أصدر المناضل الحقوقي والمعتقل السياسي السابق محمد الصالح فليس مؤخرا الطبعة الثانية من كتابه "ساكن في اسمي" ، وهو المؤلف الرابع له بعد "وطن النجوم أنا هنا " الصادر في 2009 و" عم حمدة العتال ورقات من سجل الاعتقال السياسي في تونس السبعينات " الصادر في 2010 و"سجين في وطني "الصادر في 2016 . ولفليس كذلك مؤلف اخر صادر في 2020 بعنوان "لم يكذب علي الحب " .
ماذا تغير بين الطبعتين ؟
وفي المقارنة بين الطبعتين ، نلاحظ أن الطبعة الثانية صادرة في 2022، عن دار الشنفري ، بينما صدرت الطبعة الأولى في 2018 عن دار نقوش عربية ، كما تغيرت صورة الغلاف ، من فرس أبيض جامح وسط السواد إلى صورة لنصف وجه المؤلف إلى جوار فضاء أخضر له أبعاده الدلالية دون شك ، ومنها تونس الخضراء ، وربما من إيحاءات ذلك العلاقة المتينة بين صاحب الصورة والوطن الذي ضحى من أجل كرامته وسيادته بأحلى سنوات عمره .
ومن الاختلافات كذلك تضمن الطبعة الثانية إضافتين تمثلت الاولى في "نص شهادة لمن يتعجل الفرح ويسعى إلى السعادة" للكاتب والأستاذ الجامعي مصطفى الكيلاني ، والثانية في صفحة خاصة بالفهرس ، وهو ما جعل الكتاب يمتد من 205 صفحات في الطبعة الأولى ، إلى 224 صفحة ، علما بأن الكاتب تدارك في الطبعة الجديدة بعض الأخطاء الطفيفة التي تسربت إلى الطبعة الأولى ، إضافة إلى التوسع نسبيا في التعريف بالمؤلف بالغلاف من الداخل.وقد حافظ الكتاب على الفصول العشرة ، إضافة إلى التصدير الإهداء ومقدمة الكتاب.
تصدير عميق الدلالة
وقد صدر فليس كتابه بثلاث مقولات وهي " إن الذي لا يعرف هو غبي ، أما الذي يعرف ولا يقول شيئا فهو مجرم " لبرتولد براشت ، و" لا أسألك ما هو جنسك ، ولا ما هي ديانتك ، ولكن أسألك ما هو وجعك" لباسكال ، و " لا أحد بامكانه إيذائي دون موافقتي " لغاندي ، وهي مقولات تلخص مفهوم النضال ودوافعه عنده ، وقد مارس ذلك عمليا ؛ إذ يقول في الفصل الأول " عشت كما أشتهي " ، ويؤكد أن سنوات الاعتقال وأبشع أنواع التعذيب لم تثنه عن عزمه رغم أنه بقي 91 يوما لا يستطيع المشي .
أبعاد الإهداء
ويبين فليس كذلك أن ما هو أبشع من التعذيب الذي طال المناضلين هو امتداد الظلم والعنف المسلط عليهم إلى عائلاتهم ، ولذلك كتب في الاهداء : " إلى كل أمهاتنا وزوجاتنا وأخواتنا وبناتنا ورفيقاتنا وقد نلن نصيبهن من الأذية والاهانة ، لأن الحب سكنهن ، الى آبائنا وإخوتنا حملونا فوق رؤوسهم كريشة النعام ، إلى كل تعبيرة مساندة ، وكل كلمة خيرة وحركة نبيلة وصيحة تنديد أتاها رجال ونساء نزيهون من كل أصقاع الدنيا من أجلنا سواء للمطالبة بإطلاق سراحنا أو فك العزلة عنا .. "
محاولة نقدية
أما عن جنس الكتاب ، فقد أشار صاحبه في الطبعة الأولى إلى أنه "محاولة نقدية " ، بينما أشار في الطبعة الثانية إلى أنه "في السيرة الذاتية" . وفي الحقيقة فإن العنوانين يتكاملان ، فالكتاب يمكن أن يندرج فعلا فيما يصطلح عليه بالنقد الذاتي ، وذلك في إطار علاقة الكاتب بتنظيم اليسار الذي كان ينتمي إليه ، وتقييمه لها بعد فترة من الاعتقال السياسي لسبع سنوات ونصف في 4 فترات ، إضافة الى عام ونصف من السرية ، وذلك في سبعينات القرن الماضي ؛ إذ كانت أول مواجهة قمعية قابلته " بدولة الاستقلال عام 1968" حتى "إطلاق سراحه الأخير من معتقل برج الرومي " في 1980. يقول :"لقد بدأت رحلتي في عمر ما قبل العشرين ، وانا اليوم في الثالثة والثلاثين والنصف من عمري . وعلي أن أبدأ من جديد بمعطيات وضعي الراهن ، وفي مقدمتها خسارة والدي في الظروف التي أتيت عليها في كل من "عم حمدة العتال" وسجين في وطني" ، وأمامي مهمات تتجاوز شخصي ، هي مهمات بناء عائلي واسع ، وأمامي من جهة أخرى ضرورة إيلاء النضال ضد سلطة الحكم بكل ضراوة الوعي والتجربة اللذين كدستهما إلى حد الآن مع اعتبار واجب التجديد والتنويع لصيغ هذا النضال ، حتى لا تتكرر جدلية الانغلاق في إعادة التنظيم /إعادة القمع بصيغته التي تكررت بذات الآليات تقريبا لمدة خمس عشرة سنة متتالية " .
في السيرة الذاتية
كذلك يمكن أن يندرج هذا الكتاب في السيرة الذاتية بما أن صاحبه يسلط الضوء على جوانب كثيرة من حياته قبل سنوات الاعتقال وخلالها وبعدها ، وهي تتكامل مع مؤلفاته السابقة في رسم صورة متكاملة له . يقول بالفصل الأخير من الكتاب:" قد علمتني ضربة الجلاد وإهانة الموظف أن أظل وفيا لذاتي ، ساكنا في اسمي ، وأن يطالني الفخر الشديد لأنني كنت ابن "وطن النجوم" ، وسليل "عم حمدة العتال' ، وكنت "سجينهم في وطني" ورجع صدى الأولين الذين فتحوا الأبواب وأضاعوا اليقظة في تسليم المفتاح "
القرار الصعب والسليم
ويعكس العنوان "ساكن في اسمي" تحولا جوهريا في علاقة الكاتب بتنظيم اليسار الذي ينتمي إليه ، تحول من السكن في التنظيم ، بكل ما في معنى السكن من الانتماء التام ، والالتزام بتبني كل ما يتم التخطيط له وتحمل كل ما يترتب على ذلك من تضحيات. يقول الكاتب في مقدمة الكتاب :" قد كان لصمودنا وسرعة إعادة تنظيم صفوفنا إثر مغادرة سجن تونس في موفى عام 1972 الأثر البالغ على معنوياتنا ومكامن صمودنا ، بعد أن حققنا انتصارا سياسيا وبالتبعية أمنيا وقضائيا على هياكل دولة كانت أيادي مسيريها مرتعشة ، ورؤيتهم السياسية تبرر العنف القمعي كأحسن ما يكون التبرير ". وهو يقر بأن اتخاذ هذا القرار لم يكن سهلا ، يقول "تريثت في اتخاذه ، وصبرت عليه ، وأجلت البت فيه ، وعدت إليه مرة وأكثر ، فألفيت نفسي مصرا كل الإصرار على القطع مع تمشي النظر للعالم من خلال كيان التنظيم الذي تحنط بعد أن انخرط في لعنة /لعبة سيزيف" . إنه موقف ناتج عن تقييم موضوعي يرى "أن العالم أرحب من حدود تنظيمنا وهياكله، أيا كانت أهمية هذا التنظيم ، وأن البلاد تتوفر على حراك وحيوية أكبر وأوسع وأعمق من الديناميك الذي يحرك تنظيمنا ومن ثم فإن الانصات المتواضع ، والفهم المتأني والانفتاح الضروري والتنسيب اللازم والتسامح الذي لا مناص منه . هي أسس لا محيد عنها للالتزام في الشأن العام .. كما ثبت أن تجاربي الاعتقالية كلها تشدها قناعة أن النضال فكرة جبارة وفعل مسترسل . وهو أرفع من السياسة ، وأرقى منها " . لذلك كان القرار :" كفى اختفاء وراء تنظيم /كيان هلامي ، سري تتهادى شخوصه في عتمة سرية تضرب في أعمق معانيها مكونات أساسية من آدميتي وإنسانيتي وخصوصية شخصيتي. لماذا لم يعد لي الحق الأولي في أن أسكن اسمي ، أحمله وطنا كاملا فوق كتفي أينما حللت واقمت ؟" .
من السرية الى العلن
هكذا كان الخروج من المعبد المقدس الضيق والسري ألا وهو "التنظيم" إلى الفضاء الأرحب والعلني وهو المجتمع . يقول :" أن تهب أفضل واعز ما تملك للآخرين ، لأولئك الذين لا صوت لهم، لأولئك الذين بح صوتهم بفعل الخوف والوجل واحتقار قدراتهم ، أن تضع نفسك في خدمة قضية من قضاياتهم أو أكثر ، إنها سعادة قصوى" . أوليس هذه من خصال المثقف العضوي التي يذكرها غرامشي ؟ ألا يكون فليس بهذا النوع من النضال فاعلا جماعيا مثلما يعرفه لوسيان غولدمان ؟ من هنا كانت الانطلاقة النضالية الجديدة ، وهو خاضع للمراقبة الإدارية ، بدأت بالاستقرار المادي والعائلي : العمل وبناء البيت . يقول :" المهم أن أول ضربة معول انطلقت يوم غرة جوان 1980 ، أي بعد شهر من مغادرة السجن " ، والزواج والذي اختار أن يكون يوم 20 مارس الذي يكتسي أهمية خاصة لدى الكاتب ، فهو ولئن كان ذكرى الاستقلال للبلاد ، فإنه على مستوى ذاتي هو تاريخ إيقافه بضاحية قرطاج ، وتاريخ موت والده الذي حرم من السير في جنازته رغم قرب المسافة بين جبانة العين وسجن برج الرومي ، ولذلك أعطى الكاتب لهذا التاريخ صبغة ثورية فيها التحدي وفيها الانتصار على القمع والجبروت والتعذيب ، بالاحتفال بزواجه يوم 20 مارس 2002 ،يقول :" ارتبطنا برباط الزوجية يوم السبت 20 مارس 1982 بغاية التطاول على تاريخ الخميس 20 مارس 1975، موعد إيقافي بضاحية قرطاج ، وتعذيبي الشنيع في مقرات الإدارة الفرعية لسلامة أمن الدولة ، وتاريخ الثلاثاء 20 مارس 1979، عندما دفن والدي حمدة فليس جمع من أصدقائي ورفاقي وإخوتي في غيابي القسري على بعد بضعة أمتار من دارنا العائلية" .
والمؤثر في سياق هذه الأحداث أن فليس كان يتحول في كل مرحلة من مراحل هذه المشاريع إلى مقبرة العين حيث يطلع والده في قبره على تحقيق الأحلام التي لم تتحقق في حياته في ضرب من المناجاة الداخلية تكشف عن الألم الذي يعتصر داخله لما تعرض له من حرمان وتعذيب وتنكيل .
رفض التعويض المادي
وقد أكد فليس في كتابه رفضه عند إدلائه بشهادته على تلك المرحلة من تاريخ تونس وعلاقة النظام بالمعارضة وما ترتب عليها من اعتقال وتعذيب ومآس، وذلك من باب التوثيق لتلك المرحلة ، وحفظ الذاكرة ، إثر 14 جانفي 2011 ، رفضه أي تعويض مادي ، مثلما جاء بالصفحة 213_214 : "أقول لسارق شبابي وقامعي وجلادي، اي تعويض يمكن أن يؤدي المقام ويعادل كم الفظاعة الذي تعرضنا له على ايديكم خلال خمسة عشر عاما من التكثيف القمعي ؟ أي تعويض يمكن أن يعيد لك العشرين من العمر ..والجهد المهدور في حفر بائسة.. وأي تعويض يمكن أن يعيد لك حقك في حرمانك النذل الجبان من مواكبة جثمان والدك إلى مثواه الأخير وإنزاله إلى مقره الأبدي.. وأي تعويض بإمكانه أن يعيد رفع الضيم عن والدة وأخوة فرضت عليهم سيرة الترحال من سجن لآخر ومن حفرة لأخرى ؟ "
نضال اليسار مهد للنضالات السياسية اللاحقة
وفي الحقيقة فإن كتاب "ساكن في اسمي" يشترك مع الكتابين السابقين له ، وهما " عم حمدة العتال" و" سجين في وطني " في الجمع بين السيرة الذاتية والتوثيق لمرحلة مهمة من تاريخ تونس إثر الاستقلال تميزت مثلما يبين فليس في حتابه باضطهاد المعارضين ، واعتماد مختلف الوسائل القمعية لتكسير شوكتهم في نظام كلياني يجرم الكلمة ، ويرمي بشبان في عمر الزهور في دهاليز وحفر عميقة بالسجون والمعتقلات ، ويحرمهم حتى من حقهم في المطالعة والكتابة ، فضلا عن التضييق على العائلات عند زيارة أبنائها ، وقد طال ذلك حتى بعض السياسيين على غرار فتحية مزالي التي كثيرا ما كانت ترفض منها "القفة" في الصباح بعد الساعة الحادية عشرة ، فتضطر إلى الانتظار حتى المساء مثلما جاء في هذا الكتاب. ونوه فليس في خاتمة "ساكن في اسمي" بإنجازات اليسار بالقول : "ويكفينا فخرا نحن أبناء هذا اليسار التونسي في مرحلة من المراحل ، أننا عرينا ، في عز جبروت دولة الاستبداد الأعمى ، الأردية القبيحة كلها ، ونددنا بمكامن الفشل ، وصحنا معارضين لمستقبل يصنع لنا وبشكل بائس ومهتز ، وفي كل الأحوال بدون مشاركتنا لا من قريب ولا من بعيد ".
وإجمالا فإن ثلاثية السيرة الذاتية لمحمد الصالح فليس جديرة باهتمام المؤرخين والجامعيين والكتاب والنقاد لأهميتها التوثيقية والأدبية .
منصور غرسلي
أصدر المناضل الحقوقي والمعتقل السياسي السابق محمد الصالح فليس مؤخرا الطبعة الثانية من كتابه "ساكن في اسمي" ، وهو المؤلف الرابع له بعد "وطن النجوم أنا هنا " الصادر في 2009 و" عم حمدة العتال ورقات من سجل الاعتقال السياسي في تونس السبعينات " الصادر في 2010 و"سجين في وطني "الصادر في 2016 . ولفليس كذلك مؤلف اخر صادر في 2020 بعنوان "لم يكذب علي الحب " .
ماذا تغير بين الطبعتين ؟
وفي المقارنة بين الطبعتين ، نلاحظ أن الطبعة الثانية صادرة في 2022، عن دار الشنفري ، بينما صدرت الطبعة الأولى في 2018 عن دار نقوش عربية ، كما تغيرت صورة الغلاف ، من فرس أبيض جامح وسط السواد إلى صورة لنصف وجه المؤلف إلى جوار فضاء أخضر له أبعاده الدلالية دون شك ، ومنها تونس الخضراء ، وربما من إيحاءات ذلك العلاقة المتينة بين صاحب الصورة والوطن الذي ضحى من أجل كرامته وسيادته بأحلى سنوات عمره .
ومن الاختلافات كذلك تضمن الطبعة الثانية إضافتين تمثلت الاولى في "نص شهادة لمن يتعجل الفرح ويسعى إلى السعادة" للكاتب والأستاذ الجامعي مصطفى الكيلاني ، والثانية في صفحة خاصة بالفهرس ، وهو ما جعل الكتاب يمتد من 205 صفحات في الطبعة الأولى ، إلى 224 صفحة ، علما بأن الكاتب تدارك في الطبعة الجديدة بعض الأخطاء الطفيفة التي تسربت إلى الطبعة الأولى ، إضافة إلى التوسع نسبيا في التعريف بالمؤلف بالغلاف من الداخل.وقد حافظ الكتاب على الفصول العشرة ، إضافة إلى التصدير الإهداء ومقدمة الكتاب.
تصدير عميق الدلالة
وقد صدر فليس كتابه بثلاث مقولات وهي " إن الذي لا يعرف هو غبي ، أما الذي يعرف ولا يقول شيئا فهو مجرم " لبرتولد براشت ، و" لا أسألك ما هو جنسك ، ولا ما هي ديانتك ، ولكن أسألك ما هو وجعك" لباسكال ، و " لا أحد بامكانه إيذائي دون موافقتي " لغاندي ، وهي مقولات تلخص مفهوم النضال ودوافعه عنده ، وقد مارس ذلك عمليا ؛ إذ يقول في الفصل الأول " عشت كما أشتهي " ، ويؤكد أن سنوات الاعتقال وأبشع أنواع التعذيب لم تثنه عن عزمه رغم أنه بقي 91 يوما لا يستطيع المشي .
أبعاد الإهداء
ويبين فليس كذلك أن ما هو أبشع من التعذيب الذي طال المناضلين هو امتداد الظلم والعنف المسلط عليهم إلى عائلاتهم ، ولذلك كتب في الاهداء : " إلى كل أمهاتنا وزوجاتنا وأخواتنا وبناتنا ورفيقاتنا وقد نلن نصيبهن من الأذية والاهانة ، لأن الحب سكنهن ، الى آبائنا وإخوتنا حملونا فوق رؤوسهم كريشة النعام ، إلى كل تعبيرة مساندة ، وكل كلمة خيرة وحركة نبيلة وصيحة تنديد أتاها رجال ونساء نزيهون من كل أصقاع الدنيا من أجلنا سواء للمطالبة بإطلاق سراحنا أو فك العزلة عنا .. "
محاولة نقدية
أما عن جنس الكتاب ، فقد أشار صاحبه في الطبعة الأولى إلى أنه "محاولة نقدية " ، بينما أشار في الطبعة الثانية إلى أنه "في السيرة الذاتية" . وفي الحقيقة فإن العنوانين يتكاملان ، فالكتاب يمكن أن يندرج فعلا فيما يصطلح عليه بالنقد الذاتي ، وذلك في إطار علاقة الكاتب بتنظيم اليسار الذي كان ينتمي إليه ، وتقييمه لها بعد فترة من الاعتقال السياسي لسبع سنوات ونصف في 4 فترات ، إضافة الى عام ونصف من السرية ، وذلك في سبعينات القرن الماضي ؛ إذ كانت أول مواجهة قمعية قابلته " بدولة الاستقلال عام 1968" حتى "إطلاق سراحه الأخير من معتقل برج الرومي " في 1980. يقول :"لقد بدأت رحلتي في عمر ما قبل العشرين ، وانا اليوم في الثالثة والثلاثين والنصف من عمري . وعلي أن أبدأ من جديد بمعطيات وضعي الراهن ، وفي مقدمتها خسارة والدي في الظروف التي أتيت عليها في كل من "عم حمدة العتال" وسجين في وطني" ، وأمامي مهمات تتجاوز شخصي ، هي مهمات بناء عائلي واسع ، وأمامي من جهة أخرى ضرورة إيلاء النضال ضد سلطة الحكم بكل ضراوة الوعي والتجربة اللذين كدستهما إلى حد الآن مع اعتبار واجب التجديد والتنويع لصيغ هذا النضال ، حتى لا تتكرر جدلية الانغلاق في إعادة التنظيم /إعادة القمع بصيغته التي تكررت بذات الآليات تقريبا لمدة خمس عشرة سنة متتالية " .
في السيرة الذاتية
كذلك يمكن أن يندرج هذا الكتاب في السيرة الذاتية بما أن صاحبه يسلط الضوء على جوانب كثيرة من حياته قبل سنوات الاعتقال وخلالها وبعدها ، وهي تتكامل مع مؤلفاته السابقة في رسم صورة متكاملة له . يقول بالفصل الأخير من الكتاب:" قد علمتني ضربة الجلاد وإهانة الموظف أن أظل وفيا لذاتي ، ساكنا في اسمي ، وأن يطالني الفخر الشديد لأنني كنت ابن "وطن النجوم" ، وسليل "عم حمدة العتال' ، وكنت "سجينهم في وطني" ورجع صدى الأولين الذين فتحوا الأبواب وأضاعوا اليقظة في تسليم المفتاح "
القرار الصعب والسليم
ويعكس العنوان "ساكن في اسمي" تحولا جوهريا في علاقة الكاتب بتنظيم اليسار الذي ينتمي إليه ، تحول من السكن في التنظيم ، بكل ما في معنى السكن من الانتماء التام ، والالتزام بتبني كل ما يتم التخطيط له وتحمل كل ما يترتب على ذلك من تضحيات. يقول الكاتب في مقدمة الكتاب :" قد كان لصمودنا وسرعة إعادة تنظيم صفوفنا إثر مغادرة سجن تونس في موفى عام 1972 الأثر البالغ على معنوياتنا ومكامن صمودنا ، بعد أن حققنا انتصارا سياسيا وبالتبعية أمنيا وقضائيا على هياكل دولة كانت أيادي مسيريها مرتعشة ، ورؤيتهم السياسية تبرر العنف القمعي كأحسن ما يكون التبرير ". وهو يقر بأن اتخاذ هذا القرار لم يكن سهلا ، يقول "تريثت في اتخاذه ، وصبرت عليه ، وأجلت البت فيه ، وعدت إليه مرة وأكثر ، فألفيت نفسي مصرا كل الإصرار على القطع مع تمشي النظر للعالم من خلال كيان التنظيم الذي تحنط بعد أن انخرط في لعنة /لعبة سيزيف" . إنه موقف ناتج عن تقييم موضوعي يرى "أن العالم أرحب من حدود تنظيمنا وهياكله، أيا كانت أهمية هذا التنظيم ، وأن البلاد تتوفر على حراك وحيوية أكبر وأوسع وأعمق من الديناميك الذي يحرك تنظيمنا ومن ثم فإن الانصات المتواضع ، والفهم المتأني والانفتاح الضروري والتنسيب اللازم والتسامح الذي لا مناص منه . هي أسس لا محيد عنها للالتزام في الشأن العام .. كما ثبت أن تجاربي الاعتقالية كلها تشدها قناعة أن النضال فكرة جبارة وفعل مسترسل . وهو أرفع من السياسة ، وأرقى منها " . لذلك كان القرار :" كفى اختفاء وراء تنظيم /كيان هلامي ، سري تتهادى شخوصه في عتمة سرية تضرب في أعمق معانيها مكونات أساسية من آدميتي وإنسانيتي وخصوصية شخصيتي. لماذا لم يعد لي الحق الأولي في أن أسكن اسمي ، أحمله وطنا كاملا فوق كتفي أينما حللت واقمت ؟" .
من السرية الى العلن
هكذا كان الخروج من المعبد المقدس الضيق والسري ألا وهو "التنظيم" إلى الفضاء الأرحب والعلني وهو المجتمع . يقول :" أن تهب أفضل واعز ما تملك للآخرين ، لأولئك الذين لا صوت لهم، لأولئك الذين بح صوتهم بفعل الخوف والوجل واحتقار قدراتهم ، أن تضع نفسك في خدمة قضية من قضاياتهم أو أكثر ، إنها سعادة قصوى" . أوليس هذه من خصال المثقف العضوي التي يذكرها غرامشي ؟ ألا يكون فليس بهذا النوع من النضال فاعلا جماعيا مثلما يعرفه لوسيان غولدمان ؟ من هنا كانت الانطلاقة النضالية الجديدة ، وهو خاضع للمراقبة الإدارية ، بدأت بالاستقرار المادي والعائلي : العمل وبناء البيت . يقول :" المهم أن أول ضربة معول انطلقت يوم غرة جوان 1980 ، أي بعد شهر من مغادرة السجن " ، والزواج والذي اختار أن يكون يوم 20 مارس الذي يكتسي أهمية خاصة لدى الكاتب ، فهو ولئن كان ذكرى الاستقلال للبلاد ، فإنه على مستوى ذاتي هو تاريخ إيقافه بضاحية قرطاج ، وتاريخ موت والده الذي حرم من السير في جنازته رغم قرب المسافة بين جبانة العين وسجن برج الرومي ، ولذلك أعطى الكاتب لهذا التاريخ صبغة ثورية فيها التحدي وفيها الانتصار على القمع والجبروت والتعذيب ، بالاحتفال بزواجه يوم 20 مارس 2002 ،يقول :" ارتبطنا برباط الزوجية يوم السبت 20 مارس 1982 بغاية التطاول على تاريخ الخميس 20 مارس 1975، موعد إيقافي بضاحية قرطاج ، وتعذيبي الشنيع في مقرات الإدارة الفرعية لسلامة أمن الدولة ، وتاريخ الثلاثاء 20 مارس 1979، عندما دفن والدي حمدة فليس جمع من أصدقائي ورفاقي وإخوتي في غيابي القسري على بعد بضعة أمتار من دارنا العائلية" .
والمؤثر في سياق هذه الأحداث أن فليس كان يتحول في كل مرحلة من مراحل هذه المشاريع إلى مقبرة العين حيث يطلع والده في قبره على تحقيق الأحلام التي لم تتحقق في حياته في ضرب من المناجاة الداخلية تكشف عن الألم الذي يعتصر داخله لما تعرض له من حرمان وتعذيب وتنكيل .
رفض التعويض المادي
وقد أكد فليس في كتابه رفضه عند إدلائه بشهادته على تلك المرحلة من تاريخ تونس وعلاقة النظام بالمعارضة وما ترتب عليها من اعتقال وتعذيب ومآس، وذلك من باب التوثيق لتلك المرحلة ، وحفظ الذاكرة ، إثر 14 جانفي 2011 ، رفضه أي تعويض مادي ، مثلما جاء بالصفحة 213_214 : "أقول لسارق شبابي وقامعي وجلادي، اي تعويض يمكن أن يؤدي المقام ويعادل كم الفظاعة الذي تعرضنا له على ايديكم خلال خمسة عشر عاما من التكثيف القمعي ؟ أي تعويض يمكن أن يعيد لك العشرين من العمر ..والجهد المهدور في حفر بائسة.. وأي تعويض يمكن أن يعيد لك حقك في حرمانك النذل الجبان من مواكبة جثمان والدك إلى مثواه الأخير وإنزاله إلى مقره الأبدي.. وأي تعويض بإمكانه أن يعيد رفع الضيم عن والدة وأخوة فرضت عليهم سيرة الترحال من سجن لآخر ومن حفرة لأخرى ؟ "
نضال اليسار مهد للنضالات السياسية اللاحقة
وفي الحقيقة فإن كتاب "ساكن في اسمي" يشترك مع الكتابين السابقين له ، وهما " عم حمدة العتال" و" سجين في وطني " في الجمع بين السيرة الذاتية والتوثيق لمرحلة مهمة من تاريخ تونس إثر الاستقلال تميزت مثلما يبين فليس في حتابه باضطهاد المعارضين ، واعتماد مختلف الوسائل القمعية لتكسير شوكتهم في نظام كلياني يجرم الكلمة ، ويرمي بشبان في عمر الزهور في دهاليز وحفر عميقة بالسجون والمعتقلات ، ويحرمهم حتى من حقهم في المطالعة والكتابة ، فضلا عن التضييق على العائلات عند زيارة أبنائها ، وقد طال ذلك حتى بعض السياسيين على غرار فتحية مزالي التي كثيرا ما كانت ترفض منها "القفة" في الصباح بعد الساعة الحادية عشرة ، فتضطر إلى الانتظار حتى المساء مثلما جاء في هذا الكتاب. ونوه فليس في خاتمة "ساكن في اسمي" بإنجازات اليسار بالقول : "ويكفينا فخرا نحن أبناء هذا اليسار التونسي في مرحلة من المراحل ، أننا عرينا ، في عز جبروت دولة الاستبداد الأعمى ، الأردية القبيحة كلها ، ونددنا بمكامن الفشل ، وصحنا معارضين لمستقبل يصنع لنا وبشكل بائس ومهتز ، وفي كل الأحوال بدون مشاركتنا لا من قريب ولا من بعيد ".
وإجمالا فإن ثلاثية السيرة الذاتية لمحمد الصالح فليس جديرة باهتمام المؤرخين والجامعيين والكتاب والنقاد لأهميتها التوثيقية والأدبية .