بقلم: مختار اللواتي
لا يختلف عاقلان اثنان أن مخططا أمريكيا بمحاصرة الإتحاد الروسي عن طريق حلف شمال الأطلسي بابتلاع دول جوار روسيا أعضاء الإتحاد السوفياتي سابقا ، بدأ يحاك منذ سنوات وعلى نار هادئة تحت ادعاء التحاق تلك الدول عن طواعية بعضوية الحلف. وكان كلما استغاث المسؤولون الروس وطالبوا بالتوقف عن هذا الخرق الفاضح للإتفاقات الدولية السابقة وعن هذا الزحف السامّ كزحف الأفاعي لخنق روسيا بالهيمنة على فضائها الجيوسياسي الحيوي، إلا وتم الاستخفاف باستغاثتهم. فكان أن التجأت روسيا لاستعمال قوة السلاح لفرض احترام ما سبق توقيعه من اتفاقات. خاصة وقد انساق الرئيس الأوكراني مزهوا بالشحن الأمريكي والغربي عموما لدفعه إلى التعنت وعدم الحرص على تغليب حسن الجوار ومتانة الروابط التاريخية الجامعة بين الروس والأوكرانيين والرجوع عن خيانته لقدسية تلك الروابط وللاتفاقيات التي تعهدت دولته باحترامها، بل ركب رأسه طمعا في حظوة مميزة من أمريكا والإتحاد الأوربي بعدما وعده جميعهم بأنهم لن يفرطوا في أي شبر يقع مهاجمته من أراضي حلف الأطلسي على أساس عزمه الانضمام إلى عضويته وحتى إلى الإتحاد الأوربي.. ولكن لاشيء من وعودهم تحقق بعدما أعلن الرئيس الروسي بوتين الحرب على أوكرانيا.. وهي بالفعل حرب شرسة بغيضة دفع ويدفع الشعب الأوكراني فاتورتها بمئات آلاف النازحين والمهاجرين ومئات القتلى والجرحى زيادة على ما لحق البُنى التحتية والمنشآت المختلفة من دمار..
وعوض الوقوف إلى جانب أوكرانيا الشهيدة والبحث عن حل سلمي يحقن الدماء وينهي هذه الحرب المأسوية بالعودة عن مخطط محاصرة روسيا وبإعلان أوكرانيا دولة محايدة منزوعة من السلاح الغربي الموجه إلى الشعب الروسي عند الحاجة، استعملوا اضطرار الرئيس الروسي الحرب وسيلة لدفع الضرر الداهم على بلده تجارةً لتأليب الرأي العام العالمي ضده وتشويه مقاصده وقلب الحقائق، مظهرينه في شخصية هتلر جديدة، في حين يعرف القاصي والداني أن الإتحاد السوفياتي قدم 20 مليون قتيل ومثلهم من الجرحى والمشردين في الحرب العالمية الثانية على أيدي هتلر وقواته.. وأن الرئيس بوتين ما انفك يدعو أمريكا والأمم المتحدة إلى التخلي عن دوس القيم الإنسانية وعن التعامل بمقياس المكيالين مع الشعوب الني لهما فيها مصلحة. كما دأب على الدعوة إلى تصحيح الانحراف الواقع في هذا النظام العالمي أحادي التسيير مما ألحق فادح الخسائر بكثير من شعوب الأرض، وما العراق وافغانستان وليبيا وسوريا. وقبلها جميعا فلسطين، إلا نماذج فقط من العربدة الأمريكية خارج حدودها بمعونة أحلافها، من بريطانيا وإسرائيل إلى دول الإتحاد الأوربي وعلى رأس الجميع منظمة الأمم المتحدة..
وفي خضم حملة التشويه المسعورة التي كانت تخاض على المستويين الديبلوماسي والإعلامي بضربٍ سافرٍ لعرض الحائط بمبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان، تم عقد جلسة طارئة خاطفة لمجلس الأمن أحالها بدوره إلى الجمعية العامة لإصدار قرار يدين بشدة غزو روسيا لأوكرانيا ويدعوها إلى وقف القتال والانسحاب فورا من الأراضي الأوكرانية. وقد تم المراد بتصويت 141 من أعضاء الجمعية العامة لفائدة القرار. ولم تعارضه سوى روسيا بطبيعة الحال وكوريا الشمالية وبلاروسيا وسوريا وإيرتريا. فيما احتفظت 35 دولة بأصواتها في طليعتها الصين والهند وباكستان برغم الضغوط الأمريكية التي مورست ضدها ، وخاصة الهند وباكستان للتصويت لفائدة القرار. علما أن كل هذه الدول هي دول تمتلك أسلحة نووية. وإفريقيا الجنوبية وإفريقيا الوسطى والبرازيل.
شخصيا لا ألوم الدول الغارقة في الديون مثل تونس على تصويتها لفائدة القرار الأممي، سواء لدرء مخاطر عقوبات تسلط عليها هي الأخرى إن صوتت ضد القرار أو هي حتى امتنعت عن التصويت، سواء تخفيا وراء الرغبة في حقن المزيد من الدماء في أوكرانيا، أومنعا لتوسع دائرة الحرب في المنطقة وربما حتى في العالم كما يروج الإعلام الغربي. وهو مانفاه الرئيس بوتين وأكد عليه وزير الخارجية الروسي لافروف حين قال في ندوة صحافية في موسكو، إن خطر الحرب العالمية الذي تحدث عنه الرئيس الأمريكي، لاوجود له إلا في أدمغة القادة الغربيين.
الخلاصة،
أولا، إن احتفاظ حليفات روسيا المقربة مثل الصين والهند وباكستان بأصواتها لايعني تنصلها من روابطها الوثيقة بموسكو. كما لايعني انخراطها في قادم الأيام في أي عمل مضر بالأمن الروسي. بل إن عدم التصويت هو في حد ذاته موقف لالبس فيه بالاستعداد لدفعه، إذا ما تعكرت الأجواء أكثر وازدات التهديدات ضد روسيا، باتجاه التنسيق مع موسكو بشأن الخطوات القادمة لدرء مخاطر ما يمكن أن تخطط له أمريكا والحلف الأطلسي والإتحاد الأوربي.
ثانيا، على الشعوب الفقيرة والغارقة دولها في المديونية، ومن بينها تونس، أن تعي أن لا أمان لها ولا سيادة كاملة ولا استقرار مالم تشد الأحزمة وتراجع مناويل التنمية فيها وتضبط مخططات قريبة ومتوسطة وبعيدة المدى للقضاء على الفساد وتطهير مؤسساتها وإصلاح سياساتها والإعلاء من قيم العلم والعمل والإخلاص للوطن واحترام القانون في إطار نظام جمهوري ودولة مدنية تحفظ كرامة مواطنيها وتحقق المساواة التامة فيما بينهم..
ثالثا، السعي بالتوازي مع هذا التخطيط العقلاني والعلمي لبناء صرح تعاون مع بعضها البعض، صناعيا وتجاريا وثقافيا وعلميا.
غير إن تحقيق هذه الغايات النبيلة لا يتم في ظل تناحر اجتماعي وتجاذبات سياسية وتصارع مصالح جهات وفئات ضد مصلحة الدولة العليا..
إن ما يقع أمام أعيننا الآن على ظهر الشعب الأوكراني الضحية الأولى والأخيرة وضد روسيا، بخلفياته المعروفة، لهو أبلغ درس لنا للتعويل على قدراتنا الذاتية وتوحيد جهودنا لمعاضدة جهد الدولة لإنجاز الإصلاحات الضرورية على مختلف الأصعدة. وما على الأحزاب الوطنية والمنظمات الاجتماعية إلا أن تساهم بمشاريع مبادرات جلية للإصلاح بعيدا عن المنفعية الحزبية أو الشخصية أو الفئوية. وعلى رئيس الدولة أن يفتح حوارا عميقا وواسعا مع مختلف الأطراف المؤمنة بأن السنوات التي عقبت انتفاضة 17/14 كانت سنوات فشل كامل لكل منظومات الحكم المتتالية، وأن الإصلاح واجب ولا يجب تأخيره أكثر. وحتى نطوي صفحة العهود السابقة لابد من محاسبةٍ ومحاكمةٍ عادلتين علنيتين وبالحجج والقرائن لكل من تثبت عليهم تهم الإضرار بالدولة وبالشعب سواء كانوا من الحاكمين أو أقطاب لوبيات فساد.
على أن يتوّج كل ذلك بوضع ميثاق وطني جديد ببنود والتزامات صريحة من الجميع تخص ما مضى وتضبط أسس المستقبل الآتي.
وليكف من احترفوا إتقان اللغة المزدوجة والسير على حبلين عن لعبتهم فقد افتضحوا وانتهى الدرس..