كنا يومها منشغلين بما خلفته الكورونا من اموات وإصابات.
كنا منشغلين بنداءات الاستغاثة من كل صوب وحدب. فجأة توقف كل شيء.
جاء يوم الخامس والعشرين من جويلية ليقلب الطاولة على الجائحة، فاجتاح المشهد السياسي موجة من التغييرات السياسية اعتبرتها بعض الأحزاب السياسية انقلابا (حركة النهضة وحلفائها في البرلمان) واعتبرها البعض الآخر، مسنودا بهتافات المحتجين، اصلاحا للمسار السياسي الذي أصابه الصدأ في تونس حتى تآكلت فيه حقوق الكثيرين.
كنا يومها، يوم الخامس والعشرين من جويلية، نعد اعداد المشاركين في احتجاجات يوم أعلنوه يوم التمرد.. كنا نظنهم لن يخرجوا في ذلك اليوم الحار خوفا من انتشار العدوى، لكن يبدو ان وباء سياستنا العرجاء كان اشد وطأة على الجميع من وباء كورونا.
نسي الكل في مناطق الجمهورية هاجس الإصابة بالعدوى وتجمعوا في كل ولايات الجمهورية التونسية في احتجاجات منذ ساعات الصباح الأولى.
كنا منذ ساعات الصباح نواكب الاحتجاجات التي تحولت الى تكسير واستهداف لمقرات حزب حركة النهضة.
كنت وسط معمعة نقل مباشر لموقع "الصباح نيوز"، يوثق احراق كل مكونات مقر حزب النهضة وسط هتافات المحتجين الغاضبين.
فجأة يتحول الاحتجاج من حولي الى زغاريد وسيارات شغلت منبهاتها تحتفل بما اسماه كل المحتجين «غمة وانزاحت".
انقلب المشهد من حولي، نار هشيم يافطة حركة النهضة مازالت تحترق، لكن في لحظة فارقة تحولت تلك النيران التي تلتهمها بردا وسلاما على المحتجين: لقد قرر رئيس الجمهورية تجميد مجلس نواب الشعب واقالة الحكومة.
تدابير استثنائية كانت كافية لان ينتقل نقلي المباشر لعملية الحرق لمقر حركة النهضة الى نقل مباشر جديد يحمل عنوان احتفالات المواطنين بتلك الخطوة الفارقة في تاريخ المشهد السياسي التونسي.
كان يلزمني بعض من الوقت لاستيعاب الموقف، لكن تسارع الاحداث كان يتطلب ان انهض سريعا من صدمة المشهد الى تغطية الاحداث والمسارعة الى متابعة وبال من ردود الفعل المحلية والدولية في تلك الليلة التي التحمت مع نهار اليوم الموالي. ليلة لم ننم فيها لحظة واحدة ولم يغمض فيها جفن لكل الفريق الصحافي لـ"الصباح نيوز".
تجندنا جميعا لنبدأ العمل بشكل تسارعت فيه الاحداث بشكل كبير خلال ساعات قليلة.
مشهد سياسي أعرج وظف الاعلام الجماهيري.. نحتاج تصحيح المسار
مشهد سياسي معقد تبعه مشهد اعلامي أكثر تعقيدا: كيف لنا وسط هذا الزخم من المعلومات ان نصمد؟ كيف لوسائل اعلامنا ان تتعامل مع المشهد؟ هل ترى هذا "الزلزال" السياسي سيتبعه زلزال اعلامي يقلب الطاولة على مشهد اعلامي ظل ينهل هو الاخر من معين مشهد سياسي أعرج وظف الاعلام الجماهيري وفرض عليه لبوس الرداءة رداءة المشهد السياسي؟
لئن كانت بوصلة الاعلام الالكتروني واضحة المعالم في تونس بتغطية فورية للأحداث من خلال نقل الاحداث مباشرة على صفحات التواصل الاجتماعي او من خلال الحصول على ردود فعل مكتوبة تنشر بشكل حيني في المواقع والمنصات الالكترونية، فان الاعلام الجماهيري في تونس ومنه التلفزات على وجه الخصوص ظل يتخبط يومين كاملين لمواكبة تسارع نسق الاحداث.
بدأت بسرعة تلفزيونات عالمية في تركيز معدات نقل المباشر من شارع الحبيب بورقيبة وامام مقر البرلمان.
كانت قناة الجزيرة سباقة لذلك. برز من خلالها زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي ليبدي رايه فيما اسماه "انقلابا" على الدستور التونسي.
تسارعت الاحداث أكثر فكانت كل القنوات الأجنبية مركزة معداتها في نقل مباشر ومتواصل. حضر الجميع وغابت تلفزيوناتنا التونسية باستثناء قناة تلفزة تي في..
حضر الكل، وتجند مراسلو الصحافة الأجنبية وبقيت تلفزتنا الوطنية تتخبط وسط زحمة الاحداث.. فجل العاملين صلبها من مديري الحوار والصحافيين في عطلة صيفية وداخلها أيضا كان النقاش يوم السادس والعشرين: كيف نغطي الاحداث وباي الية وما هي خطة البرمجة؟
وقع دعوة جل منتسبيها ليقطع عدد منهم عطلته ويلتحق بركب برمجة خاصة تتماشى مع وضع استثنائي فرضته وضعية استثنائية وقرارات فاجأت الجميع فأربكت تلفزتنا الوطنية وصمد امامها اعلام أجنبي سرعان ما فتح منابر التحليل والتعليق ونشر المعلومات أولا بأول.
تداركت التلفزة الوطنية بعد تأخر الموقف، وبدا البث داخلها لكل مجريات الاحداث لكنها فوتت في كل الحالات الالتصاق بنبض الشارع يوم الخامس والعشرين وصبيحة السادس والعشرين يوم كان الجميع امام البرلمان بين مؤيد ورافض لقرارات رئيس الجمهورية قيس سعيد.
نجح إذا الاعلام الالكتروني في مواكبة الحدث وتأخرت وسائل الاعلام التقليدية ثم تداركت بعد ان أدركها غضب المنتقدين على وسائل التواصل الاجتماعي. راح الجميع يبحث عن المعلومة في وسائل اعلام اجنبية وعبر صفحات التواصل الاجتماعي وفي كل المحطات الأخرى دون ان يكون لإعلامنا المرئي السبق في أي شيء.
غابت إذا قنواتنا باستثناء ندر قليل منها لأسباب عديدة فالخطوة مفاجأة والجميع في عطلة وليس من السهل تجميع الغائبين وترتيب عملية الإنتاج في مؤسسة القناة الوطنية التي تشكو صراعات داخلية بين "أولاد الدار" كما ذهب الى ذلك أحد مديري البرامج فيها.
لقد فوت التلفزيون العمومي شرف ربح المعركة سيما أيام 25 و26 جويلية، ولم يغط ما حصل مباشرة من عين المكا ن فهو يشكو بحسب المنتسبين اليه خللا تسييريا بسبب الكثير من الضغوطات منها ما هو سياسي ما جعل البعض يطالب في صلب المؤسسة بمسار تصحيحي.
غياب قناتنا الوطنية استنكره الكثيرون فأما قنواتنا الخاصة فجلها تعودنا بغيابه عن المشهد وتحليقه بعيدا عن الالتصاق بهموم المواطن. فلا حرج إذا على من تعودنا استقالتهم من المشهد واصطفافهم.
استقالة كشفت عورة اعلام تلفزيوني اثبت انه بعيد كل البعد عن مجاراة تحديات المرحلة.. اعلام فاته في جله قطار الإصلاح وعشش فيه خطاب رديء مع استثناءات قليلة.
وعليه فلئن كنا نحتاج اليوم إصلاحات سياسية، فلعل أحد لبناتها أيضا اصلاح اعلامي يبدأ بإصلاح المجال البصري في وقت حادت فيه تلفزاتنا على القيام بواجبها في الاعلام والتحليل وترك المشاهد فريسة، اما لخطاب مفرغ من المحتوى المفيد او هو فريسة التظليل والاخبار الكاذبة التي تحتاج تصحيحا من قبل الصحافيين أنفسهم.
غاب الاعلام الجماهيري التقليدي، لكن نجحت المؤسسات الاذاعية والالكترونية، على الأقل في مواكبة الحدث ومد الجمهور المتلقي بما يحتاجه من مستجدات وتعليقات وتحاليل فورية لمجريات الاحداث.
ولئن كنا لا نتسامح مع قناتنا العمومية بوصفها ملكا للشعب ومن حقه عليها ان تخبره وتمده بالمعلومة الصحيحة، فاننا لا نسامح أيضا قنوات خاصة، نعلم انها تخلفت عن المسؤولية لأسباب نعلمها.. كونها انتمت في السنوات الأخيرة لأحزاب او رجال اعمال كان لهم حضور في سدة السياسة فجعلوا منها بوقا لهم، بوق لم يتحرر الى اليوم ويعاد استعماله في كل مرحلة انتخابية لتوجيه الناخبين نحو هذا الحلف او ذاك. فهل ترى تعصف صدمة المراجعات السياسية الحاصلة في تونس لتقوض أيضا منابر نعلم جميعنا انها اصطفت وحادت وابتعدت عن اخلاقيات المهنة لخدمة اشخاص لا لخدمة الراي العام؟
الاعلام الأجنبي...سياسة الحذر
لئن سارعت بعض القنوات العربية الى الاصطفاف منذ بداية التغيرات السياسية في تونس مع هذا الحلف او ذاك فان الاعلام الغربي بقي شانه شان تلفزتنا الوطنية مشدوها للوهلة الأولى يحاول فك رموز ما حصل.
فقد اعتمدت بعض وسائل الاعلام الفرنسية والامريكية والألمانية وغيرها سياسة الحذر في التعاطي مع الحدث حتى تتبين بعض ملامح المشهد. لذلك فان الاعلام الغربي بدا بتغطية الحدث بشكل برقي ثم انصهر بعد ذلك في التحليل والتمحيص والبحث عن الحيثيات ولعل هذا نابع عن ان هذه القنوات لطالما اعتمدت خلافا عن اعلامنا العربي أسلوب التدقيق والبحث والتحليل المعمق المتوازن. او لعلها أيضا بقيت تنتظر هي الأخرى مواقف بلدانها من مجريات الاحداث في تونس، احداث متسارعة أدت الى تغيير جذري كانت تعقيداته تحصل بعيدا عن اهتمامات هذه القنوات بتونس سوى في المحطات الكبرى..
وأيا كانت المواقف من اعلام أجنبي نعلم ان بعضه مصطف أيضا فان ما يعنينا حقيقة هو إعادة ترتيب بيت اعلامنا التونسي. فقد اهدرنا نحن أيضا داخل مؤسساتنا الإعلامية سنوات طويلة لم نكن فيها في جل ما ننتجه وليس كله في مستوى المرحلة. لذلك فلعل اللحظة الراهنة تستدعي منا أيضا ان نلتفت الى عملية ترميم الاعلام التونسي لعلنا لا نعول مستقبلا على مصادر اعلام تقليدية اجنبية لنستقي منها المعلومة بل تصبح تلفزاتنا هي المصدر الذي تؤخذ منه الاخبار الصحيحة. فهل ترانا تعلمنا الدرس هذه المرة؟
مبروكة خذير