أخشى أن تؤدي الاستشارة الالكترونية إلى تعزيز الحكم الفردي
يجب الحذر من تداعيات أزمة المالية العمومية
* بحل المجلس الأعلى للقضاء واصل سعيد الهروب إلى الأمام وعزز مسار الانحراف بالسلطة
* الدولة مطالبة بإيجاد جميع الوسائل لتطبيق القانون عدد 38
* الجهات المانحة ستستغل ضعف الدولة لتفرض شروطها
تونس- الصباح
عبر مصطفى بن أحمد عضو مجلس نواب الشعب المعلقة أشغاله عن كبير انشغاله بالوضع السياسي المعقد الذي تعيشه تونس في الوقت الراهن بسبب سياسة الهروب إلى الأمام التي ينتهجها رئيس الجمهورية قيس سعيد. وبين في تصريح لـ"الصباح" أنه لا يمكن إنقاذ الاقتصاد الوطني من الانهيار الذي بات وشيكا، كما لا يمكن معالجة أزمة المالية العمومية التي تنذر بالخطر، ولا يمكن أيضا بحث حلول للمشاكل الاجتماعية المتفاقمة جراء البطالة والفقر وغلاء المعيشة دون حوار وطني جامع تحت خيمة الاتحاد العام التونسي للشغل يتم خلاله التوافق على الأولويات وضبط مختلف الإصلاحات الضرورية، وإلا فإن البلاد، حسب اعتقاده، ستذهب نحو المجهول الذي لا يحمد عقباه..
وفي تقييمه للإجراءات الأخيرة التي أعلن عنها رئيس الجمهورية والقاضية بحل المجلس الأعلى للقضاء، أشار بن أحمد إلى أنه كان من المفروض منح الأولوية للمسائل المالية والاقتصادية نظرا لأن وضعها خانق جدا ولا يحتمل مزيد الانتظار، لكن الرئيس واصل المضي قدما في تنفيذ مخططه، وذكر أن ما فعله الرئيس مع المجلس الأعلى للقضاء لا يعزز سوى مسار الانحراف بالسلطة نحو فرض سلطة مطلقة للفرد الواحد.
وذكر بن أحمد أن مهمة إصلاح القضاء ليست من اختصاصات رئيس الجمهورية والسلطة التنفيذية، وإنما هي مهمة القضاء نفسه ومهمة المجتمع المدني كقوة ضغط. وبين أن هناك فعلا مشاكل داخل القضاء وهناك انحرافات ونقاط ضعف وفساد، فالقضاء ككل القطاعات الأخرى في البلاد فيه فساد لكن هذا الأمر لا يمكن أن يكون مطية لرئيس الجمهورية لكي يتدخل في القضاء من أجل إصلاحه، فقضية الإصلاح ليست موكولة لرئاسة الجمهورية وبالتالي فإن ما أقدم عليه الرئيس قيس سعيد هو خطوة خطيرة جدا.
وتعقيبا عن استفسار حول رأيه في الدعوات الأخيرة إلى مقاضاة رئيس الجمهورية وخاصة في الشكاية التي رفعها الناشط السياسي محمد عبو منذ يومين لدى وكيل الجمهورية بمحكمة تونس1 ضد الرئيس داعيا إلى إصدار بطاقة جلب في شأنه وفتح بحث تحقيقي ضده بناء على الفصل 73 من المجلة الجزائية وهو فصل ينص على عقوبة بالسجن المؤبد لمن يقبل بمناسبة ثورة أن يقيم نفسه بدل الهيئات الحاكمة المكونة بمقتضى القوانين، ذكر مصطفى بن أحمد، أنه يعتقد أن القضية هي قضية سياسية وحلها يجب أن يكون سياسيا، فالمسألة لا يمكن حلها قضائيا كما يعتقد البعض بل لا بد من نقاش سياسي يضع النقاط على الحروف ويفسر العوامل التي أوصلت الدولة التونسية إلى مثل هذه الهشاشة التي هي عليها اليوم بما أدى إلى شلل كل المؤسسات، وأدى إلى انفراد رئيس الجمهورية بكل السلطات..، فهذه هي الأسئلة الجوهرية التي يجب الإجابة عنها من أجل بحث الحلول السياسية الممكنة لتجاوز الأزمة.
كما أشار محدثنا إلى أنه لا يظن أن محاكمة الرئيس من الناحية الواقعية ستتم فعلا، فهذا أمر صعب جدا كما أنه لا يعتقد أن المحاكمات ستحل المشكل السياسي القائم، فالقضية أعمق بكثير وحلها ليس بمحاكمة رئيس الجمهورية بل بإزالة الأسباب التي أدت إلى مثل هذا الوضع المعقد، وفسر أن المطلوب حسب رأيه هو معالجة النظام السياسي الذي وضع فجوة كبيرة بين مؤسسات الدولة، فهذه الفجوة تسببت في شلل حكومة هشام مشيشي، وتسببت في حالة من العبث في البرلمان، وهو ما أوصل البلاد إلى الوضعية الراهنة. فالتونسيون قبل الخامس والعشرين من جويلية كانوا يشعرون باختناق وعند إعلان رئيس الجمهورية عن قرارات 25 جويلية تنفسوا وأحسوا بالتفاؤل وعاد إليهم الأمل، لكن الرئيس لم يتجه نحو أولويات التونسيين بل اختار طريقا آخر وهو الحكم الفردي وهذا أمر خطير فليس من الممكن إصلاح ما فسد، باستحواذ سلطة واحدة على بقية السلطات.
مخاوف من الاستشارة
وقال مصطفى بن أحمد إن ما يقلقه حقا هو غياب الحوار رغم تفاقم الأزمة السياسية، وذكر أن رئيس الجمهورية، وعوضا عن الدعوة إلى الحوار، أطلق استشارة إلكترونية تبين لاحقا أنها تهم تيارا معينا في البلاد أي أنصار الرئيس المقتنعين بأفكاره فهي تعبر عن صوت الرئيس ولا تمثل كل التونسيين لكن تم فرضها على الجميع بوسائل الدولة، وعبر عن خشيته من أن تتجه الاستشارة نحو تعزيز الحكم الفردي.
وبين أن الانحراف بالسلطة بدأ منذ إصدار الأمر عدد 117 المؤرخ في 22 سبتمبر 2021 المتعلق بالتدابير الاستثنائية، لأن رئيس الدولة في ذلك الأمر، أعطى لنفسه ما ليس من حقه، وقام بالالتفاف على مسار 25 جويلية وهو المسار الذي صنعه المواطنون وليس الرئيس، فهم الذين تظاهروا وهم الذين طالبوا بحل مجلس نواب الشعب وكل ما قام به الرئيس هو أنه تفاعل معهم ولكن عوضا عن حل البرلمان أعلن عن تجميده ورفع الحصانة عن أعضائه، وقد تعهد يومها بأنه سيعالج المشكل في إطار دستور البلاد وقوانينها، لكنه بعد طول انتظار جاء بالأمر عدد 117 الذي انحرف بمقتضاه عن الدستور ومنح لنفسه كل اختصاصات السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية وها هو يمر إلى السلطة القضائية وهذا ليس من حقه لا سياسيا ولا دستوريا.
وأشار مصطفى بن أحمد إلى أن رئيس الجمهورية قيس سعيد بالأمر عدد 117 الذي وضعه تحول من وضعية مجابهة خطر داهم مهدد لكيان الوطن وأمن البلاد يتعذر معه السير العادي لدواليب الدولة، إلى وضعية جعل فيها كل السلطات في يده.
عزل الرئيس
تعقيبا عن سؤال آخر حول رأيه في دعوة الرئيس السابق منصف المرزوقي لعزل رئيس الجمهورية وفي دعوة حراك "مواطنون ضد الانقلاب" مجلس نواب الشعب كي تحمل مسؤولياته ويعقد جلسة عامة من أجل اتخاذ الإجراءات والقرارات الكفيلة بوضع حد لما وصفه بالانقلاب وانهيار البناء الدستوري، أجاب مصطفى بن أحمد أن المطالب بعزل الرئيس، الرئيس نفسه هو المتسبب فيها لأنه جعل البرلمان معلقا وترك النواب رهائن، فهو الذي ترك لهم صفة النائب ومنعهم في المقابل من مباشرة مهامهم النيابية وهذا الوضع غير طبيعي وغير منطقي. والمطلوب حسب رأي بن أحمد، هو عودة البرلمان أو حله. وبين أنه عن نفسه فإنه يخير الفرضية الثانية وهي حل البرلمان والإعلان عن انتخابات سابقة لأوانها مع دعوة جميع الأطراف السياسية إلى المشاركة في صياغة قانون انتخابي جديد.
ولم يخف محدثنا انزعاجه لأن رئيس الجمهورية يريد من خلال الاستشارة التي أطلقها أن يقوم بكل شيء بمفرده، فالرئيس حسب ظنه يريد أن يضع نظاما على مقاسه ويتماشى مع رؤيته وهو ما جعل تلك الدعوات إلى عزله تجد من يستمع إليها وتجد من يرى أن فيها شيئا من المنطق لأن الآفاق انسدت ولأن الدولة تسير نحو الفراغ.
وأوضح أنه كان يفضل لو أنه تم حل البرلمان فبهذه الكيفية تتضح الرؤية لكن الرئيس ترك النواب رهائن، فالمؤسسة البرلمانية موجودة لكنها مجمدة وممنوعة من مباشرة مهامها الدستورية وهو وضع غير طبيعي وكان من الأفضل بعد 25 جويلية الدعوة إلى انتخابات عامة مبكرة على قاعدة قانون انتخابي جديد يقع إعداده بصفة تشاركية، وهذا للأسف لم يحصل فكل ما قام به الرئيس ليس له من تفسير سوى أنه يريد تغيير طبيعة الدولة وهو فتح المجال أمام الدعوات إلى العودة إلى الوراء وهذا أمر خطير ويمكن أن يؤدي إلى اضطرابات والدخول في متاهات يصعب الخروج منها.
أزمة اقتصادية خانقة
باستفساره عن مدى تأثير الأزمة السياسية على الوضع الاقتصادي والمالي، أجاب مصطفى بن أحمد أنه كان يجب على رئيس الجمهورية بعد 25 جويلية منح المسألة الاقتصادية والمالية الأولوية المطلقة لكن يبدو أن فاقد الشيء لا يعطيه، فرغم مسكه السلطة بمفرده لم يعر الاهتمام اللازم للزاوية الاقتصادية والمالية التي هي ركن أساسي في سياسة الدولة وعامل من عوامل استمرارها وحياتها لأنه عندما ينهار الاقتصاد لا يمكن إقامة بناء سياسي سليم، فلضمان الاستقرار السياسي لا بد أن تتمتع المالية العمومية بالصحة ولا بد أن يكون الاقتصاد متعاف.
وذكر بن أحمد أنه أمام فرض وجهة نظر واحدة من قبل رئيس الجمهورية فإن المخاطر الاقتصادية تتضاعف وفسر كلامه بالإشارة إلى الصعوبات التي يمكن أن تواجهها الدولة في مفاوضاتها مع المؤسسات المالية العالمية وفي مقدمتها صندوق النقد الدولي، فهذه المؤسسات تستغل فرصة ضعف الدولة لكي تفرض شروطها. ولهذا السبب يرى محدثنا أن دعوات الاتحاد العام التونسي للشغل للحوار دعوات يجب التجاوب معها لأنه لا بد من الجلوس معا في القريب العاجل على مائدة الحوار لتحديد الأولويات وبلورة الحلول، أما مواصلة الهروب إلى الأمام فإنها لن تؤدي إلا إلى فتح شروخ لا يمكن رأبها، فالمسألة المالية والاقتصادية مسألة حارقة تستدعي استعجال النظر فيها وبحث حلول لها، ولكن في صورة مزيد التأخير والتراخي فسيكون للازمة الاقتصادية انعكاسات جد سلبية على الجانب الاجتماعي وقد رأينا حجم القلق الذي تسبب فيه التأخير في صرف أجور شهر جانفي..
وأشار محدثنا إلى أن المطلوب من السلطة هو التعجيل في إيجاد حلول للوضع الاجتماعي قبل حصول انفجار، فعلى السلطة تجنب فتح كل الواجهات وإحداث الشروخ في المجتمع كالتي تسبب فيها الإجراء الأخير القاضي بحل المجلس الأعلى للقضاء الذي عمق الخلافات بين الفرقاء.. فعوضا عن حل المجلس الأعلى للقضاء كان من الأولى فتح النقاش حول كيفية تفعيل القانون عدد 38 المتعلق بالانتدابات الاستثنائية في القطاع العام، لأن تجاهل هذا القانون بعد أن أمضى عليه رئيس الجمهورية نفسه وبعد أن صدر في الرائد الرسمي من شأنه أن يعقد الأزمة الاجتماعية، وذكر أن هذا القانون بعد صدوره يجب احترامه ويجب إيجاد كل الوسائل لتطبيقه وإلا فإن المجتمع سيفقد الثقة في الدولة، واستدرك مبينا أنه بالإمكان تعديل هذا القانون كما أنه بالإمكان وضع روزنامة لتطبيقة بصفة تدريجية أما أن يتم غلق الأبواب وشطبه بالشكل الذي فعله الرئيس سعيد فهذا لن يزيد سوى في منسوب التوتر الاجتماعي والاحتقان في صفوف المعطلين عن العمل الذين علقوا الكثير من الآمال على القانون المذكور.
وبخصوص رأيه في مقترحات رئيس الجمهورية المتعلقة بسن مرسوم حول الصلح الجزائي ومرسوم آخر تحت عنوان من أين لك هذا؟ ذكر بن أحمد أن الصلح الجزائي لا يمكن أن تقوم به إلا مؤسسات قوية متعافية، وفسر أنه من حق رئيس الجمهورية أن يقترح أي قانون لكنه لا يمكنه سن القوانين في ظل دولة مفككة فيها برلمان مجمد وهيئة مقاومة الفساد مغلقة ومجلس أعلى للقضاء محلول وقد يأتي الدور على بقية الهيئات. وذكر أن شعار من أين لك هذا هو شعار جميل خاصة وأن هناك أناسا أثروا ثراء فاحشا وبطرق غير مشروعة، لكن معالجة فسادهم لا يمكن أن تكون إلا في دولة تلعب فيها المؤسسات أدوارها.
وخلص مصطفى بن أحمد إلى أن الوضع الذي تمر به البلاد دقيق للغاية ويستدعي التسريع في القيام بإصلاحات عاجلة للمالية العمومية والاقتصاد، وهذا يتم عبر الذهاب إلى حوار وطني جامع وشامل يضع الأولويات ويشارك فيه الجميع، إلا من خير إقصاء نفسه أو من صدرت في شأنهم أحكام قضائية تدينهم بالفساد أو استغلال السلطة وغيرها. ويدور الحوار حسب رأيه وفق ضوابط يلتزم بها الجميع ويتم تحت خيمة الاتحاد العام التونسي للشغل، لأن هذه المنظمة العريقة لها ما يكفي من الأهلية والقدرة على أن تكون غطاء لمثل هذا الحوار المصيري الذي تحتاجه البلاد كثيرا..
سعيدة بوهلال
أخشى أن تؤدي الاستشارة الالكترونية إلى تعزيز الحكم الفردي
يجب الحذر من تداعيات أزمة المالية العمومية
* بحل المجلس الأعلى للقضاء واصل سعيد الهروب إلى الأمام وعزز مسار الانحراف بالسلطة
* الدولة مطالبة بإيجاد جميع الوسائل لتطبيق القانون عدد 38
* الجهات المانحة ستستغل ضعف الدولة لتفرض شروطها
تونس- الصباح
عبر مصطفى بن أحمد عضو مجلس نواب الشعب المعلقة أشغاله عن كبير انشغاله بالوضع السياسي المعقد الذي تعيشه تونس في الوقت الراهن بسبب سياسة الهروب إلى الأمام التي ينتهجها رئيس الجمهورية قيس سعيد. وبين في تصريح لـ"الصباح" أنه لا يمكن إنقاذ الاقتصاد الوطني من الانهيار الذي بات وشيكا، كما لا يمكن معالجة أزمة المالية العمومية التي تنذر بالخطر، ولا يمكن أيضا بحث حلول للمشاكل الاجتماعية المتفاقمة جراء البطالة والفقر وغلاء المعيشة دون حوار وطني جامع تحت خيمة الاتحاد العام التونسي للشغل يتم خلاله التوافق على الأولويات وضبط مختلف الإصلاحات الضرورية، وإلا فإن البلاد، حسب اعتقاده، ستذهب نحو المجهول الذي لا يحمد عقباه..
وفي تقييمه للإجراءات الأخيرة التي أعلن عنها رئيس الجمهورية والقاضية بحل المجلس الأعلى للقضاء، أشار بن أحمد إلى أنه كان من المفروض منح الأولوية للمسائل المالية والاقتصادية نظرا لأن وضعها خانق جدا ولا يحتمل مزيد الانتظار، لكن الرئيس واصل المضي قدما في تنفيذ مخططه، وذكر أن ما فعله الرئيس مع المجلس الأعلى للقضاء لا يعزز سوى مسار الانحراف بالسلطة نحو فرض سلطة مطلقة للفرد الواحد.
وذكر بن أحمد أن مهمة إصلاح القضاء ليست من اختصاصات رئيس الجمهورية والسلطة التنفيذية، وإنما هي مهمة القضاء نفسه ومهمة المجتمع المدني كقوة ضغط. وبين أن هناك فعلا مشاكل داخل القضاء وهناك انحرافات ونقاط ضعف وفساد، فالقضاء ككل القطاعات الأخرى في البلاد فيه فساد لكن هذا الأمر لا يمكن أن يكون مطية لرئيس الجمهورية لكي يتدخل في القضاء من أجل إصلاحه، فقضية الإصلاح ليست موكولة لرئاسة الجمهورية وبالتالي فإن ما أقدم عليه الرئيس قيس سعيد هو خطوة خطيرة جدا.
وتعقيبا عن استفسار حول رأيه في الدعوات الأخيرة إلى مقاضاة رئيس الجمهورية وخاصة في الشكاية التي رفعها الناشط السياسي محمد عبو منذ يومين لدى وكيل الجمهورية بمحكمة تونس1 ضد الرئيس داعيا إلى إصدار بطاقة جلب في شأنه وفتح بحث تحقيقي ضده بناء على الفصل 73 من المجلة الجزائية وهو فصل ينص على عقوبة بالسجن المؤبد لمن يقبل بمناسبة ثورة أن يقيم نفسه بدل الهيئات الحاكمة المكونة بمقتضى القوانين، ذكر مصطفى بن أحمد، أنه يعتقد أن القضية هي قضية سياسية وحلها يجب أن يكون سياسيا، فالمسألة لا يمكن حلها قضائيا كما يعتقد البعض بل لا بد من نقاش سياسي يضع النقاط على الحروف ويفسر العوامل التي أوصلت الدولة التونسية إلى مثل هذه الهشاشة التي هي عليها اليوم بما أدى إلى شلل كل المؤسسات، وأدى إلى انفراد رئيس الجمهورية بكل السلطات..، فهذه هي الأسئلة الجوهرية التي يجب الإجابة عنها من أجل بحث الحلول السياسية الممكنة لتجاوز الأزمة.
كما أشار محدثنا إلى أنه لا يظن أن محاكمة الرئيس من الناحية الواقعية ستتم فعلا، فهذا أمر صعب جدا كما أنه لا يعتقد أن المحاكمات ستحل المشكل السياسي القائم، فالقضية أعمق بكثير وحلها ليس بمحاكمة رئيس الجمهورية بل بإزالة الأسباب التي أدت إلى مثل هذا الوضع المعقد، وفسر أن المطلوب حسب رأيه هو معالجة النظام السياسي الذي وضع فجوة كبيرة بين مؤسسات الدولة، فهذه الفجوة تسببت في شلل حكومة هشام مشيشي، وتسببت في حالة من العبث في البرلمان، وهو ما أوصل البلاد إلى الوضعية الراهنة. فالتونسيون قبل الخامس والعشرين من جويلية كانوا يشعرون باختناق وعند إعلان رئيس الجمهورية عن قرارات 25 جويلية تنفسوا وأحسوا بالتفاؤل وعاد إليهم الأمل، لكن الرئيس لم يتجه نحو أولويات التونسيين بل اختار طريقا آخر وهو الحكم الفردي وهذا أمر خطير فليس من الممكن إصلاح ما فسد، باستحواذ سلطة واحدة على بقية السلطات.
مخاوف من الاستشارة
وقال مصطفى بن أحمد إن ما يقلقه حقا هو غياب الحوار رغم تفاقم الأزمة السياسية، وذكر أن رئيس الجمهورية، وعوضا عن الدعوة إلى الحوار، أطلق استشارة إلكترونية تبين لاحقا أنها تهم تيارا معينا في البلاد أي أنصار الرئيس المقتنعين بأفكاره فهي تعبر عن صوت الرئيس ولا تمثل كل التونسيين لكن تم فرضها على الجميع بوسائل الدولة، وعبر عن خشيته من أن تتجه الاستشارة نحو تعزيز الحكم الفردي.
وبين أن الانحراف بالسلطة بدأ منذ إصدار الأمر عدد 117 المؤرخ في 22 سبتمبر 2021 المتعلق بالتدابير الاستثنائية، لأن رئيس الدولة في ذلك الأمر، أعطى لنفسه ما ليس من حقه، وقام بالالتفاف على مسار 25 جويلية وهو المسار الذي صنعه المواطنون وليس الرئيس، فهم الذين تظاهروا وهم الذين طالبوا بحل مجلس نواب الشعب وكل ما قام به الرئيس هو أنه تفاعل معهم ولكن عوضا عن حل البرلمان أعلن عن تجميده ورفع الحصانة عن أعضائه، وقد تعهد يومها بأنه سيعالج المشكل في إطار دستور البلاد وقوانينها، لكنه بعد طول انتظار جاء بالأمر عدد 117 الذي انحرف بمقتضاه عن الدستور ومنح لنفسه كل اختصاصات السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية وها هو يمر إلى السلطة القضائية وهذا ليس من حقه لا سياسيا ولا دستوريا.
وأشار مصطفى بن أحمد إلى أن رئيس الجمهورية قيس سعيد بالأمر عدد 117 الذي وضعه تحول من وضعية مجابهة خطر داهم مهدد لكيان الوطن وأمن البلاد يتعذر معه السير العادي لدواليب الدولة، إلى وضعية جعل فيها كل السلطات في يده.
عزل الرئيس
تعقيبا عن سؤال آخر حول رأيه في دعوة الرئيس السابق منصف المرزوقي لعزل رئيس الجمهورية وفي دعوة حراك "مواطنون ضد الانقلاب" مجلس نواب الشعب كي تحمل مسؤولياته ويعقد جلسة عامة من أجل اتخاذ الإجراءات والقرارات الكفيلة بوضع حد لما وصفه بالانقلاب وانهيار البناء الدستوري، أجاب مصطفى بن أحمد أن المطالب بعزل الرئيس، الرئيس نفسه هو المتسبب فيها لأنه جعل البرلمان معلقا وترك النواب رهائن، فهو الذي ترك لهم صفة النائب ومنعهم في المقابل من مباشرة مهامهم النيابية وهذا الوضع غير طبيعي وغير منطقي. والمطلوب حسب رأي بن أحمد، هو عودة البرلمان أو حله. وبين أنه عن نفسه فإنه يخير الفرضية الثانية وهي حل البرلمان والإعلان عن انتخابات سابقة لأوانها مع دعوة جميع الأطراف السياسية إلى المشاركة في صياغة قانون انتخابي جديد.
ولم يخف محدثنا انزعاجه لأن رئيس الجمهورية يريد من خلال الاستشارة التي أطلقها أن يقوم بكل شيء بمفرده، فالرئيس حسب ظنه يريد أن يضع نظاما على مقاسه ويتماشى مع رؤيته وهو ما جعل تلك الدعوات إلى عزله تجد من يستمع إليها وتجد من يرى أن فيها شيئا من المنطق لأن الآفاق انسدت ولأن الدولة تسير نحو الفراغ.
وأوضح أنه كان يفضل لو أنه تم حل البرلمان فبهذه الكيفية تتضح الرؤية لكن الرئيس ترك النواب رهائن، فالمؤسسة البرلمانية موجودة لكنها مجمدة وممنوعة من مباشرة مهامها الدستورية وهو وضع غير طبيعي وكان من الأفضل بعد 25 جويلية الدعوة إلى انتخابات عامة مبكرة على قاعدة قانون انتخابي جديد يقع إعداده بصفة تشاركية، وهذا للأسف لم يحصل فكل ما قام به الرئيس ليس له من تفسير سوى أنه يريد تغيير طبيعة الدولة وهو فتح المجال أمام الدعوات إلى العودة إلى الوراء وهذا أمر خطير ويمكن أن يؤدي إلى اضطرابات والدخول في متاهات يصعب الخروج منها.
أزمة اقتصادية خانقة
باستفساره عن مدى تأثير الأزمة السياسية على الوضع الاقتصادي والمالي، أجاب مصطفى بن أحمد أنه كان يجب على رئيس الجمهورية بعد 25 جويلية منح المسألة الاقتصادية والمالية الأولوية المطلقة لكن يبدو أن فاقد الشيء لا يعطيه، فرغم مسكه السلطة بمفرده لم يعر الاهتمام اللازم للزاوية الاقتصادية والمالية التي هي ركن أساسي في سياسة الدولة وعامل من عوامل استمرارها وحياتها لأنه عندما ينهار الاقتصاد لا يمكن إقامة بناء سياسي سليم، فلضمان الاستقرار السياسي لا بد أن تتمتع المالية العمومية بالصحة ولا بد أن يكون الاقتصاد متعاف.
وذكر بن أحمد أنه أمام فرض وجهة نظر واحدة من قبل رئيس الجمهورية فإن المخاطر الاقتصادية تتضاعف وفسر كلامه بالإشارة إلى الصعوبات التي يمكن أن تواجهها الدولة في مفاوضاتها مع المؤسسات المالية العالمية وفي مقدمتها صندوق النقد الدولي، فهذه المؤسسات تستغل فرصة ضعف الدولة لكي تفرض شروطها. ولهذا السبب يرى محدثنا أن دعوات الاتحاد العام التونسي للشغل للحوار دعوات يجب التجاوب معها لأنه لا بد من الجلوس معا في القريب العاجل على مائدة الحوار لتحديد الأولويات وبلورة الحلول، أما مواصلة الهروب إلى الأمام فإنها لن تؤدي إلا إلى فتح شروخ لا يمكن رأبها، فالمسألة المالية والاقتصادية مسألة حارقة تستدعي استعجال النظر فيها وبحث حلول لها، ولكن في صورة مزيد التأخير والتراخي فسيكون للازمة الاقتصادية انعكاسات جد سلبية على الجانب الاجتماعي وقد رأينا حجم القلق الذي تسبب فيه التأخير في صرف أجور شهر جانفي..
وأشار محدثنا إلى أن المطلوب من السلطة هو التعجيل في إيجاد حلول للوضع الاجتماعي قبل حصول انفجار، فعلى السلطة تجنب فتح كل الواجهات وإحداث الشروخ في المجتمع كالتي تسبب فيها الإجراء الأخير القاضي بحل المجلس الأعلى للقضاء الذي عمق الخلافات بين الفرقاء.. فعوضا عن حل المجلس الأعلى للقضاء كان من الأولى فتح النقاش حول كيفية تفعيل القانون عدد 38 المتعلق بالانتدابات الاستثنائية في القطاع العام، لأن تجاهل هذا القانون بعد أن أمضى عليه رئيس الجمهورية نفسه وبعد أن صدر في الرائد الرسمي من شأنه أن يعقد الأزمة الاجتماعية، وذكر أن هذا القانون بعد صدوره يجب احترامه ويجب إيجاد كل الوسائل لتطبيقه وإلا فإن المجتمع سيفقد الثقة في الدولة، واستدرك مبينا أنه بالإمكان تعديل هذا القانون كما أنه بالإمكان وضع روزنامة لتطبيقة بصفة تدريجية أما أن يتم غلق الأبواب وشطبه بالشكل الذي فعله الرئيس سعيد فهذا لن يزيد سوى في منسوب التوتر الاجتماعي والاحتقان في صفوف المعطلين عن العمل الذين علقوا الكثير من الآمال على القانون المذكور.
وبخصوص رأيه في مقترحات رئيس الجمهورية المتعلقة بسن مرسوم حول الصلح الجزائي ومرسوم آخر تحت عنوان من أين لك هذا؟ ذكر بن أحمد أن الصلح الجزائي لا يمكن أن تقوم به إلا مؤسسات قوية متعافية، وفسر أنه من حق رئيس الجمهورية أن يقترح أي قانون لكنه لا يمكنه سن القوانين في ظل دولة مفككة فيها برلمان مجمد وهيئة مقاومة الفساد مغلقة ومجلس أعلى للقضاء محلول وقد يأتي الدور على بقية الهيئات. وذكر أن شعار من أين لك هذا هو شعار جميل خاصة وأن هناك أناسا أثروا ثراء فاحشا وبطرق غير مشروعة، لكن معالجة فسادهم لا يمكن أن تكون إلا في دولة تلعب فيها المؤسسات أدوارها.
وخلص مصطفى بن أحمد إلى أن الوضع الذي تمر به البلاد دقيق للغاية ويستدعي التسريع في القيام بإصلاحات عاجلة للمالية العمومية والاقتصاد، وهذا يتم عبر الذهاب إلى حوار وطني جامع وشامل يضع الأولويات ويشارك فيه الجميع، إلا من خير إقصاء نفسه أو من صدرت في شأنهم أحكام قضائية تدينهم بالفساد أو استغلال السلطة وغيرها. ويدور الحوار حسب رأيه وفق ضوابط يلتزم بها الجميع ويتم تحت خيمة الاتحاد العام التونسي للشغل، لأن هذه المنظمة العريقة لها ما يكفي من الأهلية والقدرة على أن تكون غطاء لمثل هذا الحوار المصيري الذي تحتاجه البلاد كثيرا..