46.5 بالمائة من الشباب التونسي يُفكرون بشكل دائم في الهجرة حسب دراسة قام بها مُؤخّرا المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية. 39 ألف مهندس تونسي غادروا البلاد حسب رئيس عمادة المهندسين، دون احتساب الأطباء والخبراء المحاسبين وغيرهم من الكفاءات التونسية العليا الأخرى. أكثر من 60 بالمائة من المؤسسات الصغرى مهددة بالغلق حسب رئيس الجامعة التونسية للحرفيين والمؤسسات الصغرى. مراكب الموت تقذف بأبنائنا يوميّا في سواحل البلاد بعد محاولاتهم الهروب من واقعهم في وطنهم. صرف مرتبات الموظفين العموميين ومنح المتعاقدين تأخر هذا الشهر بشكل غير مسبوق. الأسعار ترتفع كل يوم بشكل مُشطّ... والأمثلة عديدة على قتامة الوضع الاقتصادي والاجتماعي. حتى الأطبّاء أصبحوا يعيشون حالة كساد لأن المرضى مُجبرون على تحمّل معاناة مرضهم لعدم توفّر تكلفة العيادة الطبية لديهم ولعدم توفّر عديد الأدوية في الصيدليات، ما عدا ربما الأطباء المختصين في الأمراض النفسية بسبب كثرة المواطنين المُكتئبين.
كل ذلك في تعتيم إعلامي غير مفهوم وغير مُبرر، ممّا يفتح الأبواب أمام التأويلات والإشاعات. فتستقر الحيرة في مختلف الأوساط الشعبية وخاصة لدى النخبة العلمية والثقافية والسياسية. فكثرت التحركات والاحتجاجات والتجاذبات والتحالفات بشكل عشوائي يتميّز معظمها بالغموض أحيانا وبالانتهازية أحيانا أخرى.
ولقد برزت في المدّة الأخيرة تحالفات أبعد ما يكون عن المنطق. فهذا شق من اليسار، ممّن كانوا في الماضي القريب يدعون بكل جهد إلى الإلحاد، يرمي بنفسه بين أحضان الإخوان المسلمين دعاة التكفير والإرهاب. وهذا مؤسس حزب التحريرالداعشي المتطرف الذي يدعو إلى دولة الخلافة ولا يُؤمن بالدولة التونسية ولا بدستورها ولا حتى بحدودها وبعلمها يُسبّح باسم الرئيس قيس سعيّد الذي يُفترض أنه في عداء مع الإسلام السياسي بما أنه أزاح حركة النهضة من المشهد السياسي.
الأمثلة لمثل هذه التقاربات الغريبة عديدة، وكلها تتنافس على بعث ما يُسمّى بالخط الثالث. باعتبار أن الخط الأول تُمثلّه سلطة ما قبل 25 جويلية، أي حركة النهضة الإسلامية ومن لفّ لفها، وأن الخط الثاني يُمثّله رئيس الجمهورية ومُفسّرو خطّ الرئيس مجهولو الهوية.
البحث عن خط ثالث منطقي ومشروع. بما أن الخط الأول سيّء الذكر يُفترض أن يكون في عداد التاريخ، وأن الخط الثاني يتّسم بالغموض التام وبالتباطؤ في اتخاذ الإجراءات الحاسمة لإخراج البلاد من أزماتها الخطيرة ومن تمطّط في فترة المرحلة الانتقالية بما في ذلك من مخاطر على مزيد تفاقم تلك الأزمات، كما يُمثّل لدى عامّة التونسيين صندوقا أسودا يحتوي على مشروع تجربة غامضة المعالم، ناهيك أن الشعب التونسي لم يُشارك في "الاستشارة الإلكترونية" الرئاسية خلال نصف شهر إلّا بنسبة تفوق بقليل 1% من مجموع السكان الذين هم في سن يسمح لهم بالمشاركة في الانتخابات.
هذا الخط الثالث كان الاتحاد العام التونسي للشغل أول من دعا إليه. وكان ينوي على ما يبدو القيام فيه بدور القاطرة التي ستجّر عربات الحوار الوطني المنشود. ولقد كان ذلك ممكنا لو أنه أسرع في الخوض في هذا الحوار بمعية منظمات وطنية عتيدة أخرى وعدد من جمعيات المجتمع الوطني المستقلة والوازنة. لكن الظاهر هو أن الاتحاد لم يجرؤ على الشروع في تنفيذ مشروع الخط الثالث بدون موافقة رئيس الجمهورية وبدون مشاركة الرئاسة. وهو مُخطئ في اعتقادي في هذا التمشّي، لأن مشاركة الرئاسة تنفي صفة الخط الثالث بما أنه يلتقي بالخط الثاني، خط قيس سعيّد.
"الخط الثالث" هو أيضا الشعار الذي رفعته ثلاثة أحزاب، التيار الديمقراطي والتكتل والحزب الجمهوري، وهي أحزاب نُخطئ لو قلنا بأنها وازنة في المشهد السياسي التونسي، خاصّة وأن اثنين منها شاركا بشكل فاعل في السلطة خلال العشرية السوداء. زد على ذلك أن قيادات هذه الأحزاب صرّحت بأن المبادرة مفتوحة على جميع الأحزاب، بما فيها تلك التي شاركت في إضعاف الدولة وإنهاك خزينتها وإجهاض الانتقال الديمقراطي والتآمر على مدنية الدولة وعلى سيادتها، وفي مقدمتها الحزب المُشتبه فيه بخصوص إنشاء جهاز سري وفي قضايا الاغتيالات السياسية والعمليات الإرهابية... وبعبارة أوضح، فإن هذا "الخط الثالث" لا يعدو أن يكون مطيّة لنفض الغبار عن الخط الأول.
نحن فعلا في حاجة إلى خطّ ثالث، شريطة أن يكون مختلفا ومستقلّا عن الخطيْن الأوّليْن. وأنا على يقين بأن المجتمع المدني، لا فقط قادر على رسم معالمه وتطبيقه، بل هو مدعوّ بإلحاح للقيام بهذه المهمّة التي هي من واجباته في هذا الظرف الدقيق الذي تمرّ به البلاد لاسترجاع الدولة المدنية الاجتماعية الحديثة على أسس قيم الجمهورية والمبادئ الكونية لحقوق الإنسان بعيدا عن الاختيارات الشخصية والإيديولوجية.
(*) رئيس مرصد الدفاع عن الدولة المدنية
بقلم: منير الشرفي(*)
46.5 بالمائة من الشباب التونسي يُفكرون بشكل دائم في الهجرة حسب دراسة قام بها مُؤخّرا المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية. 39 ألف مهندس تونسي غادروا البلاد حسب رئيس عمادة المهندسين، دون احتساب الأطباء والخبراء المحاسبين وغيرهم من الكفاءات التونسية العليا الأخرى. أكثر من 60 بالمائة من المؤسسات الصغرى مهددة بالغلق حسب رئيس الجامعة التونسية للحرفيين والمؤسسات الصغرى. مراكب الموت تقذف بأبنائنا يوميّا في سواحل البلاد بعد محاولاتهم الهروب من واقعهم في وطنهم. صرف مرتبات الموظفين العموميين ومنح المتعاقدين تأخر هذا الشهر بشكل غير مسبوق. الأسعار ترتفع كل يوم بشكل مُشطّ... والأمثلة عديدة على قتامة الوضع الاقتصادي والاجتماعي. حتى الأطبّاء أصبحوا يعيشون حالة كساد لأن المرضى مُجبرون على تحمّل معاناة مرضهم لعدم توفّر تكلفة العيادة الطبية لديهم ولعدم توفّر عديد الأدوية في الصيدليات، ما عدا ربما الأطباء المختصين في الأمراض النفسية بسبب كثرة المواطنين المُكتئبين.
كل ذلك في تعتيم إعلامي غير مفهوم وغير مُبرر، ممّا يفتح الأبواب أمام التأويلات والإشاعات. فتستقر الحيرة في مختلف الأوساط الشعبية وخاصة لدى النخبة العلمية والثقافية والسياسية. فكثرت التحركات والاحتجاجات والتجاذبات والتحالفات بشكل عشوائي يتميّز معظمها بالغموض أحيانا وبالانتهازية أحيانا أخرى.
ولقد برزت في المدّة الأخيرة تحالفات أبعد ما يكون عن المنطق. فهذا شق من اليسار، ممّن كانوا في الماضي القريب يدعون بكل جهد إلى الإلحاد، يرمي بنفسه بين أحضان الإخوان المسلمين دعاة التكفير والإرهاب. وهذا مؤسس حزب التحريرالداعشي المتطرف الذي يدعو إلى دولة الخلافة ولا يُؤمن بالدولة التونسية ولا بدستورها ولا حتى بحدودها وبعلمها يُسبّح باسم الرئيس قيس سعيّد الذي يُفترض أنه في عداء مع الإسلام السياسي بما أنه أزاح حركة النهضة من المشهد السياسي.
الأمثلة لمثل هذه التقاربات الغريبة عديدة، وكلها تتنافس على بعث ما يُسمّى بالخط الثالث. باعتبار أن الخط الأول تُمثلّه سلطة ما قبل 25 جويلية، أي حركة النهضة الإسلامية ومن لفّ لفها، وأن الخط الثاني يُمثّله رئيس الجمهورية ومُفسّرو خطّ الرئيس مجهولو الهوية.
البحث عن خط ثالث منطقي ومشروع. بما أن الخط الأول سيّء الذكر يُفترض أن يكون في عداد التاريخ، وأن الخط الثاني يتّسم بالغموض التام وبالتباطؤ في اتخاذ الإجراءات الحاسمة لإخراج البلاد من أزماتها الخطيرة ومن تمطّط في فترة المرحلة الانتقالية بما في ذلك من مخاطر على مزيد تفاقم تلك الأزمات، كما يُمثّل لدى عامّة التونسيين صندوقا أسودا يحتوي على مشروع تجربة غامضة المعالم، ناهيك أن الشعب التونسي لم يُشارك في "الاستشارة الإلكترونية" الرئاسية خلال نصف شهر إلّا بنسبة تفوق بقليل 1% من مجموع السكان الذين هم في سن يسمح لهم بالمشاركة في الانتخابات.
هذا الخط الثالث كان الاتحاد العام التونسي للشغل أول من دعا إليه. وكان ينوي على ما يبدو القيام فيه بدور القاطرة التي ستجّر عربات الحوار الوطني المنشود. ولقد كان ذلك ممكنا لو أنه أسرع في الخوض في هذا الحوار بمعية منظمات وطنية عتيدة أخرى وعدد من جمعيات المجتمع الوطني المستقلة والوازنة. لكن الظاهر هو أن الاتحاد لم يجرؤ على الشروع في تنفيذ مشروع الخط الثالث بدون موافقة رئيس الجمهورية وبدون مشاركة الرئاسة. وهو مُخطئ في اعتقادي في هذا التمشّي، لأن مشاركة الرئاسة تنفي صفة الخط الثالث بما أنه يلتقي بالخط الثاني، خط قيس سعيّد.
"الخط الثالث" هو أيضا الشعار الذي رفعته ثلاثة أحزاب، التيار الديمقراطي والتكتل والحزب الجمهوري، وهي أحزاب نُخطئ لو قلنا بأنها وازنة في المشهد السياسي التونسي، خاصّة وأن اثنين منها شاركا بشكل فاعل في السلطة خلال العشرية السوداء. زد على ذلك أن قيادات هذه الأحزاب صرّحت بأن المبادرة مفتوحة على جميع الأحزاب، بما فيها تلك التي شاركت في إضعاف الدولة وإنهاك خزينتها وإجهاض الانتقال الديمقراطي والتآمر على مدنية الدولة وعلى سيادتها، وفي مقدمتها الحزب المُشتبه فيه بخصوص إنشاء جهاز سري وفي قضايا الاغتيالات السياسية والعمليات الإرهابية... وبعبارة أوضح، فإن هذا "الخط الثالث" لا يعدو أن يكون مطيّة لنفض الغبار عن الخط الأول.
نحن فعلا في حاجة إلى خطّ ثالث، شريطة أن يكون مختلفا ومستقلّا عن الخطيْن الأوّليْن. وأنا على يقين بأن المجتمع المدني، لا فقط قادر على رسم معالمه وتطبيقه، بل هو مدعوّ بإلحاح للقيام بهذه المهمّة التي هي من واجباته في هذا الظرف الدقيق الذي تمرّ به البلاد لاسترجاع الدولة المدنية الاجتماعية الحديثة على أسس قيم الجمهورية والمبادئ الكونية لحقوق الإنسان بعيدا عن الاختيارات الشخصية والإيديولوجية.
