اختلف رئيس الجمهورية قيس سعيد ورئيس جمعية القضاة أنس الحمادي في كل شيء له علاقة بالقضاء من حيث تصوّرات وإجراءات الإصلاح.. واتفقا في جملة واحدة، كررها كل منهما في أكثر من تصريح وأكثر من مناسبة وهي جملة "هناك قضاء للفقراء وقضاء للأغنياء".. جملة قالها سعيد منذ يومين عند استقباله لنائب رئيس البنك الدولي للشرق الأوسط وشمال إفريقيا، فريد بلحاج، في معرض تبريره للأسباب التي دعته لحل المجلس الأعلى للقضاء.. ونفس الجملة قالها منذ أسابيع قليلة رئيس جمعية القضاة أنس الحمادي في تصريح تلفزيوني، وهو يتحدث عن الاخلالات الكبيرة التي شهدتها بعض القضايا ذات الطابع السياسي أو تلك التي تعلقت بشخصيات نافذة في الدولة .
ونفس الجملة تكررت بتعبيرات مختلفة من رواد مواقع التواصل الاجتماعي تعليقا على الإفراج عن الفنان نور شيبة بعد الضجة الكبيرة التي رافقت عملية إيقافه والحديث الصاخب عن تورطه في عصابة ترويج لمخدّر الكوكايين والإيقاع بأحد عناصر المافيا الدوليين في نفس القضية خاصة وان عند إيقافه نشرت صفحات أمنية صورا قيل إنها تمثل المواد المخدرة المحجوزة.. وإذا كان هذا المقال لا يتناول قضية نور شيبة لا في حيثياتها ولا في تفاصيلها ولا في مآلاتها إلا أننا سنحاول الإجابة عن سؤال هل أن القضاء في تونس اليوم هو قضاء ناجز وصارم على الفقراء وقضاء متلكئ ومماطل ومتخاذل في علاقة بقضايا الأغنياء والنافذين؟
الاتفاق على التشخيص والاختلاف في المعالجة
تكمن عبقرية النص القانوني أنه يضع جميع الناس على قدم المساواة أمام القضاء وتطبق العدالة دون نظر إلى الفوارق الاجتماعية أو الثقافية.. فالقانون عندما يُطبّق لا يميّز بين غني وفقير بل يتوجّه إلى الأفعال ويحكم على ضوئها بالبراءة أو الإدانة وتكون العقوبة شخصية وليست جماعية .
ولكن في واقع قضائي متعثّر وملاحق بكل اتهامات التمييز والمحاباة وبكل شبهات الفساد التي طالت كبار القضاة وساهمت في تشويه صورة القضاء لدى الرأي العام .
ولعل كل ما يُقال عن فساد بعض القضاة وعن التلاعب بالإجراءات في علاقة ببعض الملفات والقضايا هو ما فسح المجال أمام الحديث عن أن هناك قضاء للأغنياء لا يطبق القانون وقانونا للفقراء يتميز بصرامته وشدته.. ومنذ أسابيع قال رئيس جمعية القضاة أنس حمادي في تصريح تلفزيوني أن الواقع يؤكد "أن هناك قضاء للفقراء وآخر للأغنياء وأن العدالة تسير بسرعتين" مؤكدا أن أكبر الاخلالات في التكييف أو الإجراءات تقع في كبريات القضايا، مذكرا بقضية نبيل القروي، كما أشار حمادي أن إجراء النقض دون إحالة تسبب في خسارة الدولة لآلاف المليارات وهي لا تقع إلا إذا تعلّق الأمر ببارونات الإرهاب والتهريب، وفق تصريحه.. ويذكر أن رئيس محكمة التعقيب الطيب راشد نسب إليه تجاوزات وخروقات في ملفي التهرب الجبائي والضريبي وتبييض الأموال المتعلقة برجليْ الأعمال نجيب إسماعيل وفتحي جنيح، وأن هذه الاخلالات، التي شابت المسار القضائي والإجرائي في قضيتي جنيح وبن إسماعيل، تؤكد عدة مصادر قضائية وموثوق بها أنها جعلت الدولة تخسر مداخيل بعشرات المليارات بسبب التدخل السافر الذي مارسه الطيب راشد في هذا المسار.. وإذا كانت الدولة خسرت فان كل الوقائع والمؤيدات تؤكد تضخما غير طبيعي ومنطقي في ثروة الرئيس الأول لمحكمة التعقيب من عقارات وأراض لا تعد ولا تحصى جعلته من الأثرياء، وذلك وفق تقرير وكيل الجمهورية بالمحكمة الابتدائية في تونس .
وقد فسّر رئيس جمعية القضاة هذا التلاعب والفساد بانعدام الإصلاح في القوانين وفي علاقة بالأشخاص أيضا، حيث ذكّر بقضية سليم الرياحي التي تم التلاعب بها برفع تحجير السفر على الرياحي مقابل التصويت في البرلمان لوزير الداخلية الجديد.
بدوره أكدّ رئيس هيئة مكافحة الفساد عماد بوخريص، في حوار سابق لـ"الصباح"أنّ هناك واقعا ترّسخ في تونس منذ سنوات من حكم نظام وصفه بالفاسد، بأنّ هناك عدالة للأغنياء لا تطبّق وعدالة للفقراء تطبّق بصرامة، وأنّ هناك من لديهم حصانة وظيفية وعائلية وسياسية فوق القانون والعقاب، ومن لا يملكونها يطبّق عليهم القانون.
الإفلات من العقاب عنوان لعدالة عرجاء ..
من تجليات غياب العدالة في تونس ارتفاع مؤشرات وإحصائيات الإفلات من العقاب التي أبدت عدة منظمات حقوقية دولية بشأنها مخاوف كبيرة عبرت عنها في عشرات التقارير.. ففي مارس 2018، وجهت 14 منظمة وجمعية، دولية ومحلية، نداء إلى كل من رئيس الحكومة ووزيري العدل والداخلية، لـ"وضع حد لاستمرار الإفلات من العقاب السائد في ارتباط بالانتهاكات التي ارتكبتها قوات الأمن والمرتبطة بحقوق الإنسان". كما دعت هذه المنظمات ومن بينها هيومن رايتس ووتش ومنظمة العفو الدولية والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، رئاسة الحكومة ووزارتي الداخلية والعدل إلى "إرسال إشارة واضحة من خلال تصريح علني يتم فيه التذكير بأنه لا يمكن السماح أو التسامح مع أي شكل من أشكال الإفلات من العقاب في علاقة بأعمال التعذيب أو غيرها من ضروب سوء المعاملة، ومع أي ممارسة تستهدف الضغط على المسار الطبيعي للعدالة".
ورغم كل هذه التحذيرات من قبل أكبر المنظمات الحقوقية الدولية من مغبة تكريس وترسيخ ثقافة الإفلات من العقاب إلا إنه وإلى اليوم لم يتغيّر شيء.. وما زالت العدالة العرجاء تراوح مكانها دون نوايا جدية لإصلاح ما اختل من توازنها .
منية العرفاوي
الصباح – تونس
اختلف رئيس الجمهورية قيس سعيد ورئيس جمعية القضاة أنس الحمادي في كل شيء له علاقة بالقضاء من حيث تصوّرات وإجراءات الإصلاح.. واتفقا في جملة واحدة، كررها كل منهما في أكثر من تصريح وأكثر من مناسبة وهي جملة "هناك قضاء للفقراء وقضاء للأغنياء".. جملة قالها سعيد منذ يومين عند استقباله لنائب رئيس البنك الدولي للشرق الأوسط وشمال إفريقيا، فريد بلحاج، في معرض تبريره للأسباب التي دعته لحل المجلس الأعلى للقضاء.. ونفس الجملة قالها منذ أسابيع قليلة رئيس جمعية القضاة أنس الحمادي في تصريح تلفزيوني، وهو يتحدث عن الاخلالات الكبيرة التي شهدتها بعض القضايا ذات الطابع السياسي أو تلك التي تعلقت بشخصيات نافذة في الدولة .
ونفس الجملة تكررت بتعبيرات مختلفة من رواد مواقع التواصل الاجتماعي تعليقا على الإفراج عن الفنان نور شيبة بعد الضجة الكبيرة التي رافقت عملية إيقافه والحديث الصاخب عن تورطه في عصابة ترويج لمخدّر الكوكايين والإيقاع بأحد عناصر المافيا الدوليين في نفس القضية خاصة وان عند إيقافه نشرت صفحات أمنية صورا قيل إنها تمثل المواد المخدرة المحجوزة.. وإذا كان هذا المقال لا يتناول قضية نور شيبة لا في حيثياتها ولا في تفاصيلها ولا في مآلاتها إلا أننا سنحاول الإجابة عن سؤال هل أن القضاء في تونس اليوم هو قضاء ناجز وصارم على الفقراء وقضاء متلكئ ومماطل ومتخاذل في علاقة بقضايا الأغنياء والنافذين؟
الاتفاق على التشخيص والاختلاف في المعالجة
تكمن عبقرية النص القانوني أنه يضع جميع الناس على قدم المساواة أمام القضاء وتطبق العدالة دون نظر إلى الفوارق الاجتماعية أو الثقافية.. فالقانون عندما يُطبّق لا يميّز بين غني وفقير بل يتوجّه إلى الأفعال ويحكم على ضوئها بالبراءة أو الإدانة وتكون العقوبة شخصية وليست جماعية .
ولكن في واقع قضائي متعثّر وملاحق بكل اتهامات التمييز والمحاباة وبكل شبهات الفساد التي طالت كبار القضاة وساهمت في تشويه صورة القضاء لدى الرأي العام .
ولعل كل ما يُقال عن فساد بعض القضاة وعن التلاعب بالإجراءات في علاقة ببعض الملفات والقضايا هو ما فسح المجال أمام الحديث عن أن هناك قضاء للأغنياء لا يطبق القانون وقانونا للفقراء يتميز بصرامته وشدته.. ومنذ أسابيع قال رئيس جمعية القضاة أنس حمادي في تصريح تلفزيوني أن الواقع يؤكد "أن هناك قضاء للفقراء وآخر للأغنياء وأن العدالة تسير بسرعتين" مؤكدا أن أكبر الاخلالات في التكييف أو الإجراءات تقع في كبريات القضايا، مذكرا بقضية نبيل القروي، كما أشار حمادي أن إجراء النقض دون إحالة تسبب في خسارة الدولة لآلاف المليارات وهي لا تقع إلا إذا تعلّق الأمر ببارونات الإرهاب والتهريب، وفق تصريحه.. ويذكر أن رئيس محكمة التعقيب الطيب راشد نسب إليه تجاوزات وخروقات في ملفي التهرب الجبائي والضريبي وتبييض الأموال المتعلقة برجليْ الأعمال نجيب إسماعيل وفتحي جنيح، وأن هذه الاخلالات، التي شابت المسار القضائي والإجرائي في قضيتي جنيح وبن إسماعيل، تؤكد عدة مصادر قضائية وموثوق بها أنها جعلت الدولة تخسر مداخيل بعشرات المليارات بسبب التدخل السافر الذي مارسه الطيب راشد في هذا المسار.. وإذا كانت الدولة خسرت فان كل الوقائع والمؤيدات تؤكد تضخما غير طبيعي ومنطقي في ثروة الرئيس الأول لمحكمة التعقيب من عقارات وأراض لا تعد ولا تحصى جعلته من الأثرياء، وذلك وفق تقرير وكيل الجمهورية بالمحكمة الابتدائية في تونس .
وقد فسّر رئيس جمعية القضاة هذا التلاعب والفساد بانعدام الإصلاح في القوانين وفي علاقة بالأشخاص أيضا، حيث ذكّر بقضية سليم الرياحي التي تم التلاعب بها برفع تحجير السفر على الرياحي مقابل التصويت في البرلمان لوزير الداخلية الجديد.
بدوره أكدّ رئيس هيئة مكافحة الفساد عماد بوخريص، في حوار سابق لـ"الصباح"أنّ هناك واقعا ترّسخ في تونس منذ سنوات من حكم نظام وصفه بالفاسد، بأنّ هناك عدالة للأغنياء لا تطبّق وعدالة للفقراء تطبّق بصرامة، وأنّ هناك من لديهم حصانة وظيفية وعائلية وسياسية فوق القانون والعقاب، ومن لا يملكونها يطبّق عليهم القانون.
الإفلات من العقاب عنوان لعدالة عرجاء ..
من تجليات غياب العدالة في تونس ارتفاع مؤشرات وإحصائيات الإفلات من العقاب التي أبدت عدة منظمات حقوقية دولية بشأنها مخاوف كبيرة عبرت عنها في عشرات التقارير.. ففي مارس 2018، وجهت 14 منظمة وجمعية، دولية ومحلية، نداء إلى كل من رئيس الحكومة ووزيري العدل والداخلية، لـ"وضع حد لاستمرار الإفلات من العقاب السائد في ارتباط بالانتهاكات التي ارتكبتها قوات الأمن والمرتبطة بحقوق الإنسان". كما دعت هذه المنظمات ومن بينها هيومن رايتس ووتش ومنظمة العفو الدولية والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، رئاسة الحكومة ووزارتي الداخلية والعدل إلى "إرسال إشارة واضحة من خلال تصريح علني يتم فيه التذكير بأنه لا يمكن السماح أو التسامح مع أي شكل من أشكال الإفلات من العقاب في علاقة بأعمال التعذيب أو غيرها من ضروب سوء المعاملة، ومع أي ممارسة تستهدف الضغط على المسار الطبيعي للعدالة".
ورغم كل هذه التحذيرات من قبل أكبر المنظمات الحقوقية الدولية من مغبة تكريس وترسيخ ثقافة الإفلات من العقاب إلا إنه وإلى اليوم لم يتغيّر شيء.. وما زالت العدالة العرجاء تراوح مكانها دون نوايا جدية لإصلاح ما اختل من توازنها .