يبدو أن جانفي العام الجديد سيكون مختلفا عن الشهر الأول من السنوات القليلة الماضية، وتؤشر بعض المعطيات لتغيرات جديدة في المشهد العام، وذلك بعد أن أصبح هذا الشهر في العشرية الأخيرة أشبه بموسم للاحتجاجات والانتفاضات والتحركات الشعبية المطالبة بتحقيق استحقاقات الثورة من تشغيل يضمن كرامة المواطن لاسيما بعد أن تفاقمت أزم البطالة ورافقها ارتفاع غير مسبوق في أسعار المعيشة وعدالة اجتماعية بين الجهات والأفراد. فرغم قساوة الظروف الاجتماعية في هذه الفترة لم يخرج المواطنون إلى الشارع للاحتجاج بل قبل الجميع الدخول في هدنة وحالة صمت وترقب وانتظار لما يمكن أن تؤول إليه الأوضاع على جميع المستويات. وهو عامل خادم لتوجه رئيس الجمهورية قيس سعيد ومساند له إلى حد الآن. بما يفتح المجال لقراءات تضع مكونات المشهد السياسي في موضع الاتهام والمسؤولية تجاه الوضع السائد.
يأتي ذلك في الوقت الذي تتعالى فيه أصوات عديد الجهات السياسية للمراهنة على الشارع مرة لقلب موازين القوى السياسية والحيلولة دون مضي سعيد في تفعيل وتنفيذ أي مشروع من شانه تغيير قوانين اللعبة الخاصة بالمنظومة السياسية عبر تكثيف الدعوات للمواطنين للنزول للشارع والتحرك سواء تعلق الأمر بحركة "مواطنون ضد الانقلاب" أو غيرها ولكن إلى حد الآن حافظت القواعد الشعبية على مواقعها الحيادية الرافضة للانخراط في أي لعبة سياسية أو حزبية. بما يؤكد ما ذهب إليه متابعون للشأن الوطني بأن تجميد البرلمان ومن ثمة الأحزاب السياسية كشف حقيقة الدور السلبي الذي كانت تلعبه بعض الأحزاب والسياسيين في تونس في مثل هذه الفترة التي تتزامن مع ذكرى أحداث الثورة وذلك بوقوفها وراء تحريك الشارع وإلهاء الجميع باحتجاجات لا طائل من ورائها سواء إلحاق أضرار مادية ومعنوية بعدد من الشباب المشارك فيها وعائلاتهم وتعطيل عدة مصالح وخدمات دون موجب حق ودون محاسبة لأي طرف، لتكون تلك التحركات مناسبة للتعمية والتغطية على المطالب والنقائص الحقيقية.
لذلك كان للقرارات والإجراءات الرئاسية المترتبة عن 25 جولية تداعياتها على المشهد العام خاصة أن نسبة كبيرة من المواطنين ترحب وتدعم وتساند سعيد وتراهن على خياراته ونجاحه سياسته في تحقيق الانتظارات والمطالب انتظروها التي لطالما وناشدوها في سنوات ما بعد ثورة 2011. لتتحول المعادلة والأدوار في هذا الجانب إلى نزول السياسيين أنفسهم إلى الشارع للتعبير عن رفضهم لكل مبادرات التغيير بدءا بتغيير تاريخ عيد الثورة الذي كان محددا في 14 جانفي من كل عام ليصبح وفق قرار رئيس الجمهورية مؤخرا يوم 17 ديسمبر مرورا بقرار تجميد البرلمان إلى حين تنظيم الانتخابات التشريعية التي ستتزامن مع الاحتفال بذكرى عيد الثورة القادم وغيرها من المواعيد المفصلية الجديدة في التسقيف الزمني للمرحلة الاستثنائية التي أعلن عنها سعيد استجابة لمطالب عدة جهات داخلية وخارجية وصولا إلى حد تصعيد المعارضين لرئيس الجمهورية في تحركاتهم بالدخول في اعتصام فإضراب جوع والتحضير لتنظيم تعبئة شعبية يوم 14 جانفي الجاري. وذلك بعد فشل المراهنة على الخارج ومحاولة الاستقواء بالأجنبي في عديد المناسبات وفشل أيضا محاولات التأجيج في الداخل.
ورغم محاولات الشق السياسي المعارض استدراج المنظمة الشغيلة إلى مربع تحركاتها من خلال المراهنة على شبه القطيعة الحاصلة إلى حد الآن بين سعيد والاتحاد العام التونسي للشغل الذي عبر عن ترحيبه ودعمه لحراك 25 جويلية ولكنه قوبل ببرود رئاسة الجمهورية وعدم تفاعلها مع كل المبادرات التي قدمها في سياق الاصلاح وتقريب وجهات النظر خاصة أن الاتحاد متمسك بمبدأ التشاركية في اتخاذ القرارات والمسارات الإصلاحية في البلاد وحقه في المشاركة في ذلك. فيما لا يزال سعيد متمسكا أيضا بتفرده بالسلطة والقرار رغم تأكيده في عديد المناسبات على أنه مستعد لتنظيم حوار ولكن ليس على طريقة الحوارات السابقة.
في المقابل يتواصل تجنيد المواطنين لدعم المسار الإصلاحي الذي اختاره قيس سعيد عبر صفحات التواصل الاجتماعي أو التحرك الميداني داخل الجهات من أجل إقناع الجميع بأهمية وجدوى المشروع الجديد بما يفتحه من إمكانيات لاستعادة الدولة لمكانتها ومن ثمة دورها تجاه المواطن ويدفع لإعادة بناء ثقة المواطن في الدولة من خلال رئيس الجمهورية بعد أن تراجعت هذه الثقة وقاربت الانعدام في السنوات الأخيرة.
وإذا كان سعيد نجح إلى حد الآن في الحفاظ على أمن وصمت الشارع التونسي رغم كومة الأزمات والصعوبات الخانقة التي تتخبط فيها نسب كبيرة من الشعب التونسي، فإن الوضع مرشح للتطور خلال الفترة القادمة خاصة أمام إصرار الشق المعارض على التصعيد في ظل توسع دائرة المعارضين لرئيس الجمهورية ورفض تفرده بكل السلطات وغلق منافذ التواصل والحوار مع جميع مكونات المشهد السياسي والمنظمات والهياكل والمؤسسات المعنية.
لتضاف إلى ذلك عوامل أخرى منها فتح باب الإيقافات والملفات القضائية الحارقة ضد المذنبين في سياق تنفيذ مطالب المواطنين ووعود رئيس الجمهورية المتكررة بمحاسبة الفاسدين وكل من أجرم في حق الدولة والمواطنين خلال السنوات العشر الأخيرة ولعل أبرزها إن لم يكن أولها عملية إيقاف نورالدين البحيري القيادي في حركة النهضة ووزير العدل السابق.
نزيهة الغضباني
تونس – الصباح
يبدو أن جانفي العام الجديد سيكون مختلفا عن الشهر الأول من السنوات القليلة الماضية، وتؤشر بعض المعطيات لتغيرات جديدة في المشهد العام، وذلك بعد أن أصبح هذا الشهر في العشرية الأخيرة أشبه بموسم للاحتجاجات والانتفاضات والتحركات الشعبية المطالبة بتحقيق استحقاقات الثورة من تشغيل يضمن كرامة المواطن لاسيما بعد أن تفاقمت أزم البطالة ورافقها ارتفاع غير مسبوق في أسعار المعيشة وعدالة اجتماعية بين الجهات والأفراد. فرغم قساوة الظروف الاجتماعية في هذه الفترة لم يخرج المواطنون إلى الشارع للاحتجاج بل قبل الجميع الدخول في هدنة وحالة صمت وترقب وانتظار لما يمكن أن تؤول إليه الأوضاع على جميع المستويات. وهو عامل خادم لتوجه رئيس الجمهورية قيس سعيد ومساند له إلى حد الآن. بما يفتح المجال لقراءات تضع مكونات المشهد السياسي في موضع الاتهام والمسؤولية تجاه الوضع السائد.
يأتي ذلك في الوقت الذي تتعالى فيه أصوات عديد الجهات السياسية للمراهنة على الشارع مرة لقلب موازين القوى السياسية والحيلولة دون مضي سعيد في تفعيل وتنفيذ أي مشروع من شانه تغيير قوانين اللعبة الخاصة بالمنظومة السياسية عبر تكثيف الدعوات للمواطنين للنزول للشارع والتحرك سواء تعلق الأمر بحركة "مواطنون ضد الانقلاب" أو غيرها ولكن إلى حد الآن حافظت القواعد الشعبية على مواقعها الحيادية الرافضة للانخراط في أي لعبة سياسية أو حزبية. بما يؤكد ما ذهب إليه متابعون للشأن الوطني بأن تجميد البرلمان ومن ثمة الأحزاب السياسية كشف حقيقة الدور السلبي الذي كانت تلعبه بعض الأحزاب والسياسيين في تونس في مثل هذه الفترة التي تتزامن مع ذكرى أحداث الثورة وذلك بوقوفها وراء تحريك الشارع وإلهاء الجميع باحتجاجات لا طائل من ورائها سواء إلحاق أضرار مادية ومعنوية بعدد من الشباب المشارك فيها وعائلاتهم وتعطيل عدة مصالح وخدمات دون موجب حق ودون محاسبة لأي طرف، لتكون تلك التحركات مناسبة للتعمية والتغطية على المطالب والنقائص الحقيقية.
لذلك كان للقرارات والإجراءات الرئاسية المترتبة عن 25 جولية تداعياتها على المشهد العام خاصة أن نسبة كبيرة من المواطنين ترحب وتدعم وتساند سعيد وتراهن على خياراته ونجاحه سياسته في تحقيق الانتظارات والمطالب انتظروها التي لطالما وناشدوها في سنوات ما بعد ثورة 2011. لتتحول المعادلة والأدوار في هذا الجانب إلى نزول السياسيين أنفسهم إلى الشارع للتعبير عن رفضهم لكل مبادرات التغيير بدءا بتغيير تاريخ عيد الثورة الذي كان محددا في 14 جانفي من كل عام ليصبح وفق قرار رئيس الجمهورية مؤخرا يوم 17 ديسمبر مرورا بقرار تجميد البرلمان إلى حين تنظيم الانتخابات التشريعية التي ستتزامن مع الاحتفال بذكرى عيد الثورة القادم وغيرها من المواعيد المفصلية الجديدة في التسقيف الزمني للمرحلة الاستثنائية التي أعلن عنها سعيد استجابة لمطالب عدة جهات داخلية وخارجية وصولا إلى حد تصعيد المعارضين لرئيس الجمهورية في تحركاتهم بالدخول في اعتصام فإضراب جوع والتحضير لتنظيم تعبئة شعبية يوم 14 جانفي الجاري. وذلك بعد فشل المراهنة على الخارج ومحاولة الاستقواء بالأجنبي في عديد المناسبات وفشل أيضا محاولات التأجيج في الداخل.
ورغم محاولات الشق السياسي المعارض استدراج المنظمة الشغيلة إلى مربع تحركاتها من خلال المراهنة على شبه القطيعة الحاصلة إلى حد الآن بين سعيد والاتحاد العام التونسي للشغل الذي عبر عن ترحيبه ودعمه لحراك 25 جويلية ولكنه قوبل ببرود رئاسة الجمهورية وعدم تفاعلها مع كل المبادرات التي قدمها في سياق الاصلاح وتقريب وجهات النظر خاصة أن الاتحاد متمسك بمبدأ التشاركية في اتخاذ القرارات والمسارات الإصلاحية في البلاد وحقه في المشاركة في ذلك. فيما لا يزال سعيد متمسكا أيضا بتفرده بالسلطة والقرار رغم تأكيده في عديد المناسبات على أنه مستعد لتنظيم حوار ولكن ليس على طريقة الحوارات السابقة.
في المقابل يتواصل تجنيد المواطنين لدعم المسار الإصلاحي الذي اختاره قيس سعيد عبر صفحات التواصل الاجتماعي أو التحرك الميداني داخل الجهات من أجل إقناع الجميع بأهمية وجدوى المشروع الجديد بما يفتحه من إمكانيات لاستعادة الدولة لمكانتها ومن ثمة دورها تجاه المواطن ويدفع لإعادة بناء ثقة المواطن في الدولة من خلال رئيس الجمهورية بعد أن تراجعت هذه الثقة وقاربت الانعدام في السنوات الأخيرة.
وإذا كان سعيد نجح إلى حد الآن في الحفاظ على أمن وصمت الشارع التونسي رغم كومة الأزمات والصعوبات الخانقة التي تتخبط فيها نسب كبيرة من الشعب التونسي، فإن الوضع مرشح للتطور خلال الفترة القادمة خاصة أمام إصرار الشق المعارض على التصعيد في ظل توسع دائرة المعارضين لرئيس الجمهورية ورفض تفرده بكل السلطات وغلق منافذ التواصل والحوار مع جميع مكونات المشهد السياسي والمنظمات والهياكل والمؤسسات المعنية.
لتضاف إلى ذلك عوامل أخرى منها فتح باب الإيقافات والملفات القضائية الحارقة ضد المذنبين في سياق تنفيذ مطالب المواطنين ووعود رئيس الجمهورية المتكررة بمحاسبة الفاسدين وكل من أجرم في حق الدولة والمواطنين خلال السنوات العشر الأخيرة ولعل أبرزها إن لم يكن أولها عملية إيقاف نورالدين البحيري القيادي في حركة النهضة ووزير العدل السابق.