كان الجو ماطرا ذات مساء رمضاني قبيل موعد الافطار. كنت اقود السيارة في الطريق الرابطة بين احياء المروج الممتدة ومنطقة باردو.
عل جنبات الطريق استوقفتني خيام منصوبة و ادباش معلقة على حبل غسيل على مقربة من نهر. خيام تحيطها بعض الابل و اكوام من الحطب مجمعة في شكل ما يسمى "الكيب".مظاهر لعيش بدوي على تخوم المدينة الممتدة امام ابصارهم..
أوقفت السيارة وسلكت طريقا من الوحل نحو خيام ثلاث فشاهدت نساء يتراجعن ليختبئن وراء مدخل الخيمة.لم يكن اختفاؤهن اختباء من زخات المطر،لقد كان خوفا من سيدة تتقدم نحوهن تحاول استطلاع الامر.
من داخل الخيمة يتقدم رجل بقشابية يريد ان يفهم ما الذي اتى بي في ذلك الجو الماطر. بدا محترزا من الحديث،شحيح الكلام.
اعلمته اني صحافية و اريد ان افهم طريقة عيشهم...لازال عاجزا الارتباك باديا على محياه،انهم يعيشون هنا بعيدا عن كل مظاهر الخضارة التي تبعد عنهم امتارا قليلة و سنوات ضوئية من القطيعة مع سكان المدن.
سالته مستغربة:لماذا تعيشون وسط الخيام و هذه الاوحال؟من اين جئتم؟
حدثني دون ان يكشف عن اسمه: "لقد جئنا من مدينة تالة، منذ اشهر و نحن نعيش هنا وسط هذه الخيام،انا و اطفالي السبعة..."
طلبت منه ان اصور الأجواء، بدا غير موافق..لكنه تراجع وقبل ان ابدا عملية التصوير دون الحديث اليه...
على الجانب الاخر من الطريق توقفت سيارة أخرى لينزل منها رجل يحمل في يده علبة بلورية،انه يبحث عن حليب الابل دواء لاخته العليلة.
واصلت التصوير فاذا بسيدة تخرج من وراء خيمتها غاضبة. توجهت نحوي بانفعال وطلبت ان اتوقف عن التصوير. حاولت ان اهدئ من روعها، هي تحتاج بعض الوقت لتحلب ناقتها لتبيع لبنها. فمن حليب النياق وتربية المواشي يقتاتون، وسط المدينة وعلى أطرافها بدا المشهد مختلفا،انهم البدو الرحل. ينصبون خيامهم بارض على تخوم المدينة.يمضون فيها اشهرا ثم يرحلون الى وجهة أخرى نحول مدن الشمال الغربي.
خاطبتني السيدة بلهجة صارمة لتقول:"نحن لا نحب ان تصوري شيئا هنا،كل ما اريد ان أقوله اننا راضون بهذا الوضع المزري، هذه حياتنا، نقتات نهارا وننتظر غدنا دون أي طموح في تحسن الوضع، ارجو ان تغادري فلا انت و لا صورك ستغير من وضعنا شيئا، نعيش هنا فقرنا وحتى أطفالنا لا يذهبون الى المدارس..."
بدت السيدة في اوج التشنج، طمانتها باني لن اصور، ووسط الاوحال والطين و تحت المطر كان طفلها الصغير بنعله المرقع يلعب وسط بركة من الماء...لا ادري ان كان يشعر بما شعرت به من برد النسمات الشتوية في تلك اللحظة.
كل ما كنت أدركه ان بريق تلك المدينة التي تمتد على جنباتها المغازات الفاخرة والمطاعم والعمارات الشاهقة، كانت تخفي وراءها نوعا آخر من حياة عائلات أمضت اعمارها تتنقل على أطراف المدن دون ان تكون لها أية علاقة بحياة سكان المناطق الحضرية.
هؤلاء هم الهطاية اذا..و الهطاية هم بدو رحل يجوبون المناطق بحثا عن المرعى لمواشيهم و الأماكن الخصبة التي يمكن ان يستقروا بها لمدة من الزمن ثم يغادرونها نحو وجهة أخرى...
تألمت لأني طردت من المكان دون توثيق كبير للتجربة.. لكن التجربة لم تتوقف...
فعلى بعد كيلومترين من الخيام الأولى تطالعني ثلاث خيام أخرى.. اوقفت السيارة.. فلعل نصيبي هنا اوفر من نصيبي مع بدو تالة...
من خلف الخيمة الرثة سارعت منجية الخطى نحوي...بدت مرحبة بي فاتحة ذراعيها لاستقبالي..بادرتني بالحديث:"هل اتيت يا سيدتي لمساعدتنا؟ كم ستعطينني لاشتري إفطار هذا اليوم؟
لم اتوفق في الإجابة على سؤالها، فقد طالعتني من وراء الخيمة الثانية طفلة صغيرة تلبس جبة خفيفة تحت امطار ذلك اليوم الشتوي..هي أيضا سالتني كم يمكن ان امد لها من نقود؟
تهاطلت علي أسئلة الجدة وحفيدتها حتى التحق بي ابنها وزوجته وطفلتهما ذات الست سنوات...وجدت نفسي محاطة بهم.. ينظرون الي كعابرة سبيل يمكن ان تمدهم بمساعدة مالية و انظر لوضعهم كقصة خارجة عن منطق سكان المدينة التي تطوق عماراتها خيامهم المتآكلة التي تقطر فوق رؤوسهم..كان حظي معهم اوفر في الحديث.
قادوني الي داخل الخيمة،او العشة كما يسمونها..
بدا كل شيء داخل الخيمة يوحي بحياة فقيرة وخصاصة تتجلى في ذلك الفراش المهترئ المبسوط فوق التراب..بعض من الاواني المسودة بالفحم الذي يستعملونه للطبخ...صندوق صغير فيه بعض الاثواب و اغطية خفيفة لا تقي المؤمن شر البرد...
ثلاث عائلات بأطفال بلغوا سن الدراسة و لم يدخلوا يوما قسما و لا تعلموا حرفا..لا اثر وسط خيامهم لمذياع و لا لتلفاز، يعيشون خارج العالم بعيدا عن كل اخبار الدنيا، قريبين جغرافيا من صخب العاصمة غير عابئين بما يحصل في المدن من صراعات،صراعهم فقط من اجل قوت يومهم، ببعض من الاكل و قوارير ماء وكثير من مساعدات يجود بها من يمرون بذلك المكان..
كنت أوثق بالكاميرا اثاثا متهالكا ولباسا مقطعا يلبسونه ونظرات طفلتين في عمر الزهور لا تعرفان معنى الدرس ولا تفكان رموز اللغة...ترثان عن الابوين ثقافة الترحال والعيش على ما تجود به نعاجهم وإبلهم وعابرو السبيل.
لم تكن الخالة ناجية متأكدة من عمرها الحقيقي. اخبرتني انها ربما بلغت الان سن الخامسة والستين، كل ما كانت تدركه انها سئمت الفقر. بادرتني بالشكوى:"انظري يا ابنتي، انظري الى هذا المعطف المقطع الذي البسه، انظري الى اصابعي المقيحة من فرط الاحتطاب. لا عائل لي فزوجي مقعد و انا لا اجد ما آكل. اوصلي شكواي الى رئيس الجمهورية. كل ما اتمناه سقفا يحميني من برد الشتاء وقر الصيف.
تضيف الخالة ناجية وهي تقودني نحو خيمتها: «أعيش هنا مع زوجي الطاعن في السن لقد ورثت تربية المواشي منذ القدم نحن نعيش كالبدو الرحل، فنسافر بمواشينا إلى أي مكان نجد فيه مرعى لكنني تعبت من هذا الوضع اريد فقط ان أعيش في بيت مبني من الاجر والاسمنت..."
وعدت الخالة ناجية ان أوصل صوتها. دعتني الى الإفطار عندهم، لقد طبخت اليوم كسكسيا على نار الحطب وسط خيمتها فالجو ماطر في الخارج ولا مطبخ لديها.
كان السؤال الذي يؤرقني: كيف لا يدرس الأطفال؟ سالت مرام الطفلة ذات عشر سنوات: هل ترغبين في الدراسة فاجابت :"نعم ارغب في الدراسة لكن لا استطيع، نحن ننتقل من هنا و لا املك الإمكانيات."
لكن ام مرام كانت تملك جوابا غريبا:"خذيها معك الى حيث تسكنين، خذي بنتي. يمكن ان تربيهما ودرسيهما فقط زوريني معهما في الأعياد لأراهما..."
كانت ام مرام شابة جميلة الملامح باسمة الوجه لكنها كانت تعني ما تقول. هي مستعدة لان تمنح ابنتيها سيما الصغرى لمن يريد ان يستفيد من خدماتها:"خذي ابنتي الصغرى درسيها، وحتى الكبرى مرام يمكن ان تساعدك في اعمال البيت. هي لن تجد مكانا افضل من منزل يأويها و لباس جميل و راحة في بيت من اسمنت و آجر. يمكنك ان تأخذيهما إذا ازعجك انهما لا تذهبان للمدرسة..."
بدت التجربة قاسية فقد يدفع الفقر أحيانا اما لان تتخلى عن ابنتيها لعلهما تضفران بحياة أكثر رفاهية من خيام متآكلة تعيش فيها عائلات لم تنعم يوما بنعيم الاستقرار.
امضيت وقتي أوثق وادون كل تلك التفاصيل، بدت لي الحياة في هذه المدينة مليئة بالتناقضات. فبين المدن الفارعة في الحضارة اليوم توجد عائلات لا شان لها بحياة الحضر تقتات من نعاجها وتفترش التراب. تجربة انتهت بنا الى الاتفاق حول زيارة أخرى لأحمل لهم بعض الادباش.
كنت اهم بالرحيل حين مدت ام مرام يدها نحو شعري تتحسسه وتقول:"انظروا الى لون شعرها، في المرة القادمة اجلبي لي صباغة لشعري ثم لا تنسي ان تحملي معك لباسا لابنتي الصغيرة...لا تنسي ذلك..."
وعدت ام مرام ان اعود واكملت طريقي فبعد كيلومترات قليلة سادخل عالم المدينة التي لا يعلم اغلب سكانها انه في الضفة الأخرى بدو رحل يعيشون وسط خيام تقطر شتاء لا يدفعون معلوم الكهرباء لأن لا كهرباء لهم. اكملت طريقي تاركة ورائي تجربة غريبة وكان المذياع في السيارة يعلن إجراءات حكومية جديدة بمنع جولان السيارات ليلا بسبب الجائحة...فهل يدرك هؤلاء الرحل معنى الأوبئة وهم يعيشون وباء الخصاصة كل يوم؟
لمشاهدة التقرير مصورا اضغط هنا...
روبرتاج مبروكة خذير
كان الجو ماطرا ذات مساء رمضاني قبيل موعد الافطار. كنت اقود السيارة في الطريق الرابطة بين احياء المروج الممتدة ومنطقة باردو.
عل جنبات الطريق استوقفتني خيام منصوبة و ادباش معلقة على حبل غسيل على مقربة من نهر. خيام تحيطها بعض الابل و اكوام من الحطب مجمعة في شكل ما يسمى "الكيب".مظاهر لعيش بدوي على تخوم المدينة الممتدة امام ابصارهم..
أوقفت السيارة وسلكت طريقا من الوحل نحو خيام ثلاث فشاهدت نساء يتراجعن ليختبئن وراء مدخل الخيمة.لم يكن اختفاؤهن اختباء من زخات المطر،لقد كان خوفا من سيدة تتقدم نحوهن تحاول استطلاع الامر.
من داخل الخيمة يتقدم رجل بقشابية يريد ان يفهم ما الذي اتى بي في ذلك الجو الماطر. بدا محترزا من الحديث،شحيح الكلام.
اعلمته اني صحافية و اريد ان افهم طريقة عيشهم...لازال عاجزا الارتباك باديا على محياه،انهم يعيشون هنا بعيدا عن كل مظاهر الخضارة التي تبعد عنهم امتارا قليلة و سنوات ضوئية من القطيعة مع سكان المدن.
سالته مستغربة:لماذا تعيشون وسط الخيام و هذه الاوحال؟من اين جئتم؟
حدثني دون ان يكشف عن اسمه: "لقد جئنا من مدينة تالة، منذ اشهر و نحن نعيش هنا وسط هذه الخيام،انا و اطفالي السبعة..."
طلبت منه ان اصور الأجواء، بدا غير موافق..لكنه تراجع وقبل ان ابدا عملية التصوير دون الحديث اليه...
على الجانب الاخر من الطريق توقفت سيارة أخرى لينزل منها رجل يحمل في يده علبة بلورية،انه يبحث عن حليب الابل دواء لاخته العليلة.
واصلت التصوير فاذا بسيدة تخرج من وراء خيمتها غاضبة. توجهت نحوي بانفعال وطلبت ان اتوقف عن التصوير. حاولت ان اهدئ من روعها، هي تحتاج بعض الوقت لتحلب ناقتها لتبيع لبنها. فمن حليب النياق وتربية المواشي يقتاتون، وسط المدينة وعلى أطرافها بدا المشهد مختلفا،انهم البدو الرحل. ينصبون خيامهم بارض على تخوم المدينة.يمضون فيها اشهرا ثم يرحلون الى وجهة أخرى نحول مدن الشمال الغربي.
خاطبتني السيدة بلهجة صارمة لتقول:"نحن لا نحب ان تصوري شيئا هنا،كل ما اريد ان أقوله اننا راضون بهذا الوضع المزري، هذه حياتنا، نقتات نهارا وننتظر غدنا دون أي طموح في تحسن الوضع، ارجو ان تغادري فلا انت و لا صورك ستغير من وضعنا شيئا، نعيش هنا فقرنا وحتى أطفالنا لا يذهبون الى المدارس..."
بدت السيدة في اوج التشنج، طمانتها باني لن اصور، ووسط الاوحال والطين و تحت المطر كان طفلها الصغير بنعله المرقع يلعب وسط بركة من الماء...لا ادري ان كان يشعر بما شعرت به من برد النسمات الشتوية في تلك اللحظة.
كل ما كنت أدركه ان بريق تلك المدينة التي تمتد على جنباتها المغازات الفاخرة والمطاعم والعمارات الشاهقة، كانت تخفي وراءها نوعا آخر من حياة عائلات أمضت اعمارها تتنقل على أطراف المدن دون ان تكون لها أية علاقة بحياة سكان المناطق الحضرية.
هؤلاء هم الهطاية اذا..و الهطاية هم بدو رحل يجوبون المناطق بحثا عن المرعى لمواشيهم و الأماكن الخصبة التي يمكن ان يستقروا بها لمدة من الزمن ثم يغادرونها نحو وجهة أخرى...
تألمت لأني طردت من المكان دون توثيق كبير للتجربة.. لكن التجربة لم تتوقف...
فعلى بعد كيلومترين من الخيام الأولى تطالعني ثلاث خيام أخرى.. اوقفت السيارة.. فلعل نصيبي هنا اوفر من نصيبي مع بدو تالة...
من خلف الخيمة الرثة سارعت منجية الخطى نحوي...بدت مرحبة بي فاتحة ذراعيها لاستقبالي..بادرتني بالحديث:"هل اتيت يا سيدتي لمساعدتنا؟ كم ستعطينني لاشتري إفطار هذا اليوم؟
لم اتوفق في الإجابة على سؤالها، فقد طالعتني من وراء الخيمة الثانية طفلة صغيرة تلبس جبة خفيفة تحت امطار ذلك اليوم الشتوي..هي أيضا سالتني كم يمكن ان امد لها من نقود؟
تهاطلت علي أسئلة الجدة وحفيدتها حتى التحق بي ابنها وزوجته وطفلتهما ذات الست سنوات...وجدت نفسي محاطة بهم.. ينظرون الي كعابرة سبيل يمكن ان تمدهم بمساعدة مالية و انظر لوضعهم كقصة خارجة عن منطق سكان المدينة التي تطوق عماراتها خيامهم المتآكلة التي تقطر فوق رؤوسهم..كان حظي معهم اوفر في الحديث.
قادوني الي داخل الخيمة،او العشة كما يسمونها..
بدا كل شيء داخل الخيمة يوحي بحياة فقيرة وخصاصة تتجلى في ذلك الفراش المهترئ المبسوط فوق التراب..بعض من الاواني المسودة بالفحم الذي يستعملونه للطبخ...صندوق صغير فيه بعض الاثواب و اغطية خفيفة لا تقي المؤمن شر البرد...
ثلاث عائلات بأطفال بلغوا سن الدراسة و لم يدخلوا يوما قسما و لا تعلموا حرفا..لا اثر وسط خيامهم لمذياع و لا لتلفاز، يعيشون خارج العالم بعيدا عن كل اخبار الدنيا، قريبين جغرافيا من صخب العاصمة غير عابئين بما يحصل في المدن من صراعات،صراعهم فقط من اجل قوت يومهم، ببعض من الاكل و قوارير ماء وكثير من مساعدات يجود بها من يمرون بذلك المكان..
كنت أوثق بالكاميرا اثاثا متهالكا ولباسا مقطعا يلبسونه ونظرات طفلتين في عمر الزهور لا تعرفان معنى الدرس ولا تفكان رموز اللغة...ترثان عن الابوين ثقافة الترحال والعيش على ما تجود به نعاجهم وإبلهم وعابرو السبيل.
لم تكن الخالة ناجية متأكدة من عمرها الحقيقي. اخبرتني انها ربما بلغت الان سن الخامسة والستين، كل ما كانت تدركه انها سئمت الفقر. بادرتني بالشكوى:"انظري يا ابنتي، انظري الى هذا المعطف المقطع الذي البسه، انظري الى اصابعي المقيحة من فرط الاحتطاب. لا عائل لي فزوجي مقعد و انا لا اجد ما آكل. اوصلي شكواي الى رئيس الجمهورية. كل ما اتمناه سقفا يحميني من برد الشتاء وقر الصيف.
تضيف الخالة ناجية وهي تقودني نحو خيمتها: «أعيش هنا مع زوجي الطاعن في السن لقد ورثت تربية المواشي منذ القدم نحن نعيش كالبدو الرحل، فنسافر بمواشينا إلى أي مكان نجد فيه مرعى لكنني تعبت من هذا الوضع اريد فقط ان أعيش في بيت مبني من الاجر والاسمنت..."
وعدت الخالة ناجية ان أوصل صوتها. دعتني الى الإفطار عندهم، لقد طبخت اليوم كسكسيا على نار الحطب وسط خيمتها فالجو ماطر في الخارج ولا مطبخ لديها.
كان السؤال الذي يؤرقني: كيف لا يدرس الأطفال؟ سالت مرام الطفلة ذات عشر سنوات: هل ترغبين في الدراسة فاجابت :"نعم ارغب في الدراسة لكن لا استطيع، نحن ننتقل من هنا و لا املك الإمكانيات."
لكن ام مرام كانت تملك جوابا غريبا:"خذيها معك الى حيث تسكنين، خذي بنتي. يمكن ان تربيهما ودرسيهما فقط زوريني معهما في الأعياد لأراهما..."
كانت ام مرام شابة جميلة الملامح باسمة الوجه لكنها كانت تعني ما تقول. هي مستعدة لان تمنح ابنتيها سيما الصغرى لمن يريد ان يستفيد من خدماتها:"خذي ابنتي الصغرى درسيها، وحتى الكبرى مرام يمكن ان تساعدك في اعمال البيت. هي لن تجد مكانا افضل من منزل يأويها و لباس جميل و راحة في بيت من اسمنت و آجر. يمكنك ان تأخذيهما إذا ازعجك انهما لا تذهبان للمدرسة..."
بدت التجربة قاسية فقد يدفع الفقر أحيانا اما لان تتخلى عن ابنتيها لعلهما تضفران بحياة أكثر رفاهية من خيام متآكلة تعيش فيها عائلات لم تنعم يوما بنعيم الاستقرار.
امضيت وقتي أوثق وادون كل تلك التفاصيل، بدت لي الحياة في هذه المدينة مليئة بالتناقضات. فبين المدن الفارعة في الحضارة اليوم توجد عائلات لا شان لها بحياة الحضر تقتات من نعاجها وتفترش التراب. تجربة انتهت بنا الى الاتفاق حول زيارة أخرى لأحمل لهم بعض الادباش.
كنت اهم بالرحيل حين مدت ام مرام يدها نحو شعري تتحسسه وتقول:"انظروا الى لون شعرها، في المرة القادمة اجلبي لي صباغة لشعري ثم لا تنسي ان تحملي معك لباسا لابنتي الصغيرة...لا تنسي ذلك..."
وعدت ام مرام ان اعود واكملت طريقي فبعد كيلومترات قليلة سادخل عالم المدينة التي لا يعلم اغلب سكانها انه في الضفة الأخرى بدو رحل يعيشون وسط خيام تقطر شتاء لا يدفعون معلوم الكهرباء لأن لا كهرباء لهم. اكملت طريقي تاركة ورائي تجربة غريبة وكان المذياع في السيارة يعلن إجراءات حكومية جديدة بمنع جولان السيارات ليلا بسبب الجائحة...فهل يدرك هؤلاء الرحل معنى الأوبئة وهم يعيشون وباء الخصاصة كل يوم؟
لمشاهدة التقرير مصورا اضغط هنا...