الكاتب ابراهيم بن مراد ضيف "الصباح" اليوم هو استاذ متميز في كلية الآداب والفنون والانسانيات بمنوبة ورئيس جمعية المعجمية العربية بتونس، التقيناه لنسأل عن رأيه في استغلال جائحة الكورونا لاسقاط "رسالة الغفران" لأبي العلاء المعري من برنامج الباكالوريا آداب ضمن عملية شملت حذف كتابي الحيوان والرسائل للجاحظ ضمن محور المنزع العقلي، بالإضافة إلى الثورة البلشفية ومحور الحبّ في برنامج اللغة الفرنسيّة وحذف محوري الفنون وتفاعل الثقافات من برنامج السنة التاسعة اساسي وحذف محور حوار الحضارات للشعب العلمية باكالوريا ومحاور أخرى في الفلسفة في مقدّمتها الفنّ وعلم الجمال والإيديولوجيا.. الى غير ذلك مما اعتبر "عملية غسل ايديولوجية للبرامج التعليمية للتلاميذ الباكالوريا اختصاص آداب" بصفة خاصة .فكان الحوار التالي:
*اذا ثبت ان حذف "رسالة الغفران " لا علاقة له بالكورونا ولا بنظام الافواج فبماذا يمكن ان نعوضها؟
-لا يوجد ما يعوّض "رسالة الغفران" وحذفها يعد ضربة ثانية قوية جدا لبرامج التدريس في الباكالوريا في شعبة الآداب بعد الضربة القوية الأولى بحذف مسائل الفلسفة العامة منها في آخر السنوات السبعين من القرن الماضي تحت تأثير مقالات كتبها راشد الغنوشي في مجلة المعرفة الإخوانيّة. هناك أسماء لا يمكن للتلميذ في المرحلة الثانوية أن يمردون أن يعرفها ويدرسها لأن أصحابها يكونون فيه الملكة النقدية بما كتبوه، ومن أهمها أبو العلاء المعري في لزومياته وفي رسالة الغفران، وهما من أهم الآثار الفكرية العربية المنتمية إلى ما يعرف بالأدب الذهني الذي كان يمثل أساس مادة العربية في شهادة الباكالوريا آداب.
*وأي تأثير لهذا الحذف على الواصلين الى الجامعة وعلى المجتمع التونسي ؟ وعلى الشهادة العلمية ونحن نعرف ان ما نتخلى عنه اليوم يدرّس في أوروبا ؟
- يمكن أن نقيس تأثيره اليوم وغدا بتأثير مواد الفلسفة العامة بالأمس، فقد أصبح البرنامج مركزا على فلسفة العلوم لأنها دروس "محايدة" لا تثير في ذهن التلميذ "حيرة وجودية" وأسئلة حول الحقيقة والحرية والوجود، وقد جعل ذلك من التلميذ أيسر انقيادا للفكر الديني والتيارات السلفية في فترة كانت فيها حلقات الدروس الدعوية المذهبية السياسية التي يقدمها قادة الاتجاه الإسلامي على أشدها. وأما " رسالة الغفران" فإنها تنطلق من تصور الناس ليوم القيامة وللحساب ولدور أهل البيت في الشفاعة وللحياة في الجنة وفي النار تصورا ماديا مليئا بالتناقضات ، وقد أظهر أبو العلاء تلك التناقضات وانتقدها وسخر منها سخرية نقدية لم يرد بها السخرية من الدين بل أراد الدفاع عنه لتخليصه من أوهام العامّة. وفقدان التلميذ للملكة النقدية سيؤثر التأثير السلبي بالطبع في تكوينه الجامعي أيضا بل وذلك مؤثر بطبيعته في المجتمع لأنّ ركنا من الحصانة الفكرية التي كان التلميذ يكتسبها في المدرسة سيفقده عندما يخرج إلى معترك الحياة ويواجه مشاكلها، ونحن نرى أثر ذلك اليوم في سهولة استقطاب الشباب في الحركات الدينية المتطرفة التي تهدد سلامة المجتمع. أما بالنسبة إلى التدريس في أوروبا في معاهدهم الثانوية وفي جامعاتهم فإن العلوم الإنسانية - ومنها الفلسفة - لا يخضع للخيارات المذهبية والعقدية بل يخضع لما كان التدريس يخضع له عندنا أيام برنامج المرحوم محمود المسعدي (1958 - 1968) من تكوين للعقل والفكر والملكة النقدية.
*وماذا عن مستوى التلاميذ الواصلين اليكم في الجامعة في ظل الغاء كل هذه المحاور التي تنمي ملكة التعبير؟
- لا أستطيع تقييم مستوى التلاميذ القادمين من شعب العلوم، وإن كنت لا أعتقد أن المعدلات التي ينجح بها كثيرون منهم تعكس مستوياتهم الحقيقية، فإن في بعضها مبالغات لا شك فيها، أما تلاميذ شعبة الآداب فقد رافقت منهم الكثيرين في قسم اللغة العربية بكلية الآداب بمنوبة ورأيت أن مستوياتهم متفاوتة وخاصة في اكتسابهم لملكة التعبير، ولا أستغرب ذلك لأن تعليم العربية – وخاصة مادة النحو – أصبح في المرحلتين الابتدائية والأساسية لا يقوم على تكوين ملكة التعبير انطلاقا من الاستعمال اللغوي الصحيح بقدر ما يقوم على التفكير في التركيب والمركبات المكوّنة للجملة. لكن الطلبة يستجيبون بسرعة لما يطلبه منهم الأستاذ من التزام بالمنهجية العلمية في البحث وفي التفكير وفي معالجة المسائل المدروسة. وهم بعد هذا لا يختلفون أثناء تعليمهم الثانوي عن زملائهم من الشعب العلمية في مسألة المبالغة في إسناد الأعداد إليهم على الأعمال التي ينجزونها، وقد لاحظنا في هذه السنوات الأخيرة مسألة غريبة بحق تؤكد ما ذكرته وهي إسناد 20 على 20 في مادة الفلسفة، بل لعل بعضهم أسند 21 على 20 في المادة نفسها، وقد لا نستغرب ذلك إذا علمنا أن المسائل الفلسفية العميقة الحقيقية التي تشحذ ذهن التلميذ وتحثه على التفكير المعمق وتتطلب منه المناقشة الجديّة – وهي مسائل الفلسفة العامة – قد حذفت من برنامج الفلسفة في شعبة الآداب، ثم إن العدد الأقصى قد يسند إلى التلميذ أيضا دون أن يؤخذ في التقييم ما يوجد في تحريره من أخطاء لغوية بدعوى أن التقييم يكون للتفكير وليس للتعبير، وهذا خطأ فادح يرتكبه بعض الأساتذة لأن التفكير الجيّد لا يمكن أن نقدّمه ونقنع به إلا إذا عبّرنا عنه تعبيرا صحيحا جيدا . وأنا أدعو متفقّدي العربية ومتفقدي الفلسفة في المعاهد الثانويّة إلى إعادة النظر الجدية في مسألة ملكة التعبير عند التلميذ تكوينا وتقييما.
* ألا يسبب هذا عدم الاعتراف بالشهادات العلمية خارج تونس ؟
- أعتقد أن الشهائد الجامعية التونسية ما زالت ذات مصداقية كبرى في العالم والأدلة على ذلك كثيرة منها قبول خريجي جامعاتنا للتدريس في الخارج في المعاهد الثانوية أو في الجامعات –في دول الخليج مثلا – بكل الترحيب، وقبول خريجي كليات الطبّ عندنا في فرنسا مثلا القبول الحسن للثقة الكبيرة في تكوينهم الجامعي. وهذا في الحقيقة يؤكد دور الجامعة التونسية في التكوين رغم النقائص الموجودة في المراحل التعليميّة السابقة للجامعة.
* تشرفون على جمعية المعجمية العربية بتونس فكيف تقيمون العمل الثقافي والجمعياتي الحالي ؟
- بالنسبة إلى العمل الثقافي يمكن أن نستدل على حقيقته بعدد وزراء الثقافة ووزيراتها بعد سنة 2011، فإن كثرة التغيير تدلّ على عدم الاستقرار وضبابيّة الرؤية، وكثرة التغيير كانت في الحقيقة سمة العمل السياسي المضطرب في البلاد سواء في رئاسة الحكومة أو في الوزارات، بل لاحظنا أن العمل الثقافي لم يكن من أولويات الدولة والحكومة، والأدلة على ذلك كثيرة منها ما لاحظته من إهمال يكاد يكون كليا سنة 2019 في البرامج التي تقدّم بها كل المترشحين لرئاسة الجمهورية، ومن إسقاطٍ لليوم الوطني للثقافة، وللجوائز التشجيعية التي كانت الدولة تمنحها سنويا للمبدعين والمفكرين، ونحمد الله أن هذه الجوائز قد رجعت هذه السنة. والسبب الرئيسي في ذلك كله في نظري هو أن توجهات الحكومات المتعاقبة كانت متأثرة برؤى حزب كان المهيمن على الحياة السياسية وكان يرى أن وزارة الشؤون الدينية مثلا أهم بكثير من وزارة الشؤون الثقافية. وعلى الحكومات القادمة أن تعيد النظر في المسألة الثقافية لأن بلادنا غنية جدا بتراثها وبابتكارات مبدعيها في مختلف المجالات في الماضي والحاضر، ولا يمكن لأي شعب أن يتطور وأن يكون له وزن وشأن في العالم إلا إذا اهتم بتطوير مجالين حيويين لحاضره ولمستقبله : هما التعليم والثقافة.
وأما وضع العمل الجمعياتي فغني عن التوضيح : فقد كانت الجمعيات العلمية والثقافية ذات شأن كبير في البلاد قبل سنة 2011 وكانت تصدر مجلات ثقافية وعلمية متنوعة وتنظم الندوات العلمية الوطنية والدولية، وكانت الدولة تدعمها جميعا وتقيم للتدليل على الاهتمام بها وتشجيعها يوما وطنيا للجمعيات، وقد زال ذلك كله وزال دور الدولة في العناية بها وزالت جمعيات كثيرة من الوجود وتعثّر ما أصرّ منها على البقاء تعثّرا كبيرا في نشاطه وفي برامجه، وقد حلت محلها جمعيات قد تكاثرت تكاثرا غريبا تسمّى "جمعيات خيرية" تتلقى الدعم الوافر والتمويل الجزيل من الخارج ويقوم أكثرها بعمليات فيها كثير من الشبهات ولا صلة لها بالثقافة أو بالعلم، وحتى إذا ادّعت المشاركة في النشاط الثقافي كان نشاطها تعليما موازيا يقدم مسائل دينيّة مخالفة لما يقدّم من تعليم في المدرسة التونسية، مدرسة الجمهورية المدنيّة، ومخالفة لما اتفق عليه التونسيون منذ عقود حول "الأحوال الشخصية".
*وكيف اصبحت العلاقة بين المؤسّسات الثقافية والمؤسسات التربوية والجامعية ؟
-المفروض أن يكون بين المؤسسات الثقافية والمؤسسات التربوية والجامعية تكامل وتشارك في إنجاز المشاريع الثقافية التي تعني الجمهور في المدارس والمعاهد والكليات. ومن أهم ما كان يشجع على القيام بهذا التشارك هو وجود النوادي الثقافية والأدبية وخاصة في المؤسسات التربوية مثل نوادي السينما ونوادي المسرح ونوادي القصة والشعر التي يشرف عليها جميعا أساتذة منها. وقد كان لنوادي المسرح في المعاهد دور مهم في تكوين ممثلين مسرحيين وسينمائيين كثيرين في العالم العربي في مصر مثلا بل في تونس أيضا. ويضاف إلى دور المعاهد والكليّات دور الثقافة التي كانت تفتح أبوابها أيام العطل الأسبوعية للتلاميذ والطلبة والمثقفين عامة، وكان بعضها يتبنّى أنشطة النوادي الثقافية المدرسية والجامعية أيضا. وقد كاد ذلك الدور ينتفي في السنوات العشر المنقضية إذ ضعف دور النوادي المدرسيّة التي تهتم بتثقيف التلميذ وقوي دور النقابات التي تعنى بوضع المدرّسين. وفي ذلك في الحقيقة إشكال كبير لأنّ الأستاذ لا يستطيع أن يتطوّع بالمشاركة في أعمال النوادي الثقافية إلاّ إذا أحسّ براحته وراحة عائلتِه في حياتهم الاجتماعية، وأين له بهذه الراحة التي افتقدها جل التونسيين في ظل "الانتقال الديمقراطي" الذي تمر به البلاد منذ عشر سنوات !
حاروته علياء بن نحيلة
تونس - الصباح
الكاتب ابراهيم بن مراد ضيف "الصباح" اليوم هو استاذ متميز في كلية الآداب والفنون والانسانيات بمنوبة ورئيس جمعية المعجمية العربية بتونس، التقيناه لنسأل عن رأيه في استغلال جائحة الكورونا لاسقاط "رسالة الغفران" لأبي العلاء المعري من برنامج الباكالوريا آداب ضمن عملية شملت حذف كتابي الحيوان والرسائل للجاحظ ضمن محور المنزع العقلي، بالإضافة إلى الثورة البلشفية ومحور الحبّ في برنامج اللغة الفرنسيّة وحذف محوري الفنون وتفاعل الثقافات من برنامج السنة التاسعة اساسي وحذف محور حوار الحضارات للشعب العلمية باكالوريا ومحاور أخرى في الفلسفة في مقدّمتها الفنّ وعلم الجمال والإيديولوجيا.. الى غير ذلك مما اعتبر "عملية غسل ايديولوجية للبرامج التعليمية للتلاميذ الباكالوريا اختصاص آداب" بصفة خاصة .فكان الحوار التالي:
*اذا ثبت ان حذف "رسالة الغفران " لا علاقة له بالكورونا ولا بنظام الافواج فبماذا يمكن ان نعوضها؟
-لا يوجد ما يعوّض "رسالة الغفران" وحذفها يعد ضربة ثانية قوية جدا لبرامج التدريس في الباكالوريا في شعبة الآداب بعد الضربة القوية الأولى بحذف مسائل الفلسفة العامة منها في آخر السنوات السبعين من القرن الماضي تحت تأثير مقالات كتبها راشد الغنوشي في مجلة المعرفة الإخوانيّة. هناك أسماء لا يمكن للتلميذ في المرحلة الثانوية أن يمردون أن يعرفها ويدرسها لأن أصحابها يكونون فيه الملكة النقدية بما كتبوه، ومن أهمها أبو العلاء المعري في لزومياته وفي رسالة الغفران، وهما من أهم الآثار الفكرية العربية المنتمية إلى ما يعرف بالأدب الذهني الذي كان يمثل أساس مادة العربية في شهادة الباكالوريا آداب.
*وأي تأثير لهذا الحذف على الواصلين الى الجامعة وعلى المجتمع التونسي ؟ وعلى الشهادة العلمية ونحن نعرف ان ما نتخلى عنه اليوم يدرّس في أوروبا ؟
- يمكن أن نقيس تأثيره اليوم وغدا بتأثير مواد الفلسفة العامة بالأمس، فقد أصبح البرنامج مركزا على فلسفة العلوم لأنها دروس "محايدة" لا تثير في ذهن التلميذ "حيرة وجودية" وأسئلة حول الحقيقة والحرية والوجود، وقد جعل ذلك من التلميذ أيسر انقيادا للفكر الديني والتيارات السلفية في فترة كانت فيها حلقات الدروس الدعوية المذهبية السياسية التي يقدمها قادة الاتجاه الإسلامي على أشدها. وأما " رسالة الغفران" فإنها تنطلق من تصور الناس ليوم القيامة وللحساب ولدور أهل البيت في الشفاعة وللحياة في الجنة وفي النار تصورا ماديا مليئا بالتناقضات ، وقد أظهر أبو العلاء تلك التناقضات وانتقدها وسخر منها سخرية نقدية لم يرد بها السخرية من الدين بل أراد الدفاع عنه لتخليصه من أوهام العامّة. وفقدان التلميذ للملكة النقدية سيؤثر التأثير السلبي بالطبع في تكوينه الجامعي أيضا بل وذلك مؤثر بطبيعته في المجتمع لأنّ ركنا من الحصانة الفكرية التي كان التلميذ يكتسبها في المدرسة سيفقده عندما يخرج إلى معترك الحياة ويواجه مشاكلها، ونحن نرى أثر ذلك اليوم في سهولة استقطاب الشباب في الحركات الدينية المتطرفة التي تهدد سلامة المجتمع. أما بالنسبة إلى التدريس في أوروبا في معاهدهم الثانوية وفي جامعاتهم فإن العلوم الإنسانية - ومنها الفلسفة - لا يخضع للخيارات المذهبية والعقدية بل يخضع لما كان التدريس يخضع له عندنا أيام برنامج المرحوم محمود المسعدي (1958 - 1968) من تكوين للعقل والفكر والملكة النقدية.
*وماذا عن مستوى التلاميذ الواصلين اليكم في الجامعة في ظل الغاء كل هذه المحاور التي تنمي ملكة التعبير؟
- لا أستطيع تقييم مستوى التلاميذ القادمين من شعب العلوم، وإن كنت لا أعتقد أن المعدلات التي ينجح بها كثيرون منهم تعكس مستوياتهم الحقيقية، فإن في بعضها مبالغات لا شك فيها، أما تلاميذ شعبة الآداب فقد رافقت منهم الكثيرين في قسم اللغة العربية بكلية الآداب بمنوبة ورأيت أن مستوياتهم متفاوتة وخاصة في اكتسابهم لملكة التعبير، ولا أستغرب ذلك لأن تعليم العربية – وخاصة مادة النحو – أصبح في المرحلتين الابتدائية والأساسية لا يقوم على تكوين ملكة التعبير انطلاقا من الاستعمال اللغوي الصحيح بقدر ما يقوم على التفكير في التركيب والمركبات المكوّنة للجملة. لكن الطلبة يستجيبون بسرعة لما يطلبه منهم الأستاذ من التزام بالمنهجية العلمية في البحث وفي التفكير وفي معالجة المسائل المدروسة. وهم بعد هذا لا يختلفون أثناء تعليمهم الثانوي عن زملائهم من الشعب العلمية في مسألة المبالغة في إسناد الأعداد إليهم على الأعمال التي ينجزونها، وقد لاحظنا في هذه السنوات الأخيرة مسألة غريبة بحق تؤكد ما ذكرته وهي إسناد 20 على 20 في مادة الفلسفة، بل لعل بعضهم أسند 21 على 20 في المادة نفسها، وقد لا نستغرب ذلك إذا علمنا أن المسائل الفلسفية العميقة الحقيقية التي تشحذ ذهن التلميذ وتحثه على التفكير المعمق وتتطلب منه المناقشة الجديّة – وهي مسائل الفلسفة العامة – قد حذفت من برنامج الفلسفة في شعبة الآداب، ثم إن العدد الأقصى قد يسند إلى التلميذ أيضا دون أن يؤخذ في التقييم ما يوجد في تحريره من أخطاء لغوية بدعوى أن التقييم يكون للتفكير وليس للتعبير، وهذا خطأ فادح يرتكبه بعض الأساتذة لأن التفكير الجيّد لا يمكن أن نقدّمه ونقنع به إلا إذا عبّرنا عنه تعبيرا صحيحا جيدا . وأنا أدعو متفقّدي العربية ومتفقدي الفلسفة في المعاهد الثانويّة إلى إعادة النظر الجدية في مسألة ملكة التعبير عند التلميذ تكوينا وتقييما.
* ألا يسبب هذا عدم الاعتراف بالشهادات العلمية خارج تونس ؟
- أعتقد أن الشهائد الجامعية التونسية ما زالت ذات مصداقية كبرى في العالم والأدلة على ذلك كثيرة منها قبول خريجي جامعاتنا للتدريس في الخارج في المعاهد الثانوية أو في الجامعات –في دول الخليج مثلا – بكل الترحيب، وقبول خريجي كليات الطبّ عندنا في فرنسا مثلا القبول الحسن للثقة الكبيرة في تكوينهم الجامعي. وهذا في الحقيقة يؤكد دور الجامعة التونسية في التكوين رغم النقائص الموجودة في المراحل التعليميّة السابقة للجامعة.
* تشرفون على جمعية المعجمية العربية بتونس فكيف تقيمون العمل الثقافي والجمعياتي الحالي ؟
- بالنسبة إلى العمل الثقافي يمكن أن نستدل على حقيقته بعدد وزراء الثقافة ووزيراتها بعد سنة 2011، فإن كثرة التغيير تدلّ على عدم الاستقرار وضبابيّة الرؤية، وكثرة التغيير كانت في الحقيقة سمة العمل السياسي المضطرب في البلاد سواء في رئاسة الحكومة أو في الوزارات، بل لاحظنا أن العمل الثقافي لم يكن من أولويات الدولة والحكومة، والأدلة على ذلك كثيرة منها ما لاحظته من إهمال يكاد يكون كليا سنة 2019 في البرامج التي تقدّم بها كل المترشحين لرئاسة الجمهورية، ومن إسقاطٍ لليوم الوطني للثقافة، وللجوائز التشجيعية التي كانت الدولة تمنحها سنويا للمبدعين والمفكرين، ونحمد الله أن هذه الجوائز قد رجعت هذه السنة. والسبب الرئيسي في ذلك كله في نظري هو أن توجهات الحكومات المتعاقبة كانت متأثرة برؤى حزب كان المهيمن على الحياة السياسية وكان يرى أن وزارة الشؤون الدينية مثلا أهم بكثير من وزارة الشؤون الثقافية. وعلى الحكومات القادمة أن تعيد النظر في المسألة الثقافية لأن بلادنا غنية جدا بتراثها وبابتكارات مبدعيها في مختلف المجالات في الماضي والحاضر، ولا يمكن لأي شعب أن يتطور وأن يكون له وزن وشأن في العالم إلا إذا اهتم بتطوير مجالين حيويين لحاضره ولمستقبله : هما التعليم والثقافة.
وأما وضع العمل الجمعياتي فغني عن التوضيح : فقد كانت الجمعيات العلمية والثقافية ذات شأن كبير في البلاد قبل سنة 2011 وكانت تصدر مجلات ثقافية وعلمية متنوعة وتنظم الندوات العلمية الوطنية والدولية، وكانت الدولة تدعمها جميعا وتقيم للتدليل على الاهتمام بها وتشجيعها يوما وطنيا للجمعيات، وقد زال ذلك كله وزال دور الدولة في العناية بها وزالت جمعيات كثيرة من الوجود وتعثّر ما أصرّ منها على البقاء تعثّرا كبيرا في نشاطه وفي برامجه، وقد حلت محلها جمعيات قد تكاثرت تكاثرا غريبا تسمّى "جمعيات خيرية" تتلقى الدعم الوافر والتمويل الجزيل من الخارج ويقوم أكثرها بعمليات فيها كثير من الشبهات ولا صلة لها بالثقافة أو بالعلم، وحتى إذا ادّعت المشاركة في النشاط الثقافي كان نشاطها تعليما موازيا يقدم مسائل دينيّة مخالفة لما يقدّم من تعليم في المدرسة التونسية، مدرسة الجمهورية المدنيّة، ومخالفة لما اتفق عليه التونسيون منذ عقود حول "الأحوال الشخصية".
*وكيف اصبحت العلاقة بين المؤسّسات الثقافية والمؤسسات التربوية والجامعية ؟
-المفروض أن يكون بين المؤسسات الثقافية والمؤسسات التربوية والجامعية تكامل وتشارك في إنجاز المشاريع الثقافية التي تعني الجمهور في المدارس والمعاهد والكليات. ومن أهم ما كان يشجع على القيام بهذا التشارك هو وجود النوادي الثقافية والأدبية وخاصة في المؤسسات التربوية مثل نوادي السينما ونوادي المسرح ونوادي القصة والشعر التي يشرف عليها جميعا أساتذة منها. وقد كان لنوادي المسرح في المعاهد دور مهم في تكوين ممثلين مسرحيين وسينمائيين كثيرين في العالم العربي في مصر مثلا بل في تونس أيضا. ويضاف إلى دور المعاهد والكليّات دور الثقافة التي كانت تفتح أبوابها أيام العطل الأسبوعية للتلاميذ والطلبة والمثقفين عامة، وكان بعضها يتبنّى أنشطة النوادي الثقافية المدرسية والجامعية أيضا. وقد كاد ذلك الدور ينتفي في السنوات العشر المنقضية إذ ضعف دور النوادي المدرسيّة التي تهتم بتثقيف التلميذ وقوي دور النقابات التي تعنى بوضع المدرّسين. وفي ذلك في الحقيقة إشكال كبير لأنّ الأستاذ لا يستطيع أن يتطوّع بالمشاركة في أعمال النوادي الثقافية إلاّ إذا أحسّ براحته وراحة عائلتِه في حياتهم الاجتماعية، وأين له بهذه الراحة التي افتقدها جل التونسيين في ظل "الانتقال الديمقراطي" الذي تمر به البلاد منذ عشر سنوات !