كسر»حلف الصمت« الذي ابتدعته المافيا، تحت شعار أنا لا أسمع ولا أرى ولا أتكلم، هو الخطوة الأولى لمكافحة جدية ومسؤولة للفساد، وفق القانون ودون حصانة لا وظيفية ولا عائلية ولا سياسية لأي أحد.. ذلك ما أكده رئيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد عماد بوخريص في هذا الحوار المطول لجريدة »الصباح « ..
كما يرى عماد بوخريص، أنه لم يسع لرئاسة الهيئة ولكن عند تقلده لمنصبه قطع عهدا على نفسه ألا يكون هناك من فوق المساءلة وأن لا حصانة تحمي من تورط في الفساد، وإذا كان سلفه ربما قد يكون دفع ثمن التقرير الذي أنصفت فيه الهيئة الحقيقة وأدانت رئيس الحكومة السابق الياس الفخفاخ بعيدا عن كل اعتبارات سياسية، فانه يؤكد على استعداده لإحالة أي كان متى ثبت تورطه حتى ولو كلفه ذلك إقالته من منصبه، قائلا : »المهم أن أكون قد أديت واجبي بما يمليه علي ضميري، وإذا كان الثمن الإقالة فانه سيكون ثمنا محمودا، لأن لا أحد فوق القانون« .
كما نفى عماد بوخريص في مهمته الجديدة على رأس الهيئة أن يكون تعرض الى ضغوطات او محاولات تدخل، ولكنه لم ينف حجم الهرسلة والضغوطات التي يتعرض إليها المبلغون عن الفساد والبالغ عددهم وفق معطيات أمدنا بها حوالي 600 مبلغ.. ومن ذلك أن أحدهم تم إيقافه عن العمل لمدة خمس سنوات وقد نجحت الهيئة مؤخرا في إعادته لعمله، وانه اضطر خلال تلك المدة الى العمل في نزل رغم انه كان اطارا مرموقا في وزارة سيادة.
كما أشار بوخريص إلى أن النساء هم الأكثر ثباتا وصلابة في التصدي للفساد، كما تحدث في هذا الحوار عن الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد في جزئها الثاني، وآلية الاستخبار الرقمي التي سينطلق العمل بها وعلاقة الهيئة بعدة ملفات خطيرة مثل الفساد السياسي وغيرها من الملفات المطروحة اليوم كتحديات ورهانات أمام هيئة مكافحة الفساد .
لو نبدأ بالحديث عن الإستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد التي أعلنتها الهيئة منذ أيام.. ما هي رهاناتها وأهدافها، وهل يعني ذلك أن هذه الإستراتيجية فشلت في جزئها الأول؟
-الإستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد في جزئها الثاني هي عمل تفاعلي وتشاركي مع جميع مكونات المجتمعية بما في ذلك مجلس النواب والسلطة التنفيذية ممثلة في الإدارة العامة للحوكمة وفي رئاسة الحكومة التي فوضت لنا القيام بهذه المهمة.. ورغم أن الهيئة هي من تعد وتشرف على التنفيذ لكن نحن اخترنا ان يكون ذلك في إطار تشاركي بما في ذلك الجهات من خلال إشراف مكاتبنا الجهوية على تنظيم هذه الاستشارة في بعدها الوطني والجهوي أيضا.
في هذه الإستراتيجية سنشتغل على جانب وقائي يتمثل في الحوكمة وجانب زجري وهو مكافحة الفساد..
من هي الفئات المستهدفة بهذه الإستراتيجية؟
-نحن نريد تشريك فئة الشباب، خاصة وأنه تم الانتهاء من دراسة حول مدركات الفساد، تبين من خلالها أن أكثر من 80 بالمائة من الشعب التونسي، ينبذ الفساد، ولكن عند السؤال »لو أتيحت لك الفرصة للحصول على شيء لا تستحقه هل أنت مستعد لدفع رشوة من أجل ذلك"، وهنا المفاجأة، حيث أن أكثر من 20 بالمائة أجابوا بنعم من أجل التعجيل في أمر معين أو من أجل الحصول على منفعة أو قضاء شأن لا يستحقه أو لعدم اخضاعه لعقوبة كأن يحاول ارشاء عون مكلف باستخلاص خطايا معينة..
ثم أن هؤلاء المستجوبين في هذه الدراسة يرون الفساد في قطاعات كثيرة مثل الأمن والديوانة والبلديات ولكن على رأسهم جميعا تأتي الأحزاب السياسية التي يرونها بؤرا للفساد..
لكن بين نبذ الفساد كممارسة والقيام به عندما يقتضي الأمر ذلك لتيسير الحصول على مصلحة ما.. ألا يعكس ذلك ذهنية انفصامية في المجتمع؟
-بالضبط.. الفريق الذي أعد الدراسة اكتشف ان هذه سكيزوفرينيا بمعنى من جهة هناك نبذ للفساد واستعدادا لممارسته، وكأن هناك تطبيعا مع الفساد، تحت مسمى متداول شعبيا وهو »تدبير الرأس..أو ندبر في راسي"، ولذلك فإن الفئة التي يجب ان نخشى عليها هم الشباب، لأن هذا الشباب الذي وُلد ونشأ زمن بن علي وتربى على ممارسات معينة يعاينها ويسمع بها أصبح بالنسبة له الفساد نوع من التذاكي أو »تدبير الراس « وليس جريمة يعاقب مرتكبها، بالإضافة الى كون الدراسة رصدت مسألة أن الرجال وميسوري الحال هم الأكثر استعدادا لتقديم الرشوة .
لكن في مجتمع تؤكد المؤشرات انه مطبع مع الفساد او له استعداد لممارسته فهل يكفي الردع للسيطرة على هذه الآفة؟
-نحن لدينا دون شك خططا وأهدافا، لكي نحاول إلجام هذه الظاهرة السيئة والحد من انتشارها في المجتمع، وما لاحظته شخصيا وكذلك كل المختصين، أنه متى توفر العنصر البشري يكون هناك فساد، ولإرساء الشفافية والنزاهة والمساءلة بكل حياد وهم الأسس التي يرتكز عليها عمل الهيئة يجب العمل على تغيير هذه الذهنية المطبعة مع الفساد كما قلنا، وكذلك وضع آليات عملية تحول دون أن يجد الفساد منافذ يتسرب من خلالها.
في تقديرك ما هي الأسباب التي دفعت الى انهيار هذه الثقة في الدولة؟
-هناك عدم ثقة في أن الأمور ستتغير بالسرعة المطلوبة، وأن هناك عدالة للأغنياء لا تطبق وعدالة للفقراء تطبق بكل صرامة، وأن هناك من من لديهم حصانة وظيفية، حصانة عائلية، حصانة سياسية، وهم فوق القانون وفوق العقاب بينما أن من لا يملكون هذه الحصانة عرضة لكل التتبعات ولعقوبات صارمة، وهذا الواقع الذي ترسخ في
أكثر من ثلاثين سنة من حكم نظام فاسد، لا يمكن محوه أو القفز عليه بكبسة زرّ، لكن الأمر يتطلب وقتا وجهدا.
أولا يجب ان نعمل على إيقاف هذا النزيف ونؤكد ان لا أحد فوق القانون أو المساءلة وأنه للقضاء على الفساد الصغير يجب ان نبدأ من الفساد الكبير، كما يجب تفكيك منظومة الزواج غير القانوني بين المال والسياسة، وهذا الزواج الأشبه بزواج المتعة الذي يعتقد أطرافه انه سيبقيهم فوق العقاب وفوق المساءلة، ينبغي تفكيكه كليا.
كيف سيكون ذلك؟
-من خلال الإستراتيجية المعلنة سنسعى لتفكيك المنظومة بالكامل تحت شعار مركزي وهو لا حصانة وظيفية ولا سياسية ولا عائلية، وحتى من له حصانة كنواب البرلمان فان هذه الحصانة تحميه من التتبعات اثناء فترة مباشرته لمهامه ولكن لا تحميه من أعمال التقصي والأبحاث التي ستجريها الهيئة.
وأعمال التقصي والبحث هذه هل ستكون استنادا إلى تبليغات عن شبهات؟
-حتى دون تبليغ، قانون التصريح بالمكاسب يفرض في الفصل 15 التثبت في محتوى وصحة التصاريح الفئة من 1 إلى 12، وهم الرؤساء والوزراء ومدراء الدواوين والنواب وكل ما يتقلد مسؤولية رفيعة في الدولة بما في ذلك القضاة ويعدون تقريبا 10 آلاف شخص هم 10 آلاف شخص..
وهل انطلقت عملية التحري والبحث هذه؟
-نحن اليوم بصدد الانتهاء من التطبيقة بتسوية بعض الأمور العالقة منها الربط البيني مع وزارة المالية وذلك في اطار توجهنا الى التشبيك مع جميع قواعد البيانات المتاحة مثل قاعدة بيانات الملكية العقارية والسجل المدني والوكالة الفنية للنقل البري، وقد قمنا باتفاقيات، وهذا الترابط نستطيع من خلاله التثبت من صحة التصاريح وحقيقة المكاسب من خلال آلية الاستخبار الرقمي وعن طريق احداث التقاطعات في علاقة بالشخصية المصرحة بمكاسبها..
والتثبت يجب أن يكون موضوعه وفق ما ورد في النص القانوني، زيادة هامة من مكاسب الشخص أو زيادة ملحوظة في حجم الإنفاق، بمعنى زيادة لا تتناسب مع المداخيل.. بمعنى أن من يتقاضى 3 آلاف دينار فان امتلاكه لسيارة بـ 500 ألف دينار،لا يبدو متناسبا بين الانفاق والمداخيل ويثير أسئلة، هنا آلية الاستخبار الرقمي ستجيب على هذا الأسئلة وستدين من خرق القانون.
في ثروات ومكاسب من سيتم التأكد من خلال هذا الاستخبار الرقمي؟
-هم تحديدا أصحاب السلطة وصنّاع القرار..
هل أن ذلك كان بسبب الملاحظات المتواترة عن زيادة حجم ثروات السياسيين؟
-ممكن أيضا أن حجم الانفاق لا يتناسب مع ما كان صرّح به لدى الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد من مداخيل.. أحيانا هناك من يعدل في تصريحه بتصريح جديد يؤكد من خلاله أن هناك تغييرا جوهريا في مداخيله .
وما هي النتائج المتوقعة لهذا الاستخبار الرقمي ؟
-البرمجيات ستشتغل آليا وسترصد مواطن الخلل وفق درجة الخطورة، فإذا كانت بين الدرجة الرابعة والخامسة، فان التقصي هنا سيكون إجباريا، وان كانت الخطورة من درجة واحد واثنين وثلاثة، سنتحدث إلى المعني بالأمر، ونستفسر منه الأمر ويتم اصلاح ما يجب إصلاحه أو إضافته، ولكن الدرجتين الرابعة والخامسة، سيخضع صاحبها إلى اعمال البحث والتقصي والتي قد تفضي إلى الإحالة إلى القضاء.
وبالتالي هذه البرمجية ستكون برمجية خاصة ومتطورة، طالما استعملتها عدة أجهزة استخبارات دولية، كذلك يتم استعمالها من هيئات دولية مشابهة لهيئة مكافحة الفساد الوطنية، وهي برمجية خاصة للاستخبار الرقمي بمعنى أن هناك من يصرح مثلا انه يملك منزلا في حي ما، المفروض عند التصريح ان تضع مكان المنزل ومساحته، الاستخبار يتم من خلال التثبت من خلال قواعد بيانات مفتوحة للمعهد الوطني للإحصاء، تخبرنا بحقيقة سعر الأرض في ذلك المكان ويتثبت آليا في قيمة المنزل المصرح بها، ويرصد لوحده الخلل دون تدخل العنصر البشري، ولذلك انا دائما أؤكد على أهمية الرقمنة في مكافحة الفساد وإرساء الشفافية الكاملة.
متى تكون هذه البرمجية جاهزة للدخول خير العمل؟
-تقنيا نحن نبذل كل جهدنا لتكون جاهزة قبل شهر أكتوبر المقبل، لأن في شهر أكتوبر المقبل سيكون هناك شوط ثان للتصاريح او مرحلة تجديد التصاريح بالمكاسب ونحن نريدها ان تكون وفق المنظومة الجديدة، بمعنى أن كل شخص طبيعي سيكون له حساب..
بالنسبة إلى أصحاب السلطة وصناع القرار هل وردت عليكم تبليغات بشان شبهات ما تحوم حول ثرواتهم؟
-نعم.. يوميا ترد هذه التبليغات ولكن نحن نعتمد درجة المخاطر في فتح التقصي او الأبحاث .
ما تداول مؤخرا بشأن ثروة رئيس البرلمان هل كانت منطلقا لأعمال تحري او تقصي قامت بها الهيئة؟
-نحن دائما نتقصى على ضوء تبليغ او بتعهد تلقائي.
هل تعهدت الهيئة؟
-نتثبت أولا قبل التعهد.. رئيس البرلمان فاعل من الفاعلين السياسيين.. وهو من الفئة الواجب بالقانون التثبت في محتوى تصاريحه.. وعليه سوف نتثبت في مداخيل وممتلكات جميع من يخضعون للتثبت بما في ذلك الوزراء والنواب والرؤساء وكذلك رئيس مجلس النواب والقضاة وكل الذين لهم صفة صناع القرار او يملكون سلطة ما .
على ذكر القضاة، هل تثبتت الهيئة في كل ما يروج عن ثروة رئيس محكمة التعقيب الطيب راشد؟
-وردت علينا تبليغات ونحن بصدد التثبت في ملفه وملف وكيل الجمهورية بتونس البشير العكرمي، انطلقت أعمال التحري والتقصي ولكن التقرير النهائي لم يجهز بعد.
هل أزعجك غياب النواب عن جلسة مساءلتكم بالبرلمان وفي تقديرك ما هو السبب؟
-ليس هناك أي سبب مقنع.. والأمر ليس له علاقة بالانزعاج ولكن أنا وفريق عمل كامل جندنا أنفسنا لمدة خمسة أيام، لكن الأمر كان مضيعة للوقت أنا امتثلت وكنت حاضرا في المجلس احتراما للسلطة التشريعية.
هل هناك من الكتل من اعتذر منك؟
-لم يعتذر أحد.. إلا الرئيس الثاني لمجلس نواب الشعب هي من قدمت اعتذاراتها.. واعتقد أنهم فوتوا على انفسهم فرصة في التحاور مع الهيئة والاطلاع على أعمال الهيئة.
هناك من يتهم الهيئة بفشلها في حماية المبلغين عن الفساد الذين ما زالوا يتعرضون لشتى أنواع الانتقام؟
-الهيئة لم تفشل بل هي تبذل كل ما في وسعها وفق ما يتيحه لها القانون، وبالفعل المبلغون عن الفساد يتعرضون الى الهرسلة والى ممارسات انتقامية بلغت حد قطع الراتب.
نحن سنفرض الحماية، الفصل 35 يجبر رئيس الهيكل انفاذ قرارات الحماية وفي صورة لم يمتثل تتم إحالته على القضاء، وقد أحلنا على القضاء ثلاثة ملفات في هذا الصدد.. قرار الهيئة الذي لم يقع الطعن فيه امام المحكمة الإدارية واجب التنفيذ الا اذا تظلم هذا الهيكل من قرارنا أمام المحكمة الإدارية والمحكمة الإدارية قضت بإيقاف التنفيذ..
إلى أي مدى الهيئة نجحت في حماية مبلغيها؟
-هناك من المبلغين من يتعرض لممارسات سيئة جدا ونحن وصلنا إلى تفعيل حتى الحماية الأمنية لبعض الأشخاص شعرنا أنهم مهددين في حياتهم، نحن اليوم نحارب في منظومة متغلغلة وبصدد مواجهة "حلف الصمت " الذي أحدثته المافيا، بمعنى لا اسمع ولا أرى ولا أتكلم، ومن يريد كسر هذا الحلف، كانت المافيا في وقت سابق تقتله، اليوم تقع هرسلته وأفراد عائلته والشهود الذين شهدوا معه..
تحدثت منذ أيام عن ملف من العيار الثقيل تعمل الهيئة على إنهائه ويتعلق بشخصيات نافذة.. فلماذا ترفض الإفصاح عن تفاصيل هذا الملف وهل أن هذه الشخصيات نافذة اليوم سياسيا؟
-كل التفاصيل سيعلم بها الرأي العام عندما تتم الإحالة على القضاء لأن الحديث الآن قد يساعد على طمس بعض الأدلة وفتح باب للإفلات من العقاب.. كل ما أستطيع قوله أن هذه الشخصيات مصنفة ضمن الفئة من 1 الى 12 الذي نص عليها القانون وطبعا هم نافذين سياسيا اليوم، وكل ما أو قوله ان من كان يعتقد نفسه فوق القانون وفوق المساءلة سيراجعون أنفسهم، هم أو غيرهم، هذا الملف دليل على انه لا يجب أن يستهزأ أحد بالهيئة، هي قادمة لا محالة انتظرونا.
ماذا عن ملف الياس الفخفاخ وهل أن اليوم طرحت مسألة تضارب المصالح مع وزراء مشيشي المباشرين حاليا؟
-الملف لدى القضاء ينتظر البت فيه.. وبالنسبة لبعض الوزراء كانت لهم ممتلكات أرسلت لهم الهيئة تنابيه وامثلوا إلى ذلك، يعني من صرح مثلا انه كان مثلا مساهما في شركة أرسلنا له تنبيه وامتثل بالبيع او إحالة التصرف .
هل تتابع الهيئة ملف تلاقيح كورونا وماذا ستفعل إزاء الخروقات التي تم رصدها ؟
-نحن رصدنا انطلاقة غير موفقة للحملة وهناك من تلقى تلقيح من باب المجاملة، وهناك من قدم معطيات خاطئة، مثلا في صفاقس هناك أعوان في الإسعاف لم يتلقوا التلقيح رغم انهم في الصف الأول في حين هناك بعض أطباء التجميل قاموا بالتلقيح.. ونحن اذا اثبتت اعمال التقصي ان هناك شخصا حصل على التلقيح من باب المجاملة او الترضيات فسنحيل من كان سببا في ذلك على القضاء .
هل أحالت هيئة مكافحة الفساد التقرير الختامي لهيئة الحقيقة والكرامة على القضاء بسبب شبهة التدليس؟
-نعم تمت إحالة التقرير الختامي والاتفاقيات التحكيمية منذ عشرة أيام على القضاء .
حوار: منية العرفاوي
كسر»حلف الصمت« الذي ابتدعته المافيا، تحت شعار أنا لا أسمع ولا أرى ولا أتكلم، هو الخطوة الأولى لمكافحة جدية ومسؤولة للفساد، وفق القانون ودون حصانة لا وظيفية ولا عائلية ولا سياسية لأي أحد.. ذلك ما أكده رئيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد عماد بوخريص في هذا الحوار المطول لجريدة »الصباح « ..
كما يرى عماد بوخريص، أنه لم يسع لرئاسة الهيئة ولكن عند تقلده لمنصبه قطع عهدا على نفسه ألا يكون هناك من فوق المساءلة وأن لا حصانة تحمي من تورط في الفساد، وإذا كان سلفه ربما قد يكون دفع ثمن التقرير الذي أنصفت فيه الهيئة الحقيقة وأدانت رئيس الحكومة السابق الياس الفخفاخ بعيدا عن كل اعتبارات سياسية، فانه يؤكد على استعداده لإحالة أي كان متى ثبت تورطه حتى ولو كلفه ذلك إقالته من منصبه، قائلا : »المهم أن أكون قد أديت واجبي بما يمليه علي ضميري، وإذا كان الثمن الإقالة فانه سيكون ثمنا محمودا، لأن لا أحد فوق القانون« .
كما نفى عماد بوخريص في مهمته الجديدة على رأس الهيئة أن يكون تعرض الى ضغوطات او محاولات تدخل، ولكنه لم ينف حجم الهرسلة والضغوطات التي يتعرض إليها المبلغون عن الفساد والبالغ عددهم وفق معطيات أمدنا بها حوالي 600 مبلغ.. ومن ذلك أن أحدهم تم إيقافه عن العمل لمدة خمس سنوات وقد نجحت الهيئة مؤخرا في إعادته لعمله، وانه اضطر خلال تلك المدة الى العمل في نزل رغم انه كان اطارا مرموقا في وزارة سيادة.
كما أشار بوخريص إلى أن النساء هم الأكثر ثباتا وصلابة في التصدي للفساد، كما تحدث في هذا الحوار عن الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد في جزئها الثاني، وآلية الاستخبار الرقمي التي سينطلق العمل بها وعلاقة الهيئة بعدة ملفات خطيرة مثل الفساد السياسي وغيرها من الملفات المطروحة اليوم كتحديات ورهانات أمام هيئة مكافحة الفساد .
لو نبدأ بالحديث عن الإستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد التي أعلنتها الهيئة منذ أيام.. ما هي رهاناتها وأهدافها، وهل يعني ذلك أن هذه الإستراتيجية فشلت في جزئها الأول؟
-الإستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد في جزئها الثاني هي عمل تفاعلي وتشاركي مع جميع مكونات المجتمعية بما في ذلك مجلس النواب والسلطة التنفيذية ممثلة في الإدارة العامة للحوكمة وفي رئاسة الحكومة التي فوضت لنا القيام بهذه المهمة.. ورغم أن الهيئة هي من تعد وتشرف على التنفيذ لكن نحن اخترنا ان يكون ذلك في إطار تشاركي بما في ذلك الجهات من خلال إشراف مكاتبنا الجهوية على تنظيم هذه الاستشارة في بعدها الوطني والجهوي أيضا.
في هذه الإستراتيجية سنشتغل على جانب وقائي يتمثل في الحوكمة وجانب زجري وهو مكافحة الفساد..
من هي الفئات المستهدفة بهذه الإستراتيجية؟
-نحن نريد تشريك فئة الشباب، خاصة وأنه تم الانتهاء من دراسة حول مدركات الفساد، تبين من خلالها أن أكثر من 80 بالمائة من الشعب التونسي، ينبذ الفساد، ولكن عند السؤال »لو أتيحت لك الفرصة للحصول على شيء لا تستحقه هل أنت مستعد لدفع رشوة من أجل ذلك"، وهنا المفاجأة، حيث أن أكثر من 20 بالمائة أجابوا بنعم من أجل التعجيل في أمر معين أو من أجل الحصول على منفعة أو قضاء شأن لا يستحقه أو لعدم اخضاعه لعقوبة كأن يحاول ارشاء عون مكلف باستخلاص خطايا معينة..
ثم أن هؤلاء المستجوبين في هذه الدراسة يرون الفساد في قطاعات كثيرة مثل الأمن والديوانة والبلديات ولكن على رأسهم جميعا تأتي الأحزاب السياسية التي يرونها بؤرا للفساد..
لكن بين نبذ الفساد كممارسة والقيام به عندما يقتضي الأمر ذلك لتيسير الحصول على مصلحة ما.. ألا يعكس ذلك ذهنية انفصامية في المجتمع؟
-بالضبط.. الفريق الذي أعد الدراسة اكتشف ان هذه سكيزوفرينيا بمعنى من جهة هناك نبذ للفساد واستعدادا لممارسته، وكأن هناك تطبيعا مع الفساد، تحت مسمى متداول شعبيا وهو »تدبير الرأس..أو ندبر في راسي"، ولذلك فإن الفئة التي يجب ان نخشى عليها هم الشباب، لأن هذا الشباب الذي وُلد ونشأ زمن بن علي وتربى على ممارسات معينة يعاينها ويسمع بها أصبح بالنسبة له الفساد نوع من التذاكي أو »تدبير الراس « وليس جريمة يعاقب مرتكبها، بالإضافة الى كون الدراسة رصدت مسألة أن الرجال وميسوري الحال هم الأكثر استعدادا لتقديم الرشوة .
لكن في مجتمع تؤكد المؤشرات انه مطبع مع الفساد او له استعداد لممارسته فهل يكفي الردع للسيطرة على هذه الآفة؟
-نحن لدينا دون شك خططا وأهدافا، لكي نحاول إلجام هذه الظاهرة السيئة والحد من انتشارها في المجتمع، وما لاحظته شخصيا وكذلك كل المختصين، أنه متى توفر العنصر البشري يكون هناك فساد، ولإرساء الشفافية والنزاهة والمساءلة بكل حياد وهم الأسس التي يرتكز عليها عمل الهيئة يجب العمل على تغيير هذه الذهنية المطبعة مع الفساد كما قلنا، وكذلك وضع آليات عملية تحول دون أن يجد الفساد منافذ يتسرب من خلالها.
في تقديرك ما هي الأسباب التي دفعت الى انهيار هذه الثقة في الدولة؟
-هناك عدم ثقة في أن الأمور ستتغير بالسرعة المطلوبة، وأن هناك عدالة للأغنياء لا تطبق وعدالة للفقراء تطبق بكل صرامة، وأن هناك من من لديهم حصانة وظيفية، حصانة عائلية، حصانة سياسية، وهم فوق القانون وفوق العقاب بينما أن من لا يملكون هذه الحصانة عرضة لكل التتبعات ولعقوبات صارمة، وهذا الواقع الذي ترسخ في
أكثر من ثلاثين سنة من حكم نظام فاسد، لا يمكن محوه أو القفز عليه بكبسة زرّ، لكن الأمر يتطلب وقتا وجهدا.
أولا يجب ان نعمل على إيقاف هذا النزيف ونؤكد ان لا أحد فوق القانون أو المساءلة وأنه للقضاء على الفساد الصغير يجب ان نبدأ من الفساد الكبير، كما يجب تفكيك منظومة الزواج غير القانوني بين المال والسياسة، وهذا الزواج الأشبه بزواج المتعة الذي يعتقد أطرافه انه سيبقيهم فوق العقاب وفوق المساءلة، ينبغي تفكيكه كليا.
كيف سيكون ذلك؟
-من خلال الإستراتيجية المعلنة سنسعى لتفكيك المنظومة بالكامل تحت شعار مركزي وهو لا حصانة وظيفية ولا سياسية ولا عائلية، وحتى من له حصانة كنواب البرلمان فان هذه الحصانة تحميه من التتبعات اثناء فترة مباشرته لمهامه ولكن لا تحميه من أعمال التقصي والأبحاث التي ستجريها الهيئة.
وأعمال التقصي والبحث هذه هل ستكون استنادا إلى تبليغات عن شبهات؟
-حتى دون تبليغ، قانون التصريح بالمكاسب يفرض في الفصل 15 التثبت في محتوى وصحة التصاريح الفئة من 1 إلى 12، وهم الرؤساء والوزراء ومدراء الدواوين والنواب وكل ما يتقلد مسؤولية رفيعة في الدولة بما في ذلك القضاة ويعدون تقريبا 10 آلاف شخص هم 10 آلاف شخص..
وهل انطلقت عملية التحري والبحث هذه؟
-نحن اليوم بصدد الانتهاء من التطبيقة بتسوية بعض الأمور العالقة منها الربط البيني مع وزارة المالية وذلك في اطار توجهنا الى التشبيك مع جميع قواعد البيانات المتاحة مثل قاعدة بيانات الملكية العقارية والسجل المدني والوكالة الفنية للنقل البري، وقد قمنا باتفاقيات، وهذا الترابط نستطيع من خلاله التثبت من صحة التصاريح وحقيقة المكاسب من خلال آلية الاستخبار الرقمي وعن طريق احداث التقاطعات في علاقة بالشخصية المصرحة بمكاسبها..
والتثبت يجب أن يكون موضوعه وفق ما ورد في النص القانوني، زيادة هامة من مكاسب الشخص أو زيادة ملحوظة في حجم الإنفاق، بمعنى زيادة لا تتناسب مع المداخيل.. بمعنى أن من يتقاضى 3 آلاف دينار فان امتلاكه لسيارة بـ 500 ألف دينار،لا يبدو متناسبا بين الانفاق والمداخيل ويثير أسئلة، هنا آلية الاستخبار الرقمي ستجيب على هذا الأسئلة وستدين من خرق القانون.
في ثروات ومكاسب من سيتم التأكد من خلال هذا الاستخبار الرقمي؟
-هم تحديدا أصحاب السلطة وصنّاع القرار..
هل أن ذلك كان بسبب الملاحظات المتواترة عن زيادة حجم ثروات السياسيين؟
-ممكن أيضا أن حجم الانفاق لا يتناسب مع ما كان صرّح به لدى الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد من مداخيل.. أحيانا هناك من يعدل في تصريحه بتصريح جديد يؤكد من خلاله أن هناك تغييرا جوهريا في مداخيله .
وما هي النتائج المتوقعة لهذا الاستخبار الرقمي ؟
-البرمجيات ستشتغل آليا وسترصد مواطن الخلل وفق درجة الخطورة، فإذا كانت بين الدرجة الرابعة والخامسة، فان التقصي هنا سيكون إجباريا، وان كانت الخطورة من درجة واحد واثنين وثلاثة، سنتحدث إلى المعني بالأمر، ونستفسر منه الأمر ويتم اصلاح ما يجب إصلاحه أو إضافته، ولكن الدرجتين الرابعة والخامسة، سيخضع صاحبها إلى اعمال البحث والتقصي والتي قد تفضي إلى الإحالة إلى القضاء.
وبالتالي هذه البرمجية ستكون برمجية خاصة ومتطورة، طالما استعملتها عدة أجهزة استخبارات دولية، كذلك يتم استعمالها من هيئات دولية مشابهة لهيئة مكافحة الفساد الوطنية، وهي برمجية خاصة للاستخبار الرقمي بمعنى أن هناك من يصرح مثلا انه يملك منزلا في حي ما، المفروض عند التصريح ان تضع مكان المنزل ومساحته، الاستخبار يتم من خلال التثبت من خلال قواعد بيانات مفتوحة للمعهد الوطني للإحصاء، تخبرنا بحقيقة سعر الأرض في ذلك المكان ويتثبت آليا في قيمة المنزل المصرح بها، ويرصد لوحده الخلل دون تدخل العنصر البشري، ولذلك انا دائما أؤكد على أهمية الرقمنة في مكافحة الفساد وإرساء الشفافية الكاملة.
متى تكون هذه البرمجية جاهزة للدخول خير العمل؟
-تقنيا نحن نبذل كل جهدنا لتكون جاهزة قبل شهر أكتوبر المقبل، لأن في شهر أكتوبر المقبل سيكون هناك شوط ثان للتصاريح او مرحلة تجديد التصاريح بالمكاسب ونحن نريدها ان تكون وفق المنظومة الجديدة، بمعنى أن كل شخص طبيعي سيكون له حساب..
بالنسبة إلى أصحاب السلطة وصناع القرار هل وردت عليكم تبليغات بشان شبهات ما تحوم حول ثرواتهم؟
-نعم.. يوميا ترد هذه التبليغات ولكن نحن نعتمد درجة المخاطر في فتح التقصي او الأبحاث .
ما تداول مؤخرا بشأن ثروة رئيس البرلمان هل كانت منطلقا لأعمال تحري او تقصي قامت بها الهيئة؟
-نحن دائما نتقصى على ضوء تبليغ او بتعهد تلقائي.
هل تعهدت الهيئة؟
-نتثبت أولا قبل التعهد.. رئيس البرلمان فاعل من الفاعلين السياسيين.. وهو من الفئة الواجب بالقانون التثبت في محتوى تصاريحه.. وعليه سوف نتثبت في مداخيل وممتلكات جميع من يخضعون للتثبت بما في ذلك الوزراء والنواب والرؤساء وكذلك رئيس مجلس النواب والقضاة وكل الذين لهم صفة صناع القرار او يملكون سلطة ما .
على ذكر القضاة، هل تثبتت الهيئة في كل ما يروج عن ثروة رئيس محكمة التعقيب الطيب راشد؟
-وردت علينا تبليغات ونحن بصدد التثبت في ملفه وملف وكيل الجمهورية بتونس البشير العكرمي، انطلقت أعمال التحري والتقصي ولكن التقرير النهائي لم يجهز بعد.
هل أزعجك غياب النواب عن جلسة مساءلتكم بالبرلمان وفي تقديرك ما هو السبب؟
-ليس هناك أي سبب مقنع.. والأمر ليس له علاقة بالانزعاج ولكن أنا وفريق عمل كامل جندنا أنفسنا لمدة خمسة أيام، لكن الأمر كان مضيعة للوقت أنا امتثلت وكنت حاضرا في المجلس احتراما للسلطة التشريعية.
هل هناك من الكتل من اعتذر منك؟
-لم يعتذر أحد.. إلا الرئيس الثاني لمجلس نواب الشعب هي من قدمت اعتذاراتها.. واعتقد أنهم فوتوا على انفسهم فرصة في التحاور مع الهيئة والاطلاع على أعمال الهيئة.
هناك من يتهم الهيئة بفشلها في حماية المبلغين عن الفساد الذين ما زالوا يتعرضون لشتى أنواع الانتقام؟
-الهيئة لم تفشل بل هي تبذل كل ما في وسعها وفق ما يتيحه لها القانون، وبالفعل المبلغون عن الفساد يتعرضون الى الهرسلة والى ممارسات انتقامية بلغت حد قطع الراتب.
نحن سنفرض الحماية، الفصل 35 يجبر رئيس الهيكل انفاذ قرارات الحماية وفي صورة لم يمتثل تتم إحالته على القضاء، وقد أحلنا على القضاء ثلاثة ملفات في هذا الصدد.. قرار الهيئة الذي لم يقع الطعن فيه امام المحكمة الإدارية واجب التنفيذ الا اذا تظلم هذا الهيكل من قرارنا أمام المحكمة الإدارية والمحكمة الإدارية قضت بإيقاف التنفيذ..
إلى أي مدى الهيئة نجحت في حماية مبلغيها؟
-هناك من المبلغين من يتعرض لممارسات سيئة جدا ونحن وصلنا إلى تفعيل حتى الحماية الأمنية لبعض الأشخاص شعرنا أنهم مهددين في حياتهم، نحن اليوم نحارب في منظومة متغلغلة وبصدد مواجهة "حلف الصمت " الذي أحدثته المافيا، بمعنى لا اسمع ولا أرى ولا أتكلم، ومن يريد كسر هذا الحلف، كانت المافيا في وقت سابق تقتله، اليوم تقع هرسلته وأفراد عائلته والشهود الذين شهدوا معه..
تحدثت منذ أيام عن ملف من العيار الثقيل تعمل الهيئة على إنهائه ويتعلق بشخصيات نافذة.. فلماذا ترفض الإفصاح عن تفاصيل هذا الملف وهل أن هذه الشخصيات نافذة اليوم سياسيا؟
-كل التفاصيل سيعلم بها الرأي العام عندما تتم الإحالة على القضاء لأن الحديث الآن قد يساعد على طمس بعض الأدلة وفتح باب للإفلات من العقاب.. كل ما أستطيع قوله أن هذه الشخصيات مصنفة ضمن الفئة من 1 الى 12 الذي نص عليها القانون وطبعا هم نافذين سياسيا اليوم، وكل ما أو قوله ان من كان يعتقد نفسه فوق القانون وفوق المساءلة سيراجعون أنفسهم، هم أو غيرهم، هذا الملف دليل على انه لا يجب أن يستهزأ أحد بالهيئة، هي قادمة لا محالة انتظرونا.
ماذا عن ملف الياس الفخفاخ وهل أن اليوم طرحت مسألة تضارب المصالح مع وزراء مشيشي المباشرين حاليا؟
-الملف لدى القضاء ينتظر البت فيه.. وبالنسبة لبعض الوزراء كانت لهم ممتلكات أرسلت لهم الهيئة تنابيه وامثلوا إلى ذلك، يعني من صرح مثلا انه كان مثلا مساهما في شركة أرسلنا له تنبيه وامتثل بالبيع او إحالة التصرف .
هل تتابع الهيئة ملف تلاقيح كورونا وماذا ستفعل إزاء الخروقات التي تم رصدها ؟
-نحن رصدنا انطلاقة غير موفقة للحملة وهناك من تلقى تلقيح من باب المجاملة، وهناك من قدم معطيات خاطئة، مثلا في صفاقس هناك أعوان في الإسعاف لم يتلقوا التلقيح رغم انهم في الصف الأول في حين هناك بعض أطباء التجميل قاموا بالتلقيح.. ونحن اذا اثبتت اعمال التقصي ان هناك شخصا حصل على التلقيح من باب المجاملة او الترضيات فسنحيل من كان سببا في ذلك على القضاء .
هل أحالت هيئة مكافحة الفساد التقرير الختامي لهيئة الحقيقة والكرامة على القضاء بسبب شبهة التدليس؟
-نعم تمت إحالة التقرير الختامي والاتفاقيات التحكيمية منذ عشرة أيام على القضاء .