولا يتجرّؤون على ذكر ما يظنونه عارًا أو استنقاصًا لشخصياتهم. عكس الكتّاب الغربيين الذين لا يرون حرجًا في ذكر دقائق حياتهم، سواء الطيّب منها أو الخبيث. لنذكر مثلين لذلك: الكاتب الكبير "جون جينيه" لم يتحرج من كتابة فضائحه، بل أصدر كتابًا بعنوان "يوميات سارق" وكلنا يعرف أن هذا الكاتب له العديد من السرقات التي أودع بسببها السجن. وكذلك الكاتبة الفرنسية التي توفيت في عز شبابها، "ألبرتين سارازان" التي كشفت المستور من طفولتها، والتي سجنت وهربت من السجن، وحوّلت سيرتها التي نشرتها في كتاب بعنوان "الكاحل" إلى شريط سينمائي شاهدته شخصيًا في قاعة الفن السابع بالعاصمة. أما بالنسبة للكتّاب العرب، فالحالة الوحيدة التي لم يخف فيها الكاتب شيئًا من سيرته هو محمد شكري في "الخبز الحافي".و"الشطار"
قلت لك إني بدأت في كتابة هذه السيرة في أواسط التسعينات، وبعد انتهائي من كتابة الفصل الأول، وجدتني غير راضٍ عنه، فتأجل المشروع. لكنه بقي دائمًا حاضرًا في مخيلتي، إلى صيف 2022، حين قررت أن أنهي هذا الأمر خططت لذلك وبدأت في الكتابة دون توقف بين شهري جوان وأوت. وما إن أتممتها حتى شعرت وكأن جبلًا انزاح عن صدري، لأنني كنت صادقًا في كل كلمة كتبتها.
*إلى أي مدى ترى أن الساحة النقدية مواكبة للإبداع الروائي والقصصي ومنصفة له؟
-لدينا بعض النقاد الذين اهتموا بالمدونة القصصية التونسية، مثل محمد القاضي ومحمد الصالح بن عمر وعثمان بن طالب وعمر حفيظ والهادي الرقيق والعادل خضر وغيرهم. بالنسبة لي، ما قدّم حول تجربتي في الكتابة قليل، نظرًا لوفرة كتبي في مجال القصة. وأنا لا أسعى للتودد إلى النقاد ليكتبوا عني، فبعض الدراسات التي تناولت أعمالي لا أعرف أصحابها سواء من تونس أو الجزائر خاصة.
*لكل مبدع حلمه بالتأكيد، فما هو حلم صالح الدمس؟
-كان لي حلم في طفولتي وهو أن أصبح كاتبًا وقد تحقق هذا الحلم والحمد لله. حلمي الآن هو أن أفرح بزواج ابني الوحيد، وأن أرى أحفادي في حضني.
تونس - الصباح
أجمع النقاد والمتابعون للشأن القصصي والروائي في تونس على أنه أحد أنجب تلامذة "جماعة تحت السور" الأدبية، التي كانت ولا تزال بصمتها واضحة وجلية.
ورأى النقاد في كتاباته السردية امتدادًا للكاتب الخالد علي الدّوعاجي، اعتبارًا لكسبه رهان نقل وتوثيق الواقع اليومي في المجتمع التونسي، بلغة إبداعية سلسة، جمع فيها بين الطرافة والشعرية في التقاط تفاصيل الحياة اليومية.
هو كاتب القصة والرواية صالح الدمس، الذي توقف في هذا اللقاء عند الكثير من تفاصيل مسيرته المتفردة في عالم الكتابة السردية بدرجة أولى.
حوار محسن بن أحمد
*ماذا تحفظ الذاكرة من بداية علاقتك بالكتابة؟
-أتذكر أن هزيمة العرب في سنة 1967 كان لها تأثير عميق ليس في نفسي فقط، بل في نفوس جميع مجايليّ. كانت إذاعة "الشرق الأوسط" و"هنا القاهرة" والإذاعة التونسية تبثّ جميعها أخبارًا عن انتصارات وهمية للعرب على إسرائيل، ولكن الفاجعة كشفت السّتار عن خيبة كبيرة كان لها أثر عميق عليّ. أتذكر أنني كتبت أول قصة بقلم الرصاص في أواخر جوان 1967، على ما تبقى من إحدى الكراسات، وكنت حينها في السنة الثانية من التعليم الثانوي، وعنونتها بـ"فلسطين". قبل ذلك بسنة أو أكثر، كنت في الرابعة عشرة، أُقلّد القصائد العمودية، فأنتقي بعض القوافي ذات الرويّ الواحد وحاولت أن أنسج على منوالها ما كنت أسمّيه قصائد، لكن الأمر لم يستهويني، خاصة وأنني لم أدرس العروض بعد.
كان والدي حريصًا جدًا على عدم مغادرتي المنزل للعب مع أترابي أو السباحة في بحيرتنا غير العميقة. ولم يكن لي من شأن آخر أهتم به سوى الذهاب إلى المكتبة البلدية في قريتنا، والتي لا يتجاوز رصيدها مائة كتاب أو أكثر بقليل. فبادرت باستخراج اشتراك، ولم تنقضِ الصائفة حتى أتيت على أغلب الكتب العربية. اكتشفت هناك في ذات المكتبة، التي كان يشرف عليها القائم بالحالة المدنية، رفًا يحتوي على العديد من المجلات، فانثنيت إلى هناك، وهناك اكتشفت مجلّة "الفكر" ومجلّة "قصص"، وهاتان المجلّتان كان لهما تأثير كبير في بداية تعلقي بكتابة القصة القصيرة. من هناك انطلقت.
*أي تأثير للطفولة في نحت شخصية الكاتب المبدع؟
-أنا منحوتة طفولتي، لأنني أعتبر أن أهم فترة في حياتي هي طفولتي، من يوم مولدي إلى حدّ الثامنة عشرة. منذ ذلك التاريخ لم أكبر، لأن تلك الفترة كانت مغايرة لما يراه أصدقائي وجيراني وأهل عشيرتي وكلّ الذين عرفتهم. والذي لا يعرف طفولة صالح الدّمس لا يمكنه ادّعاء معرفتي. كل بناء في تكويني الشخصي انتهى سنة 1969، وبقيت أعيش على تلك الأعمدة الركيزة الأولى، وكل ما أتى بعد ذلك عادي جدًا. لكن ما يختزن في الذاكرة هي تلك السنوات... سنوات الجمر.
*ما هو الباب الذي تفتحه لحظة الكتابة، باب الطفولة أم باب الذكريات؟
-لحظة الكتابة لديّ ليست لحظة مسك القلم، فذلك يأتي بعد تصوّرات وأخيلة للنص الذي أودّ كتابته. كل الأبواب مشرعة أمامي لصياغة قصتي، سواء كانت مسلية أم محزنة. لا أمسك القلم لأخطّ ذلك إلا حين يكتمل النص في مخيلتي، وقد يمتد ذلك إلى أسابيع وأحيانًا إلى أشهر، حتى يحين موعد الخلاص فأمسك لحظتها قلمي وتنساب الكلمات كالسيل على الورق. أتعامل بقسوة وحذر كبيرين في كتابة قصصي ورواياتي أيضًا. وطفولتي كانت دائمًا مشرعة بابها لهذا الجنس السردي من الكتابة. أحاول دائمًا التمويه على القارئ حتى يظنّ أن بطل القصة هو الكاتب نفسه، لأنني غالبًا ما أكتب بضمير المتكلم، لكن الواقع هو أنني أتخفى خلف ذلك البطل وأظلّ أطلّ عليه من خلال الأسطر. عندما سئل غوستاف فلوبير عن "مدام بوفاري" من هي؟ قال: "مدام بوفاري هي أنا". قصصي أيضًا هي أنا.
*كيف تعيش لحظة الكتابة؟
-أعيشها بتوتر ممزوج بالرضى عن النفس. وكما ذكرت، ليس لي وقت أو زمان محدد للكتابة، فالنص القصصي يختمر في ذهني ويأخذ كامل وقته حتى يرضى بقبوله واستعداده ليتحوّل من رؤية إلى كلام. من خصالي تجاه قصصي أنه حين أتمّ إحداها، فإنني أعيد قراءتها، وإذا أعجبتني، ونصوصي كلها أنا راضٍ عنها، أستضيف نفسي في مطعم مهنئًا إياها على هذا الإنجاز.
*ما هي نظرتك لدور الكتاب والكتابة في حياة المبدع؟
-في حوار أجراه معي الإعلامي الحبيب جغام إثر قراءته لإحدى قصصي التي نشرت بجريدة "القنال" الجهوية ونشرت ضمن كتابي "المرايا القديمة"، عنوان هذه القصة هو "الكتب التي أنقذتني من الضياع". أنا عشت طفولة قاسية جدًا، ولولا ضيق المجال لأسهبت في التفاصيل، ولكن من الدروع التي حمتني من الضياع والانحراف والذهاب في مسالك ملغومة هي القراءة. قراءة الكتب هي مضاد حيوي ضد كل أشكال الانحراف ودليل للسير في الطريق السويّ. أنا الآن، منذ زمان بعيد، لا أطالع أقل من سبعين كتابًا في السنة بأحجامها المختلفة، ولولا زوجتي لجعلت حشو وسادتي كتبًا.
*كتبت الرواية ولكن القصّة القصيرة أخذتك إليها بشكل لافت ليكون الارتباط بها وثيقًا. أي سر وراء ذلك؟
-مارست جميع أشكال الكتابة إلا النقد، لأن شأوه ليس من خبرتي. كتبت المقالة، "البورتريه"، الرواية، القصة القصيرة، القصة البرقية، وترجمت خمسة كتب من الفرنسية إلى العربية. ولكن تبقى القصة القصيرة هي الأقرب إلى مزاجي، وهي خيمتي ومظلتي وعصاي التي أتّكئ عليها فوق الورقة البيضاء. القصة القصيرة أصعب وأشد تمنّعًا من الرواية. يمكن ملاحظة تقلص عدد القصاصين مقارنة بالروائيين، ولا أود أن أتحدث عن الشعراء لأن عددهم قد يفوق عدد سكان تونس. الرواية طريق طويل ولكنه منبسط، قد تكون فيه بعض الالتواءات لكنه سالك، وهذا مريح للكاتب لأن فسحته أرحب. أما القصة القصيرة فهي إبراقة مفاجئة تصدمك لبعض الدقائق وتزرع فيك الحيرة والدّهشة. هي رحلة مربكة، القصة القصيرة أشد عسرا من الرواية. هذا رأيي وأنا جرّبت الصنفين.
*يرى الكثير أنك الوريث الشرعي لجماعة "تحت السور" في كتاباتك الإبداعية. ما الذي شدك في هذه الجماعة وهل تعتبر نفسك امتدادًا لها؟
-هذا الأمر انتبه إليه أحد قراء قصصي منذ أواخر السبعينات. بل ثمّة صديق نشر مقالًا في جريدة "الصباح" بعنوان "صالح الدّمس الدّوعاجي الصّغير". كنت صغيرًا حينها، ولكنني لست على منوال الدّوعاجي، الذي كان من جملة كتّاب آخرين أثروا فيّ في نحت طريقتي في الكتابة، مثل علي الدّوعاجي، محمد العريبي، والبشير خريف، خاصة. أما "تهمتي" بأنني الوريث الشرعي لجماعة "تحت السور"، فهي تهمة جميلة وأنا فخور بها، وذلك أن سلوكي في الحياة قريب من سلوك هؤلاء. وإنّي لأتذكّر حين كان الباحث محمد المي يعدّ لندوة حول محمد العريبي، طلب مني أن أقدّم مداخلة حول هذا الكاتب. وحين سألته: "لماذا محمد العريبي بالذات؟"، أجابني بأنه يعتبرني بوهيميًّا مثله. ثم أضفت: "أنا كاتب ساخر، حتى في قصصي الكئيبة الحزينة، لا بدّ من السخرية، حتى وإن كانت سوداء، فبعض الهمّ يضحك". قد تكون هذه السمات المتقاربة بيني وبينهم هي التي جعلت القراء وبعض النقاد يرونني امتدادًا لهم.
*هل يمكن الحديث عن خصوصية يتميز بها صالح الدمس عن جماعة تحت السور؟
-هم يمتازون عني كثيرًا، فهؤلاء أبناء العاصمة وأنا ابن قرية. لم أزر العاصمة إلا وأنا في العشرين من عمري. كان بينهم المغني والراقصة والمذيع والشاعر والملحن، أما أنا فلم يكن لي من هؤلاء سوى ستة إخوة ننام على الحصير فوق قاع بيت غير مجلّز. هم يشربون الخمور بأنواعها، وأنا أشرب من عين جارية غير بعيدة عن منزل أمي. إن كانت صفحة حياتهم بيضاء، فإن صفحة حياتي كانت سوداء. لكن كما قال الدوعاجي في أرجوزته: "ما يسالش أن تبيت على الريش أو الحشيش، فالكلّ سينام". أما ما أتميز به عنهم، فهو أنني أكثرهم إنتاجًا، رغم أنني مثلهم أقل انضباطًا.
*في سنة 2022 فازت مجموعتك القصصية "ما أسهل الحب" بجائزة على البلهوان لبلدية تونس، كما توجت مجموعتك القصصية الأخرى "حكايا الأمير" بجائزة اتحاد الكتاب بالإسكندرية والتي شهدت تنافسًا ما لا يقل عن 42 مجموعة قصصية. فما تأثير الجوائز في إثراء تجربة الكاتب وتطويرها؟
-الجوائز لا تصنع الكاتب وإنما الكاتب هو الذي يصنعها، وهي حافز، لا نكران لذلك. ورغم أنني حظيت بهاتين الجائزتين، إضافة إلى جائزتين وطنيتين أخريين وجائزتين جهويتين، إلا أن هناك كثيرًا من الكتاب في تونس الذين يستحقون مثل هذا الاعتراف والتكريم. وقد قرأت الكثير من الأدب التونسي، حتى لكتّاب غير مشهورين، وتساءلت لماذا لم يفز هؤلاء بمثل هذه الجوائز. وفي كل الأحوال، تبقى هذه الجوائز رافدًا للكاتب للاعتناء بنصوصه والبحث عن الفريد والممتع في كتاباته، كما أنها تدفعه للمزيد من الإنتاج الإبداعي. خاصة وأنها جوائز مالية، والمال كما يقول الكاتب الفرنسي الساخر ألفونس آلّي "يساعد على تحمّل الفقر".
*لماذا جاء قرار كتابة سيرتك الذاتية اليوم بعد مسيرة إبداعية تجاوزت الأربعين عامًا؟
-الحقيقة أن هذه السيرة تسكنني منذ زمان بعيد. بدأت في كتابتها في أواسط التسعينات، وقد كنت قبل ذلك كلما راودتني كتابتها، إلا وتداعى إليّ استخدام اللغة الفرنسية، وذلك لأنني من خلال مطالعتي للسير الذاتية العربية لاحظت أن كتّابها يتسترون على كثير من الأحداث ولا يتجرّؤون على ذكر ما يظنونه عارًا أو استنقاصًا لشخصياتهم. عكس الكتّاب الغربيين الذين لا يرون حرجًا في ذكر دقائق حياتهم، سواء الطيّب منها أو الخبيث. لنذكر مثلين لذلك: الكاتب الكبير "جون جينيه" لم يتحرج من كتابة فضائحه، بل أصدر كتابًا بعنوان "يوميات سارق" وكلنا يعرف أن هذا الكاتب له العديد من السرقات التي أودع بسببها السجن. وكذلك الكاتبة الفرنسية التي توفيت في عز شبابها، "ألبرتين سارازان" التي كشفت المستور من طفولتها، والتي سجنت وهربت من السجن، وحوّلت سيرتها التي نشرتها في كتاب بعنوان "الكاحل" إلى شريط سينمائي شاهدته شخصيًا في قاعة الفن السابع بالعاصمة. أما بالنسبة للكتّاب العرب، فالحالة الوحيدة التي لم يخف فيها الكاتب شيئًا من سيرته هو محمد شكري في "الخبز الحافي".و"الشطار"
قلت لك إني بدأت في كتابة هذه السيرة في أواسط التسعينات، وبعد انتهائي من كتابة الفصل الأول، وجدتني غير راضٍ عنه، فتأجل المشروع. لكنه بقي دائمًا حاضرًا في مخيلتي، إلى صيف 2022، حين قررت أن أنهي هذا الأمر خططت لذلك وبدأت في الكتابة دون توقف بين شهري جوان وأوت. وما إن أتممتها حتى شعرت وكأن جبلًا انزاح عن صدري، لأنني كنت صادقًا في كل كلمة كتبتها.
*إلى أي مدى ترى أن الساحة النقدية مواكبة للإبداع الروائي والقصصي ومنصفة له؟
-لدينا بعض النقاد الذين اهتموا بالمدونة القصصية التونسية، مثل محمد القاضي ومحمد الصالح بن عمر وعثمان بن طالب وعمر حفيظ والهادي الرقيق والعادل خضر وغيرهم. بالنسبة لي، ما قدّم حول تجربتي في الكتابة قليل، نظرًا لوفرة كتبي في مجال القصة. وأنا لا أسعى للتودد إلى النقاد ليكتبوا عني، فبعض الدراسات التي تناولت أعمالي لا أعرف أصحابها سواء من تونس أو الجزائر خاصة.
*لكل مبدع حلمه بالتأكيد، فما هو حلم صالح الدمس؟
-كان لي حلم في طفولتي وهو أن أصبح كاتبًا وقد تحقق هذا الحلم والحمد لله. حلمي الآن هو أن أفرح بزواج ابني الوحيد، وأن أرى أحفادي في حضني.