إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

تحقيق استقصائي في مصب برج شاكير .. "عشرة" بين "البرباشة" و الموت ..وإخلالات تنغص العيش.. !!

 تحقيق :وفاء الطرابلسي

كان ذلك صباح يوم الإربعاء الثاني من شهر نوفمبر, حينما حثثت الخطى نحو مصب برج شاكير. في كل خطوة أتقدمها كانت الروائح أسرع إلى الأنفاس من حبل الوريد، كانت الدقائق تمر بطيئة جدا مع أني خلت أني قضيت نزرا عظيما من الزمن إلى أن وصلت إلى خضم هذا المصب، أين تؤود الأرواح وتغتال الكرامات.

كانت رائحة الموت تحف المكان، أين يعاضد الموتُ الموتَ، أين يتلاشي بصيص الحياة. المصب يمنة ومقبرة يسودها الظلام يسرة، وكأن هذه المقبرة صرخة تنادي كل وهلة العاملين بالمصب " لامناص مني ولامفر ...أنا موطنكم ومثواكم الأخير.

تقول فاطمة وهي من سكان حي العطار المحاذي للمصب :" سئمنا العيش هنا، لا مسؤول ينظر إلينا ولا دولة تلتفت لهذا الحي...أغلبنا أصيب بأمراض تنفسية جراء مخلفات المصب، فقد كانت وفاة زوجي بهذا السبب".

أُحدث مصب برج شاكير سنة 1999 ليستوعب النفايات المنزلية بمختلف أنواعها سواء العادية أو الخطرة لبلديات العاصمة والولايات المجاورة لها( بن عروس- أريانة- منوبة)، ففي هذا المصب تدفن ملايين طن من النفايات سنويا وبمعدل 3000 طن يومياً ولا أحد يعلم مكونات تلك النفايات وما إذ يتم رسكلتها وكيفية التخلص منها سواء بالردم أو بالحرق؟

ما يزال إشكال التصرف في النفايات الطبية مطروحا منذ مدة طويلة، فرغم أن الدولة وضعت خطة كاملة لمعالجة وتثمين النفايات منذ سنة 2008، وأوكلت هذه المهمة إلى شركات خاصة للتصرف فيها، إلا أنها لم تحقق الأهداف التي وضعت من أجلها، ذلك أن سلطات الإشراف لا تمارس الرقابة على مسار معالجة النفايات وخاصة النفايات الطبية الخطرة بالضرورة، وذلك لما يسببه هذا النوع من النفايات من أضرار صحية وبيئية.

حسب المعهد الوطني للإحصاء تتكون المنظومة الصحية من 8359 عيادة خاصة، 102 مصحة علاوة على 3315 عيادات أسنان. أما بالنسبة للقطاع العام فيتكون من 15 مستشفى و 22 مركزا مختصا و31 مستشفى جهويا و 108 محليا.

 .ووفق لإحصائيات رسمية، تقدر كمية النفايات التي تنتجها المنظومة بحوالى 3.2 مليون طن منها 8 ألاف طن نفايات طبية خطرة. لكن هذه الأخيرة لا تعالج كلها، إذ أن المرافق الصحية سواء عمومية أو خاصة ليست جميعها متعاقدة مع شركات خاصة بالمعالجة النفايات الطبية. وبالتالي يكون الخطر محدق سواء على البيئة او على الأشخاص..

 فكما صرحت مريم ( إسم مستعار) : رفضت الإدلاء بهويتها لأسباب شخصية) في مقابلة معها امام المصب أن شخصين من الحي مؤخرا توفيا بمرض السرطان جراء النفايات الطبية الخطرة.

سيناريو يومي يتكرر بمصب برج شاكير، نفايات تنقل دون معالجة على متن شاحنات تابعة لشركات تختص بمعالجة النفايات الطبية، وهو ما يمثل خطرا على سكان حي العطار.

 يكشف هذا التحقيق العديد من الإخلالات والتي تتمثل في إستقبال مصب برج شاكير كميات من النفايات الطبية الخطرة الغير معالجة مما تتسبب في أضرار صحية للبرباشة وأضرار بيئية تؤثر على المكان المحيط بالمصب، في ظل عدم إحترام القانون المنظم للتخلص من النفايات الطبية وغياب الرقابة أمام تخاذل الشركة الوطنية للتصرف في النفايات ووزارات الإشراف.

358049239_1428200528021755_6413697523154290416_n.jpg

مصب برج شاكير ... من مكان للتخلص من النفايات إلى  بؤرة للأمراض .

أحدثت سنة 1997 كراس شروط بخصوص مراقبة وإدارة النفايات وكيفية تثمينها بالإتفاق مع الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، وقد نصت هذه الكراس على مشروع برج شاكير كمصب مراقب للنفايات .

ثم سنة 1999، أحدث رسميا المصب بمنطقة برج شاكير بحي العطار ببلدية سيدي حسين. فهي ليست منطقة نائية من السكان بل فيها بعض المساكن والمدارس وغيرها حسب ما أفادنا به محمد وهو أحد متساكني منطقة سيدي حسين.

قدمت الدولة التونسية سنة  2009 طلب عروض بخصوص إستغلال مصب برج شاكير، وقد تم إسناد الرخصة لشركة "بيزورنوا" الفرنسية وهي شركة تختص بجمع ونقل النفايات بجميع أنواعها سواء المنزلية أو الصناعية، لكن سرعان ما أثيرت ضد هذه الشركة العديد من الإتهامات بعد الثورة مباشرة(جانفي 2011)، إذ أثارت الهيئة الوطنية لتقصي الحقائق حول الرشوة والفساد دعوى قضائية ضد هذه الشركة إتهمتها بحصولها على الرخصة بالمحاباة والعلاقات الخاصة التي تجمع الوزير الفرنسي ليوتر ورئيس الجمهورية زين العابدين بن علي أنذاك.حيث إنتهت بحكم قضائي ينص على فسخ هذا العقد.

تداولت العديد من الشركات على إستغلال المصب كالشركة المذكورة وشركة ايكوتي الايطالية وغيرها، لكن سرعان ما بدأت سعة المصب تفوق الحد الأقصى سنة 2015، بعد أربع سنوات قرر وزير الشؤون المحلية إحداث مركز معالجة وتثمين للنفايات بمنطقة المصب إلا أنه فوجئى بالرفض  من قبل رئيس بلدية سيدي حسين مع توجيه تنبيه للوكالة الوطنية للتصرف في النفايات عبر عدل منفذ وذلك بسبب الأضرار التي لحقت بالسكان . فقد إحتج العديد من مكونات المجتمع المدني حول التنديد بإستمراريته، فقد نشأت حملة مجتمعية كاملة بعنوان "سكر المصب" بجهة سيدي حسين وقد لقت رواجا كبيرا ومساندة لكن سرعان ما تلاشت وفقا ما صرحت به لنا العضو المستشار بالمجلس البلدي بسيدي حسين إشراق رحومة.

 إن السبب الرئيسي لإحتجاجات سكان حي العطار ، هو الأضرار الحاصلة للعاملين فيه " البرباشة" جراء النفايات وخاصة النفايات الطبية الخطرة التي تنتجها المنظومة الصحية في العاصمة ولا يعلم أحد هل يتم معالجتها وفقا للمعايير التي وضعها القانون أم لا ؟

مآل النفايات الطبية التي تنتجها المنظومة الصحية

عرف القانون النفايات الطبية الخطرة صلب الفصل 2 من الأمر 2745 لسنة 2008 مؤرخ في 28 جويلية 2008 بأنها " كل مخلف إنتاج أو تحويل أو استعمال مواد أو منتوجات بالمؤسسات الصحية وبصفة عامة كل منقول يتخلص منه أو ينوى التخلص منه وتكون هذه النفايات ناتجة عن أنشطة التشخيص أو المتابعة أو الأنشطة الوقائية أو العلاجية أو الملطخة في ميدان الطب البشري." علاوة على هذا التعريف لم يترك المشرع التونسي بابا للتأويل فقط ضبط قائمة النفايات الخطرة بمقتضى الأمر عدد 2339 لسنة 2000 المؤرخ في 10 أكتوبر2000، وبالتالي القانون التونسي ضبط بشكل دقيق هذه النفايات الطبية الخطرة .

يبدأ مسار النفايات الطبية الخطرة من المستشفيات حيث يتم جمعها وفرزها ثم تخزينها بالأقسام في أكياس صفراء معنونة بإسم النفايات وذلك وفقا للمعايير الدولية لحفظ النفايات الطبية الخطرة، من ثم يتم التخزين بالمركز الموجود في المستشفيات وصولا إلى وضع هذه الأكياس في الشاحنة لنقلها للمعالجة بالشركات الخاصة.

عاينا هذه العملية رفقة ممرضة( إمتنعت عن ذكر إسمها) بأحد مستشفيات العاصمة، وكانت عملية الجمع والفرز تتم داخل المستشفى طبقا للقانون والمعايير الدولية.

إذا السؤال الذي يطرح، أين يكمن الخلل ؟

بعد نقل هذه الشاحنات للنفايات الطبية الخطرة إلى الشركات المختصة بالمعالجة أين يتم فرزها مرة ثانية ومعالجتها وهي تخضع لإجراءات وتراتيب معتمدة. إذ أكد الخبير في النفايات  السيد جلال بوزيد أنه توجد تقنيات معتمدة في معالجة النفايات إما عن طريق الحرق أو عن طريق الرحي ثم المعالجة أو تطهيرها من الباكتيريا الخطرة لكي تصبح مهيئة للردم مثلها مثل النفايات المنزلية التي ليس فيها ضرر على الصحة ، في الوقت ذاته الدولة  محمولة على المراقبة سواء من طرف الوكالة الوطنية للتصرف في النفايات أو الوكالة الوطنية لحماية المحيط والتي أوكلت لها مهمة العقوبات وضبط المخالفات.لكن هذه المراقبة لا تتم أحيانا وفق ما أكده السيد محمد السليماني ممثل جمعية أفاق للأمن الداخلي والديوانة والتي تعنى بالمجال البيئي، حيث أشار إلى أن هذه الشركات هي المتسببة في الإخلالات فهي تقوم بمعالجة النفايات بمقابل مادي، فعوض أن تقوم بواجبها على أكمل وجه نجدها تلقى بالنفايات الطبية الخطرة بالمصبات وعلى قارعة الطريق دون معالجة، مما خلق نوعا من  الفساد المقنن في ظل غياب المحاسبة .

وللتعمق في مسار الشركات الخاصة بالمعالجة، أردنا معرفة ماهي المعايير المعتمدة للحصول على رخصة لممارسة نشاط معالجة النفايات الطبية الخطرة حيث أن القانون أشار إلى المهام والإجراءات ولم يشر إلى المعايير المعتمدة لإعطاء رخصة لهذه الشركات، توجهنا إلى الموقع الإلكتروني للوكالة الوطنية للتصرف في النفايات قصد الإطلاع على كراس الشروط الموضوعة من قبل الوكالة والتي تنظم عمل هذه الشركات من قبل الحصول على الرخصة إلى حين إنتهاء المهام.لكن فوجئنا بعدم وجود أي وثيقة في الغرض.

 أرسلنا مطلب نفاذ إلى المعلومة إلى الوكالة وذلك للإطلاع على العقد المبرم بين الوزارة بصفتها الهيكل المخول له قانونيا إعطاء الرخصة والشركة الخاصة بالمعالجة، كذلك على كراس الشروط.

بعد أيام من إرسال المطلب تلقينا الرد، حيث أجابتنا المكلفة بالنفاذ إلى المعلومة بأنه لا توجد كراس شروط ولا يوجد عقد بين الوزارة وبين الشركات

وهو ما يدفعنا إلى التساؤل  كيف تسند هذه الرخص وعلى أي أساس ؟

توجد 11 شركة خاصة لمعالجة النفايات الطبية بتونس وهي مقسمة على كامل تراب الجمهورية، كلها تتقاسم نفس الوظائف، إذ تختص بجمع ونقل ومعالجة النفايات الطبية. تتم عملية المعالجة في ظرف 24 ساعة منذ وصولها للشركة ولا يجب أن تتجاوز هذه المدة.

يقول محمد سليماني ممثل جمعية أفاق للأمن والديوانة أن اغلبية الشركات لا تحترم هذه المدة بل وتصل مدة تخزين النفايات الطبية الخطرة أحيانا لأكثر من 48 ساعة وهو ما يسبب خطرا على البيئة.

أردنا معرفة هذا المعيار من عدمه، إذ لم ينص المشرع التونسي على مدة التخزين بالقوانين، توجهنا للوكالة الوطنية لحماية المحيط للحصول على نسخة من دليل التصرف في النفايات الطبية لم تم إعلامنا أنه موجود بالوكالة الوطنية للتصرف في النفايات التي أخبرتنا بدورها في مطلب النفاذ للمعلومة سابقا أنها لا يوجد كراس شروط ولا عقد بين الوزارة والشركة يضبط ما للشركة وما عليها .

تحصلنا على مطلب لإحدى الشركات الخاصة بالمعالجة إلى الوكالة الوطنية لحماية المحيط ،موضوعه دراسة المؤثرات على المحيط حول نقل مكان الشركة موضوع المطلب إلى مكان ثان، إذ من بين الشروط الموجودة بهذا الرد " عدم تجاوز مدة الخزن قبل المعالجة 24 ساعة". كذلك " نقل النفايات الإستشفائية المعالجة( المعقمة) إلى مصب مراقب. ولكن بالرجوع إلى مكان المصب عايننا وجود العديد من النفايات غير المعالجة ملقاة على الطريق المؤدي إلى برج شاكير، وهو ما أفادتنا به  فاطمة، التي كشفت ان شخصين من سكان حي العطار توفيا مؤخرا جراء النفايات الطبية الخطرة وغيرهم من الضحايا، كذلك هناك أشخاص وافتهم المنية بالمرض الخبيث جراء النفايات الطبية.

بعد عرض هذه الشهادات على الخبير الدولي في البيئة عادل الهنتاتي أكد لنا هذه الشهادات وصحتها، كما أكد أن 40 بالمئة من النفايات في المصبات هي نفايات إستشفائية خطرة يتم ردمها مع النفايات العادية وهو ما سبب العديد من الأضرار سواء البيئية أو الصحية.

 حاولنا الدخول للمصب العديد من المرات لكن تم منعنا وذلك لعدم وجود ترخيص، مما دفعنا للدخول من الباب الخلفي للمصب وهو فتحة صغيرة يمكن الولوج منها.

 العاملون هناك يستنشقون الهواء المتسخ ولا يبالون لأن لهم هدف وحيد وهو كسب الرزق وتحصيل قوت اليوم، وجدنا عامل بالمصب "برباش" جالس ماسك لرأسه من الروائح الكريهة، محتمي بحائط المصب من اشعة الشمس، حاولنا التحدث معه لكنه رفض عندما رأى بيدنا هاتف و دون أن يبين لنا الأسباب.

 بعد البحث على سبب عدم تجاوب العاملين بالمصب معنا رغم أن جزء من هذا التحقيق يفضح الوضعية المزرية التي يعيشونها، تبين لنا من السكان هناك أن البرباشة لايريدون التصريح والشكوى خوفا على قوتهم ومصدر رزقهم وهو العمل بالمصب والذي يسبب لهم أضرار عديدة ...

أضرار صحية وبيئية لا تنتهى ...

رغم تنصيص المشرع صلب الفصل 24- من قانون 41 لسنة 1996 مؤرخ في 10 جوان  1996- على" أهمية التصرف في النفايات بشرط أن لا تتسبب في أي خطر على صحة الإنسان وبدون أن تستعمل طرق وأساليب يمكن أن تضر بالبيئة وخاصة بالماء والهواء ..."، لكن ما أفرزه الواقع مخالف تماماً لما على أوراق القانون، إذ تقول مريم أن الماء غير صالح للشراب وتفاقم الوضع أكثر بعد إنشاء مكان خاص بالسوائل داخل المصب، ولا نعلم مدى عمقه ومدى خطورته على المائدة المائية.

على مستوى التلوث الهوائي الجميع يشكوا من الروائح، حتى عند زيارتي الأولى لهذا المصب في إطار إنجاز التحقيق أُغمي علي، حيث إضطر الفريق المصاحب لي نقلي إلى الإستعجالي لكي يتم تزويدي بالإكسيجين جراء الضيق الذي حدث لي بسبب الروائح.

روت لنا "سارة" معاناتها كساكنة في الحي المجاور للمصب ويبعد كيلومترات عنه إلا أنها تصلها الروائح الكريهة المتسببة  في أمراض على مستوى الرئتين وضيق التنفس .

بحثنا عن أقرب طبيب للمصب من حيث المساحة الجغرافية وذلك بإعتماد تقنية قوقل مابس ، فوجدنا البيانات عبر الإنترنات وإتصلنا بالدكتور أحمد بن   رحومة لمعاينة الحالات التي تأتي إليه جراء هذا المصب، حيث أكد لنا أن النفايات الطبية الخطرة يجب حفظها بطريقة علمية حتى لا تسبب أضرار صحية، فالعديد من المرضى الذين قدموا له ثبتت إصابتهم بأمراض مصدرها  المصب .فعلاوة عن الأمراض الجلدية، هناك من يأتون له بسبب أمراض تنفسية وإلتهابات مزمنة في قصبات الهواء بإعتبار المصب له دور فيها لما يفرزه من روائح وباكتيريا وتلوث للهواء بسبب الحرق.

إتصلنا بالسيد وليم المرداسي الناطق الرسمي للغرفة الوطنية لتجميع ونقل ومعالجة النفايات الخطرة العديد من المرات وذلك للرد على الإتهامات الموجهة للشركات الخاصة بالمعالجة بكن دون جدوى.

  تحقيق استقصائي في مصب برج شاكير .. "عشرة" بين "البرباشة" و الموت ..وإخلالات  تنغص العيش.. !!

 تحقيق :وفاء الطرابلسي

كان ذلك صباح يوم الإربعاء الثاني من شهر نوفمبر, حينما حثثت الخطى نحو مصب برج شاكير. في كل خطوة أتقدمها كانت الروائح أسرع إلى الأنفاس من حبل الوريد، كانت الدقائق تمر بطيئة جدا مع أني خلت أني قضيت نزرا عظيما من الزمن إلى أن وصلت إلى خضم هذا المصب، أين تؤود الأرواح وتغتال الكرامات.

كانت رائحة الموت تحف المكان، أين يعاضد الموتُ الموتَ، أين يتلاشي بصيص الحياة. المصب يمنة ومقبرة يسودها الظلام يسرة، وكأن هذه المقبرة صرخة تنادي كل وهلة العاملين بالمصب " لامناص مني ولامفر ...أنا موطنكم ومثواكم الأخير.

تقول فاطمة وهي من سكان حي العطار المحاذي للمصب :" سئمنا العيش هنا، لا مسؤول ينظر إلينا ولا دولة تلتفت لهذا الحي...أغلبنا أصيب بأمراض تنفسية جراء مخلفات المصب، فقد كانت وفاة زوجي بهذا السبب".

أُحدث مصب برج شاكير سنة 1999 ليستوعب النفايات المنزلية بمختلف أنواعها سواء العادية أو الخطرة لبلديات العاصمة والولايات المجاورة لها( بن عروس- أريانة- منوبة)، ففي هذا المصب تدفن ملايين طن من النفايات سنويا وبمعدل 3000 طن يومياً ولا أحد يعلم مكونات تلك النفايات وما إذ يتم رسكلتها وكيفية التخلص منها سواء بالردم أو بالحرق؟

ما يزال إشكال التصرف في النفايات الطبية مطروحا منذ مدة طويلة، فرغم أن الدولة وضعت خطة كاملة لمعالجة وتثمين النفايات منذ سنة 2008، وأوكلت هذه المهمة إلى شركات خاصة للتصرف فيها، إلا أنها لم تحقق الأهداف التي وضعت من أجلها، ذلك أن سلطات الإشراف لا تمارس الرقابة على مسار معالجة النفايات وخاصة النفايات الطبية الخطرة بالضرورة، وذلك لما يسببه هذا النوع من النفايات من أضرار صحية وبيئية.

حسب المعهد الوطني للإحصاء تتكون المنظومة الصحية من 8359 عيادة خاصة، 102 مصحة علاوة على 3315 عيادات أسنان. أما بالنسبة للقطاع العام فيتكون من 15 مستشفى و 22 مركزا مختصا و31 مستشفى جهويا و 108 محليا.

 .ووفق لإحصائيات رسمية، تقدر كمية النفايات التي تنتجها المنظومة بحوالى 3.2 مليون طن منها 8 ألاف طن نفايات طبية خطرة. لكن هذه الأخيرة لا تعالج كلها، إذ أن المرافق الصحية سواء عمومية أو خاصة ليست جميعها متعاقدة مع شركات خاصة بالمعالجة النفايات الطبية. وبالتالي يكون الخطر محدق سواء على البيئة او على الأشخاص..

 فكما صرحت مريم ( إسم مستعار) : رفضت الإدلاء بهويتها لأسباب شخصية) في مقابلة معها امام المصب أن شخصين من الحي مؤخرا توفيا بمرض السرطان جراء النفايات الطبية الخطرة.

سيناريو يومي يتكرر بمصب برج شاكير، نفايات تنقل دون معالجة على متن شاحنات تابعة لشركات تختص بمعالجة النفايات الطبية، وهو ما يمثل خطرا على سكان حي العطار.

 يكشف هذا التحقيق العديد من الإخلالات والتي تتمثل في إستقبال مصب برج شاكير كميات من النفايات الطبية الخطرة الغير معالجة مما تتسبب في أضرار صحية للبرباشة وأضرار بيئية تؤثر على المكان المحيط بالمصب، في ظل عدم إحترام القانون المنظم للتخلص من النفايات الطبية وغياب الرقابة أمام تخاذل الشركة الوطنية للتصرف في النفايات ووزارات الإشراف.

358049239_1428200528021755_6413697523154290416_n.jpg

مصب برج شاكير ... من مكان للتخلص من النفايات إلى  بؤرة للأمراض .

أحدثت سنة 1997 كراس شروط بخصوص مراقبة وإدارة النفايات وكيفية تثمينها بالإتفاق مع الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، وقد نصت هذه الكراس على مشروع برج شاكير كمصب مراقب للنفايات .

ثم سنة 1999، أحدث رسميا المصب بمنطقة برج شاكير بحي العطار ببلدية سيدي حسين. فهي ليست منطقة نائية من السكان بل فيها بعض المساكن والمدارس وغيرها حسب ما أفادنا به محمد وهو أحد متساكني منطقة سيدي حسين.

قدمت الدولة التونسية سنة  2009 طلب عروض بخصوص إستغلال مصب برج شاكير، وقد تم إسناد الرخصة لشركة "بيزورنوا" الفرنسية وهي شركة تختص بجمع ونقل النفايات بجميع أنواعها سواء المنزلية أو الصناعية، لكن سرعان ما أثيرت ضد هذه الشركة العديد من الإتهامات بعد الثورة مباشرة(جانفي 2011)، إذ أثارت الهيئة الوطنية لتقصي الحقائق حول الرشوة والفساد دعوى قضائية ضد هذه الشركة إتهمتها بحصولها على الرخصة بالمحاباة والعلاقات الخاصة التي تجمع الوزير الفرنسي ليوتر ورئيس الجمهورية زين العابدين بن علي أنذاك.حيث إنتهت بحكم قضائي ينص على فسخ هذا العقد.

تداولت العديد من الشركات على إستغلال المصب كالشركة المذكورة وشركة ايكوتي الايطالية وغيرها، لكن سرعان ما بدأت سعة المصب تفوق الحد الأقصى سنة 2015، بعد أربع سنوات قرر وزير الشؤون المحلية إحداث مركز معالجة وتثمين للنفايات بمنطقة المصب إلا أنه فوجئى بالرفض  من قبل رئيس بلدية سيدي حسين مع توجيه تنبيه للوكالة الوطنية للتصرف في النفايات عبر عدل منفذ وذلك بسبب الأضرار التي لحقت بالسكان . فقد إحتج العديد من مكونات المجتمع المدني حول التنديد بإستمراريته، فقد نشأت حملة مجتمعية كاملة بعنوان "سكر المصب" بجهة سيدي حسين وقد لقت رواجا كبيرا ومساندة لكن سرعان ما تلاشت وفقا ما صرحت به لنا العضو المستشار بالمجلس البلدي بسيدي حسين إشراق رحومة.

 إن السبب الرئيسي لإحتجاجات سكان حي العطار ، هو الأضرار الحاصلة للعاملين فيه " البرباشة" جراء النفايات وخاصة النفايات الطبية الخطرة التي تنتجها المنظومة الصحية في العاصمة ولا يعلم أحد هل يتم معالجتها وفقا للمعايير التي وضعها القانون أم لا ؟

مآل النفايات الطبية التي تنتجها المنظومة الصحية

عرف القانون النفايات الطبية الخطرة صلب الفصل 2 من الأمر 2745 لسنة 2008 مؤرخ في 28 جويلية 2008 بأنها " كل مخلف إنتاج أو تحويل أو استعمال مواد أو منتوجات بالمؤسسات الصحية وبصفة عامة كل منقول يتخلص منه أو ينوى التخلص منه وتكون هذه النفايات ناتجة عن أنشطة التشخيص أو المتابعة أو الأنشطة الوقائية أو العلاجية أو الملطخة في ميدان الطب البشري." علاوة على هذا التعريف لم يترك المشرع التونسي بابا للتأويل فقط ضبط قائمة النفايات الخطرة بمقتضى الأمر عدد 2339 لسنة 2000 المؤرخ في 10 أكتوبر2000، وبالتالي القانون التونسي ضبط بشكل دقيق هذه النفايات الطبية الخطرة .

يبدأ مسار النفايات الطبية الخطرة من المستشفيات حيث يتم جمعها وفرزها ثم تخزينها بالأقسام في أكياس صفراء معنونة بإسم النفايات وذلك وفقا للمعايير الدولية لحفظ النفايات الطبية الخطرة، من ثم يتم التخزين بالمركز الموجود في المستشفيات وصولا إلى وضع هذه الأكياس في الشاحنة لنقلها للمعالجة بالشركات الخاصة.

عاينا هذه العملية رفقة ممرضة( إمتنعت عن ذكر إسمها) بأحد مستشفيات العاصمة، وكانت عملية الجمع والفرز تتم داخل المستشفى طبقا للقانون والمعايير الدولية.

إذا السؤال الذي يطرح، أين يكمن الخلل ؟

بعد نقل هذه الشاحنات للنفايات الطبية الخطرة إلى الشركات المختصة بالمعالجة أين يتم فرزها مرة ثانية ومعالجتها وهي تخضع لإجراءات وتراتيب معتمدة. إذ أكد الخبير في النفايات  السيد جلال بوزيد أنه توجد تقنيات معتمدة في معالجة النفايات إما عن طريق الحرق أو عن طريق الرحي ثم المعالجة أو تطهيرها من الباكتيريا الخطرة لكي تصبح مهيئة للردم مثلها مثل النفايات المنزلية التي ليس فيها ضرر على الصحة ، في الوقت ذاته الدولة  محمولة على المراقبة سواء من طرف الوكالة الوطنية للتصرف في النفايات أو الوكالة الوطنية لحماية المحيط والتي أوكلت لها مهمة العقوبات وضبط المخالفات.لكن هذه المراقبة لا تتم أحيانا وفق ما أكده السيد محمد السليماني ممثل جمعية أفاق للأمن الداخلي والديوانة والتي تعنى بالمجال البيئي، حيث أشار إلى أن هذه الشركات هي المتسببة في الإخلالات فهي تقوم بمعالجة النفايات بمقابل مادي، فعوض أن تقوم بواجبها على أكمل وجه نجدها تلقى بالنفايات الطبية الخطرة بالمصبات وعلى قارعة الطريق دون معالجة، مما خلق نوعا من  الفساد المقنن في ظل غياب المحاسبة .

وللتعمق في مسار الشركات الخاصة بالمعالجة، أردنا معرفة ماهي المعايير المعتمدة للحصول على رخصة لممارسة نشاط معالجة النفايات الطبية الخطرة حيث أن القانون أشار إلى المهام والإجراءات ولم يشر إلى المعايير المعتمدة لإعطاء رخصة لهذه الشركات، توجهنا إلى الموقع الإلكتروني للوكالة الوطنية للتصرف في النفايات قصد الإطلاع على كراس الشروط الموضوعة من قبل الوكالة والتي تنظم عمل هذه الشركات من قبل الحصول على الرخصة إلى حين إنتهاء المهام.لكن فوجئنا بعدم وجود أي وثيقة في الغرض.

 أرسلنا مطلب نفاذ إلى المعلومة إلى الوكالة وذلك للإطلاع على العقد المبرم بين الوزارة بصفتها الهيكل المخول له قانونيا إعطاء الرخصة والشركة الخاصة بالمعالجة، كذلك على كراس الشروط.

بعد أيام من إرسال المطلب تلقينا الرد، حيث أجابتنا المكلفة بالنفاذ إلى المعلومة بأنه لا توجد كراس شروط ولا يوجد عقد بين الوزارة وبين الشركات

وهو ما يدفعنا إلى التساؤل  كيف تسند هذه الرخص وعلى أي أساس ؟

توجد 11 شركة خاصة لمعالجة النفايات الطبية بتونس وهي مقسمة على كامل تراب الجمهورية، كلها تتقاسم نفس الوظائف، إذ تختص بجمع ونقل ومعالجة النفايات الطبية. تتم عملية المعالجة في ظرف 24 ساعة منذ وصولها للشركة ولا يجب أن تتجاوز هذه المدة.

يقول محمد سليماني ممثل جمعية أفاق للأمن والديوانة أن اغلبية الشركات لا تحترم هذه المدة بل وتصل مدة تخزين النفايات الطبية الخطرة أحيانا لأكثر من 48 ساعة وهو ما يسبب خطرا على البيئة.

أردنا معرفة هذا المعيار من عدمه، إذ لم ينص المشرع التونسي على مدة التخزين بالقوانين، توجهنا للوكالة الوطنية لحماية المحيط للحصول على نسخة من دليل التصرف في النفايات الطبية لم تم إعلامنا أنه موجود بالوكالة الوطنية للتصرف في النفايات التي أخبرتنا بدورها في مطلب النفاذ للمعلومة سابقا أنها لا يوجد كراس شروط ولا عقد بين الوزارة والشركة يضبط ما للشركة وما عليها .

تحصلنا على مطلب لإحدى الشركات الخاصة بالمعالجة إلى الوكالة الوطنية لحماية المحيط ،موضوعه دراسة المؤثرات على المحيط حول نقل مكان الشركة موضوع المطلب إلى مكان ثان، إذ من بين الشروط الموجودة بهذا الرد " عدم تجاوز مدة الخزن قبل المعالجة 24 ساعة". كذلك " نقل النفايات الإستشفائية المعالجة( المعقمة) إلى مصب مراقب. ولكن بالرجوع إلى مكان المصب عايننا وجود العديد من النفايات غير المعالجة ملقاة على الطريق المؤدي إلى برج شاكير، وهو ما أفادتنا به  فاطمة، التي كشفت ان شخصين من سكان حي العطار توفيا مؤخرا جراء النفايات الطبية الخطرة وغيرهم من الضحايا، كذلك هناك أشخاص وافتهم المنية بالمرض الخبيث جراء النفايات الطبية.

بعد عرض هذه الشهادات على الخبير الدولي في البيئة عادل الهنتاتي أكد لنا هذه الشهادات وصحتها، كما أكد أن 40 بالمئة من النفايات في المصبات هي نفايات إستشفائية خطرة يتم ردمها مع النفايات العادية وهو ما سبب العديد من الأضرار سواء البيئية أو الصحية.

 حاولنا الدخول للمصب العديد من المرات لكن تم منعنا وذلك لعدم وجود ترخيص، مما دفعنا للدخول من الباب الخلفي للمصب وهو فتحة صغيرة يمكن الولوج منها.

 العاملون هناك يستنشقون الهواء المتسخ ولا يبالون لأن لهم هدف وحيد وهو كسب الرزق وتحصيل قوت اليوم، وجدنا عامل بالمصب "برباش" جالس ماسك لرأسه من الروائح الكريهة، محتمي بحائط المصب من اشعة الشمس، حاولنا التحدث معه لكنه رفض عندما رأى بيدنا هاتف و دون أن يبين لنا الأسباب.

 بعد البحث على سبب عدم تجاوب العاملين بالمصب معنا رغم أن جزء من هذا التحقيق يفضح الوضعية المزرية التي يعيشونها، تبين لنا من السكان هناك أن البرباشة لايريدون التصريح والشكوى خوفا على قوتهم ومصدر رزقهم وهو العمل بالمصب والذي يسبب لهم أضرار عديدة ...

أضرار صحية وبيئية لا تنتهى ...

رغم تنصيص المشرع صلب الفصل 24- من قانون 41 لسنة 1996 مؤرخ في 10 جوان  1996- على" أهمية التصرف في النفايات بشرط أن لا تتسبب في أي خطر على صحة الإنسان وبدون أن تستعمل طرق وأساليب يمكن أن تضر بالبيئة وخاصة بالماء والهواء ..."، لكن ما أفرزه الواقع مخالف تماماً لما على أوراق القانون، إذ تقول مريم أن الماء غير صالح للشراب وتفاقم الوضع أكثر بعد إنشاء مكان خاص بالسوائل داخل المصب، ولا نعلم مدى عمقه ومدى خطورته على المائدة المائية.

على مستوى التلوث الهوائي الجميع يشكوا من الروائح، حتى عند زيارتي الأولى لهذا المصب في إطار إنجاز التحقيق أُغمي علي، حيث إضطر الفريق المصاحب لي نقلي إلى الإستعجالي لكي يتم تزويدي بالإكسيجين جراء الضيق الذي حدث لي بسبب الروائح.

روت لنا "سارة" معاناتها كساكنة في الحي المجاور للمصب ويبعد كيلومترات عنه إلا أنها تصلها الروائح الكريهة المتسببة  في أمراض على مستوى الرئتين وضيق التنفس .

بحثنا عن أقرب طبيب للمصب من حيث المساحة الجغرافية وذلك بإعتماد تقنية قوقل مابس ، فوجدنا البيانات عبر الإنترنات وإتصلنا بالدكتور أحمد بن   رحومة لمعاينة الحالات التي تأتي إليه جراء هذا المصب، حيث أكد لنا أن النفايات الطبية الخطرة يجب حفظها بطريقة علمية حتى لا تسبب أضرار صحية، فالعديد من المرضى الذين قدموا له ثبتت إصابتهم بأمراض مصدرها  المصب .فعلاوة عن الأمراض الجلدية، هناك من يأتون له بسبب أمراض تنفسية وإلتهابات مزمنة في قصبات الهواء بإعتبار المصب له دور فيها لما يفرزه من روائح وباكتيريا وتلوث للهواء بسبب الحرق.

إتصلنا بالسيد وليم المرداسي الناطق الرسمي للغرفة الوطنية لتجميع ونقل ومعالجة النفايات الخطرة العديد من المرات وذلك للرد على الإتهامات الموجهة للشركات الخاصة بالمعالجة بكن دون جدوى.

  Conception & Réalisation  Alpha Studios Copyright © 2023  assabahnews